صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > كتب ومراجع إسلامية

كتب ومراجع إسلامية حمل كتب وبحوث إلكترونية إسلامية

أساليب الإقناع في سورة الإسراء

العدد السادس و الأربعون شـــــــوال 1426هـ تشرين ثان 2005م بقلم: محمد الحسناوي كاتب وباحث عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية على مائدة القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-06-2013 ~ 06:45 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي أساليب الإقناع في سورة الإسراء
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012


العدد السادس و الأربعون
شـــــــوال 1426هـ
تشرين ثان 2005م
بقلم: محمد الحسناوي
كاتب وباحث
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

على مائدة القرآن الكريم




السور المكية موضوعها الرئيسي هو عقيدة التوحيد ، وسورة الإسراء إحدى السور التي حفلت بعدد من أساليب الإقناع بهذه العقيدة ، تثبيتاً للمؤمنين ، وتوضيحاً للمترددين ، وقمعاً للمعاندين .
ومما زاد من أهمية الإقناع ووسائله هو صرف النظر عن منهج (الخوارق) طريقاً للإقناع ، تلك الخوارق التي كانت إحدى معجزات الأنبياء السابقين عليهم السلام ، على حين أُعطيت الأولوية للقرآن الكريم للإقناع والإعجاز في هذه المعركة . وقد تضمنت السورة توضيحاً لذلك ، فقال تعالى : (إنَّ هذا القرآنَ يَهدي للتي هي أقوم) (الآية 9) كما قال : (ولقد صرَّفنا في هذا القرآن ليذّكّروا ، وما يَزيدُهم إلا نفوراً) (الآية 41) وقال : (ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) (الآية 89) .
وعن تجاوز منهج (الخوارق) في الإقناع جاء في السورة قوله تعالى : (وما مَنَعَنا أن نُرسلَ بالآيات إلا أن كذّبَ بها الأوَّلونَ ، وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها ، وما نُرسلُ بالآياتِ إلا تخويفاً) (الآية 59) ، وهذا لم يمنع من الإشارة إلى الآيات الخوارق التي كانت لبعض الأنبياء السابقين ، مثل معجزة الطوفان للنبي نوح (ذرّيَةَ مَنْ حَملنا معَ نوحٍ إنه كانً عبداً شَكوراً) (الآية 3) أو ما أُوتيه النبي موسى من معجزات : (ولقد آتينا موسى تسعَ آيات بيّناتٍ فاسأل بني إسرائيلَ إذ جاءَهم ، فقال له فرعونُ : إني لأظنُّكَ يا موسى مسحوراً) (الآية 101) ، وهذا يدرج في باب الإقناع بالتجربة التاريخية.
تعدد وسائل الإقناع:
لما اختلف الناس في الأفهام والأذواق ودرجة الاستجابة والعناد ، وفي أسباب المناقشة والجدال أيضاً ..كانت طرق إقناعهم ووسائلها متعددة لاستيعابهم ، وإغلاق منافذ الشيطان والمكابرة عليهم . وقد كشف الباحثون أسلوبين مشهورين ، أحدهما اعتماد التأثير الوجداني بمخاطبة النفوس والضمائر من خلال الترغيب أو الترهيب ، وثانيهما مخاطبة العقل بالحجج والبراهين العقلية المنطقية . فمن لم يستجب للأسلوب الأول استجاب للأسلوب الثاني ، أو يجتمع للإنسان أسلوبان في الوقت نفسه ، وذلك خير على خير (1) .
سوف نجد أن هذه السورة مع اعتمادها هذين الأسلوبين المشهورين (الوجداني والعقلي) لم تكتفِ بهما ، بل جاءت بأساليب أخرى ، لا تقل أهمية عن هذين الأسلوبين ، بعضها ظاهر جلي ، وبعضها باطن خفيّ ، وفي ذلك ما فيه من القوة والجمال على حدّ سواء .
الترغيب والترهيب (التهديد والوعيد مقابل التكريم والنعم الغامرة) :
الترغيب: هو التحبيب برضى الله تعالى ودخول الجنة والخلاص من النار ، والترهيب: هو التخويف من سخط الله والحرمان من الجنة ودخول النار، ولما كان هناك من يُنكر كل ذلك ، صار الترغيب والترهيب متعلقين بالحياة الدنيا أيضاً ، زيادة في التأثير والإقناع.
بعد أن بيّن الله تعالى نعمته على البشر فيما سخّر لهم من نعم البحر ركوباً وصيداً واستمتاعاً بقوله : (ربُّكُمُ الذي يُزجي لَكُمُ الفُلْكَ في البحر لتبتغوا من فضلهِ . إنه كان بكم رحيماً) (الآية 66) ينتقل إلى الترهيب : (وإذا مسَّكُمُ الضُّرُّ في البحرِ ، ضلَّ من تَدعونَ إلا إيّاه ، فلمّا نجّاكم إلى البر أعرضتم ، وكانَ الإنسان كفوراً . أَفأمِنتم أن يَخسِفَ بكم جانِبَ البَرِّ أو يرسِلَ عليكم حاصِباَ ، ثم لا تجدوا لكم وكيلاً . أم أمِنتم أن يُعيدَكم فيهِ تارةً أُخرى ، فَيُرسِلَ عليكم قاصفاً من الريحِ ، فُيغرِقَكم بما كفرتم ، ثم لا تَجِدوا لكم علينا بهِ تَبيعاً) (الآيات 67و68و69) .
ومن نعم الله على الناس قوله تعالى : (وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتينِِ ، فمحونا آية الليلِ ، وجعلنا آيةَ النهارِ مُبصِرةً ، لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عددَ السنينَ والحسابِ ، وكلَّ شيء فصَّلناهُ تفصيلاً) (الآية 12) والعدل في الحساب يوم القيامة يجمع الترغيب والترهيب على صعيد واحد : (وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائرهُ في عُنُقِهِ ، ونُخرِجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يَلقاهُ منشوراً . اقرأْ كتابَكَ ، كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيباً . من اهتدى فإنما يَهتدي لنفسِهِ ومن ضلَّ فإنما يَضِلُّ عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنّا مُعذبين حتى نَبعثَ رسولاً) (الآيات 13- 15) .
أما التهديد أو التخويف الصريح فمثل قوله تعالى : (ومن كانَ في هذه أعمى ، فهو في الآخرةِ أعمى وأضلُّ سبيلاً) (الآية 72) وقوله عزَّ وجل : (ومن يهدِ اللهُ فهو المُهتدِ ، ومن يُضلِل فلن تجدَ لهم أولياءَ من دونِهِ ، ونَحشرُهم يوم القيامةِ على وجوههم عُمياً وبُكماً وصُمّاً ، مأواهُم جهنم ، كلما خَبَتْ زِدناهم سعيراً ) (الآية 97).
ومثلُ ذلك الاستصحاب بالتذكير بما حصل تاريخيّاً للمعاندين كفرعون وقومه : (فأرادَ أن يَستَفِزَّهم من الأرضِ ، فأغرقناهُ ومن معه جميعاً) (الآية 103) أو قوم نوح عليه السلام : (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربِّكَ بذنوبِ عبادِهِ خبيراً بصيراً) (الآية 17) أو الأقوام التي لم تَردَعْ طغاتها : (وإذا أردنا أن نهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ، ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدَمَّرناها تَدميِراً ) (الآية 16) .
وأخيراً الحكم العام قانوناً يتجاوز الزمان والمكان والأمة بعينها : (وإنْ مِن قريةٍ إلا نحنُ مُهلِكوها قبل يوم القيامة أو مُعَذِّبوها عذاباً شديداً ، كانَ ذلك في الكتاب مسطوراً ) (الآية 58) .
يندرج في هذا النوع ما ورد من آيات تكشف خبايا المشركين حين يجتمعون سرّاً للكيد والمكر : (نحنُ أعلمُ بما يَستمِعونَ به ، إذ يَستمعونَ إليك وإذ هم نجوى ، إذ يقول الظالمون : إنْ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) (الآية 47) أو كشف خبايا نفوسهم أيضاً : ( وإنْ كادوا ليفتنونكَ عن الذي أوحينا إليكَ لتفتريَ علينا غيرَهُ ، وإذاً لاتخذوك خليلاً ) (الآية 73) .
أما النوع المعجز ، الذي يفوق كل ما ذكرنا من أساليب الترهيب ، فهو ما جاء من آيات تحمل التهديد والوعيد لرسول الله المعصوم إذا وقع منه أدنى تفريط ، وهو الذي أكرمه الله تعالى ، وأثنى عليه في أكثر من موضع في القرآن ، ولا سيما سورة (الإسراء) . وحادثة الإسراء نفسها أعظم دلالة على تكريم النبي .
الرهبة في هذه الآيات أنها موجهة إلى نبي مثل محمد عليه السلام ، فكيف الحال بالنسبة إلى بقية الناس . ووجه الإعجاز فيها أنها لا يُعقل أن يخاطب بشرٌ نفسَه بهذه اللهجة ، إلا أن ذلك خطاب رباني ، لا يملك بشر حتى الأنبياء إلا التسليم به والقبول العميق الكامل . تأمل هذه الآيات (لا تَجعلْ مع الله إلهاً آخرَ فتقعُدَ مذموماً مخذولاً) (الآية 22) ، (ذلك مما أوحى إليك ربُّكَ من الحكمةِ ، ولا تجعلْ مع اللهِ إلهاً آخرَ ؛ فتُلقى في جهنَّمَ مَلوماً مَدحوراً) (الآية 39) ، (ولولا أن ثبّتناكَ لقد كِدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً . إذاً لأذقناك ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ، ثم لا تجِدُ لك علينا نصيراً) (الآيتان 74و75 ) .
وقد فطن بعض الباحثين إلى التلازم بين العقل والعاطفة في أسلوب القرآن الكريم ، فقال: أما ما يبدو فوق طاقة البشر حقّاً في الأسلوب القرآني ، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها ترى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية ، بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى ، ففي القرآن لا نرى إلا تعاوناً دائماً في جميع الموضوعات التي يتناولها بين هاتين المتنافرتين (2) .
الحجاج العقلي (مقابل الجحود والشكوك ):
كل شبهة أو شكٍّ أو قالةِ جحود أوردها المشركون يرد عليها القرآن في هذه السورة ردّاً عقليّاً مُحكماً ، لا يدع زيادةً لمستزيد .
فمثلاً زعم المشركون أن الله اتخذ من الملائكة أولاداً له إناثاً ، وهو زَعْم يجمع بين الشرك وبين اتخاذ الإناث ، وهم في الوقت نفسه يميزون بين الإناث والذكور ، لتفضيلهم الذكور على الإناث ، بل وأدهم الإناث ظلماً وعدواناً ، فكيف استقام لهم هذا الاعتقاد الأعوج ، بالشرك أولاً ، وبتفضيل أنفسهم على الله تعالى ثانياً ، ولما كان هو الخالق فكيف يفضلكم على نفسه : (أفأصفاكم ربُّكم بالبنينَ واتَّخذَ من الملائكةِ إناثاً ، إنكم لتقولونَ قولاً عظيماً) (الآية 40) .
أو زعمهم الشرك بوجود أكثر من إله مع الله ، ينقض ذلك أن وجود آلهة أخرى غير الله يفتح الباب لمنازعة الله الواحد سلطانَه ووجودَه ، فكيف يستقيم ذلك : (قلْ لو كانَ معه آلهةٌ كما يقولونَ إذاً لابتغَوا إلى ذي العرشِ سبيلاً) (الآية 42) .
كما ينقض هذه الدعوى الباطلة أن آلهتهم المُدَّعاة من بشر أو حيوان أو حجر أو جانّ أو شيطان ، لا يمكنها أن تنصرهم إذا استنصروها ، بل هي بحاجة إلى الله تعالى ، تلتمس إليه القرب ومنه النُّصرةَ ، وتخاف من عذابه : (قل ادعوا الذين زعمتم من دونهِ ، فلا يَملكونَ كشفَ الضُّرِّ عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يَدعونَ يبتغونَ إلى ربِّهمُ الوسيلةََ ، أيُّهم أقربُ ، ويَرجونَ رحمتَهُ ، ويَخافون عذابَهُ ، إن عذابَ ربِّكَ كانَ محذوراً) (الآيتان 56و57) .
وينقض دعوى الشرك أن ذلك لا يليق بكمال الله وجلاله ، لأن اتخاذ الولد أو الشريك أو الولي مظهر من مظاهر الضعف ، الذي يجوز للبشر والمخلوقات ، ولا يجوز بحق الخالق : (وقُل الحمدُ للهِ الذي لم يتخذْ ولداً ، ولم يكنْ لهُ شريكٌ في الملك ، ولم يكنْ لهُ وليٌّ من الذلِّ وكَبِّرْهُ تكبيراً) (الآية 111) .
كالأمم السابقة طلب مشركو مكة من الرسول محمد عليه السلام أن يأتيهم بآيات أو معجزات خارقة للعادة حتى يؤمنوا برسالته : (وقالوا : لن نُؤمنَ لَكَ حتى تَفجُرَ لنا من الأرضِ يَنبوعاً . أو تكونَ لَكَ جنّةٌ من نخيلٍ وعِنَبٍ فتُفجّرَ الأنهارَ خلالها تًفجيراً . أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً ، أو تأتيَ باللهِ والملائكةِ قبيلاً . أو يَكونَ لَكَ بيتٌ من زُخرُفٍ ، أو تَرقى في السماءِ ، ولن نُؤمنَ لِرُقِيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه ...) (الآيات 90-93) فما كان جواب الرسول على هذه الطلبات المتعددة المتعنتة إلا عبارتين موجزتين ، توضحان طبيعة الرسالة وحدود الرسول ، ببساطة متناهية تصفع الغرور، وتقرب معنى النبوة هداية، لا ملكاً واسعاً وسلطاناً عظيماً: (قلْ سبحانَ ربي ، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً) (الآية 93).
وردّاً على من طلب أن يكون الرسولُ مَلَكاً لا إنساناً مثل النبي محمد ، جاء الجواب بأن محمداً بشر ككل الأنبياء ، وليس من العادة إرسال مَلَك للبشر ، لأنه لا يوجد في العادة مَلَكٌ يعيش بينهم ، حتى يُرسَل لهم رسولٌ ملك : (وما مَنَعَ الناسَ أن يُؤمنوا إذ جاءهُمُ الهُدى ، إلا أن قالوا : أَبَعَثَ اللهُ بشراً رسولاً ؟! قلْ : لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشونَ مُطمَئنّينَ ، لَنَزَّلنا عليهم من السماءِ مَلَكاً رسولاً) (الآيتان 94و95).
ومما أنكره المشركون بشدة عقيدة البعث بعد الموت : (وقالوا : أإذا كنّا عظاماً ورُفاتاً ، أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً ؟!) (الآية 49) استنكاراً وتكذيباً ، فيجيبهم القرآن بأجوبة يكمل بعضها بعضاً في القوة والإقناع :
الجواب الأول يطلب منهم أن يتحولوا إلى مادة أشد صلابة من لحم الإنسان وعظامه التي تبلى بعد الموت إن استطاعوا ليمنعوا البعث عنهم : (قلْ كونوا حِجارةً أو حَديداً . أو خَلْقاً مما يَكبُرُ في صدورِكم ..) (الآيتان 50 و51) أي لو كنتم من مادة أشد صلابة من حديد أو حجر أو غيره مما تظنونه صلداً ، فالقانون سارٍ على بعثكم بعد موتكم .
وثانياً ردّاً على تساؤلهم : (من يُعيدُنا) يجيبهم بقوة وببساطة : إن الذي خلقكم أول مرة هو القادر على إحيائكم بعد موتكم : (قلِ : الذي فَطَرَكم أولَ مرة) (الآية 51) .
وثالثاً يسألون عن موعد البعث مدهوشين : (فسيُنغِضونَ إليكَ رؤوسهم ويقولون : متى هو ؟! قل : عسى أن يكونَ قريباً . يومَ يَدعوكم فتستجيبون بحمدهِ ، وتظنون إن لَبِثتم إلا قليلاً) (الآيتان : 51و52) .
وفي موضع آخر يجيبهم على هذا التساؤل ، البعث بعد الموت : (أَوَلَمْ يَروا أن الله الذي خلقَ السماواتِ والأرض قادرٌ على أن يخلقَ مثلهم ، وجعلَ لهم أجلاً لا ريبَ فيهِ ، فأبى الظالمونَ إلا كُفوراً) (الآية 99) . فالله الذي خلقهم أول مرة أو الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بعد وفاتهم . الموت حق لا ريب فيه ، ومن جعل الموت يجعل الحياة .
التجربة التاريخية:
إن الاستشهاد بالتاريخ ووقائعه ، ولا سيما مصير الأمم مع أنبيائها ، لاحتجاجٌ بالغُ الأهمية ، من حيث البرهنة المؤثرة ، ومن حيث المقارنة بالمماثلة والربط ، لأن التاريخ أحداث وقعت ، لا تحتمل النقض ، ولأن التاريخ بسبب ذلك وغيره يملك قوة خاصة في النفس البشرية .
أهم استشهاد تاريخي في هذه السورة كان بوعد الله لبني إسرائيل في الكتاب في العلو في الأرض والفساد مرتين ، واليهود أهل كتاب ، يسكنون مجاورين لأهل مكة في المدينة المنورة ، ولهم نوع من الأهمية في نفوس العرب بوجود (الكتاب ) عندهم ، وبوجود علماء بني إسرائيل فيهم . والاستشهاد بهم وبتاريخهم طريقة مؤثرة في الإقناع للعرب ، وحكاية طرف مفصل من تاريخهم إقناع لهم وللعرب المشركين من ورائهم ، فقد ورد في السيرة رجوع مشركي مكة إليهم يسألونهم في أمر النبي محمد وفي أمر القرآن ، وتباينت أجوبتهم بين مؤمنين ، وبين مكذبين مكابرين ومعاندين ، وهم واثقون من نبوة محمد وصحة رسالته (3) .
ومن الاستشهاد بتاريخ بني إسرائيل الإشارة إلى معركة النبي موسى مع فرعون المشابهة لمعركة النبي محمد مع قومه : (ولقد آتينا موسى تِسعَ آياتٍ بيّناتٍ ، فاسألْ بني إسرائيلَ إذ جاءهم ، فقال له فرعونُ : إني لأظنُّك يا موسى مسحوراً . قال : لقد علمت ما أنزلَ هؤلاءِ إلا ربُّ السماواتِ والأرضِ بصائر، وإني لأظنُّكُ يا فرعونُ مثبوراً . فأرادَ أن يستفزَّهم من الأرض فأغرقناهُ ومن معهُ جميعاً) (الآيات 101-103) .
ومثل ذلك الإشارة إلى النبي نوح في موضعين من السورة (الآيتان 3و17) ، وإلى ثمود والناقة التي ظلموا بها (الآية 59) ، وإلى النبي داود والزبور الذي آتاه الله إياه (الآية 55) .
وأخيراً يُعَبِّر القرآن عن هذه الواقعة المضطردة تاريخيّاً بأنها (سُنَّة) أو (قانون) : (وإن كادوا ليستفِزّونَكَ من الأرض لِيُخرجوكَ منها ، وإذاً لا يَلبثونَ خلافكَ إلا قليلاً . سنَّةَ من قد أرسلنا قبلك من رسلِنا ، ولا تجدُ لسنتنا تحويلاً) (الآيتان 76و77) ، وهل هناك أقوى من (قانون تاريخي) أو (سنة) استنّها الله تعالى؟!
الذين أوتوا العلم:
إن شهادة العلماء بنبوة محمد وبالقرآن الكريم عند مشركي مكة الأميين شهادة معتبرة ، لا سيما علماء أهل الكتاب ، وأقربهم أحبار بني إسرائيل المجاورون لأرض مكة ، قال تعالى : (قلْ آمِنوا بهِ أو لا تُؤمنوا ، إن الذين أُوتوا العلم من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرّونَ لِلأذقانِ سُجَّداً . ويقولونَ : سُبحانَ ربِّنا إنْ كانَ وعدُ ربِّنا لَمَفعولاً . ويخرون للأذقان يَبكونَ ويَزيدُهم خشوعاً) (الآيات 107-109) .
إعجاز القرآن:
إعجاز القرآن في مستويين : أحدهما التحدي الذي صرَّح به القرآن : (قلْ لئن اجتمعت ِالإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتونَ بِمثلِهِ ولو كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيراً ) (الآية 88) ، وبالطبع لم يأتِ بمثله أحد .
ثانيهما ما يحسه العرب الفصحاء من السحر الحلال في بيان القرآن سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ، و"قصة إيمان عمر بن الخطاب ، وقصة تولي الوليد بن المغيرة ، نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي ، وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتُبينان-في اتجاهين مختلفين- عن مدى هذا السحر القاهر" (4) .
دستور الحياة:
في هذه السورة من الأحكام والتشريعات والآداب السامية ما يشير إلى المصدر الرباني الذي أوحى بها ، بدءاً بعقيدة التوحيد ، ومروراً بتحديد المسؤولية ونوعيها الفردي والجماعي ، وانتهاءً بقواعد السلوك والعيش والعلاقات بين الناس .
أما عقيدة التوحيد فقد جُليت بإبطال دعاوى المشركين بأنواعها واحدة واحدة من جهة ، وفي تثبيت الرسول محمد عليها ، ورفض التفريط بأدنى جزء يسير منها من جهة ثانية .
أما المسؤولية الفردية ، وهي أرقى المبادئ القانونية في القوانين والدساتير المعاصرة ، ففي قوله تعالى (ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى) (الآية 15)، يضاف إليها ربط الحساب بإرسال الأنبياء والرسل ، بما يحقق العدل المطلق : (وما كنا مُعذّبين حتى نبعثَ رسولاً) (الآية 15) .
وأما المسؤولية الجماعية ، أي حين يذنب الكبراء ، أو يشيع الظلم ولا يقوم في المجتمع من ينهى عن ذلك ، أو يأخذ على أيدي الظلمة .. كانت المسؤولية أو العقاب للجماعة كلها : (وإذا أردنا أن نُهلِكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تَدميراً) (الآية 16) ، وهذا قانون من قوانين علم الاجتماع والحضارة ، تلهج به اليوم علوم الإنسان الحديثة .
أما قواعد السلوك والعيش والعلاقات الاجتماعية ، فمجوعة من القيم الرفيعة ، أُمر بها الرسول والصف المسلم أن يأخذوا بها .
أولها : الإنفاق على الأقرباء والمساكين وأبناء السبيل : (وآتِ ذا القربى حقَّهُ والمِسكينَ وابنَ السبيلِ) (الآية 26) لاحظ تعبير (حقه) الموحي بالتكريم للمُعطى ، ووجوب ذلك في الوقت نفسه .
ثانيها : الاعتدال في إنفاق المال : (ولا تُبذّرْ تبذيراً . إن المُبذّرين كانوا إخوانَ الشياطين ، وكان الشيطانُ لربهِ كَفوراً ) (الآيتان 26و27) ، (ولا تجعلْ يَدكَ مغلولة إلى عنقِكَ ، ولا تبسطْها كلَّ البسطِ ، فتقعدَ ملوماً محسوراً ) (الآية 29) .
ثالثها : النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر : (ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقٍ ، نحنُ نرزقهم وإياكم ، إن قتلَهم كانَ خِطئاً كبيراً) (الآية 31) ، لعلك لاحظت بعد تخطئة الفعل تعليل النهي بأن الرزق من الله تعالى ، بما يعني أن رزق هؤلاء الأولاد مقسوم مضمون فلا حاجة للقلق عليه ، فضلاً عن أن الرزق الذي يتمتع به الآباء نفسه هو من عند الله أيضاً .
رابعها : النهي عن فاحشة الزنى : (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ، وساءَ سبيلاً) (الآية 32) . ومعلوم كم تعاني المجتمعات الإباحية من أمراض جنسية فتاكة ، وسواها من انحلال الأخلاق والمجتمعات .
خامسها : تحريم قتل النفس البشرية بإطلاق ، أي بصرف النظر عن الدين والجنس والعمر : (ولا تقتلوا النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ ، ومن قُتلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً ، فلا يُسرِفْ في القتلِ ، إنه كانَ منصوراً) (الآية 33) ، من الممكن أن يمتنع الإنسان عن قتلِ غيره ، ولكن إذا قُتِلَ له إنسان عزيز من ابن أو أخ و والد أو حبيب أو حبيبة ، فإن رغب أن يقتل أكثر مما قتل له ، فحال الشرع الحنيف دون ذلك ، ووضع لذلك قوانين عادلة تأخذ لذوي القتيل حقهم ، وتحول دون الإسراف في الانتقام .
سادسها : حفظ مال اليتيم حتى يبلغ سن الرشد : (ولا تَقرَبوا مالَ اليتيم إلا بالتي هي أحسنُ ، حتى يبلغَ أشدّهُ ، وأوفوا بالعهدِ ، إن العهد كانَ مسؤولاً) (الآية 34) .
سابعها : ضبط المكيال والميزان في التعامل والبيع والشراء : (وأوفوا الكيلَ إذا كِلتم ، وزنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ، ذلك خير وأحسنُ تأويلاً) (الآية 35) .
ثامنها : الانضباط العلمي الموضوعي في اتخاذ الأحكام والقرارات ، ولا سيما العلمية منها : (ولا تقفُ ما ليس لكَ بِهِ علمٌ ، إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ ، كلّ أولئكَ كان َ عنه مسؤولاً) (الآية 36) .
تاسعها : النهي عن التكبر والتزام التواضع ، والتكبر من عادة الزعماء الطغاة والجبارين والمغرورين : (ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً ، إنك لن تخرقَ الأرضَ ، ولن تبلُغَ الجبالَ طولاً) (الآية 37) ، والسخرية الجارحة لا تفوت الذواقين اللماحين ، وهي أليق ما تكون بهؤلاء المرحين .
أي عاقل يسمع بهذه الآداب والأحكام والقواعد ، ولا يأخذ بها ، فيُكبِِرها ويُكبِر المصدر الذي أوحى بها ، وحثّ على تطبيقها ، ففرضها وأوجبها ، وجعلها جزءاً من العقيدة التي يعتقدها المكلفون بها أو محبوها . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هيَ أقومُ ) .
علاقة الله بأكرم عباده :
الفرق بين (الربوبية) و(العبودية) في الإسلام واضح كل الوضوح ، وكذلك العلاقة بينهما واضحة ، بل إن وصف النبي بأنه عبد لله ، وإضافة ذلك إليه : (أسرى بعبدِهِ ) تكريم له . وقد رأينا من الحكمة في الوعيد الموجه للرسول : (.. لأذقناكَ ضِعفَ الحياة وضِعفَ المَماتِ) (الآية 75) أنه في الوقت نفسه وعيد مضاعف بالنسبة إلى بقية الناس ، ما دام النبي الكريم يخاطب مثل هذا الخطاب . وهذا ما أدرجناه في الإقناع الوجداني .
ووجه آخر لهذا الخطاب ، هو الإقناع العقلي ، إذ لا يُعقل أن يُخاطِبَ إنسانٌ ما نفسَه هذا الخطاب ، فهو يدل على طرف أعلى وأقوى وأقدر من المخاطب . انظر قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهَبَنَّ بالذي أوحينا إليكَ ، ثم لا تجدُ لكَ بهِ علينا وكيلاً) (الآية 86) . إنه تهديد بحجب الوحي أو القرآن عنه صلى الله عليه وسلم ، وهو أغلى وأهم ما يهتم به الرسول ، وهي الشارة التي ميزته عن بقية البشر ، وكانت سبب علاقة الاصطفاء مع الله عز وجلّ .

المراجع :
(1) تحدث بن عيسى بن عبد القادر في رسالته للماجستير عن الإقناع بين العقل والعاطفة في الفصل الأول (ص 5-13) ، وفي الفصل الثاني تحدث عن أساليب بيانية أصلية للإقناع (الجدل - التصوير - القص - التمثيل) ، وفي الفصل الثالث تحدث عن أساليب بلاغية فرعية (الاستفهام - التوكيد - الحذف ) ، رسالة غير مطبوعة ، مقدمة إلى كلية الآداب ، الجامعة الأردنية عام 1990م .
(2) مدخل إلى القرآن الكريم ، محمد عبد الله دراز ، ترجمة محمد عبد العظيم علي ، ط 3 ، دار القلم ، الكويت ، 1981م .
(3) فقه السيرة ، د. محمد سعيد رمضان البوطي ، دار الفكر للطباعة والنشر ، دمشق ، ط 8 ، 1400هـ - 1980م ، ص 305-308 .
(4) التصوير الفني في القرآن ، سيد قطب ، دار الشروق ، القاهرة وبيروت ، ط 9 ، ص 11 .

مجلة الفرقان

المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من أساليب النبي محمد التربوية نور الإسلام هدي الإسلام 1 13-10-2013 08:09 AM
الإسراء والمعراج نور الإسلام خطب إسلامية 0 26-05-2013 07:54 PM
من وحي الإسراء والمعراج نور الإسلام هدي الإسلام 0 26-05-2013 07:31 PM
الإسراء والمعراج نور الإسلام خطب إسلامية 0 26-05-2013 07:27 PM
أساليب الروس في دعم بشار الأسد حتى النهاية مزون الطيب أخبار منوعة 0 10-02-2012 04:55 PM


الساعة الآن 04:18 AM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22