صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > المكتبة العامة

المكتبة العامة كتب ومراجع وبحوث ود اسات في مختلف العلوم والمعارف

العلاقة بين العقل والنقل (3)

المحاضرة الثالثة الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ وقال تعالى : ﴿

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-11-2013 ~ 09:12 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي العلاقة بين العقل والنقل (3)
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012



المحاضرة الثالثة

الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ وقال تعالى : ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا ، قَيِّماً ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً حَسَناً ، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ، وَيُنْذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً ﴾ (الكهف:5) ، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى : ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (الأنعام:1) .

واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار : ﴿ وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْل العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيل الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ﴾ (الزمر:75) ، ولهذا قال تعالى : ﴿ وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلهُ الحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص:70) ) كما قال تعالى : ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ﴾ (سبأ:1) ، فله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق هو المحمود في ذلك كله ، كما يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ( اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد )

ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس ، أي يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم ، لما يرون من عظيم نعمه وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي منته ودوام إحسانه وواسع رحمته ، كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ﴾ (يونس:10) .

والحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي ، أرسله إلى جميع خلقه من إنس وجان ، من لدن بعثته إلى آخر الزمان ، كما قال تعالى : ﴿ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الذِي لهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعَلكُمْ تَهْتَدُون ﴾ (لأعراف:158) .

وقال تعالى : ﴿ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلغَ ﴾ (الأنعام:19) ، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وإنس وجان ، فهو نذير له من الكفر والفسوق والعصيان ، ولهذا قال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ (هود:17) ، فمن كفر بالقرآن فالنار موعده بنص القرآن وكما قال تعالى : ﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلمُون ﴾(القلم:44) ، فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين ، مبلغا لهم عن الله بالوحيين ، كتاب الله الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (فصلت:42) ، وسنته صلى الله عليه وسلم ، أما بعد .

فموضوعنا اليوم نستكمل فيه الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل ، ونبدأ محاضرة اليوم بسؤال هام : هل يقدم العقل على النقل إذا توهم أحد بالجهل وجود التعارض بينهما ؟ وهل يصح ما ذكره فخر الدين الرازي المتكلم الأشعري أنه إذا تعارضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية ، فمن الواجب في اعتقادهم تقديم أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وذلك عندهم أمر بلا جدال ، ومنهج متبع بلا فصال ، وليس لتغييره عندهم مجال ، وربما يعبرون عن هذا السؤال الذي نبدأ به محاضرة اليوم بقولهم :إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية ، أو السمع والعقل ، أو النقل والعقل ، أو الظواهر المقلية والقواطع العقلية ، أو نحو ذلك من عبارات الأشعري ، فإما أن نقدم السمع وهو محال ، لأن العقل أصل في ثبوت النقل ، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا وطعنا في العقل ، الذي هو أصل النقل ، والقدح في أصل الشيء قدح فيه ، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا ، فوجب تقديم العقل ، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض ، ويقول أبو حامد الغزالي العلاقة بين العقل والنقل  (3) frown.gif من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه ) .

وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه من الأشعرية قانونا شاملا ، يقيسون عليه كتاب الله وسنة رسوله قياسا كاملا ، وللأسف إن هذا المنهج الأشعري هو الذي يدرس به كل أزهري كتاب الله وسنة رسوله في باب العقيدة ، هذا المنهج المسمى أيضا منهج الخلف يعتقدون أنه أعلم وأحكم من مذهب السلف ، قال البيجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد ، الكتاب المقرر على المرحلة الثانوية بالمعاهد الأزهرية ، ويدرس الطالب أيضا منهج الأشعرية في الكلية ، حتى أعلى الدرجات العلمية في جميع المؤسسات التعليمية التابعة للأزهر الشريف ، يقول البيجوري مفضلا طريقة الخلف على طريقة السلف تحت قول صاحب الجوهرة : وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوض ورم تنزيها ، يقول : ( وطريقة الخلف أعلم لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم وهى الأرجح ولذلك قدمها المصنف ، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد لله تعالى ) .

والجواب أنه إذا تعارض العقل والنقل ، لجهل العقل بما ورد في النقل ، أو غاب عنه الفهم الصحيح للأدلة القرآنية والنبوية ، وجب علي المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقى الله ، ولا يقدم عقله وهواه ، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه ، تصديق المنقول إذا كان خبرا ، وتنفيذه إذا كان أمرا .

ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول s تصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك ، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء ، ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء ، في الخبر عن الصفات ، دربا من الخيال أو المستحيلات ، قال ابن قيم الجوزية في شفاء العليل : ( العقل الصريح موافق للنقل الصحيح والشرعة مطابقة للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال : إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه : ويشهد حقا أنه هو كاذب ) .

وسوف نبين لكم بإذن الله تعالى خطأ الأشعرية في زعمهم أنه إذا تعارضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية ، فمن الواجب في اعتقادهم تقديم العقل على القرآن والسنة بلا فصال ، الأدلة السمعية مع الأدلة العقلية ، أو ما يطلقون عليه الظواهر النقلية والقواطع العقلية ، أو نحو ذلك من عبارات الأشعرية وسوف نلخص لكم الرد على زعمهم الباطل في الأمور الآتية :
الأمر الأول : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، أن الله سبحانه وتعالى لما أهبط الأبوين من الجنة عهد إليهما عهدا لهما ولجميع الذرية إلى يوم القيامة ، وضمن لمن تمسك بعهده أنه لا يضل ولا يشقى ولمن أعرض عنه معيشة ضنكا ، يعيش في الضلال والشقاء فقال تعالى : ﴿ قَال اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ، قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى﴾ (طه:123/126) .

قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ، وقوله ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى) ، يتناول باتفاق العلماء الذكر الذي أنزله على أنبيائه ورسله وهو الوحي والآيات المسموعة المقروءة ، بدليل قوله تعالى بعدها : ﴿ قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى ﴾(طه: 126) ، فهذا هو الإعراض عن ذكره بتناسيه وترك العمل به ، فإذا كان هذا حال المعرض عن النقل الذي هو الوحي أو الكتاب والسنة ، فكيف حال المعارض للوحي بعقله أو عقل من قلده وأحسن الظن به دون كتاب الله وسنة رسوله ، فكما أنه لا يكون مؤمنا إلا من قبل الكتاب والسنة ، وانقاد لهما ، فمن أعرض عنهما وعارض ما فيهما ، فهو من أبعد الناس عن وصف الإيمان .

الأمر الثاني : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن أصولهم العقلية وآراءهم الكلامية وأهواءهم المذهبية التي عارضوا بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وما زعموا فيه أن أحكام العقل أحكام قطعية ، وأن نصوص الوحي نصوص ظنية هؤلاء كذبوا على أنفسهم ، لماذا لأن كبار علمائهم شهدوا على أنفسهم بالحيرة والتردد ، والشك والتخبط فيما وصولوا إليه من أحكام عقلية ، وأنهم لم يقطعوا فيها حكما ، ولم يحصلوا منها علما ، ولا يجد فيها يقينهم ركنا ، فالذين ضيعوا أعمارهم وأفنوا أعمالهم في تقنين المذهب الأشعري وبينيانه الكلامي ، أعلنوا قبل موتهم حيرتهم ، وأسفهم وتوبتهم ، وأعلنوا للجميع ندمهم .

فهذا هو الإمام فخر الدين الرازي الذي كرس حياته في التصنيف للمذهب الأشعري ، والتأسيس للأصول التي تدرس في كل معهد أزهري ، قال في آخر عمره : ( يا ليتنا بقينا على العدم الأول ، وليتنا ما شهدنا هذا العالم ، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن ، ثم قال :
نهاية أقدام العقول عقــــال : وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا : وحاصـل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا : سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا مـن رجال ودولة : فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قـد علت شرفاتها : رجال فزالـوا والجبال جبال

ثم قال : اعلم أنه بعد التوغل في هذه المضائق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق ، رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم ، والفرقان الكريم ، وهو ترك التعمق والاستدلال ، بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين ، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل ، لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه : 5 ) ، ( إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ يَرْفَعُهُ ) (فاطر : 10 ) ، واقرأ في النفي : ﴿ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ ﴾(الشورى : 11 )، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا ﴾ (طه : 110 ) ، وقال : ﴿هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا ﴾(مريم : 65 )، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .

وكذلك قال أبو المعالي الجويني : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به ، وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي،

وقال ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق :
فيك يا أغلوطة الفكــــر : حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العــــقول : فما ربحت إلا أذى السفر

وقال آخر : اضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي ، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء ،

والعجب أنك ترى إصرارا من بعض إخواننا في التمسك بالعقيدة الأشعرية لا تجد له نظيرا ، وإذا حاولت بحكم الأخوة أو المشاركة في العمل أن تبين له الحقيقة أو تنصحه بقراءة المؤلفات في هذه العقيدة ، من باب معرفة الرأي والرأي الآخر أو التنزل مع الخصم للوصول به إلى الحق كما قال تعالى : ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعَلى هُدى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِين ٍ ﴾(سبأ : 24 ) ، تجد صدودا غريبا .

فهؤلاء حالهم يشبه قوما نزلوا بفلاة من الأرض نزلوا في الصحراء في ليلة ظلماء ، فهجم عليهم العدو ، فقاموا في الظلام هاربين ، فارين مولين ، كل له رأي وتخمين ، مختلفين غير متفقين ، لم يجتمعوا على طريق واحد للنجاة ، فكل يقول بوجهته ، وكل يخرج ما في جعبته ، ويظن أن النجاة في اتباع عقيدته ، فيقول للآخرين إنكم لن تصلوا إلى اليقين إلا إذا كنتم خلفي من السالكين ، ثم كل واحد يدور مع أتباعه في متاهة ، وأتباعه ينصرونه ويؤيدونه في سفاهة ، وكل واحد يرى في رأي شيخه وجاهة ، حتى وصلوا بحمقهم مع شيخهم إلى التهلكة ، وعلموا أن أصوله وآراءه كانت أمورا مربكة .

فأساطين الأشعرية والمتكلمين صرحوا بأنهم لم يصلون إلى اليقين ، وإنما يتكلمون في العقيدة وأصول الدين بالأولى والأحرى والظن والتخمين ، ولهذا ظهر فيمن خلفهم من السالكين ، مزيدُ من الحيرة والتردد ، والاعتراف بالجهل والتشتت ، وأنهم لم يصلوا إلى شيء فيه عبرة ، وإنما وصلوا إلى ما يشبه رموزا وشفرة ، فهذا حال الفلاسفة والمتكلمين ، لما داهمهم كتاب رب العالمين ، وحاصرهم اتباع الرسل المقدمين ، صاروا فرقا متناحرين ، وأحزابا مشتيين ، قال ابن رشد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة الأقدمين ، في كتابه تهافت التهافت : ( ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ) ، وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي ، واقف في المسائل الكبار ، يذكر حجج الطوائف ويبقى واقفا حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾(النساء : 143 ) ، وهذا صاحب كتاب المضنون به على غير أهله ، من فرط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ، ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الشك والحيرة ، ثم يعرض عن هذه الطرق ، ويقبل على طريقة أهل الحديث وعلى صحيح البخاري ويموت وهو على صدره .

ولهذا ذهبت طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة ، يعنى أن الأدلة العقلية قد تكافأت وتضاربت وتعارضت وتصادمت ، فلم يعرفوا الحق من الباطل ، فهم بمنزلة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون ويتصادمون ، وهم قد افتروا على ربهم حين جعلوا منزلة لفلسفتهم وأصولهم ، تكافئ وتواجه كلام ربهم وسنة نبيهم ، فأدلة الحق وشُبَه الباطل لا تتكافأ أبدا ، حتى يتكافأ الضوء مع الظلام ، والمسك مع أنتن الجيف ، أدلة الحق وشُبَه الباطل لا تتكافأ أبدا حتى يستوي البياض مع السواد ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، فسبحان من أعمى عن الحق ، بصائر من شاء من الخلق ، كما أعمى عن شمس الوحي من شاء منهم ، فالذنب والنقص والعيب لكلل البصائر وضعفها ، لا للحق الذي ينجلي لأهل البصيرة في إيمانها ، ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء أن بصائرهم إنما هي بمنزلة أبصار الخفافيش ، التي تعجز عن ضوء النهار ولا تفتح أعينها فيه ، ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء فيه .

ولهذا تجد أكثر هؤلاء المتكلمين من الأشعرية ، لم يتبين له الهدى في هذه الطرق العقلية ، التي خلعوا فيها قيود الأدلة النقلية ، وذلك لخلو قلوبهم عن حقائق العلم والإيمان ، الذي يقضى بالتسليم لكل ما ورد في القرآن ، فكانت نهايتهم إلى الشك والحيرة والخذلان ، فمصطلحاتهم ما أنزل الله بها من سلطان ، فهؤلاء أقرب وصف لهم ، ما ورد في قول ربهم : ﴿ إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَل اللهُ بِهَا مِنْ سُلطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى أَمْ للإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ﴾ (النجم:23)
فعلومهم وأصولهم ومصطلحاتهم ظنون ، مهما كتبت وألفت فيها المتون ، ومهما كلف بجوهرة التوحيد الدارسون ومهما فرضت ودرست وتبناها القائمون ، ومهما دافع عنها المشايخ والمعلمون ، فإرادة المتكلمين تابعة لهوى نفوسهم وعلومهم تدعو إلى إرادتهم ، وإرادتهم تدعو إلى علومهم ، فهؤلاء هم الذين أمر الله بالإعراض عنهم ، إذا تمسكوا في العقيدة بمذهبهم ، بعد إقامة الحجة عليهم ، يقول تعالى : ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلى عَنْ ذِكْرِنَا وَلمْ يُرِدْ إِلا الحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلكَ مَبْلغُهُمْ مِنَ العِلمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلمُ بِمَنْ ضَل عَنْ سَبِيلهِ وَهُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ (النجم:30) .

هؤلاء الأشعرية ، اخترعوا لنا مصطلحات بدعية لا حصر لها ، اخترعوا لنا مصطلح الحيز والجسمية ، والعرض والملوخية ، والجهة والطعمية ، وغير ذلك من السلطة الفكرية ، وسموا المثبتين للصفات حشوية ، ثم قالوا هذه أصولنا العقلية ، يستقيم معها أمر العقيدة الإسلامية ، أما العبارات القرآنية والألفاظ النبوية ، فلا تصلح مصدرا للأوصاف الإلهية ، انظر معي ودقق في عبارة الحجة الإسلامية ، أبى حامد الغزالي زهرة الصوفية ، وهو يقول في تقرير الأصول الكلامية العلاقة بين العقل والنقل  (3) frown.gif من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ، ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه ) ، كيف تكون عبارات الكتاب ضلالا ، وألفظ النقل في العقيدة محالا ، والكل يقر بأن القرآن هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً﴾(الجن : 2 ) ؛ ﴿ قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلى الحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) (الأحقاف:31) ، كتاب ربنا من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم .

فطالب الهداية في الأمور الاعتقادية في غير القرآن والسنة ، قد شهد الله ورسوله له بالضلال ، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدما على كتاب الله وسنة رسوله ، قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها المنقول : ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلهُ اللهُ عَلى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَل عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:23) ، وقال : ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ ذَلكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (الأنعام:153) وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به النقل : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى ﴾ (لنجم:23) ، والقرآن مملوء بالأدلة التي تقطع بأن من قدم عقله على ما جاء في كتاب رب العزة والجلال ، فهو من أهل الضلال .

الأمر الثالث : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن أصحاب الأدلة القرآن ، المتمسكين بالسنة النبوية ، وخصوصا في باب الصفات الإلهية ، قد شهد الله لهم بالعلم واليقين ، وكفي به شهيدا في النزاع بين المختصمين ، قد شهد لهم أنهم على بصيرة من ربهم وبينة من أمرهم ، وأنهم هم أولو العقل والألباب ، والبصيرة في الكتاب ، وأن لهم نورا على نور ، وأنهم المهتدون المفلحون ، فقال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم : ﴿ الم ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً للمُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ ﴾ (البقرة:5) . وقال : ﴿ وَيَرَى الذِينَ أُوتُوا العِلمَ الذِي أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾(سبأ:6) وهذا دليل ظاهر على أن الذي نراه معارضا للنقل ويقدم العقل علي كتاب الله وسنة رسوله ، ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير ، ولا قليل ولا كثير ، وقال تعالى : ﴿ أَفَمَنْ يَعْلمُ أَنَّمَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ﴾ (الرعد:19) ، وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك ، وشهادة المؤمنين عليهم بالبعد عن الحق ، وقال تعالى : ﴿ اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلوْ لمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَال للنَّاسِ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليم ٌ﴾ (النور:35) فأخبر سبحانه بهذا المثل عن نور الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله ، وصدق رسله في قلوب عباده ، وتوافق كتاب ربهم ، مع نور عقولهم ونقاء فطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان ، أخبر سبحانه بهذا المثل الذي يتضمن أعلى أنواع النور المشهود ، وأنه نور على نور في القلب موجود ، نور الوحي ونور العقل ، نور الشِّرعَة ونور الفطرة ، نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية ، وقال تعالى : ﴿ وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ﴾ (الشورى:52) ، وقال تعالى : ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ زُيِّنَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:122) وقال تعالى : ﴿ فَالذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ ﴾ (الأعراف:157) ، وقال تعالى : ﴿ اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ﴿ (البقرة:257) ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حال المعرضين عن هذا النور ، المعارضين للوحي بالعقل ، بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب والآخر يتضمن وصفهم بالجهل البسيط ، لأنهم ليسوا طبقة واحدة ، فهم بين ناظر وباحث ، ومقدر ومفكر ، وبين مقلد يحسن الظن بهم ، ومحب يسير في ركبهم ، فقال الله عز وجل في آيتين متتاليتين في الطائفتين الموصوفتين بالجهل البسيط والمركب : ﴿ وَالذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ (النور:39) هؤلاء هم أصحاب الجهل البسيط ، أما أصحاب الجهل المركب فقد ذكرهم الله في الآية التالية ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لمْ يَجْعَل اللهُ لهُ نُوراً فَمَا لهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور:40) .

الأمر الرابع : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب العقيدة وغيره ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن الشواهد اليقينية والحجج القطعية لدى أصحاب الكتب السماوية ، قد دلت على أن الرسل صادقون ، وأنهم لا يخبرون عن الله إلا بالحق الذي يعلمون ، ولا يخبرون عن أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض ، فهم صادقون فيما يبلغون ، سواء في التكليف والطلب وأوامر العبودية ، أو في الخبر عن توحيد الأسماء والصفات والربوبية ، وهذا أول درجات الإيمان ، عند كل مسلم صادق ، فمتى علم المؤمن أن الرسول أخبر بشيء من الغيبيات أو الأسماء والصفات ، صدق تصديقا جازما يبلغ علم اليقين ، ويزداد المؤمن إيمانا بعين اليقين وحق اليقين ، وعلم أيضا أنه لا يجوز أن يكون في الوحي ، شيء باطني مخفي بخلاف ما أخبر به الناس ، وأنه من المحال أن يعارض الوحي دليل عقلي يحدث الالتباس ، وأن كل من يظن أنه يعارض خبر الرسل بحججه العقلية وآرائه الفكرية ، فحجته داحضة ، وشبهته فاسدة ، من جنس السفسطة ، وأنواع القرمطة ، فالعقلاء عن الله يعلمون أنه من المحال ، أن يعارض كتابَ الله وسنةَ رسوله رأي أو مقال ، فما بالكم بمن اعتقد أن أدلة الوحي متضاربة ، وأن أدلة العقل والنقل متعارضة ، وأنه ينبغي كما يزعمون تقديم العقل على النقل عند التعارض .

فالله عز وجل بصير بالعباد : ﴿ الذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَاب ﴾ (آل عمران : 16-19 ) ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَار رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ﴾ (آل عمران:194) نستكمل في المحاضرة القادمة بإذن الله بقية الأمور التي يرد بها على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .











المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
العلاقة بين العقل والنقل (5) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:14 AM
العلاقة بين العقل والنقل (4) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:14 AM
العلاقة بين العقل والنقل (2) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:12 AM
العلاقة بين العقل والنقل (1) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:11 AM
العلاقة بين ما تأكله والحالة النفسية مزون الطيب أخبار منوعة 0 05-02-2012 08:36 PM


الساعة الآن 08:54 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22