الرد الشافي على رسالة المنصرين

 

إعداد

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

 

 

 

مقدمة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد الصادق الأمين والمبعوث رحمة للعالمين , أما بعد :

لا يزال قول المولى عز وجل في أمهات الحقائق في شأن أهل الكتاب: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }المائدة13- يتـثبت ويتأكد , ليعلن للباحث المنصف أن التحريف أصل من أصول أهل الكتاب في إثبات عقائدهم الوثنية وثوابتهم الكفرية

فكثيرًا ما تراهم محاولين جاهدين إثبات عقائدهم بتحريف وخبث ومكر لا تجده إلا فيهم, فهو سمتهم وطبعهم الذي ورثوه عن آبائهم !

فبعد أن عجزوا عن إثبات صحة عقائدهم من أسفارهم المحرفة نظرًا لأن أسفارهم حجة عليهم لا لهم , وبعد أن جاء القرآن الكريم ليكشف كذبهم وإفكهم وزيفهم وتحريفهم , رأيناهم يحاولون العبث في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لعلهم يغلبون , مصداقًا لقول المولى سبحانه وتعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت26 .

قال شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله : ( فتبين أنهم ( أي النصارى ) يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة , وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد ) ( الجواب الصحيح 1/ 115 ) .

وقال رحمه الله في شأن ما يستدل به النصارى من آيات الذكر الحكيم : ( ان جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها , فهو حجة عليهم لا لهم , وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتاب الله وكلام أنبيائه , كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم , وذلك لعظمة كتب الله المنزلة على أنبياؤه , فإنه جعل ذلك هدى وبيانًا للخلق وشفاء لما في الصدور , فلابد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل , والصدق والكذب , لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم , لا من قبل أنبياء الله تعالى ) ( الجواب الصحيح 2/240 , 241 ) .

فالأمر كما قال الله : {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ }المائدة13 !

ولقد وقفت على إحدى رسائلهم التي كثيرًا ما يستدلون بها ويقومون بإرسالها عبر البريد الإلكتروني ( email ) على شبكة المعلومات الدولية لعوام المسلمين , وذلك بغرض إثبات أصل عقائدهم الأول وهو ( ألوهية المسيح ) من خلال تحريف آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن نبي الله عيسى عليه السلام !

ورأيت بهذه الرسالة من الكذب والتحريف والتزيف ما إن يطلع عليه المنصف منهم إلا وعلم عدم أمانة علماء أهل الكتاب في النقل والبيان , بل هم كذابون محرفون للكلم عن مواضعه !

ولهذا عزمت أن أبين خداع كاتبيها في تلك الرسالة التي سميتها " قال إني عبد الله " .

 

 

تأصيل

أولاً : في بيان عقيدة القرآن الكريم تجاه ألوهية المسيح .

- سورة آل عمران : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {80 } ) .

 

- سورة النساء: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً {171} لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172} ) .

- سورة المائدة: ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17}).

 

- سورة المائدة: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ ِإلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {74} مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75} قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {76} ) .

 

- سورة التوبة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31 } ) .

- سورة المائدة: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {77 } ) .

- سورة المائدة : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } 116 - 117 { ) .

 

- سورة مريم : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَـَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً * وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـَكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } 16- 40 { ) .

 

- سورة الزخرف : ( وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } الزخرف 62 – 65 .

 

- سورة مريم : ( وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرّحْمَـَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمَـَنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً * إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمَـَنِ عَبْداً * لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً * وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) مريم 88- 95 .

 

ثانيًا : في بيان أن النصارى لا يوجد عندهم شهادة على لسان المسيح تفيد ألوهيته بل على النقيض من ذلك .

 

 

" أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب." ( مرقس 13/32).

" أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).

" قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/28).

" الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل.لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).

" فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع ... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متَّى 20/20-22).

" ولكن أسألك من أجل هذه الجماعة، ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني " (يوحنا11/26).

" أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه" (لوقا 7/13).

" فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يوحنا 6/14).

"إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).

"يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من الله بقوات وعجائب" (أعمال 2/22).

" ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد، الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين، لأن معلمكم واحد، المسيح"(متَّى 22/9-10).

" وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحاً، ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (متى 19/17).

" كلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته، وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/2-3).

" إن أول الوصايا هى اسمع يا اسرائيل : الرب إلهنا إله واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هى الوصية الأولى" (مرقس 12 : 28 – 34 ) .

" ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة : من هذا , فقالت الجموع : هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل "( متَّى 21 : 10-11 ) .

" انه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مُرسله " ( يوحنا 14 : 16 ) .

" ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8 : 40 ) .

" الله لم يره أحد قط " ( يوحنا 1 : 18 ) .

" أبي أعظم مني " ( يوحنا 14 : 28 ) .

الرسالة وبيان زيفها

فصل : في قولهم ( الولادة العجيبة )

يقول المنصرون في بداية رسالتهم : ( كل إنسان في هذا العالم ولد من أب وأم بشريين. وحتى الأنبياء، ولدوا بطريقة طبيعية.بينما القرآن يخبرنا بأن المسيح لم يولد بطريقة طبيعية كسائر البشر ولم يكن له أب أرضي ) .

إعلم أرشدك الله أنه لما كان من عادة اليهود والنصارى سب الأنبياء وقذفهم بما لم يقذفوا به شرار الناس عندهم , كان حق على الله جل وعلا كتبه على نفسه أن يبرأ سيرتهم من هذا القذف , قال تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}المجادلة21, فهم صفوة خلق الله وخيرتهم , ولهذا جاء القرآن الكريم بهذا التعظيم والتبجيل لهؤلاء الكواكب النيرة , المعصومة المطهرة , للرد على اليهود والنصارى فيما زعموه في حق أفضل البشر عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات .

وكان فيما زعمه النصارى في حق المسيح عليه السلام أنهم قالوا في قانون إيمانهم : ( نؤمن بالله الواحد الآب ضابط الكل ، مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، و بالرب الواحد يسوع المسيح الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها ..... ) فظهر أنهم يقولون بولادة المسيح من الله ولادة جنسية لا مجازية ( تعالى عما يقوله المثلثون ) !

ومهما كانت محاولتهم الفاشلة في إثبات أن مفهوم الولادة ولادة مجازية لا جنسية فكتابهم يفضحهم ويكشفهم و يفحمهم !

إذ جاء في إنجيل لوقا – الإصحاح الأول – ما نصه " فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَحْدُثُ هَذَا، وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَهَا الْمَلاَكُ: الرُّوحُ الْقُدُسُ َيحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ , لِذلِكَ أَيْضا فَالْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ." ( لوقا 1: 34 – 35 ) .

فانظر إلى هذا النص الفاضح الدال على الفعل الجنسي الواضح !

وجاء في نسخة الملك جيمس التي تعتبر المرجع الأم لشتى النسخ المعول عليها عندهم ما نصه ( يوحنا 3 : 16 ) :

16For God so loved the world that he gave his only begotten Son, that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life.

وفي نسخة الملك جيمس الحديثة ( المنقحة ) لا يزال النص فيها :

16For God so loved the world that He gave His only begotten Son, that whoever believes in Him should not perish but have everlasting life.

فهذا النص من الطوام التي يجهلها العوام , فالنص أعلاه يثبت أن المسيح ولد ولادة جنسية لا مجازية !

ومما زعمه اليهود أيضًا ونالوا به من شخص المسيح عليه السلام هو قولهم في " التلمود " : (يسوع الناصرى موجود في لجات الجحيم بين القار والنار وأمه مريم أتت به (حملت به) من العسكري بندرا سفاحًا ( بالزنا ) والكنائس النصرانية بمثابة قاذورات وأساقفها أشبه بالكلاب النابحة وقتل المسيح من الأمور المأمور بها ومن الواجب دينيًا أن يلعن اليهودى ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني ) .

فهذا مما ناله المسيح عليه السلام من اليهود والنصارى , فلما جاء القرآن المنزل على سيد ولد عدنان القائل باللسان : ( أنا أولى الناس بعيسى ) ( أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ) , رفع عنه كذب النصارى , قال تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الأنعام:101), وقال تعالى : ( وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَـَهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ ) ( الآنبياء 26-29) , وقال تعالى : ( أَلاَ إِنّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( الصافات 151 – 152 ) .

ورفع عنه قذف اليهود وتشنيعهم , قال تعالى : ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىَ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً )( النساء 156 ).

وبَـيَّن القرآن الكريم مفهوم الولادة في أبسط إسلوب وأوضح بيان , قال تعالى : (قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( آل عمران 47 ) , وقال تعالى : ( إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ) ( آل عمران 59- 60) .

وهكذا كان القرآن الكريم أولى بأنبياء الله جل في علاه من أقوامهم !

فولادة المسيح عليه السلام ضل فيها النصارى شر ضلالة وشنَّع عليها اليهود شر تشنيع فجاء القصص القرآني الإلهي المعجز ليرد على هذه الضلالات وتلك الخرافات التي أحدثها المخربون على مر العصور , فهو ليس ولد الله , وليس إبنًا لله , ولكنه عبد الله ورسوله , خلق بمعجزة باهرة كما خلق الله أدم من تراب ثم قال له كن فيكون , فالله هو القادر الذى لا يحيط قدراته حد , فهو قادر على خلق ألف شخص مثل المسيح عليه السلام بكلمة منه " كن فيكون " !

أما عن قولهم أن كل من هب ودب ولد بالفطرة الجنسية بين الرجل والمرأة إلا المسيح فلقد ولد من أم دون أب وهذا دليل على أولوهيته وبنوته لله , فهو مردود عليهم , فهل الولادة الإعجازية دليل على ألوهية المولود ؟! , لو قلتم نعم أيها النصارى فوجب عليكم الآتي :

1-تأليه أدم عليه السلام فلقد خُلق من دون أب ولا أم .

2-تأليه حواء فلقد خُلقت من أب دون أم .

3-تأليه الكاهن ملكي صادق المذكور عندكم في الرسالة إلى العبرانيين : ( لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم , كاهن الله العلي , الذي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك وباركه , الذي قسم له إبراهيم عُشرًا من كل شيء , المُترجم أولا "ملك البر" ثم أيضًا "ملك ساليم" أي " ملك السلام " بلا أب , بلا أم , بلا نسب , لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة , بل هو مُشبه بإبن الله , هذا يبقىكاهنًا إلى الأبد ) ( الرسالة إلى العبرانيين 7 : 1- 3 ) .

4-تأليه الكبش الذي أنزله الله على إبراهيم ليفدي به ابنه الذبيح , فهذا الكبش لا أم له ولا أب , بل أنزله الله على إبراهيم بمعجزة فريدة , فهو بذلك أفضل من كبشكم, فخروفكم له أم , أما هذا فليس له أب ولا أم ! , وهذا ثابت عندكم في سفر التكوين : ( فناداه ملاك الرب من السماء وقال : " إبراهيم! أبراهيم! " , فقال : " هأنذا " , فقال: " لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا , لأني علمت أنك خائف الله , فلم تمسك ابنك وحيدك عني " , فرفع إبراهيم عينه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنيه , فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه ) ( التكوين 22 : 11- 13 ) , فهذا الخروف أعظم من خروفكم الذي بذل نفسه عنكم على حد زعمكم !

 

ورأينا استشهاد النصارى على ألوهية المسيح من السنة المطهرة , حين استدلوا زورًا وباطلاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " ( أخرجه البخاري ومسلم وأحمد ) . فزعموا أن الشيطان ليس له سلطان على المسيح مما يعني أنه الله ذاته , وأن هذه الفضيلة والكرامة لم تكن لأحد من البشر إلا للمسيح عليه السلام !

وأقول : بل هذا كذب صريح , لأن الشيطان ليس له سلطان على الأنبياء وعلى عباد الله المخلصين بنص القرآن الكريم حكاية عن الشيطان الرجيم : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }ص82 – 83 , وكما أن الشيطان لم يمس المسيح وأمه جعل الله هذه الكرامة والفضيلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم , فلقد قال عليه الصلاة والسلام : " أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله باسم الله , اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا , ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبدا " ( أخرجه البخاري ومسلم وبقية أصحاب السنن ) .

فصل : في قوله تعالى ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا )

يقول النصارى في رسالتهم : ( فالمسيح ولد من مريم العذراء وبدون علاقة مع رجل لأن الله نفخ من روحه في العذراء البتول فالمسيح هو الإنسان الوحيد الذي ولد من روح الله. والقرآن يشهد على ذلك : "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" (سورة التحريم 12) ) .

والنصارى في هذا الأمر قد ضلوا وأضلوا , وحسبنا أن ننقل ما قاله القمص المطموس صاحب العقل الملحوس زكريا بطرس في إحدى حلقات برنامجه ( الموكوس ) : أن الله كيان وفيه روح والمسيح هو هذه الروح !

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( أما قوله تعالى : ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا ) وقوله في سورة الأنبياء : (وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ } 91 { ) فهذا قد فسره قوله تعالى : ( فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ) ( مريم 17 – 19 ) .

وفي القراءة : (لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ) ( مريم 19 ) .

فأخبر أنه رسوله وروحه – أي جبريل عليه السلام – وأنه تمثل لها بشرًا , وأنه ذكر أنه رسول الله إليها , فعلم أن روحه مخلوق مملوك له , ليس المراد حياته التي هى صفته سبحانه وتعالى .

وكذلك قوله : (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا ) ( التحريم 12 ) , وهو مثل قوله في آدم عليه السلام (فَإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر 29 ) , وقد شبه المسيح بآدم عليه السلام في قوله : (إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ) ( آل عمران 59- 60) .

والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال : روحي , فروحه في هذا الباب هى الروح التي هى في البدن , وهى عين قائمة بنفسها , وإن كان من الناس من يعني بها الحياة , والإنسان مؤلف من بدن وروح , وهى عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم .

والرب تعالى منزه عن هذا , وأنه ليس مركبًا من بدن وروح , ولا يجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله : روحي , بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحى والهدى والتأييد , ونحو ذلك ) ( الجواب الصحيح 2 / 116 ) .

فصل : في قوله تعالى ( اللّهُ الصّمَدُ )

قوله تعالى واصفًا ذاته ( الصّمَدُ ) به من الإعجاز ما يُرَدُ به على من جعل الله جل في علاه مركبًا من بدن وروح كالنصارى في فهمهم لآيات القرأن الكريم , فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن سوء فهمهم راجع إلى جهلهم المبين بذات رب العالمين !

فظنوا أن ( مِن رّوحِنَا ) أى من روحه التي في بدنه تعالى الله عما يصفه به الجاهلون !

والذي ساعد في ظهور هذا التجسيم هو ما يوجد في كتابهم في وصف الرب جل في علاه, مثل أن موسى يرى أجزاء الله المؤخرة : " ثم ارفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهـي فلا يرى " ( الخروج 33-23 ) أو أن يعقوب تصارع مع الله وقدر عليه : " فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل اسرائيل لأنك جاهدت مع الله و مع النــاس وقدرت " (التكوين 32-23) أو أن الله مثـل الإنســان الثمـل : " فاستيقــظ الرب كنائــم كجبـار معيط من الخمر " ( مزامير 78- 65 ) أو أن الله ينفث دخانًا من أنفه ويطير في الهواء على ظهر الملائكة : " فارتجت الأرض وارتعشت , أسس السماوات ارتعدت وارتجت لأنه غضب , صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت , جمر اشتعلت منه , طأطأ السماوات ونزل وضباب تحت رجليه , ركب على كروب وطار ورئي على أجنحة الريح " ( صموئيل الثانى 22 : 8 – 11 ) , تعالى الله عما يصفون !

فجاء لفظ ( الصمد ) بمعانيه النيرة لترد على هؤلاء المبطلين !

وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه المعانى والتي منها : المصمت الذى لا جوف له !

وتفسير ( الصمد ) بأنه الذي لا جوف له معروف عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا وعن ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وقتادة وبمعنى ذلك قال سعيد بن المسيب قال : هو الذي لا حشو له , وكذلك قال ابن مسعود: هو الذي ليست له أحشاء , وكذلك قال الشعبي : هو الذي لا يأكل ولا يشرب , وعن محمد بن كعب القرظي وعكرمة : هو الذي لا يخرج منه شيء , وعن ميسرة قال : هو المصمت . ( مجموع الفتاوى17 / 215) .

وقال الجوهرى : ( المصمد ) لغة في ( المصمت ) وهو الذى لا جوف له . ( مجموع الفتاوى17 / 226) .

قال ابن أبى العز في شرح الطحاوية : ( والله تعالى هو الأحد الصمد ، لا يتجزأ ، سبحانه وتعالى ، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية ، تعالى الله عن ذلك ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }الحجر91 , والجوارح فيها معنى الإكتساب والإنتفاع . وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة . وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى ، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى . فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني ، سالمة من الإحتمالات الفاسدة ، فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً ، لئلا يثبت معنى فاسد ، أو ينفى معنى صحيح . وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل ) ( شرح الطحاوية ص 132 ) .

فكيف يعقل بعد هذا أن نصف الله بأنه مركب من بدن وروح ثم يأتى ضال ويقول أن فلان يمثل روح الله التي في بدنه ؟ !

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في : ( بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 2/58 ) : ( .... إسمه الصمد ينفى عنه التفرق والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه .... ) , وقال 2/59: ( .... ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد....) .

وبالتالى لا يمكن أن يتفرق بذاته أو يتمزق إلى أقانيم أو يتركب من أقانيم أو من بدن وروح , فانظر إلى تلك العقول المريضة التي شبهت الله بخلقه وهو الذي{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11.

ويقول إبن تيمية رحمه الله في ( بيان تلبيس الجهمية 2/248 ) :

( ... قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه الصمد وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم أن الصمد هو الذي : (لاجوف له) وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه – أي الصمد – أنه لا يتفرق... وهذا يدل على أن صمديته تنافى جواز التفرق والإنحلال عليه...) .

ويقول رحمه الله : ( وأما إسم ( الصمد ) فقد إستعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم فلم يقل( الله صمد ) بل قال ( الله الصمد ) فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه فإنه المستوجب لغايته على الكمال , والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه فإنه يقبل التفرق والتجزئة وهو أيضًا محتاج إلى غيره فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى , وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق ويتقسم وينفصل بعضه من بعض , والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك , بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه كما قال في آخر السورة ( وَلَم يَكُن لَه كُفُوًا أَحَد ) إستعملها هنا في النفي أي ليس شيء من الأشياء كفوًا له في شيء من الأشياء لأنه أحد ) ( مجموع الفتاوى17/238) .

فصل : في قولهم ( كلمة الله )

يقول النصارى في رسالتهم : ( دعي المسيح "كلمة الله" في القرآن :" إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " آل عمران45 , وقال القرآن أيضاً : " إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ " النساء 171 , إن لقب كلمة الله خص به القرآن المسيح وحده ولم يخص به أحداً سواه وينبغي أن تعلم أن المسيح لم يُدعى "كلمة الله" لأنه مخلوق بكلمة الله بل دُعِيَ بذات كلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي..وجميع الأنبياء تكلموا بكلام الله ولم يُقَلْ عن أي نبي أنه كلمة الله ، ويجب أن تعلم أن الكلمة هي إعلان المتكلم، لأنها تترجم أفكار المتكلم وتبين مقاصد المتكلم وتدل على سجايا المتكلم ) .

ونقول بحول الله وقوته : أما قولكم : ( دعي المسيح "كلمة الله" في القرآن : { إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }آل عمران45 , وقال القرآن أيضاً : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } النساء 171 ) فهذا ظاهر فيه خبثكم وتحريفكم , فالآية الأولى لا يظهر فيها أن المسيح هو كلمة الله لكن يظهر فيها أنه بكلمة الله كان وهذا واضح في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ) ولكنكم كعادتكم تحاولون أن تنـثروا التراب في العيون فتعمى بعض الشيء عن تحريفكم!

وأما استدلالكم بالآية الثانية فباطل لعدة وجوه , منها : أنكم لم تذكروا الآية كاملة وهى قوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ * لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }النساء171 , والآية فيها من الأدلة ما يبين أنكم محرفون كذابون , إذ بدأ الله الآية موجهًا خطابه إليكم , ناهيًا إياكم عن الشرك به والكذب عليه , وعن المغالاة في دينكم , ثم بين أن مغالاتكم في دينكم تظهر على سبيل المثال لا الحصر في معتقدكم أن المسيح إله , فنهاكم عن ذلك وبين حقيقة المسيح حين قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ ) أي أنه بشر رسول من عنده ولا يزيد على ذلك , وأنه (كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) أي خلقه بكلمة القدرة التي ألقاها إلى مريم وهى قوله تعالى : {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}آل عمران47 , وقال تعالى : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }البقرة117 , ولهذا قال تعالى في سورة مريم : {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }مريم21 , ولهذا لما مدح الله مريم عليها السلام قال عنها : {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}التحريم12-أي بوعده وقدرته جل في علاه والتي منها خلقه لابنها , فالمسيح صار بالكلمة وليس هو الكلمة , وقال تعالى : (وَرُوحٌ مِّنْهُ) وسيأتي بيانها , ثم أعقبها المولى جل وعلا بدعوة التجديد الإيماني لنقضكم أصول الإيمان جملة وتفصيلاً وكفى بعقائدكم دليلاً , فقال تعالى: ( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) أي كيف يكون له ولد وهو الله الذي ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) .

ولهذا لم تنقلوا الآية كاملة لعلمكم اليقيني أن فيها خزيكم وكشف باطلكم , ثم جاءت تعقيبات رب البرية في كشف الحجج النصرانية , فقال تعالى : {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }النساء172 .

وقال تعالى : {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}آل عمران 79-80 , قال الإمام فخر الدين الرازي في تعقيبه على الآيات : (اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أنه من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الألهية ) ( التفسير الكبير 2/109 ) .

أما قولكم : ( إن لقب كلمة الله خص به القرآن المسيح وحده ولم يخص به أحداً سواه ) فهو كذب واضح , لأن لله كلمات لا حصر لها وقد أقر القرآن الكريم ذلك , فليس المسيح وحده كلمة لله أي من خلقه , قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة37 , وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}البقرة124 , وقال تعالى : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}الأنعام34 , وقال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158 , وقال تعالى : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }الكهف109 , وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }لقمان27 , وقال تعالى : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }يونس19, وقال تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }هود119 , وقال تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً}الفتح15 , وقال عليه الصلاة والسلام : " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله " (متفق عليه) . وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع : ( اتقوا الله في النساء فإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) ( أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والدرامي ) .

أما قولكم : ( وينبغي أن تعلم أن المسيح لم يُدعى "كلمة الله" لأنه مخلوق بكلمة الله بل دُعِيَ بذات كلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي ) , فهو من تخريفكم وتجسيدكم للرب جل في علاه , لأن الله تبارك وتعالى كلماته كثيرة كما بينا وكلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته , ولم يقل أغبى أغبياء هذا الكون أن فلان ابن فلان يمثل تجسيدًا لكلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي والعياذ بالله , إنما يُعبد الإله الموصوف بالقدرة وصاحب الكلمات التي بها نرى هذه القدرة وهى أوامره ووعوده , قال معمر عن قتادة : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم) وهو قوله : كن فكان , وكذلك قال قتادة وشاذان بن يحيي : ليس الكلمة صار عيسى , ولكن بالكلمة صار عيسى , وقال الشعبي وأحمد : فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له : كن فكان عيسى " بكن " وليس عيسي هو الكن , و لكن بالكن كان عيسى . (الجواب الصحيح 1/ 157 , 158 , وانظر تفسير ابن كثير 2/293 ) .

قال الحافظ ابن كثير : ( قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }آل عمران45-أي بولد يكون وجوده بكلمة الله أي يقول له كن فيكون ) ( تفسير ابن كثير 2 / 24 ) .

فالمسيح ليس الكلمة ( اللوجوس ) كما يعتقد النصارى ولكن المسيح كان بالكلمة كما كان الخلق بالكلمة التي هى أمر الله ووعده !

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مفهوم " الكلمة " في أسلوب ماتع يقنع المكابر المعاند , حيث ذكر شيخ الإسلام في كتابه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هى " كن " كما جاء في مقدمة سفر التكوين بالعهد القديم ( وقال الله ليكن نور , فكان نور ..... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه .... وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء ....إلخ ) وفي القرآن الكريم:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82 - وليس المسيح هذه الكلمات بل المسيح خلق بكلمة من هذه الكلمات أي بأمر من هذه الأوامر الربانية " كن فيكون " ( الجواب الصحيح 2 / 103 ) .

 

 

أما قولكم : ( وجميع الأنبياء تكلموا بكلام الله ولم يُقَلْ عن أي نبي أنه كلمة الله ويجب أن تعلم أن الكلمة هي إعلان المتكلم ، لأنها تترجم أفكار المتكلم وتبين مقاصد المتكلم وتدل على سجايا المتكلم ) , فنقول : وهل جاء في كتابكم أن المسيح قال عن نفسه أنه : تجسيد لكلمة الله الداخلية الذاتية كما تزعمون أم قال أنه يتكلم بوحي من الله كغيره من الأنبياء ؟!

( ولست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي ) ( يوحنا 8 : 28 ) .

( لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية : ماذا أقول وبماذا أتكلم , وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية . فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم )( يوحنا 12 : 48-50 ) .

فكيف يكون المسيح كلمة الله الذاتية الداخلية الناطقة بعد كل هذا ؟!

أليس هذا أكبر دليل على أنه رسول من الله يتكلم بوحي من الله جل في علاه ؟!

بل إن المسيح أقر ذلك حين قال : ( والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني ) ( يوحنا 14 : 24 ) , أي أنه ليس كلمة الله الذاتية الناطقة , إنما هو يتكلم بوحي من الله كغيره من الأنبياء .

ثم إن هناك العديد من الكلمات للرب في كتابكم المقدس فقد ورد في سفر أرميا [ 33 : 14 ]: (ها أيام تأتي يقول الرب : وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل وإلي بيت يهوذا في تلك الايام ) .

وورد في سفر اشعيا [ 2 : 3] : ( لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن اورشليم كلمة الرب) . وورد في المزمور الخامس بعد المئة الفقرة الثانية والاربعين ما نصه :( لأنه ذكر كلمة قدسه مع ابراهيم عبده ) . وورد في سفر أخبار الايام الاول [ 16 : 15 ] ما نصه: (اذكروا إلي الأبد عهده الكلمة التي أوصى بها إلي ألف جيل الذي قطعه مع ابراهيم). وجاء في سفر الأمثال الإصحاح الثلاثين الفقرة الخامسة : ( كل كلمة من الله نقية ).

فصل في قولهم ( روح الله )

يقول النصارى في رسالتهم : ( دعي المسيح روح الله في القرآن : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171. وكلمة (روح منه) فسَّرها الإمام الرازي بقوله : " أنه روح لله لأنه واهب الحياة للعالم في أديانهم". وفسرها الإمام البيضاوي بقوله : "سُمِّيَ روحاً لأنه كان يحيي الأموات وقلوب البشر "

ومن المهم أن نعرف الفرق بين قول القرآن عن آدم : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ}السجدة9 , وبين قوله عن المسيح : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171. فالقول (نفخ فيه من روحه) يعني أن النفخة لأدم صادرة من الروح . والقول الثاني (روح منه) يعنى أن المسيح هو ذات الروح معطي الحياة ) .

قال الإمام أحمد : ( قالت النصارى روح الله من ذات الله , وكلمة الله من ذات الله , كما يقال : هذه الخرقة من هذا الثوب ) ( الجواب الصحيح 2 / 158 ) .

إن النصارى يؤمنون أن المسيح يمثل روح الله التي في ذات الله وكيانه والعياذ بالله , فهذا هو منهجهم في فهم النصوص , فهم يمثلون ويجسمون الله تعالى عما يصفون ويقولون أنه جسد وروح كسائر مخلوقاته وأن المسيح هو هذه الروح التي محلها البدن , ونسوا ما جاء في نفس القرآن الذي يستدلون به : { لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}الشورى11. بل ونسوا ما جاء في كتابهم : " أيها الرب إله إسرائيل , لا إله مثلك في السماء والأرض " ( أخبار الأيام الثاني 6 : 14 ) , وأيضًا : " ليس مثل الله " (تثنية 34 : 26 ) , " فبمن تشبهون الله ؟ وأي شبه تعادلون به ؟ " ( إشعياء 40 : 18). فكيف بعد كل هذا يوصف الله بالبدن والروح ؟!

إن هذا التجسيم والتمثيل والتشبيه درب من دروب الكفر الذي يمتليء به الكتاب المقدس, ولهذا عندما تعرضوا لآيات الذكر الحكيم كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171 . جسدوا الوصف كعادتهم فظنوا أن المسيح روح الله التي فى كيان الله والعياذ بالله , وبمعنى أخر فهم ظنوا أن ( من ) في الآية للتبعيض !

ولهذا قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : ( قوله تعالى (وَرُوحٌ مِّنْهُ) كقوله في سورة الجاثية : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13 . أي من خلقه ومن عنده وليست ( من ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة , بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى...وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : { هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ }الأعراف73 . وفي قوله : {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ }البقرة125 ) ( تفسير ابن كثير 2/294 ).

فالله ليس كمثله شيء حتى نشبهه بالإنسان المركب من كيان وروح , إنما المقصود روح من خلقه جل وعلا , فكل منا بداخله روح من الله أي من خلقه جل في علاه , كما جاء في الحديث النبوي الذي أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ... ) , وهذا عين ما حدث لمريم عليها السلام , فلو طبقنا منهج النصارى في الفهم المادي لأصبح كل واحد منا هو الله وروحه التي في كيانه والعياذ بالله !

وقال الألوسي رحمه الله: ( حكي أن طبيـبًا نصرانيًا حاذقًا للرشيد ناظر على بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) فقرأ الواقدي قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثـية13 . فقال : إذاً يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا ، فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحًا شديدًا ) (روح المعاني 6/25 )

وقولهم أن هناك فارق بين قوله تعالى حكاية عن آدم عليه السلام : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ}السجدة9 , وقوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171 , غلط محض , وأكبر دليل على أنه لا فارق بينهما هو القرآن الكريم ذاته , إذ ساوى في آية صريحة بين خلق آدم عليه السلام وخلق المسيح عليه السلام فقال تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران59 , وهذا رد قاطع فصل ما هو بالهزل , يبين الحقيقة في أوضح صورة .

وأما قولهم : ( وكلمة (روح منه) فسَّرها الإمام الرازي بقوله : " أنه روح لله لأنه واهب الحياة للعالم في أديانهم" ) , فهذا تحريف وطمس للحقائق , فليس في استدلالهم ما يفيد أن المسيح روح الله التي في كيانه – تعالى الله – بل على العكس , حيث أن قول الإمام يفيد أن المسيح عليه السلام كان يرشد الناس إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم بصفته رسول من الله , ولقد بين الإمام أن هذا التعبير قيل في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}الشورى52 , ثم إنهم نقلوا وجهًا واحدًا من وجوه عدة فصلها الإمام الرازي وبين فيها كفرهم وضلالهم , فلقد قال رحمه الله : ( واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية ، والتقدير: يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح ، وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح ، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم ، فلهذا قال للنصارى : {لا تغلوا في دينكم } , وقوله : {ولا تقولوا على الله إلا الحق} يعني لا تصفوا الله بالحلول والإتحاد في بدن الإنسان أو روحه ، ونزهوه عن هذه الأحوال . ولما منهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق ، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده . وأما وقوله : {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} فاعلم أنا فسرنا {الكلمة} في قوله تعالى : {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح} [آل عمران: 45] والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال : {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] . وأما قوله : {وروح منه} ففيه وجوه: الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح ، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح ، والمراد من قوله {منه} التشريف والتفضيل كما يقال : هذه نعمة من الله ، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. الثاني : أنه كان سببًا لحياة الخلق في أديانهم ، ومن كان كذلك وصف بأنه روح . قال تعالى في صفة القرآن : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52] الثالث: روح منه أي رحمة منه ، قيل في تفسير قوله تعالى : {وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] أي برحمة منه ، وقال عليه الصلاة والسلام : فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه. الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب ، فإن الروح والريح متقاربان ، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله {منه} يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه ، وهذا كقوله : {فنفخنا فيها من روحنا} . الخامس: قوله {روح} أدخل التنكير في لفظ {روح} وذلك يفيد التعظيم ، فكان المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية ، وقوله {منه} إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم. ثم قال تعالى :{فآمنوا بالله ورسله} أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها ) ( مفاتيح الغيب 10/46 ) .

وأما عن قولهم : (وفسرها الإمام البيضاوي بقوله : "سُمِّيَ روحاً لأنه كان يحيي الأموات وقلوب البشر " ) , فهذا أيضًا ليس فيه ظاهر دعواكم أن المسيح روح الله التي في كيانه والعياذ بالله , بل فيه أن المسيح عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله كما قال تعالى : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49 . وكما قال تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110 . وهذا أمر لم يخص الله به المسيح عليه السلام في القرآن , بل كان لجده إبراهيم أيضًا , قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة260 .

وأما عن إحيائه لقلوب البشر فهذا شأن الأنبياء جميعًا , فهم طب القلوب وهداية الصدور لما فيه مصالح البشر الدينية والدنيوية .

ثم إن كتابكم بين أن روح الله لا تحل في جسد إنسان : " فقال الرب: لا تَثُبتُ رُوحي في الإِنسانِ لِلأَبَد ، لأَنَّه بَشَر " (التكوين6/3 – الترجمة الكاثوليكية ) .

وفي كتابكم أيضًا أناس وصفوا أنهم أرواح الله , ففي سفر التكوين جاء في حق يوسف ما نصه : "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله " (التكوين 41/38) , ومثله قول موسى: " قال له موسى: هل تغار أنت لي ، يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء ، إذا جعل الرب روحه عليهم" (العدد 11/29) ، ويقول كتابكم أيضًا : " يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً" (أعمال 2/17)

فصل في قولهم ( الوجيه في الدنيا والآخرة )

يقول المنصرون في رسالتهم : ( الوجيه في الدنيا والآخرة : لقد لقب المسيح بالوجيه في الدنيا والآخرة في سورة آل عمران 45. وقال مفسروا الإسلام بالإجماع: "الوجاهة في الدنيا هي النبوة وفي الآخرة هي الشفاعة " ( البيضاوي 99 ) . رغم أن القرآن يحصر الشفاعة بالله وحده حيث يقول : "ولله الشفاعة جميعاً" سورة الزمر 44 . لكن القرآن في سورة آل عمران 45 يبين أن الشفاعة من امتيازات المسيح.. وهذا يدل أن هذا اللقب الذي منح المسيح هو لقب إلهي ) .

بالنسبة لقول الإمام البيضاوي أن الوجاهة في الدنيا هي النبوة وفي الأخرة هي الشفاعة فليس فيه ما يثبت الألوهية لصاحب النبوة , بل إن هذا من كراماته النبوية عليه السلام , وهذه الشفاعة ليست الشفاعة العظمى التي خص الله بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام , إنما هي الشفاعة الصغرى والتي وعدها الله من شاء من خلقه من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء , قال تعالى : {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }مريم87 , وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }طه109 , وقال تعالى : {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }سبأ23 , وقال تعالى : {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }الزخرف86 , وقال تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }الأنبياء28 , وقال تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }النجم26 , وقال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}البقرة255 .

وقال عليه الصلاة والسلام : ( للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه ) ( أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة ) , وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة , يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه , ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( قد أعطى الله كل نبي عطية فكل قد تعجلها وإني أخرت عطيتي شفاعة لأمتي وإن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة وإن الرجل ليشفع للقبيلة وإن الرجل ليشفع للعصبة وإن الرجل ليشفع للثلاثة وللرجلين وللرجل ) ( أخرجه أحمد والترمذي ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( يوضع الصراط بين ظهري جهنم عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومجدوح به ثم ناج ومحتبس به منكوس فيها فإذا فرغ الله عز وجل من القضاء بين العباد يفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدنيا يصلون بصلاتهم ويزكون بزكاتهم ويصومون صيامهم ويحجون حجهم ويغزون غزوهم فيقولون أي ربنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون صلاتنا ويزكون زكاتنا ويصومون صيامنا ويحجون حجنا ويغزون غزونا لا نراهم فيقول اذهبوا إلى النار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه قال فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه ومنهم من أخذته إلى نصف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه ومنهم من أزرته ومنهم من أخذته إلى ثدييه ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه فيستخرجونهم منها فيطرحون في ماء الحياة قيل يا رسول الله وما ماء الحياة قال غسل أهل الجنة فينبتون نبات الزرعة وقال مرة فيه كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا فيخرجونهم منها قال ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها ) ( متفق عليه ) .

فالمسيح يتساوى في هذا الأمر مع غيره من الأنبياء , ولو كان أمر الشفاعة خاصًا به عليه السلام فليس هذا دليلاً على ألوهيته , وإلا لكان محمد صلى الله عليه وسلم إلهًا , إذ هو صاحب الشفاعة الكبرى يوم الفزع الأكبر , يوم يتنحى الأنبياء عنها بما فيهم المسيح عليه السلام قائلين : إن الله قد غضب اليوم غضبًا عظيمًا !

فلقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة رضى الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ... نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ابن مريم فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبًا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتون محمدًا فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى " .

فصل في قولهم ( العلم بالغيب )

يقول المنصرون : ( العلم بالغيب: وهذه صفة لا تتوفر إلا عند الله عز وجل ولكن القرآن نسبها للمسيح حيث قال القرآن بلسان المسيح : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }آل عمران 49 . وهذا يدل على أن المسيح يعرف أسرار الناس . كذلك يورد القرآن أن المسيح كان يعلم المستقبل المجهول ، حيث يورد القرآن نبوة المسيح الكبرى عن آخرته ، وأنه سوف يموت ويبعث عقب موته حياً: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }مريم33 ) .

قال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }الجن 26-27 , والمتأمل في الآية الكريمة يجد أن الله تبارك وتعالى يُطلع الرسول على بعض الغيب ليُثَبِتَه ويجعل ذلك برهانًا على صدقه فيما يدعيه أمام الناس , وهذا العلم بالغيب ليس علم الغيب الكلي , ولهذا قال الله حكاية عن المسيح عليه السلام : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}آل عمران 49, وهذا علم خاص لا يقارن بعلم الله الغيـبي الكلي , فماذا يمثل الإخبار بالمأكل والمشرب والملبس أمام الإخبار بميعاد القيامة مثلاً ؟‍! بل ماذا يمثل أمام علم الله الكلي الغيـبي ؟!

وهذا الأمر قد حدث مع كثير من الأنبياء غير المسيح عليه السلام , بل لقد ذكر القرآن الكريم في سورة الكهف أن الخضر عليه السلام كان يعلم الغيب بإذن الله في حين أنه لم يكن حتى بنـبي , بل عبد صالح رزقه الله من لدنه علمًا !

وكذلك يوسف عليه السلام عندما أخبر عن غيب رآه فرعون في رؤياه فوقع كما أخبر عليه السلام !

وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على العديد من الغيبيات مثل أشراط الساعة والتمكين لدينه وانتصاره على الكفار , وانتصار الروم على الفرس , وتحريف اليهود والنصارى لأسفارهم , وانتشار الإسلام في شتى أنحاء المعمورة وغير ذلك الكثير !

وكل هذا غيب جزئي لإثبات النبوة وصدق الرسالة والرسول ليس إلا , فالذي دعاكم لقول ذلك , هو عدم وجود نص صريح على لسان المسيح عليه السلام يقول فيه أنه إله وأنه مستحق للعبادة .

وإخباره عليه السلام أنه سوف يبعث حيًا في آخر الزمان إنما هو دليل نبوة وليس دليل ألوهية , ولو كان عليه السلام يعلم الغيب الكلي الموجِب للألوهية فكيف عجز عن معرفة ميعاد الساعة عندما سُئل عنها : ( أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب ) (مرقس 13/32) ؟!

فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته ، فالجهل بالغيب مبطل لها ؟!

وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب ، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه ، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعاذر يسأله : " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/33-34).

ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون : " فسأل أباه كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه." (مرقس 9/11) .

والمسيح عليه السلام قال عن البيركليت في إنجيل يوحنا : " ويخبركم بأمور آتية " ( يوحنا 16 : 12-13 ) , فلو كان المسيح يعلم الغيب الكلي لما بشر برسول يأتي من بعده يخبر بأمور غيـبية آتية ولاستأثر هو بهذا العلم !

وليس المسيح وحده من تنبأ بالمغيبات ، فقد تنبأ قبله يعقوب فقال لأبنائه: "اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام…" (التكوين49/1-27).

ومثله تنبأ صموئيل وإيليا (انظر صموئيل(1)10/2-9، ملوك (1)21/21-24)، وقد تحققت نبوءتهما في (ملوك (2)10/1-17، 9/30-37).

ومثل هذا كثير في أسفاركم (انظر صموئيل (1)19/23-24، ملوك 4/8-18، 8/12-13، يوحنا 11/49-52).

وقد جاء في وصف بلعام بن بعور الكافر الذي قتله موسى عليه السلام بأنه " يعرف معرفة العلي الذي يرى رؤيا القدير" (العدد 24/15-19) وبلعام هذا ليس بنبـي , وذكرت الأسفار عدداً من تنبؤاته التي تحققت .

فصل في قولهم ( المسيح بلا خطية )

يقول المنصرون ( عصمة المسيح عن الخطية : يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة ويذكر الأخطاء لبعضهم ما عدا المسيح. فقد كان المسيح بريئاً وطاهراً. نقرأ في القرآن أن المسيح لقب "بالغلام الزكي". وهذا ما جاء على لسان الملاك جبرائيل في حديثه مع مريم العذراء: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً }مريم19. وأجمع المفسرون العلماء مثل الطبري والرازي والزمخشري أن كلمة (زكيًا) تعني صافياً وتقياً وبلا خطية لا توجد آية في القرآن تبين أن المسيح طلب الغفران من الله فقد عاش معصوماً من الخطية وبريئاً من كل الذنوب. كذلك يتكلم القرآن عن المسيح أنه كان مباركاً دائماً حيث يقول القرآن على لسان المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }مريم31. لقد ظل المسيح في كل لحظة من لحظات حياته المبارَك أينما كان ) .

إن القرآن الكريم لم يذكر خطيئة واحدة لأي نبي من أنبياء الله , ولذلك تجد أن المنصرين قد عجزوا عن الإتيان بخطيئة واحدة من القرآن الكريم لأنبياء الله , بل جاء كلامهم مبينًا لعظمة الأنبياء عندنا , وتكريم القرآن الكريم لهم بعد أن لطخوا سيرتهم في أسفارهم , فذكروا أنهم زناة وسكيرون عراة , وكذابون خونة ( وحاشاهم ) !

فجاء القرآن الكريم ليكشف كذبهم على أنبياء الله , ويـبين مكانة هؤلاء النجوم اللامعة التي بها نهتدي وبسلوكهم القويم نقتدي .

والقرآن الكريم لا يذكر للمسيح خطيئة كما لا يذكر لإخوته من الأنبياء , لأنهم أشرف الخلق وصفوتهم , وهم في عصمة الله وحفظه . بل أنـتم الذين تنسبون إلى المسيح عليه السلام من الخطايا والذنوب ما هو منها بريء .

( يوحنا 7 : 6- 11 ) " فقال لهم يسوع : إن وقتي لم يحضر بعد , وأما وقتكم ففي كل حين حاضر . لا يقدر العالم أن يبغضكم , ولكنه يُبغضني أنا , لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة . اصعدوا أنتم إلى هذا العيد , أنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد , لأن وقتي لم يكمل بعد . قال لهم هذا ومكث في الجليل . ولما كان إخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو أيضًا إلى العيد , لا ظاهرًا بل في الخفاء " .

وهكذا نرى أنكم نسبتم الكذب إلى ربكم , فبعد أن أخبر تلاميذه أنه لن يذهب للإحتفال بالعيد , ذهب هو في الخفاء !

كما أنكم نسبتم إليه الكذب عندما أخبر عن أحداث نهاية الزمان وخراب الهيكل وزعم أنه : ( لن يزول هذا الجيل حتى تحدث هذه الأمور كلها ) ( متَّى 24 : 34 ) , هذا وقد مضى جيل التلاميذ وجاء بعده مئات الأجيال ولم يحدث شيء مما أخبر !

وعن هذا الكذب يقول " جون فنتون " عميد كلية اللاهوت بإنجلترا وصاحب التفسير الشهير لإنجيل متَّى ص 21 : " أن شيئًا من هذا لم يحدث كما توقعه متَّى " !

ولنقرأ هذا السب والقذف الصادر عن فم ربكم يسوع :

( متَّى 11: 20-21 ) " حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا!" .

( متَّى 16: 23 ، مرقس 8: 33 ) " فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ" .

( متَّى 23: 31-33 ) " فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. فَامْلَأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ " .

( لوقا 24: 25) " فَقَالَ لَهُمَا: "أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ".

( متَّى 3: 7-8 ) " فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ قَالَ لَهُمْ: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" .

(غلاطية 3 : 13 ) " إِنَّ الْمَسِيحَ حَرَّرَنَا بِالْفِدَاءِ مِنْ (لَعْنَةِ الشَّرِيعَةِ)، إِذْ (صَارَ لَعْنَةً ) عِوَضاً عَنَّا، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ " .

( يوحنا : 2 : 1 – 10 ) " وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ . وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً. 7قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: امْلَأُوا الأَجْرَانَ مَاءً . فَمَلَأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ – لَكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا – دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ : كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ " وكانت هذه أولى معجزات المسيح في الكتاب المقدس " تحويل الماء إلى خمر " ! وعن سلوكه الفظ مع أمه فلا ريب أنه اكتسبه من العشارين والخطاة الذين كانوا في رفقته: " جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا "( متَّى 11 : 19 ) .

قال تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام : {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}مريم32 !

فصل في قولهم ( معجزات المسيح )

لقد ظن النصارى أن المسيح عليه السلام صار إلهًا لأنه أحيا الموتى وشفا المرضى , فسألوا المسلمين : من غير الله يحي الموتي ويشفي المرضى ؟ !

إن القرآن الذي يستدلون منه ذكر حقيقة هذا الأمر وهو أن المسيح عليه السلام لم يفعل تلك المعجزات من قوته الذاتية , بل الفاعل والـمُسبب لها هو الله العلي القدير , قال تعالى : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49 . وقال تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110 .

وكما ذكرنا هذا أمر لم يخص الله به المسيح عليه السلام , بل أجراه الله على يد جدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا . فلماذا المغالطة والزعم الباطل أن المسيح فعل هذه المعجزات بقدرته وسلطانه ؟!

بل إن ما عندكم من نصوص كتابـية تُثبت على لسان المسيح أنه لم يكن له من الأمر حيلة إلا ما أعطاه الله إياه لتـثبيت ضعفاء الإيمان ولهداية من لا إيمان له , وفي هذا يقول بطرس : "يسوع الناصري رجل قد تبرهن من قبل الله بقوات وعجائب صنعها الله بيده " (أعمال 2 / 22) . وهذا ما أكدته النصوص الإنجيلية ، ونقلته عن المسيح ، فعندما أتى المسيح بما أتى به من المعجزات كان يؤكد أنها من الله عز وجل ، ولم ينسبها إلى نفسه فقال: "أنا بروح الله أخرج الشياطين" (متَّى12/28).

وقال:" كنت بإصبع الله أخرج الشياطين " (لوقا 11/20).

وعندما جاء لإحياء لعازر : "رفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي , ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني " (يوحنا 11/41-42).

ولما أراد إطعام الجمع من الأرغفة الخمس أيضاً : "رفع نظره نحو السماء، وبارك وكسر" (متَّى 14/19).

ولما جيء له بالأصم : " رفع نظره نحو السماء وأنَّ، وقال: افثأ.أي انفتح، وللوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيماً" (مرقس 7/34-35).

وقال: " دُفع إلي (أي من الله) كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متَّى 28/18).

وأيضاً قال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً " (يوحنا 5/30).

ويقول :" الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي" (يوحنا 10/25).

وأما الذين رأوا معجزات المسيح فقد عرفوا أن ما يصنعه إنما هو من المعجزات التي يعطيها الله لأنبيائه، ولم يفهم أحد منهم ألوهية صاحب هذه المعجزات، فعندما شفي الصبي من الروح النجس "بهت الجميع من عظمة الله" (لوقا 9/34).

ولما شفى المرأة المقوسة الظهر : " استقامت (أي المرأة) ومجدت الله" (لوقا 13/13).

ولما أقام المفلوج ورأت الجموع ذلك : " تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا " (متَّى 9/8).

وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه : " فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع" (يوحنا 9/ 10-11) .

ولنقرأ قصة إحياء ابن أرملة نائين من الموت : "11 وذَهَبَ بَعدَئِذً إِلى مَدينَةٍ يُقالُ لَها نائين، وتَلاميذُه يَسيرونَ معَه، وجَمعٌ كَثير. 12فلَمَّا اقَتَرَبَ مٍن بابِ المَدينة، إِذا مَيْتٌ مَحْمول، وهو ابنٌ وَحيدٌ لأُمِّه وهي أَرمَلَة. وكانَ يَصحَبُها جَمعٌ كثيرٌ مِنَ المَدينة. 13فلَمَّا رآها الرَّبّ أَخذَتُه الشَّفَقَةُ علَيها، فقالَ لَها: ((لا تَبكي! )) 14ثُمَّ دَنا مِنَ النَّعْش، فلَمَسَه فوقَفَ حامِلوه. فقالَ: ((يا فتى، أقولُ لَكَ: قُمْ! )) 15فجَلَسَ المَيتُ وأَخَذَ يَتَكَلَّم، فسَلَّمَه إِلى أُمِّه. 16فاستَولى الخَوفُ علَيهم جَميعاً فمَجدَّوا الله قائلين:((قامَ فينا نَبِيٌّ عَظيم، وافتَقَدَ اللهُ شَعبَه! )) 17وانَتَشَرَ هذا الكَلامُ في شَأنِه في اليَهودِيَّةِ كُلِّها وفي جَميعِ النَّواحي المُجاوِرَة. " ( لوقا 7 : 11 – 17 ) .

ولما أرادت مرثا أخت لعازر أن يحيي أخيها قالت: " أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه" (يوحنا 11/22).

وتحكي الأناجيل ما يؤكد أن هذه المعجزات لم تكن إلا هبة من الله ، وكان المسيح يحذر أن لا يؤتاها في بعض المواطن ، لذلك لما تقدم إلى لعازر الميت خاف أن لا يتمكن من صنع معجزة : " قال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟ فانزعج يسوع أيضاً في نفسه" (يوحنا 11/37-38).

وفي مرات أخر طلب منه الفريسيون آيات : " فتنهد بروحه، وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية، ثم تركهم ودخل السفينة ومضى" (مرقس 8/11-13).

ولما تكاثرت جموع اليهود عليه تطلب آية لم يعطيهم بل قال: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية " (متَّى12/38-39).

ثم لو كان ما يصدر من المسيح من آيات تدل على ألوهيته لم يأمر بإخفائها ، وهي السبيل الذي يدل الناس على حقيقته؟ فقد قال المسيح للأبرص لما شفاه : " انظر، لا تقل لأحد شيئاً" (مرقس1/44).

ولما شفى الأعميان قال: " انظرا لا يعلم أحد" (متَّى 9/31).

وقال للأعمى الثالث لما شفاه: "لا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية" (مرقس8/26).

وتكرر منه ذلك : " فعلم يسوع وانصرف من هناك.وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً. وأوصاهم أن لا يظهروه" (متَّى 12/15-16)، فالمسيح بإخفائه للمعجزات يريد أن لا ينشغل الناس بالمعجزات عن دعوته وجوهرها , ويريد أن يمنع الفتنة من أن تدخل في قلوبهم فيظنون أنه إله !

وفعل العجائب لا يدل على الصدق فضلاً عن النبوة أو الألوهية ، فإن المسيح ذكر بأن كذبة سيفعلون المعجزات ويزعمون أنهم أحباء المسيح وأتباعه , لقد جاء في إنجيل متَّى أن المسيح قال : " ليس كل من يقول لي : يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، وكثيرون سيقولون في ذلك اليوم: يا رب أخرجنا الشياطين باسمك، وصنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط، فاذهبوا عني يا فاعلي الإثم". (متَّى7/21-23).

ومعجزة إحياء الموتى معجزة عظيمة من معجزات المسيح عليه السلام التي أثبتها القرآن الكريم ، وأخبر بأنها من عند الله , وهو ما يتفق أيضاً مع ما جاء في الإنجيل ، فقد قال عيسى عليه السلام للذين شاهدوه وعاصروه : " لست أفعل من ذاتي شيئاً، لكنني أحلم بما أسمع، لأني لست أنفذ إرادتي، بل إرادة الله الذي بعثني " (يوحنا 6/38).

لكن النصارى يصرون على أن إحياء الموتى يدل على ربوبية المسيح وألوهيته، ويتجاهلون نصوصاً كتابية أسندت ذات الفعل لغير المسيح , فلم لا تقول النصارى بألوهيتهم ؟!

فلئن كان المسيح أحيا لعاذر (انظر يوحنا 11/41-44)، فإن إلياس أحيا ابن الأرملة : "وقال أيها الرب الهي أيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأتَ بإماتتك ابنها – وحاشا لله أن يسيء- فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه.فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش." (انظر ملوك (1) 17/19-24).

واليسع أيضاً أحيا ميتين أحدهما حال حياته، والآخر بعد وفاته، فقد أحيا ابن الإسرائيلية التي جاءته : " دخل اليشع البيت، وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلّى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي، ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدّد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك وصعد وتمدّد عليه، فعطس الصبي سبع مرّات ثم فتح الصبي عينيه" (انظر ملوك (2) 4/32-36).

كما أحيا اليسع بقدرة الله بعد موته ميتاً وضعه أهله على قبر اليسع، فعاد حياً : " فيما كانوا يدفنون رجلا إذا بهم قد رأوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر اليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام اليشع عاش وقام على رجليه" (انظر ملوك(2) 13/21).

وحزقيال النبي أحيا بشراً كثيراً إذ فر قومه وهم ألوف حذر الوباء، فأماتهم الله ثم جاءهم نبيهم، فقال لهم: " فقال لي تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح: هكذا قال السيد الرب، هلم يا روح من الرياح الأربع، وهبّ على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً". (انظر حزقيال 37/9-10).

والعجب من استدلال النصارى بإحياء الموتى لإثبات ألوهية المسيح مع أنهم أثبتوا هذه القدرة للحواريين، والمقصود ما جاء في قصة إحياء بطرس لطابيثا , فقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس أحيا طابيثا بعد أن ماتت وغسلها أهلها : " وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة.... وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت.فغسلوها ووضعوها في عليّة. ... فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلّى، ثم التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي.ففتحت عينيها.ولما أبصرت بطرس جلست" ( أعمال 9/36-41).

كما يغفل النصارى عن تلك النصوص التي تتحدث عن موت المسيح الذي عجز عن دفع الموت عن نفسه ، كما عجز عن ردها إلى الحياة من جديد ، حتى أعاده الله وأقامه من الأموات زعمًا ، وقد تكاثرت النصوص على إيراد هذه الحقيقة حتى بلغت خمسة عشر نصاً ، منها : " فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ومنها : "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، وكذا : "المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله" (أعمال 4/10).

ولئن كان المسيح عليه السلام قد شفى الأبرص (انظر متَّى 8/3) فإن اليسع شفى أبرصاً، وأمرض آخر وذريته من بعده بالبرص : " فأرسل إليه اليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن فيرجع لحمك إليك وتطهر.....فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد.وخرج من أمامه أبرص كالثلج" (انظر ملوك (2) 5/10-27).

وإن طعم ببركة المسيح خمسمائة من خمسة أرغفة (انظر متَّى 14/19-21)، فقد أطعم الله عز وجل بني إسرائيل - وهم زهاء ستمائة ألف - المن والسلوى أربعين سنة ، وكل ذلك ببركة موسى عليه السلام (انظر الخروج 16/35-36).

ولئن كان المسيح قد حول شجرة التين إلى يابس ( انظر متَّى 21/18-19)، فإن موسى حول العصا اليابسة إلى حية (انظر الخروج 7/9)، وهو أعظم، إذ قد يدخل يبس الشجرة في قانون الطبيعة لكن تحويل العصا إلى حية معجز بكل حال.

وأما الظلمة التي يدعي النصارى حصولها عند صلب المسيح زعمًا فهي ليست – بكل حال- بأكبر من الظلمة التي استمرت على أرض مصر ثلاثة أيام بسبب كفرهم بموسى (انظر الخروج 10/22-23).

وأيضاً فإن يشوع لما حارب الأموريين وكادت ليلة السبت أن تدخل ناجى ربه فقال: "أمام عيون إسرائيل : يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر دوم على وادي أيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب….فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشوع10/12-13)، وهذا الذي حصل ليشوع لا يقتضي ألوهيته وهو أعظم من غياب الشمس ثلاث ساعات، فإنها قد تغيب بالغيوم، وهو داخل في السنن المعهودة، أما توقف دوران الكرة الأرضية فهو أعظم من ذلك بكثير.

ثم لئن كانت الطبيعة تطيع المسيح فإن ذلك قد حصل مع الأنبياء أيضاً، فإيليا أطاعته النار حتى قال: " إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء تأكلك أنت والخمسين الذين لك، فنزلت نار الله من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له" (ملوك(2)1/9-11).

وكذا أطاع البحر إيليا : " وأخذ إيليا رداءه، ولفه، وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر كلاهما (اليشع وإيليا) في اليـبس" (ملوك(2)2/7-8)، وقد رأينا كيف أطاعت الشمس والقمر يشوع.

وأما صيام المسيح أربعين يوماً فلا يدل على ألوهيته إذ أنه : "جاع أخيراً" (متى 4/2)، فلئن كان صومه وصبره يدل على ألوهيته فإن جوعه يكذبه ويدل على بشريته ونبوته.

وقد كان مثله لموسى حيث يقول: "أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء" (التثنية 9/9).

ومثله حصل مع النبي إيليا حين أكل أكلة ثم "سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله" (ملوك (1)19/7-8).

ولئن قال النصارى برفع المسيح للسماء وجلوسه عن يمين الله، فإن مثل ذلك حصل مع إيليا الذي رفع من غير أن يصلب أو أن يصفع أو أن يصاب بسوء (انظر ملوك (2)2/11-12)، ومثله حصل مع اخنوخ (انظر التكوين 5/24)

فصل في ضعف رب النصارى

إن المتأمل في الأناجيل يضرب من العجب كفًا بكف كلما رأى تلك النصوص التي وصفت المسيح بأنه ضعيف هزيل وكلما تذكر دعوى النصارى أن المسيح هو الله القوي المتين . يقول الأستاذ علاء أبو بكر : " الله القوي , المتين , العلي المتعالي , لا يكل ولا يتعب , الصمد , القادر , المقتدر : ( أما عرفت أم لم تسمع ؟ إله هذا الدهر خالق أطراف الأرض لا يكل و لا يعيا ) إشعياء 40 : 28 . ( تزلزلت الجبال من وجه الرب ) قضاة 5 : 5 . ( الرب القدير الجبار الرب الجبار في القتال ! ) مزامير 24 : 8 . ( هوذا بزجرتي أنشف البحر . أجعل الأنهار فقرًا . ينتن سمكها من عدم الماء ويموت بالعطش . ألبس السماوات ظلامًا وأجعل المسح غطاءها)إشعياء 50 : 2-3 . ( أما الرب الإله فحق , هو إله حي وملك أبدي . من سخطه ترتعد الأرض و لا تطيق الأمم غضبه ) إرميا 10 : 10 . وهذا لا ينطبق على يسوع : وأسره الشيطان لمدة أربعين يومًا في البرية , ولم يدعه يأكل أو يشرب حتى أكمل كل تجربه ثم تركه الشيطان إلى حين : ( أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا يُجرب من إبليس ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام . ولما تمت جاع أخيرًا ) لوقا 4 : 1-2 .

كما كان خائر القوة , يدعوا إلهه أن ينجيه : ( وظهر له ملاك من السماء يقويه ) لوقا 22 : 43 – وعجبًا لإله يقويه خلقه – ونام ليستريح : ( وفيما هم سائرون نام ) لوقا 8 : 23 . وتعب من السفر فاستراح : ( فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر ) يوحنا 4 : 6 .وجاع وأكل: (12وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ) مرقس 11: 12.وكان يهرب من اليهود : ( وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه ) يوحنا 7 : 1 .( فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه . فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانية ... ) يوحنا 11 : 53 – 54 . ( فرفعوا حجارة ليرجموه . أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم هكذا ) يوحنا 8 : 59 . " ( أسماء الله الحسنى ويسوع تطابق أم تنافر ص 13-15 ) .

فصل في قولهم ( صُلب من أجل معاصينا )

يقول المنصرون : ( نحن نعلم أن كل البشر خطاة.. وليس أحد من البشر صالحاً ولا واحد لأن الجميع أخطأوا وفسدوا وزاغوا عن طريق الحق (الإنجيل الشريف رسالة رومية 3: 23). إنما الله منح في المسيح رحمة خاصة لكل الناس رحمة لا تدين الخطاة ولا تهلكهم بل تنجي الخطاة من غضب الله ودينونة الله العادلة: "لأن المسيح لم يأت ليدين العالم بل ليخلص به العالم"(الإنجيل الشريف يوحنا 3: 17). إن الإنسان لا يمكنه أن يرضي الله بأعماله الحسنة لأن الله قدوس ويكره الخطية رغم أنه يحب الخاطيء . ولكي يتصالح الإنسان مع الله فهو يحتاج إلى ذبيحة تكفر عن ذنوبه وتغطي عيوبه . والذبح هنا ليس الخروف الصغير بل شخص المسيح . لقد حكمت العدالة الإلهية على الإنسان الخاطيء لأنه كسر شرائع الله. وينبغي على الإنسان الخاطيء أن يدفع أجرة الخطية التي هي الموت. ولكن بسبب محبة الله للإنسان الضعيف أرسل الله شخص المسيح (الذبح العظيم) ليفتدي الإنسان الخاطيء ويدفع قصاص الخطية على الصليب. ويجب أن لا ننسى أن الله محب وعادل. عدالة الله تقتضي عقاب الإنسان الخاطيء ، ومحبة الله تقتضي بأن يغفر للإنسان الأثيم الذي هو عاجز عن خلاص نفسه . إن المسيح الخالي من الذنوب والخطايا دفع أجرة خطايا البشرية جمعاء بموته على الصليب وأصبح موت المسيح هو الحل الوحيد لمشكلة الخطية لأنه بموته الكفاري وفى مطاليب العدالة الإلهية وافتدى الإنسان حيث مات عوضاً عنا ) .

إن الذى دعاكم إلى القول بصلب المسيح , هو ما أقررتم به حين قلتم أن أدم وجميع ولده إلى زمان المسيح عليه السلام كانوا كلهم ثاوين في جهنم بخطيئة أبيهم أدم حتى فداهم المسيح بإهراق دمه عنهم على خشبة الصليب , أخبرونا كيف نفهم هذا ؟ كيف نفهم أن الله تعالى أدخل موسى بن عمران الجحيم وخلده فيها بعد أن كلمه واصطفاه وفضله , وبعثه إلى عباده نبيًا وهاديًا , ولم يكفر بعد ذلك؟!

وكذلك إبراهيم الذي كان قد اتخذه الله خليلاً واصطفاه وفضله بهدايته ؟ وكذلك كل الأنبياء؟ , ولا جرم أنه لو كان ذنب أدم بقى في أعناق أولاده , حتى أنقذوا منه بدم المسيح , لنطقت به التوراة , ولصرح به الأنبياء , لأنه أمر شنيع ومصاب للعالم بشيع , بل إن التوراة قالت : ( لا يُقتل الآباء عن الأولاد ولا يُقتل االأولاد عن الآباء , كل إنسان بخطيئته يُقتل ) ( تثنية 24 : 16 ) .

ولقد كنت أتعجب وأضرب كفًا بكف كلما اطلعت على قول علماء النصارى أن المسيح صُلب وعُوقب من أجل خطايا البشر ! , معاقب ممن؟ من الله , ومن هو الله ؟ إنه المسيح في زعمهم , عجبا له!!

إنه الـمُنـتَقِمُ والـمُنـتَقَمُ منه , والحقود والمحقود عليه , إنه الظالم يأخذ نفسه بذنب غيره , وهو المظلوم , لأنه صلب بذنب غيره!

ولنا الحق أن نسأل : لماذا قتل الإله الآب الإله الإبن زعمًا ؟ بل بإعتبار أن الواحد ثلاثة واحد والواحد ثلاثة(زعمًا) نقول لماذا قتل الإله نفسه؟!

والجواب من أجل أن تنقطع الآلام ,وهل انقطعت الآلام بعد الصلب المزعوم أم بقيت تتجدد على اختلاف الزمان ؟!

أرأيت لو أن رجلاً له سبعة أولاد , منهم ستة عاصون , مجرمون , عاقون , والسابع منهم مطيع , فأراد هذا الوالد أن يسامح أبناءه المجرمين , وأن يغفر لهم , فأعلن لأولاده : إذا أردتم عفوي ومغفرتي , فاقتلوا أخوكم المطيع أكفر خطايكم ,فماذا تقول عن هذا الأب؟!

ستقول : إنه أب مجنون ولا شك , فماذا اختلف هذا الأب عن أب النصارى !

أي عدل هذا ؟ تقتلني بذنب غيري وتسمي هذا عدلاً ؟ والطامة الكبرى أنهم ينسبون ذلك العدل الذي هو ذروة الظلم إلى الله , فهل هذا مقبول ومعقول عندكم ؟!

ونسأل : لو أنك لبثت ثوبًا أبيضًا ,ثم وقعت عليه نقطة حبر , أتزول إذا غسلت ثوبك وكل الأثواب ؟ الإجابة لا بالطبع , فإذا لوثت ثيابك فأنت المسئول عن ذلك ولا ذنب لأحد في ذلك , فقم و اغسل ثيابك وطهر نفسك , أما أن العالم يخطيء ويقتل الله ابنه كفارة عن الخطية التي فعلها عبده ,فهذا ما يضرب الإنسان كفًا بكف لتصوره !

لماذا يقتل الله ابنه الوحيد البريء من أجل ذنوب الأخرين ؟!

أليس الأعقل والأعدل أن يقوم الله الغفور الرحيم بمغفرة ذنب المذنبين ,قائلاً لهم : تطهروا من أخطائكم وتوبوا الى أقبلكم ؟ ألم يكن أوفق لعدل الله ورحمته أن يعفو عن عباده بدلاً من أن يعاقب ابنه الوحيد , قال تعالى : {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء110 . وأعجب كلما ذُكرت خطيئة أدم عليه السلام لماذا يتحمل أبناء أدم وزر هذه الخطيئة ؟ وما الذي يجعلها دينًا في عنق أبناء أدم جميعًا لا يكفرها إلا الصليب ؟ ولمن ؟!

ياللعجب!!! الله تعالى عما يصفون الذي ارتكب أدم في حقه الخطيئة بدلاً من أن يكفر عنها أدم بنفسه , يكفر الله عنها! , ويحمل وزرها أبناء أدم حتى يؤمنوا بأن الله قد صلب نفسه بعد أن ضرب وشتم وبصق في وجهه وسمرت قدماه ويداه , فداء لمخلوق من مخلوقاته , ما معنى كل هذا ولما كل ذلك؟!

وأعجب ما في الأمر أن بعض المنصرين استدلوا بقصة فداء الله لإسماعيل بالكبش على ثبوت عقيدة الفداء في الإسلام أيضًا , ونسأل : هل كان نزول الكبش تكفيرًا عن خطايا البشر أم مكافأة لإبراهيم عليه السلام لتصديقه الرؤيا ؟! , قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }الصافات105 , وكان أيضًا مكافأة لإسماعيل عليه السلام لإسلامه نفسه لأمر ربه جل وعلا , ولهذا مدحه الله في كتابه العزيز قائلاً : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}مريم54, فلقد كان الكبش مكافأة لهما , وذكرى لنا نتدبر بها قول الله جل وعلا:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}الرحمن60 .

فأي رحمة هذه التي تصور الرب بالخروف المذبوح فداء عن مخلوقاته ؟!

لقد قال المسيح عليه السلام قولاً لو فقهه هؤلاء المجانين لما نطقوا بهذا الهذيان , قال المسيح عليه السلام : " فاذهبوا وتعلَّموا ما هو . إني أريد رحمة لا ذبيحة . لأني لم آت لأدعو إبرارًا بل خطاة إلى التوبة " ( متَّى 9 : 13 ) .

فالذي قال في يوم من الأيام عن نفسه : " ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مُرسله " ( يوحنا 14 : 16 ) , لهو بحق النبي الذي قال الله في شأنه : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172} ) .

ومن له السمع فليسمع ! .... ومن له العقل فليتدبر !

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,,

المراجع والمصادر :

1- القرآن الكريم .

2- كتب السنة .

3- تفسير القرآن العظيم – الحافظ ابن كثير .

4- روح المعاني – الألوسي .

5- التفسير الكبير ومفاتيح الغيب – الإمام الرازي .

6- أنوار التنـزيل وأسرار التأويل – الإمام البيضاوي .

7- الكتاب المقدس – ترجمة الفانديك .

8- الكتاب المقدس – الترجمة الكاثوليكية للرهبنة اليسوعية .

9- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح – شيخ الإسلام ابن تيمية .

10- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية- شيخ الإسلام ابن تيمية .

11- مجموع الفتاوى – شيخ الإسلام ابن تيمية .

12- شرح العقيدة الطحاوية – الإمام إبن أبي العز الحنفي .

13- سلسلة الهدى والنور – د/ منقذ السقار .

14- رد افتراء النصارى بألوهية المسيح في القرآن – د/ جمال محمد سعيد .

15- أسماء الله الحسنى ويسوع تطابق أم تنافر- أستاذ/ علاء أبو بكر .

16- معركة الوجود بين القرآن والتلمود – د/ عبد الستار فتح الله سعيد .

17- الصلب والتثليث في ميزان الإسلام – د/عمر بن عبد العزيز قريشي .

18- المسيح في مصادر العقائد المسيحية – لواء مهندس/ أحمد عبد الوهاب .

19- النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام – لواء مهندس/ أحمد عبد الوهاب .

20- المسيح في الإسلام - الشيخ/ أحمد ديدات .

21- ثم يقولون هذا من عند الله – مهندس/ محمود سعد مهران .

22- موقع التراجم الإنجليزية واليونانية والعبرية للكتاب المقدس على شبكة المعلومات الدولية:

http://www.biblegateway.com/versions/

 

 

 

                                                                                                                                                                                   العودة للصفحة الرئيسية