تعدُّد الزَّوجات في الإسْلام

 

يحاول أعداء الاسلام – من ملاحدة ومستشرقين – أن يثيروا على النظام الإسلامي اتهاما باطلة ، وشبهات مغرضة ،وحملات حاقدة ، ليشككوا بصلاحية هذا النظام ، ومقومات خلوده على مدى الزمان والأيام ، وليجدوا من المسلمين من يستجيب لآرائهم ويؤمن بمعتقداتهم وأفكارهم ، ويقع في حبائل شكوكهم واتهاماتهم.



فمن هذه الاتهامات التي يثيرونها ، والحملات المغرضة التي يشنونها:
إباحة الإسلام لنظام تعدد الزوجات، وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع زوجات في وقت واحد ويتخذ أولئك الأعداء من هذا التعدد ذريعة للطعن بنظام الإسلام ، وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، بل يتهمون الإسلام بأنه أهدر كرامة المرأة ، وأسقط اعتبارها الذاتيفي الحياة !!
هذا الكلام المعسول الذييروّج له أولئك المثيرون قد يستهوي بعض العقول القاصرة بادئ ذي بدء ، بل ربما يتأثر البعض – ممن ينتسب إلى الإسلام – بهذه الاتهامات المغرضة ، فيذهبون إلى ترويجها وإشاعتها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وهؤلاء المروّجون لمثل هذه الشبهات والاتهامات: إما أن يكونوا عالمين بالحقائق وحكمة التشريع ، وإما أن يكونوا جاهلين بها.
فإن كانوا عالمين ، فإنهم يبرهنون بشكل قاطع لا يقبل الريبة والشك أنهم عملاء لأعداء الإسلام، بل أداة تنفذ لإشاعة كل ما يثيرونه من أراجيف ، وما يروجونه من أكاذيب ، وما أكثر أولئك الذين يرتبطون بالأعداء ، ويوصمون بالعمالة ، وما هم في الحقيقة إلا طابور خامس لإثارة الفتن ، وتمزيق وحدة الأمه ، وربط البلاد بعجلة الدول الأجنبية ، والسير بالجيل الناشئ نحو الإلحاد الشائن ، والضلال الممقوت.
وإن كانوا جاهلين ، فإن من الواجب عليهم أن يسألوا ويفهموا ، قبل أن يحكموا ويروّجوا ، حتى تظهر لهم الحقائق ناصعة بأجلى مظاهرها ومعانيها ، وليس عاراً على الإنسان أن يبحث ويسأل ويتعلم ، ولكن العار كل العار أن يعيش في بيداء الجهل ، ويسير في متاهات الضلالة ، يتبع كل ناعق ، ويخطو وراؤ كل عميل ، ورحم الله من قال:
لاتــأخــذ العــلم إلا عــن جــهــابــذة
بالعلــم نحيــا وبـالأرواح نفديــه
أما ذوو الجهل فارغب عن مجالسهم
قذ ضّل من كانت العميان تهديه
وقبل أن أشرع في دفع هذه الاتهامات الباطلة التي يثيرها الأعداء على نظام تعدد الزوجات أريد أن أبيّن حقيقة هامة ، لها أكبر الارتباط بالكتّاب الإسلاميين الذين يكتبون عن الإسلام في هذا العصر ، وهي أنهم – في أكثر مايكتبون – يظهرون الإسلام بمظهر المتهم ، ويضيعونه حين يتولون الدفاع عنه في موضع الريبة والشك ، بل يصل الأمر عند البعض يؤولوا النصوص ، ويقلبوا الحقائق ، إبعاداً للإسلام عن التهمة ، وتوفيقاً بين مبادئ الإسلام وأراجيف الأعداء.
وهذا من الخطأ الفادح الذي وقع فيه كثير من الكتّاب في هذا العصر ، وفي تقديري أنهم يسيئون أكثر مما يحسنون ، ويزيدون التهمة تعميقاً وتثبيتاً أكثر مما يدافعون ، وما كان عليهم لو أنهم وقفوا في ردودهم وكتاباتهم مقف الهجوم لكل من ينال من نظام الإسلام ، أو يمس قدسية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فلو أنهم فعلوا مثل هذا لأفهموا خصوم الإسلام: أن مبادئ الشريعة ةنظم القرآن ، هي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وماعداه من أنظمة وضعية وقوانين بشرية ، فيها الكثير من القصور والنقص والباطل .. ولا شك من ذلك . ولو أنهم وقفوا من أعداء الإسلام موقف الهجوم لوضعوا التشريع الإسلامي موضعه اللائق به من التشريف والتكريم ، ليعلم كل ذي عقل وفيهم أن للإسلام دوره العظيم ، ومهمته الكبرى ، في رد الناس إلى الحق ، وهداية البشرية الحائرة .. وما أجمل تعبير القرآن حين أعلن حكم الله ، وهاجم حكم الجاهلية في قوله : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1) ، ألا فليأخذ كتّاب الإسلام من القرآن الكريم طريقة الرد ومنهج المناظرة في دفاعهم عن نظام الإسلام ، حتى لايقعوا في الخطأ الذي وقعوا فيه ، وعلى الله قصد السبيل.
وبعد هذه التقدمة سأشرع في بيان نظام الإسلام في تعدد الزوجات ، ثم أعّرج على ذكر الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأرى – إن شاء الله – بعد ذكر هذه الحقائق أن شبابنا وشاباتنا الذي تأثروا بالدعايات المغرضة ، والإشاعات الكاذبة سيؤوبون إلى الحق ، ويثوبون على الرشد ، ويؤمنون من قرارة نفوسهم: أن الإسلام دين العزة والكرامة ، وتشريع الحق والهداية ، ومبدأ العدالة والمساواة ، ومنهج حكم ، ونظام حياة . صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه {وَأَنّ هَـَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}(2)
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة الأنعام الآية 15
لمحة تاريخيّة عن التعدُّد لم يكن الإسلام أول من شرع نظام تعدد الزوجات ، بل كان موجوداً في الأمم القديمة كلها تقريباً: عند الأثينيين ، الصينيين ، الهنود ، البابليين ، الآشوريين ، المصريين . ولم يكن له عند أكثر الأمم عدد محدود ، فقد سمحت شريعة (ليكي) الصينية بتعدد الزوجات إلى مائة وثلاثين امرأة ، وكان عند أحد أباطرة الصين نحو من ثلاثين ألف امرأة.
والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد بدون حد ، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهم زوجات كثيرات(1) ، ويقول الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومة)(2) ما يلي (ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراتة أو في الانجيل ، بل هو مباح ومأثور عن الأنبياء أنفسهم ، من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى عهد الميلاد ...).
أما في الديانة النصرانية فلم يرد في الأناجيل نص صريح بمنع التعدد ، بل ورد في بعض الرسائل (بولس) مايفيد أن التعدد جائز فقد قال (فعلى الاسقف أن يكون منزهاً عن اللوم ، زوج امرأى واحدة)(3) وقد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، وفي آباء الكنيسة الأقدمين من له كثير من الزوجات ، وقد كان في أقدم العصور المسيحية من يرى إباحة تعدد الزوجات في أمكنة مخصوصة وأحوال استثنائية ، وإليكم الشواهد على ذلك:
أ- ذكر الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابة المرأة في القرآن الكريم أن (مستر مارك) العالم الثقة في تاريخ الزواج يقول: (إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر ، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لاتحصيها الكنيسة والدولة) ويقول هذا العالم : (إن ملوك النصارى كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، فهذا (ديار مات) ملك إيرلندة كان له زوجتان وسريتان ، وكان (لشارلمان) زوجتان وكثير من السراري . وبعد ذلك بزمن كان (فيليب أوفاهيس) و(فريديريك وليام) الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين: وكان (لوثر) يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراضي ، فإنه لم يحرم بأمر من الله ، ولم يكن إبراهيم عليه السلام يحجم عنه إذ كان له زوجتان).
ب-وذكر العقاد في كذلك في كتابة (المرأة في القرآن الكريم) : ( أن مجلس الفرنكيين بنورمبرج أصدر قرارً يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتيين ، وذلك سنه 1560 ميلادية بعد صلح وستفاليا ، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين)، ويقول: (بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاد تعدد الزوجات ، ففي سنة 1531 نادى (اللامعدانيون) في مونستر صراحة : بأن المسيحي ينبغي أن تكون له عدة زوجات ، ويعتبر (المرمون) كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس).
ج- وقال جرجي زيدان(4) : ( فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بأمرأتين او اكثر ، ولو شاؤوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم ، ولكن رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتحادها ، وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية ، فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور)
د- والمسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في افريقيا السوداء للإفريقيين المسيحيين إلى غير حدود ، فقد ذكر (نورجيه) مؤلف كتاب (الإسلام والنصرانية في أواسط افريقية) هذه الحقيقة في قوله: ( فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون: إنه ليسمن السياسة أن نتدخل في شئون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها ، وليس من الكياسه ان نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ماداموا نصارى يدينون بدين المسيح ، بل لا ضرر من ذلك مادامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه أساس دينهم يبيح هذا التعدد ، فضلاً عن أن المسيح أقر في ذلك بقوله : ( لاتظنوا أني جئت لأنقض الناموس او الانبياء ماجئت لأنقض بل لأكمل). وأخيراً أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للإفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حد.
هـ- والشعوب الغربيةالنصرانية وجدة نفسها تجاه زيادة عدد النساء على الرجال –وبخاصة بعد الحربين العالميتين- إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة ، لاتزال تتخبط في إيجاد الحل المناسب؛ وقد كان بين الحلول التي برزت إباحة تعدد الزوجات.
ففي عام 1948م عقد مؤمتر للشباب في (ميونخ) بألمانيا ، وبحث مشكلة زيادة عدد النساء في ألمانيا أضعافاً مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب ، وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة ، وكانت النتيجة أن أقرت اللجنة توصية المؤتمر بالمطالبة بإباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة.
وفي عام 1949م ، تقدم أهالي (بون) عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب إلى السلطات المختصة ، يطلبون فيه أن ينص في الدستور الألماني على إباحة تعدد الزوجات(5). ونشرت الصحف منذ عشر سنوات تقريباً أن الحكومة الألمانية أرسلت إلى مشيخة الأزهر تطلب منها نظام التعدد في الإسلام ، لأنها تفكر في الاستفادة منه كحد لمشكلة ازدياد النساء ، ثم اتبع ذلك وصول وفد من العلماء الألمان اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية(6)
(1) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ص71
(2) ص237 في بحث الاسرة.
(3) رسالة تيموثاوس الأولى الاصحاح 3 العدد 2
(4) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للسباعي رحمه الله ص74
(5) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) ص57.
(6) عن كتاب (أحكام الأحوال الشخصية) د.محمد يوسف موسى
ثناء المفكّرين الغربيّين على نظام التعدُّد
تطالعنا الصحف والمجلات والكتب الاجتماعية بين الحين والآخر بكلمات لكثير من الكتاب الاجتماعيين والمفكرين الغربيين ، ويحبذون فيها نظام تعدد الزوجات ، وينادون به ويشجعون عليه؛ لما له من أثر كبير في إصلاح المجتمع والأخلاق ، وإليكم طرفاً من أقوالهم وكتاباتهم :
أ- فقد عرض (جروتيوس) العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات ، فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والأنبياء في العهد القديم(1)
ب- وقال الفيلسوف الألماني المشهور (شوبنهور): في رسالته (كلمة عن النساء): (إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساوات المراة بالرجل ، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا ،وضاعفت علينا واجباتنا .. إلى أن يقول: ولاتعدم المرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشؤونها ، والمتزوجات عندنا نفر قليل ، وغيرهنَّ لايحصين عدداً ، تراهن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة ، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى ، يتجشمن الصعاب ، ويتحملن مشاق الأعمال ، وربماابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار ، ففي مدينة (لندن) وحدها ثمانون ألف بنت عمومية(2) ، سفك دم شرفهن على مذبح الزواج ، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة ، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية ، وما تدعية لنفسها من الأباطيل ، أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره)(3)
جـ- ويقول (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب): (إن مبدأ نظام تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب ، يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به ، ويزيد الأسرة ارتباطاً ، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لاتراهما في أوربا).
د- ذكر العقاد في كتابه (المرأة في القرآن الكريم) طائفة من آراء الفلاسفة الأوربيين في التعدد ، فينقل عن الدكتور (ليبون) قوله (إن القوانين الأوربية سوف تجيز التعدد) ، ونقل عن الاستاذ (أهرنفيل) قوله : (إن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء السلالة الآرية).
هـ- وقالت (أني بيزانت) زعيمة التصوفية العالمية في كتابها (الأديان المنتشرة في الهند): (ومتى وَزَنَّا الأمور بقسطتط العدل المستقيم ، ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي –الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء- أرجح وزناً من البغاء الغربي ، الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره).
و- وجاء في مجلة (الفتح) القاهرية نقلاً عن جريدة (ديلي ميل) الأنكليزية المشهورة ، التي نشرت مقالاً تدافع فيه عن تعدد الزوجات بسبب الأزمة التي وقعت في إنجلترا ، وبلاد الغال في زيادة عدد النساء على الرجال والتي قدرت بمليونين.) جاء في هذه المجلة المذكورة: ( إن إباحة تعدد الزوجات هي الطريقة الوحيدة للعلاج الناجح ، وليست مسألة الزوجة الواحد إلا مسألة اعتقاد واتفاق ، وهي في الحق الواقع نتيجة نسبة عددية . ثم ذكرت أن نظرية المرأة الواحدة للرجل الواحد هي نظرية الأنسب والأوفق ،ولكن الاستمساك بها لايستحسن إلا عند التعادل العددي في الجنس ، أما إذا زاد عدد جنس النساء على العدد الآخر ، ولم تتخذ التدابيرفي ذلك فلا مفر من حرب طاحنة تنشب بين الجنسين).
ز- وقال الدكتور نظمي لوقا في كتابه (محمد الرسالة والرسول) ما يلي:
( وما من شك في أن نظام الزوجة الواحدة الدائم نظام مثالي ... ونظرة إلى واقع الحياة البشرية في تاريخ مجتمعاتها الغابر والحاضر ، تطلعنا على تعدد النساء في حياة الرجل الواحد سواء جهراً او سراً ، سواء برخصة من القانون أو الدين ، أو رغم القانون والعقيدة . وما من عاقل يفضل التعدد بغير رخصة على التعدد برخصة ... وعندئذ لا حيلة إلا في التعدد ، لأنه الحل السليم الوحيد لأساس الجماعة ، والضرورات تبيح المحضورات ، وماالقول في زوجة أقعدها المرض ؟ وماالقول في الزوجة العقيم ؟ وماالقول في الزوجة الفاترة؟ وماالقول في الزوجة سقيمة الأعصاب؟ طلاقها أرحم بها أم اردافها بزوجة أخرى؟ لا شك أن الامر واضح ، هي رخصة إذن تستخدم بحقها ، ولكنها ليست إلزاماً ..).
وهذا الذي ذكرناه من ثناء المفكريين الغربيين غير المسلمين عن نظام التعدد ، ماهو إلا غيض من فيض ، وغرفة من بحر ، ومن أراد أن يتتبع آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتربية في هذا المجال ، يجدها أكثر من أن تحصى ، وأعظم من أن تستقصى ، ولابد من أن يأتي اليوم الذي تثوب فيه البشرية إلى الإسلام ؛ لكونه دين حق وفطرة ، وتنزيلاً من رب العالمين ، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(4)
(1) العقاد في كتاب (حقائق الإسلام) ص167.
(2) هذا في عهد شوبنهور ، قد توفي سنة 1860م
(3) مصطفى الغلاييني في كتابة (الإسلام روح المدينة) ص224
(4) سورة فصلت الآية 53
الحكمة من التعدُّد في نظر الإسْلام
لاشك أن الإسلام حين شرع التعدد ، كان ذلك لحكمة سامية ، ومصلحة عامة ، وضرورات اجتماعية وشخصية ، وسبق أن ذكرنا قبل قليل طرفاً من هذه الضرورات والحكم التي جاء ذكرها على ألسنة العلماء والمفكرين ، والتي دفعتهم إلى أن يثنوا على نظام التعدد ، وينادوا بأحقيته وضرورته لتخليص المجتمعات البشرية من المشكلات الاجتماعية ، والمفاسد الخلقية.
وتوضيحاً للبحث نحصر الحكمة من نظام تعدد في الأمور التالية:
أ‌- الفائدة الاجتماعية
ب‌- المصلحة الشخصية
ت‌- الحكمة الخلقية
أما الفائدة الاجتماعية فتظهر في حالتين لايُنْكِر أحدٌ وقوعها:
1- عند زيادة النساء على الرجال ، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوربا ، فإن النساء حتى في غير اوقات الحروب تفوق الرجال بكثير ، وقد دلت الإحصائيات في (فنلندا) أنه من بين كل أربعة أطفال ألا ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً ، والباقون إناثاً ، ففي هذه الحالة يكون التعدد أمراً واجباً.
2- عند قلة الرجال عن النساء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة أو الكوارث العامة ، وقد دخلت أوربا حربين عالميتين خلال ربع قرن ، فهلك فيها ملايين الرجال ، وأصبحت جماهير غفيرة من النساء – مابين أبكار وما بين متزوجات – فقد فقدن عائلهن وأصبحن بلا زواج ، وسبق أن ذكرنا أن قامت بعض بلاد أوربا – ولاسيما ألمانيا- جمعيات نسائية واجتماعية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات ، أو بتعبير آخر أخف واقعاً في أسماع الغربيين وهو: (إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته).
وضرورات الحرب ونقصان الرجال فيها ، لاتدع مجالاً للمكابرة في أن الطريق الوحيد لتلافي الخسارة البالغة بالرجال هو السماح بتعدد الزوجات.
رد على اعتراض: ورب سائل يقول: في حالة زيادة الرجال على النساء لماذا لا يباح للمرأة تعدد الأزواج؟
أقول في الرد على هذا الاعتراض: إن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعةً وخِلقةً وواقعاً ،ذلك لأن المرأة في طبيعتها لاتحمل إلا في وقت واحد ، ومرة واحدة في السنة كلها ، أما الرجل فغير ذلك؛ فمن الممكن أن يكون للرجل أولاد متعددون من نساء متعددات ، ولكن المرأة لايمكن أن يكون لها مولود واحد من أكثر من رجل واحد ، وأيضاً تعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يضيع نسبة ولدها إلى شخص معين ، وليس الأمر كذلك بالنسبة غلى الرجل في تعدد زوجاته.
وشيء آخر وهو أن للرجل حق رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم ، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة ؟ أتخضع لهم جميعاً ؟ وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم ، أم تخص واحداً دون الآخر ؟ وهذا مايسخط الآخرين.
وهناك أمور تتعلق بنسبة الولد إلى أحد الأزواج ، وأمور تتعلق بالإتصال الجنسي ، لاتخفى على من كان عنده أدنى إدراك أو بصيرة : من إرهاق للمرأة وإضرار بها ، ومن وقوع في المشاكل العائلية ، والأمراض الجسمية والنفسية ... إلى غير ذلك من الأضرار البالغة ، والعواقب الوخيمة .
إذن فتعدد الأزواج بالنسبة للمرأة مستقبح عقلاً ، وحرام شرعاً ، ومستحيل طبيعة وواقعاً ، فلا يقول به إلا من كان إباحي النزعة ، مدنس السمعة ، فاسد الخلق ، عديم الغيرة ، ملوث الشرف.
أمَّا المصلحة الشخصية ، فإنها تعود إلى مصحلة الشخص بالذات ، وهي كثيرة نجتزئ منها بأهمها:
1- أن تكون الزوجة عقيمة لاتلد ، والزوج يحب انجاب الأولاد والذرية ، ومثل هذا ليس أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم ، أو أن يتزوج عليها ، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم للمرأة ، وأصلح لها ، والمرأة العاقلة تفضل التعدد على الطلاق ، لكون الطلاق ضياعاً وتشرداً.
2- أن يصاب الزوجة بمرض مزمن أو معدٍ أو منفر ، بحيث لايستطيع الزوج أن يعاضرها معاشرة الأزواج ، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يطلقها ، وإما أن يتزوج عليها ويبقيها في عصمته وتحت رعايته ، ولايشك أحد في أن الحالة الثانية أكرم وأنبل ، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء.
3- أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الاسفار ، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً ، ويتعذر عليه نقل زوجته وأولاده كلما سافر ، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالتين: إما أن يشبع ميلة الجنسي عن طريق غير مشروع وهذا هو الزنى(1) ، وإما أن يتزوج أخرى ، ولاشك أن الزواج بأخرى هو من مصلحة الدين والأخلاق والمجتمع.
4- أن يكون عند الرجل من القوة الجنسية ما لايكتفي معها بزوجته ، إما لشيخوختها ، أو لضعفها ، أو لكثرة الأيام التي لاتصلح فيها المعاشرة الجنسية – وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها – في هذه الحالة إما أن يكون إشباع غريزته بالمعاشرة المحرمة ، وإما أن يكون عن طريق الزواج المشروع ، ولاشك أن مبادئ الأخلاق ، وأحكام الشريعة تختار الزواج المشروع على المعاشرة المحرمة.
5- أن يكون عند الرجل الرغبة الأكيدة ، والعزم الصادق في إنجاب الأولاد ، وتكثير الذرية ، إما ليستعين بهم على أعباء الحياة ، وإما ليعدهم شباباً مؤمنين ، ودعاة صادقين ، يبلغون رسالات ربهم ، ويخشونه ولايخشون أحداً إلا الله ، وإما ليحظى بالأجر والمثوبة حين يحسن أدبهم وتربيتهم ، لكي تقرعين رسول الله صلى الله عليه وسلم في مباهته الأمم يوم القيامة بكثرة أمته (2)
(1) ومنه نكاح المتعه
(2) في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة).
أمَّا الحكمة الخلقية: فلأن الأمة التي يكون فيها عدد النساء أكثر من عدد الرجال يكون التعدد واجباً أخلاقياً ، وواجباً اجتماهياً على السواء ، لأن التعدد أفضل من تسكع النساء العازبات الزائدات عن الرجال في الطرقات أو أماكن الفجور ، لا عائل لهن ، ولا بيت يؤويهن . ولا يوجد إنسان يحترم كرامة المرأة ، ويقدر مصلحة المجتمع يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات. ومنذ أوائل هذا القرن تنبه المنصفون الغربيين إلى ماينشأ من منع تعدد الزوجات من تشرد النساء ، وانتشار الفحشاء ، وكثرة الأولاد غير الشرعيين ، وأعلنوا أنه لا علاح لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات. فقد نشرت جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) نقلاً عن جريدة (لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الانجليزيات مايلي : ( لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً ، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني ، وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لافائدة إلا العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ، ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء ، وهو الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لامحالة ، وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة).
(أي ظن يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كَلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع؟! فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ماهم فيه من العذاب والهون ، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن .. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل مرأة ربة بيت ، وأم أولاد شرعيين)(1)
وتدلنا الإحصائيات التي تنتشر في أوربا وأمريكا عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة مستمرة ، تقلق الباحثين الاجتماعيين وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة اقتصار الرجل على امرأة واحدة ، وكثرة النساء اللواتي لايجدن طريقاً مشروعاً للاتصال الجنسي ، وبناء على هذه الإحصائيات المؤلمة ، والأوضاع الاجتماعية المزرية ، أباحت ألمانيا أخيراً تعدد الزوجات(2) ، وتسوية للمشكلة . ولا يبعد أن تحذوا أوربا وأمريكا حذو ألمانيا في إباحة التعدد ، لأن تعدد الحلائل خير من تعدد الخلائل(3) ، والزواج المشروع خير من الاتصال المحرم ، والفاحشة الممقوتة ، ومن أحسن مِن الله حكماً لقوم يوقنون؟.
(1) مجلة المنار للسيد رشيد رضا المجلد الرابع ص485-486
(2) ذكرت الخبر مجلة صوت الإسلام العدد/90/ نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرية.
(3) على حد تعبير الشيخ محمد أبوزهره رحمة الله

تعدد الزوجات
مقارنة بين تعدادنا وتعدادهم
إن نظام التعدد في الشريعة الإسلامية أخلاقي إنساني:
أما أنه أخلاقي، فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأية امرأة إلا إذا كانت زوجته (1) بشرط ألا يتجاوز عدد الزوجات الأربع.
وأما إنه إنساني فلأنه يخفف من مشكلات المجتمع ، بإيواء امرأة لازوج لها ، ونقلها إلى مصاف الزوجات المصونات المحصنات ؛ ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبتهم ، ويقوم بحقهم ورعايتهم كما يجب؛ ولأنه يدفع مقابل هذا الزواج مهراً وأثاثاً ونفقات باعتبارها زوجه ولها حقوق.
أين هذا التعدد الواقع في حياة الغربيين؟ فإنه واقع من غير شرع ولا قانون ، بل واقع تحت سمع القانون وبصره. وإنه لايقع باسم الزوجات ، ولكن يقع باسم الصديقات والخليلات. وإنه ليس مقتصراً على أربع فحسب ، بل هو إلى مالا نهاية له من العدد. إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة ، ولكنه سر لايعرف به أحد.
إنه لايلزم صاحبه بأية مسئولية مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن ، بل حسبه أن يلوث شرفهن ، ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة ، وتحمَّل آلام الحمل والإجهاض والولادة غير المشروعة. إنه لايلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد ، بل يعتبرون غير شرعيين ، يحملون على جباههم خزي السفاح والعار ماعاشوا.
إنه تعدد خال من كل تصرف أخلاقي أو يقظة وجدانية أو شعور إنساني. إنه تعدد تبعث عليه الشهوة الأنانية ، ويفر من تحمل كل مسؤولية. فأي النظاميين ألصق بالأخلاق ، وأكبح للشهوة ، وأكرم للمرأة ، وأدل على الرقي ، وأبر بالإنسانية؟.
بعد هذا يحق لك أن تتعجب من إثارة الغربيين وأعداء الإسلام للضجة التي يحدثونها على نظام الإسلام في تعدد الزوجات !!!
وتتساءل أنت أيها العاقل المنصف: ألا يشعرون في قرارة نفوسهم بأنهم ليسوا على حق في إثاره الضجة ، وافتعال هذا الاتهام ؟! ألا يشعرون بأن من يقتصر على أربع خير ممن يجدد كل ليلة امرأة ؟.
وأن من يلتزم نحو من يتصل بها مسؤوليات أدبية ومالية ، أنبل ممن يتخلى نحوها عن كل مسؤولية ؟!. ألا يشعرون أن إنجاب نصف مليون ولد - مثلاً - عن طريق الزواج أكرم وأحسن للنظام الاجتماعي من انجابهم عن طريق السِّفاح.
في الحقيقة إنهم يشعرون بذلك لو تخلوا عن غرورهم وتعصبهم.
أما الغرور: فهو اعتقادهم أن كل ماهم عليه حسن وجميل ، وأن ماعلية غيرهم من الأمم والشعوب سئ وقبيح.
أما التعصب: فهو هذا الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل ضد الإسلام ، ونبي الإسلام ، والقرآن الكريم (2)
(1) أو أمته في حال وجود الرقيق وهو الآن غير موجود
(2) بحث المقارنه بين تعدادنا وتعدادهم اقتبست أكثر فقراته من كتاب (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور السباعي ص93-94 مع بعض التصرف

تعدد الزوجات
أحكام التعدُّد في الشريعة الإسْلامية
قبل أن نشرع في أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية يحسن بنا أن نبين وجه الارتباط بين قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ .. }(1) وقوله : {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }(1) .
ذكر المفسرون في ذلك عدّة آراء أظهرها رأيان:
الأول: ] وإن حفتم ألا تعدلوا في تزوجكم بيتامى النساء المشمولات بولايتكم فتزوجوا غيرهن مما طاب لكم من النساء إثنين إن شئتم ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، لأن العاقل يترك الذي يترك الزواج الذي يفضي به إلى الظلم إلى الزواج الذي لاظلم فيه[.
وهذا التفسير مروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ووجه الارتباط واضح عليه.
الثاني: ] وإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك خافوا ألا تعدلوا في النساء اللاتي تتزوجون بهن ، فتزوجوا منهن ما لا تخافون فيه الظلم: اثنين ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، فإن خفتم ألا تعدلوا بين الأكثر من واحدة فتزوجوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم . لأن من تحرج من عمل ما يُفضي إلى الظلم كظلم اليتامى عليه أن يتحرج من أن يتحرج من كل عمل يُفضي إلى ظلم كظلم الزوجات [.
هذا التفسير مروي عن سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة .. ورجحة شيخ المفسرين ابن جرير الطبري وقال ( إنه أولى الأقوال بالقبول).
فالآية – على حسب ما رجحة الإمام الطبري – تحذر الأولياء والأوصياء من سلوك الطريق المفضلة بهم إلى ظلم الزوجات الذي لايقل قبحاً وشناعة عن ظلم اليتامى الذي يخافونه ويتحرون منه.
كما أنهم يتحرون من ظلم اليتامى فعليهم أيضاً أن يتحروا من ظلم الزوجات حين يريدون التعدد ، فإن خافوا ألا يعدلوا فعندئذ يقتصرون على واحدة.
وبعد أن بيّنا وجه الارتباط في الآية نشرع في تبيان أحكام التعدد والله المستعان:
1- الأمر بقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ}(1) للإباحة لا للإيجاب ، وإذا كان للإباحة فالمسلم مخير بين أن يقتصر على زوجة واحدة أو يعدد ، وعلى ذلك إجماع المجتهدين والفقهاء في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً
2- لايجوز الجمع بين أكثر من أربع زوجات في وقت واحد لقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } ، على ذلك إجماع الصحابة والأئمة المجتهدين في جميع العصور ، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع ، فخلافهم ناشئ من جهلهم ببلاغة القرآن الكريم ، وأساليب البيان العربي ، ومن جهلهم بالسنة النبوية كما قال القرطبي.
وإلا فمن يقول: إن هذه الكلمات {مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} في الآية جاءت لمطلق الجمع ، فيصبح مجموع الزوجات تسع؟ ومن يقول أيضاً: إن هذه الكلمات جاءت لجمع اثنين مع اثنين ، ثلاثاً مع ثلاث ، وأربعاً مع أربع ، فيصبح المجموع العام ثماني عشرة زوجة؟ إن هذه التقوّلات الباطلة تتنافى مع أبسط الأذواق في الفهم العربي ، وتتعارض مع فصاحة القرآن الكريم وأسلوبه البياني المعجز ..
فحين نقول: حضر أعضاء المؤتمر مثنى وثلاث ورباع ..فهم العربي صاحب الذوق السليم من هذا التعبير أن بعض أعضاء المؤتمر حضروا اثنين اثنين وبعضهم حضر ثلاثة ثلاثة ، وبعضهم حضروا أربعة أربعة ولايمكن أن يفهم أحد أن جمهلة من حضر تسعة أو ثمانية عشر ...
وكذلك حين قال الله عز وجل {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } فيفهم من هذه الآية كما دلّ عليها ظاهر لفظها ، وأسلوب بيانها: يباح لكم – يامسلمين – أن تنكحوا من النساء زوجتين إن شئتم ، أو ثلاث زوجات إن أردتم إلى أربع زوجات ، وهذا هو الحد الأعظم؛ فلا يجوز لكم أن تزيدوا على الأربع بحال من الأحوال. والسنة النبوية الصحيحة قد أكدت من أن المراد من الجمع في الآية أربع زوجات.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
وإليكم ماذكرته السنة الصحيحة:
أ- أخرج مالك في الموطأ ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه والترمذي في سننهما ، والشافعي في الأم أن غيلان الثقفي أسلم وفي عصمته عشر نسوة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً وفارق سائرهن).
ب- وروى ابن ماجه وأبوداود في سننهما أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثماني نسوة ، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً).
جـ- وقد روت كتب السنة غير هذين الحديثين ، فقد رُوي أن نوفل بن معاوية الديلمي قال: أسلمتُ وتحتي خمس نسوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فارق واحدة منهن) قال: فعمدتُ إلى عجوز عاقر معي منذ سنتين فطلّقُتها.
فهذه الأحاديث متفقة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم وفي عصمته أكثر من أربع زوجات أن يتخيّر منهن أربعاً ، ويفارق سائرهن.
ويفهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا أن السنة جاءت متضافرة ومؤكّدة لما صّرح به القرآن الكريم ألا وهو: لايجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة في آن واحد ، فأصبح للمنع دليلان: دليل القرآن ، ودليل السنة ، عدا من دليل الإجماع الذي هو حجة تشريعية بعد القرآن والسنة . فبأي حديث بعد ذها يؤمنون؟!.
وأما ماصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع بين تسع نسوة في آن واحد ..
فأولاً: كان هذا الجمع –كما سيأتي- خصوصية من خصوصياته ، وثانيا كان لأسباب تشريعية وإنسانية ، وأغراض سياسية واجتماعية .. وسوف يأتي الحديث عنها ، والتفصيل فيها في بحث الحكمة من تعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في القسم الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله.
3- إن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ}(1) ، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل لم يجز له شرعاً أن يتزوج بأكثر من واحدة ، ولو تزوج كان العقد صحيحاً بالإجماع ، ولكنه يكون آثماً ؛ لما روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل).
وروى مسلم وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا)(2)
وقد أجمع العلماء – وأيده تفسير الرسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله – أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشرب والمبيت ، وكل مايتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه تحقيق العدل ، ومما يدخل في طوق الإنسان وإرادته.
4- إن العدل في الحب بين الزوجات غير مستطاع ، وليس في طوق البشر لقوله تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً}(3) ؛ فتفيد هذه الآية الكريمة أن على الزوج ألا يميل عن الزوجة الأولى كل الميل ، فيذرها كالمعلقة لا هي زوجة يؤديها حقوقها ، ولا مطلقة تعرف سبيلها ، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع عسى أن يصلح قلبها ، ويكسب مودتها؛ وقد فهم النبي صلى الله عيه وسلم أن المراد من آية: {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ .. } الحب القلبي لأن الإنسان لايستطيع أن يعدل فيه ولو حرص ، ولكنه خارجاً عن طاقة البشر ، فقد كان حبه للسيد عائشة – رضي الله عنها – أكثر من حبه لباقي زوجاته ، فكان صلى الله عليه وسلم حين يعدل بين زوجاته بالأمور المادية يقول: (اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك)(4) (ملاحظة: هذا الحديث ضعيف)(5)
هذا التفسير لآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ} وعليه إجماع المفسرين قديماً وحديثاً ، وعليه إجماع الفقهاء والمجتهدين في كل العصور ولو أخذنا بآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ.. } على ظاهرها لكان بينها وبين آية {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } تناقض ، والقرآن الكريم منزة عن الخلل والتناقض ، بل هو غاية في الإبداع والإحكام ورصانة النظم ، وسمو التشريع ، لقوله تبارك وتعالى {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(6) ، {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(7) ؛ ويتلخص مما تقدم: أن المقصود بالعدل في الآية هو الحب القلبي ، وهذا ما عليه تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية ، وما عليه إجماع الأئمة كما بيّنا سابقاً.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
- من العلماء الموثوقين وعلى رأسهم الإمام الشافعي – رحمة الله – من اشترط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد ، وهذا الاشتراط للإمام الشافعي مبني على فهم خاص للآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ... ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ} ، وهذا الفهم تؤيده قواعد اللغه كما سيأتي. قال الإمام البيهقي في كتابه (أحكام القرآن) الذي جمعه من كلام الشافعي –رحمه الله- في مصنفاته: (وقوله: {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لايكثر من تعولون إذا اقتصر المرء على واحدة وإن أباح له أكثر منها) ا هـ صحيفة 260 . وقد أيد الكسائي وأبو عمر الدُّوري وابن الأعرابي ماذهب إليه الشافعي في تفسير قوله تعالى {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لاتكثر عيالكم ، قال الكسائي – أبوالحسن علي ابن حمزة - : العرب تقول: عال يعول، وأعال يُعيل أي كثر عياله(8) . ومما يؤيد مايذهب إليه الشافعي لغة حمير ، قال الثعلبي المفسّر: قال أستاذنا أبوالقاسم بن حبيب: سألتُ أبا عمر الدُّوري عن هذا –وكان إماماً في اللغة غير مدافع- فقال: هي لغة حمير ، وأنشد:
إن الموت يأخذ كل حيّ بلاشك وإن أمشي وعَالا
يعني وإن كثرت ماشيته وعياله(8)
وقال أبو حاتم: (كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا) ، وقرأ طلحة بن مصِّرف (ألّا تُعِيلوا) والمعنى ألا تكثر عيالكم وهي حجة الشافعي. وهذا الفهم للإمام الشافعي ومن ذهب مذهبه يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد إلا أنه شرط ديانة(9) لا شْرط قضاء.
* * *
وبعد: فهذه هي أهم الأحكام التي شرعها الله في نظام التعدد ، وهي متفقة كل الاتفاق مع الواقع الاجتماعي والحالة المادية ، فالذي يأنس من نفسه أنه لايستطيع أن يعدل إن تزوج بأكثر من واحدة ، أو لم يكن عنده النفقة مايسد حاجة الزوجتين أو الثلاث : من مسكن ، وطعام ، وكسوة ؛ فلا يجوز له شرعاً أن يعدد ؛ حتى لايقع في الظلم الذي حرمه الإسلام ، وبالتالي لاتقع الزوجة الثانية بالمضارَّة التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لاضرر ولاضرار)(10) ، فهو حديث ، وقاعدة أصولية كما هو معلوم.
هذا وإن التعدد – حين لايتحقق فيه جانب العدل – يوقع الزوج في مشاكل عائلية ، تؤدي في الغالب إلى تنافر بغيض ، وعداوَة مستحكمة ؛ مما يجعل حياة الزوج جحيماً لايطاق ، وربما انتقل هذا التنافر والعداء إلى أولاد الزوجات ، فينشأ الإخوة بينهم من البغضاء والشحناء ما يؤول إلى الفرقة والهجران ، وعدم استقرار الحياة الزوجية.
وفي تقديري أن المشاكل العائلية ناتجة عن سبيين رئيسيين:
الأول: ناتج عن الرجل لكونه لم يتحقق جانب العدل المادي في جميع المجالات: العدل في النفقة ، العدل في المعاملة ، العدل في القسمة ، العدل في الحقوق.
الثاني: ناتج عن المرأة لكونها تنظر إلى الحياة بمنظار الأنانية وعدم تفهم الواقع ، ومصلحة المجتمع ، بل تنساق وراء عواطفها وأهوائها انسياقاً أعمى دون تحكيم لعقل ، أو نظر إلى مصلحة.
وإذا قامت الحياة الزوجية على أساس من التربية الإسلامية ، والتهذيب الاجتماعي ، والرقابة الإلهية ، عاش المجتمع في ظلال الزوجية على أحسن مايكون من السعادة الحقة ، والاستقرار الكامل ، والعيش الهانيء الرغيد. ومثل هذه التربية تجعل التعدد – حين تقتضية الظروف – قليل المساوئ والأضرار ، حسن النتائج والآثار ، فلا زوجات تحركها العواطف والأهواء ، ولا أولاد تفرقهم العداوات والخصومات ، بل بيت إسلامي تعمره الفضيلة والأخلاق ، ويملؤه الحب والإخلاص ، ويشيع في رحابه الهناءة والاستقرار.
فما أحوجنا أن نعود إلى الدين الحق ، والإسلام الصحيح ، والتبرية الإسلامية المثلى ، وما أحوجنا أن نقوي في نفوسنا جانب التقوى والمراقبة والخشية من الله ، حتى تكون أعمالنا ومعاملاتنا على الوجه الذي يرضي الله ، ويحقق الخير لعباده.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
(8) ذكره القرطبي في تفسيره ج/5/ص22.
(9) والمعنى أنه إن كان يعلم أنه لايستطيع الإنفاق على الزوجة الثانية فلا يجوز له ديانة أن يعدد.
(10) رواه ابن ماجه والدارقطني
محَاولات لِمنع التّعدُّد
من المؤسف حقاً أن نسمع من بعض المسؤولين في الدول التي تنتمي إلى الإسلام ، ومن بعض من ينتمي إلى جمعيات نسائية من النساء الدعوة إلى إلغاء تعدد الزوجات ، أو تقييده بقيود شديدة ،تجعل الزواج بأكثر من واحدة ضرباً من المستحيل ، لقد كان لهذه الدعوه صدى سيء بالغ الأثر على الأوساط الإسلامية ، أما في الأوساط التبشيرية والاستعمارية فكان لها صدى مستحب ، وتأييد مطلق ، حيث نُعتت هذه المحاولات بأنها خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة.
هذا الذي يريد المسؤولون أن يفعلوه في بعض الدول ، وتحاول أن تنتهج منهج بعض الدول العربية ، وتسعى لتحقيقه بعض الجمعيات النسائية في بلادنا ، ليس إلا مجرد استرضاء للغربيين ، أو للدول التي تنادي بدعوة التقدمية ، إثباتاً لانسلاخهم من الإسلام ، وتحررهم من ربقة الدين والأخلاق ، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية ، واحتقار الذات ، والترامي على اقدام المتعصبين الغربيين ، الماديين الشرقيين ، لاستجلاب عطفهم ، واسترضاء مبشريهم وملاحدتهم على حساب كرامتنا وديننا ومبادئ شريعتنا.
ياليت عند هؤلاء المفترين المتأثرين بالدعايات الغربية ، والأفكار الإلحادية ، العقل الناضج ، والتفكير الصحيح ، ليناقشوا القضايا على ضوء الواقع والمصلحة ، والظروف الاجتماعية !!. وياليتهم حين يتكلمون يتجردون عن الهوى والعاطفة والتعصب! ... لو فعلوا هذا لما قبلوا الحقائق ، ولما وقفوا من نظام التعدد هذا الموقف الملتوى ، ولما أعلنوا تطاولهم على شريعة الله ، ونظام الإسلام.
ألم يسمعوا أن كثيراً من المفكريين ، والمصلحين الاجتماعيين في اوربا وفي كثير من بلاد العالم ، ينادون بنظام التعدد ، وأنه العلاج الناجح لحل مشكلة الأخلاق ، وحل أزمة ازدياد عدد النساء؟
ألم يعلموا أن الله سبحانه حين يشرع لعباده الأنظمة ، ويقرّ لهم المبادئ؛ هو الأعلم بما يصلحهم ، والأدرى بما يحقق سعادتهم واستقرارهم؟.
ألم يقرأوا في الصحف والمجلات عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين ، للعلاقة الجنسية المحرمة بين الرجال والنساء؟
ألم يدركوا أن نظام التعدد يخلّص الكثير من النساء من ذل الحاجة ، وغائلة الفقر ، ويحفظ لهن كرامتهن وعفافهن ؟ فبأي حديث بعد هذا يؤمنون ؟!.
-----------------
الحِكمة من تعدُّدِ أزواج النّبّي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد
انتشار التعليم
كسب التأييد
اكتمال التشريع
تحقيق التكافل
توثيق روابط الصحبة
إعطاء القدوة
السؤال الأول : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة مع فارق السن؟
السؤال الثاني : نبذة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد:
يتخذ أعداء الإسلام من جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد ، منفذاً للطعن ، ووسيلة للاتهام ، وحين يبحثون عن الأسباب فلا يجدون تعليلاً لهذا الجمع سوى الشهوة الجنسية والثورة الغريزية ، دون أن يحيطوا بالظروف التي صحبت هذا الزواج ، ودون أن يبحثوا عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الجمع.
وأراهم حين يسددون هذه المطاعن ، ويثيرون تلك الشبهات منساقين كل الإنسياق وراء التعصب الأعمى ، والحقد الأسود على الإسلام ورسول الإسلام ، بل عداوتهم لهذا الدين قديمة متأصلة توارثوها عن الحروب الصليبية جيلاً بعد جيل ، فترسخت حتى خالطت اللحم والعظم ، وتأصلت حتى انطبعت في سويداء القلوب ، وماذا تنتظر من اللئيم غير الخبث واللؤم ، ومن الحقود غير العقد والظلم ؟.
ومع كل هذا لابد أن يوجد من غير المسلمين عقلاء منصفون تجردوا من مؤثرات العصبية والهوى ، فتكلموا بلسان المنطق والحق ، وكشفوا عن وجه الحقيقة في تعداد أزواجه عليه الصلاة والسلام . ومن هؤلاء (توماس كارليل) الذي يقول في هذا المقام : ( ماكان محمد أخا شهوات ، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً ، وشدَّ مانجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً ، لا همّ له إلا مآربه من الملاذ . كلا! فما أبعد ماكان بينه وبين الملاذ أياً كانت ..(1)
بعد هذه التقدمة سأشرع بعون الله في بيان الحكمة من تعداد أزواجه صلى الله عليه وسلم مفصلاً الأسباب التي دعت إلى التعدد ، ومبيناً الظروف التي أحاطت بهذا الجمع ، ليعلم القارئ الكريم لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة في آن واحد ؟.
ولكن قبل أن أسرد الحكمة من هذا الزواج أريد أن يضع في ذهن القارئ حقيقتين هامتين :
الحقيقة الأولى : أن الجمع بين عدة زوجات كان شائعاً في البيئة الإنسانية والعربية قبل الإسلام . ومما يدل على هذا أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، وأن الحارث ابن قيس حين أسلم كان عنده ثمان نسوة ، وسبق أن ذكرنا في مبحث (أحكام التعدد) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهما أي يختارا منهن أربعاً ويفارقن سائرهن.
ولقد كان كثير من العرب يعددون ولا يرون في ذلك حرجاً ولا غضاضة ، فلما رأى أعداء الإسلام النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ولم يروا العصر كله ، ولماذا خصوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالذكر ، ولم ينظروا إلى التعدد الذي رافق أبياء التوراة عبر التاريخ؟.
يقول الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – في كتابه (2): ( حين كنت في دبلن (ايرندا) عام /1956 / زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيها ، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها ، وكان مما قلته له: لماذا تحملون على الإسلام ونبيه بخاصة في كتبكم المدرسة بما لا يصلح أن يقال في مثل هذا العصر ، الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات؟!
فأجابني : نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء ! ..
قلت له: هل تحترمون نبي الله داود ، ونبيه سليمان ؟.
قال : نعم! وهما عندنا من أنبياء التوراة !
قلت : إن النبي داود كانت له مائة زوجة كما هو معلوم ، ونبي الله سليمان كانت له – كما جاء في التوراة - سبعمائة زوجة من الحرائر ، وثلاثمائة من الجواري ، وكن أجمل أهل زمانهن ، فَلِمَ يستحق احترامكم من تزوج ألف امرأة ، ولا يستحق من يتزوج تسعاً ؟ ثمانية منهن ثيبات وبعضهن عجائز ، والتاسعه هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوّجها طيلة عمره .
فسكت قليلاً وقال: لقد أخطأت التعبير ، أنا أقصد أننا نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة ، ويبدو لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار ، أو عارم الشهوة !.
قلت: فما تقولون في داود وسليمان – عليهما السلام – وبقية أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا جميعاً معددين الزوجات بدءاً من جدهم إبراهيم عليهم السلام.
فسكت ولم يُحِرْ جواباً ..)(3) .
ورب سائل يقول: لماذا جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة ، بينما كان التشريع الذي شرعه الله للأمة مقيداً بأربع زوجات.
الجواب: إن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد كان خصوصية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهذه خصوصية خاصة به لايجوز لأحد من الأمة أن يقتدي بالإضافخ إلى خصوصياته الكثيرة التي عددتها كتب السنة ، وتكلم عنها الفقهاء والمفسرون .
نذكر منها على سبيل المثال وصاله عليه الصلاة والسلام الصوم (معنى الوصال: وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما. ) ، ولما واصل الصحابة نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال(4) ، ثم قال لهم : ( إني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني(5) .. )
ومن خصوصياته أنه لا يحل له أن يتزوج على نسائه التسع أو يطلق واحدة منهن ، مكافأة لهن على اختيارهن مرضاة الله ورسوله ، وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا وزينتها ، ودليل هذا التحريم قوله تعالى {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ ..} (6)
ومن خصوصياته : أنه لا يحل لأحد من المسلمين أن يتزوج بعد وفاته صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، قال تعالى { .. وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً .. }(7) .
إلى غير ذلك من هذه الخصوصيات التي ذكرها العلماء ، وعددها المجتهدون . وإذا كان من وراء كل خصوصية حكمة وقصة ، فعمّا قريب سيجد القارئ الحكمة من تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، وقصته ، عليه السلام مع كل زوجة تزوجها .
الحقيقة الثانية : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من واحدة كان في المدينة وفي سن الكهولة. فمن المعلوم تاريخياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بعد وفاة السيدة خديجة – رضي الله عنها – إلا سوداء بنت زمعه وإلى أن هاجر إلى المدينة ولم يعدّد إلا بعد أن ولِدت الدولة الإسلامية ، وقامت على أرجلها قوية متينة ، وكان لهذا التعدد أغراض إصلاحية وتشريعية سنذكرها في حينها .
ومن الثابت تاريخياً كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بالسيدة خديجة وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ، وكانت هي ثيباً(8) بنت اربعين سنة ، فعاشت معه خمس عشرة سنة قبل البعثة ، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين ، وكان عمرها يومئذ خمساً وستين سنة.
فهل من المعقول أن نحكم على إنسان أنه شهواني وقد قضى زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته بزواجه من امرأة تزيد على عمره خمسة عشراً عاماً ؟ إذن لماذا يسدد أعداء الإسلام سهام طعنهم لرسول الإسلام وهم يعلمون الحقيقة بأجلى معانيها .
إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ليشفوا حقدهم القديم ، وعداوتهم اللئيمة !! فإذا عدَّد بعد أن جاوز الخمسين ، درج في سن الكهولة لحكم اجتماعيه ، وأغراض تشريعية ، أيكون قد أتي بشئ عظيم ؟.
ثمّ مَن اللواتي تزوجهن ، ألسْنَ أيامى وثيبات(9) ؟ ألسْنَ عجائز وفقيرات ؟ إذا كان الأمر كذلك ؛ فلم هذه الإثارة والضجة ؟ وَلِمَ هذا الطعن والاتهام ؟ اما يدل هذا على التعصب الأعمى ، والحقد الدفين ؟.
فياليتهم ينكلمون حين يتهمون بلسان الحث والمنطق !.
وياليتهم حين يتقولّون يزنون الأمور بميزان العقل السليم والمنهج العلمي الصحيح !.
بعد ذكر هاتين الحقيقتين أشرع في بيان الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي سرد الملابسات التي اقضت الجمع بين تسع نسوة في آن واحد ، وأرى أن الحكمة من هذا التعدد ، والملابسة لهذا الجمع ترتكز على الأمور التالية:
1- انتشار التعليم.
2- كسب التأييد.
3- اكتمال التشريع.
4- تحقيق التكافل.
5- توثيق روابط الصحبة.
6- إعطاء القدرة.
---------------------------------------------------------
(1) كتاب الأبطال ص83
(2) المرأة بين الفقه والقانون ص96
(3) عن كتاب المرأة بين الفقه والقانون بتصرف يسير
(4) معنى الوصال : وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما.
(5) أي يعينني ويقويني ، والحديث رواه البخاري ومسلم.
(6) جزء من الآية (52) سورة الأحزاب
(7) جزء من الآية (53) من سورة الأحزاب
(8) والثيب هي التي تزوجت من قبل ، ومن المعروف أن خديجة تزوجت مرتين قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم
(9) من الثابت تاريخياً أن جميع النسوة اللاتي تزوجهن الرسول صلى الله عليه وسلم كن متزوجات من قبل ؛ عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فإنها كانت بكراً.
أما انتشار التعليم: فيكفي أن نعلم أنّ نصف المجتمع نساء وأنهن بحاجة إلى الثقافة والتعليم كالرجال سواء بسواء ، وإن واحدة أو اثنتين أو ثلاثة لايمكن أن يقمن بدورهن في إرشاد النساء ، وتعليم البنات في المجتمع الإسلامي الجديد ؛ إذن فالأمر يتطلب أن يقوم بعض نسوة في آداء رسالتهن كمرشدات ومعلمات ، حتى يتعلم النساء كل ما ينفعنت في امور دينهن ، ولا سيما في الأمور التي يستحيين أن يسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحكام الزوجية ، ومسائل الحيض والنفاس ، وقضايا الحنابة والطهارة وغيرها.
ومن الشواهد على هذا: ماروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها : أن مرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسلها من المحيض ، فأمرها أن تغتسل ثم قال ( خذي فرصة (10) فتطهري بها ) قالت: كيف أتطهر بها ؟ قال: (تطهري بها ) ، قالت : كيف ؟ قال: ( سبحان الله تطهري ) قالت عائشة : فا جذبتُها إليّ ، فقلت : ( تتبعي بها أثر الدم ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم استحيى بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيّبة بالمسك في المكان الذي كان يخرج منه الدم إتماماً لطهارة ، فأخذتها عائشة وأفهمتها المراد .
وفي صحيح مسلم أن المرأة من الأنصار اسمها أسماء ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ، فقال : ( تأخذ إحدكنّ ماءها وسِدْرَها(11) فتطَّهر فتحسن المطهر ، فتصب على رأسها ، فتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطَّهَّر بها) قالت اسماء : وكيف اتطهر بها ؟ قال : ( سبحان الله تطهري بها ! ) سبح الله تعجباً من عدم فهمها حتى كفته زوجه عائشة ذلك .
والشواهد على ذلك كثيرة ، وليس أمر التعليم منوطاً في امور الحيض والطهارة فقط كما يفهم البعض وإنما كان يشمعل كل مايرفع من مستوى المرأة من ناحية العبادة والمعاملة والأخلاق ، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم خير مبلغ عن رسول الله في حياته ، وخير مرجع في الاستفتاء ورواية الحديث بعد وفاته.
ومن ذا الذي يقول إن زوجاً واحدة كانت تقوم بهذا العبء والواجب وحدها ؟ ومَنْ ذا الذي ينكر هذه الحقيقة بعد أن ظهر الحق ، وبان الدليل ؟.
--------------------------------
(10) الفرصة : قطعة أو صوفة أو خرقة مطيبة بالمسك .
(11) السدر : شجر النبق ، كان يستعمل في الغسل لأنه نبات منظف كالصابون .
أما كسب التأييد: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفع الدعوة الإسلامية بزواجه من قبائل قريش ، باعتبار أن قريشاً سيدة العرب ، وإذا أسلمت قريش أسلمت العرب ، وفعلاً قد وجد من هذه القبائل التي صاهرها العطف الكامل ، والتأييد المطلق ، بل أصبحوا يدخلون في الإسلام تباعاً ، ويعتنقون الدين الجديد طواعية واختياراً ، وكان لهذا التعدد للزوجات دون في تشجيع الناس على الدخول في الإسلام وكان له دور في كسب النبي صلى الله عليه وسلم هذا العطف والتأييد.
فهذه جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : لما أُسِرَت مع قومها في غزوة بني المصطلق ، استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أذن لها قالت: يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس ، فكاتبته (12) على نفسي ، فجئتك أستعينك على أمري : فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فهل لك في خير من ذلك ؟ ) قالت: وما هو يا رسول الله ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ) فقالت في فرحمة غامرة : نعم يارسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد فعلت )(13) .
فما هي نتائج هذا الزواج ؟ أقبل الناس وبأيديهم أسرى قومها ، فأرسلوهم أحراراً وهم يقولون : ( أصهار رسول الله ) ! فما كانت إمرأة أعظم على قومها بركة منها ، فأعتق المسلمون بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأسرى السبايا ، ودخل الجميع في الإسلام وهم راضون وراغبون ، وكان لهذا الزواج من جويرية أفضل الآثار ، وأحسن النتائج .
وروت كتب السيرة أن أباها جاء النبي صلى الله عليه وسلن فقال : يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فإن ابنتي لا يسبى مثلها !! ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يخيرها ، فسرَّ أبوها بذلك ، فخيّرها ، فاختارت الله ورسوله ، وكانت من أعبد امهات المؤمنين.
وذكر ابن هشام في السيرة أن والدها سمع حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما جاء فيه من فداء ابنته ، فصاح بصوت جهير : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ) وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم.
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموى رضي الله عنها ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكان تزوجه بها تأليفاً لأبي سفيان سيد قريش وزعيم مكة ، وترغيباً له في الدخول بالإسلام ، ومن ناحية أخرى كان هذا الزواج جبراً لخاطرها ، وجمعاً لشملها ، وإنهاءً لوحشة الهجرة وسوء تصرف زوجها ؛ ولزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها قصة ،تتلخص في أن أم حبيبة أسلمت مع زوجها (عبيد الله بن جحش الأسدي ) بمكة ، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسة ، ولما عادت إلى المدينة بني بها وتزوجها ، ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال : ( هو الفحل لايقدع أنفه ) ويقصد أنه الكفء الذي لايماثلة أحد ، وكانت هذه المصاهرة فيما بعد من العوامل الأساسية التي دفعت أبا سفيان إلى الدخول في الإسلام في العام التالي عام الفتح .
وهذه صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكانت من يهود بني النضير ، وأُسرت بعد قتل زوجها في غزوة خيبر ، فأخذها دحية بن خليفة الكلبي في سهمه ، فقال أهل الرأي من الصحابة : يارسول الله إنها سيدة قومها لا تصلح إلا لك ، فاستحسن رأيهم أسباب منها : إباؤهه عليه الصلاة والسلام أن تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها في المكانة ، وتشجيعه الناس على إعتاق الرقيق ، أما بيت القصيد من هذا الزواج فهو رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريض اليهود على اعتناق الإسلام ، أو على الأقل تخفيفهم من عداوتهم للإسلام ، ومكرهم بالمسلمين وروى الإمام في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم خير صفية بين أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها ، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته.
فإذا أضفنا إلى هذا الزواج زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر وهي من بني عدي ، وزواجه بزينب بنت جحش وهي من بني أسد ، وزوجه من أم سلمة وهي من بني مخزوم ، وزواجه من ميمونة بنت الحارث وهي من بني هلال ، وزواجه من سودة بنت زمعة وهي من بني عامر بن لؤي . إذا اضفنا كل هذا إلى باقي الزوجات اللاتي تحدثنا عنهن قبل قليل ؛ يتبين لنا بشكل قاطع لايتحمل الشك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسنوة يستهدف في الدرجة الأولى مصاهرة هذه القبائل ، ليكسب تأييدها في المهمة التي كلف بها ، وبعث من أجلها ، ألا وهي رسالة الإسلام . ثم بالتالي كان يطمع بهدايتهم واعتناقهم هذا الدين الجديد ، ولو اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجة واحدة لما كان هذا التأليف ، ولما حظي بهذا التأييد .
------------------------------------
(12) الكتابة اشتراء الرقيق نفسه من سيدة بمال يؤديه أقساطاً.
(13) كان زواجه عليه السلام منها سنة خمس من الهجرة
أما اكتمال التشريع فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بعدة نسوة في وقت واحد لأغراض تشريعية ، نذكر منها ما يلي :
أ‌- إبطال عادة التبني التي كانت متبعة في الجاهلية : كان من عادات العرب الشائعة في الجاهلية أنهم يتخذون لأنفسهم أبناء أدعياء يلصقونهم بأنسابهم ، ويعطونهم جميع حقوق الأبناء حتى في المواريث ، ومحرمات النكاح ، ولما أراد الله أن يبطل عادة التبني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زينب بنت جحش الأسدية لزيد بن حارثة مولاه ومتبناه (14) ، والله سبحانه يعلم أنهما لايتفقان على بقاء هذه الزوجية ؛ بسبب التفاوت في المكانة ، والاختلاف في النسب ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب وقال لها : ( إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة ، فإني قد رضيته لك ) ، قالت يارسول الله : لكني لا أرضاه لنفسي ، وأنا أيّم قومي ، وبنت عمتك فلم أكن لأفعل ، فنزلت الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً}(15) ، فقالت زينب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية : قد أطعتُك فاصنع ما شئت ، فزوجها زيداً ودخل عليها ، فكانت بعد الزواج تغلظ له القول ، وتتعاظم عليه بالضرف والمنزلة ، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً منها ، ويستأذنه في طلاقها ، فيقول له صلى الله عليه وسلم : ( أمسِك عليك زوجك واتّقِ الله ) وهو يعلم أنه لابد له من طلاقها ، وأن الله سيأمره بالتزوج بها إبطالاً لبدعة التبنّي ، وتجويزاً لنكاح أولاد الأدعياء.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر هذا لزيد ، ولا لغيره من الناس خشية أن يقولوا : إن محمداً تزوج امرأة ابنه المتبنّى ، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله : {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ ..}(16) .
فلما طلقها زيد بمحض اختياره وإرادته ، زوَّجه الله إياها بدون عقد ، وفي هذا نزل قوله تعالى : {.. فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا .. } (17) .
ثم عللت الآية هذا الزواج فقالت : {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ}.
وبعد نزول هذه الآيات التشريعية بطلت عادة التبنّي ، وحلّ الزواج بزوجات الأدعياء.
ويتلخص مما تقدم : أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب الأسدية كان لغرض تشريعي ، وغاية اجتماعية ألا وهي إبطال عادة التبنّي.
ب‌- المساهمة الكبرى في رواية السنة : إن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وإن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قد ساهمن مساهمة فعالة في رواية كل قول سمعنه ، وفي نقل كل فعل رأينه من النبي صلى الله عليه وسلمه ، فوصل بذلك كثير من السنة إلى الأمة الإسلامية ، عن طريق الرواية من نساء مقطوع بصدقهن ، ومجمع على أمانتهن وعدالتهن ، ويكفيهن فخراً وشرفاً أن سماهن القرآن أمهات المؤمنين وخطابهن بقوله : { يا نساء النبي ... } إلى غير ذلك من هذه الألقاب والصفات .
ولقد ذكر الرواة أن عدد الأحاديث التي رواها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم عنه جاوزت ثلاثة آلاف حديث ، وأن صاحبة السهم الأكبر في رواية الحديث السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد روت عنه 2210 حديثاً ، ويليها أم سلمة رضي الله عنها التي روت 378 حديثاً ، وباقي الزوجات كن تتراوح أحاديثهن بين 11 إلى 65 حديثاً ، وهذا التفاوت في رواية الحديث يرجع بسببه إما إلى الذكاء ، أو مدة الحياة الزوجية ، أو امتداد العمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمعت هذه الأسباب للسيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد كانت ذكية ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم بها في أول الهجرة ، وعاشت بعدة حتى سنة 58 هـ
أما السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها فكانت آخر نسائة زواجاً ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة ، فروايتها للحديث كانت اقل من باقي الزوجات لقصر الإقامة ، وقس على ذلك صفية وزينب الأسدية رضي الله عنهما .
ويتلخص مما تقدم عن حكم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مساهمتهن الفعالة في رواية الحديث لاكتمال التشريع ،، والحفاظ على السنة النبوية .
سنة مبدأ العدل والأخلاص السمحة : باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة ، أقواله وأفعالة تشريع ، وجب على كل من يرغب بالزواج ، أو يجد في نفسة حاجة ملحة إلى التعدد ، أن يكون على اطَّلاع تام بكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في ملاطفة الأهل ، والعناية بالزوجات ، وإحقاق الحق لهن ، وتطبيق مبدأ العدل والمساواة بينهن ؛ حتى لا يحيف مسلم ، ولا يتطاول متزوج؛ وسبق أن ذكرنا في بحث (أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية ) طائفة من الأحكام القرآنية ، فارجع إلى البحث تجد مافيه الكفاية.
أما فعلة عليه الصلاة والسلام في سنة مبدأ العدل بين زوجاته ، وإعطائه المثل الكامل في الأخلاق الرضية والملاطفة؛ فإن رواة الحديث مؤرخي السيرة قد أفاضوا في معاشرته أزواجه بالمعروف ، والقسمة بينهن بالعدل ، في كل من المبيت والنفقة واللطف والتكريم . وحين يأتي الكلام عن حكمة إعطاء القدوة في تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، سنفصل القول في ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحسن معاشرته لهن ، وعندئذ يتضح للقارئ الكريم السر من هذا التعداد ، والحكمة من هذا الجمع .
------------------------------------------
(14) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبني زيد بن حارثة لاختياره البقاء في جواره على أبيه وأهله ، فما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أعتقه ، وأخرجه إلى الحجر فقال : (اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه ) فكان يدعي بعد هذا التبني بزيد بن محمد ، حتى جاء الله بالاسلام ، وابطل هذه العادة .
(15) الآية (36) من سورة الأحزاب
(16) (17) جزء من الآية (37) سورة الأحزاب
أما تحقيق التكافل : فمن المعلوم بداهة أن من الأسباب التي دعت إلى التعدد؛ هي رحمة ببعض نسوة كن لايجدن من يرعاهن ، ويقوم على امرهن بعد فقد ازواجهن .
فهذه سودة بنت زمعة رضي الله عنها ، اول إمرأةتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ، وكان تّوفي عنها زوجها الذي هو ابن عمها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، والحكمة في اختيارها أنها لو عادت إلى أهلها في مكة لأكرهوها على الشرك بالفتنة والعذاب ، فختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالتها ، ورغب في زواجها . وكان الزواج منها قبل عام الذي هاجر فيه إلى المدينة بثلاثة أعوام .
وهذه هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها ، كانت هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ، وقد توفي زوجها بعد غزوة أحد ، وعزاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سلي الله يأجرك في مصيبتك ، ويخلفك خيراً ) ، فقالت : ومن يكون خيراً من أبي سلمة ؟، ولما خطبها لنفسة اعتذرت بأنها مسنة وأم أيتام (18) وذاتُ غَيْرة ، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سناً ، وبأن الغيرة يذهبها الله سبحانه وتعالى ، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله .
فهذا النص يدل دلالة وضحة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على رعاية الأيتام ، وكفالة الأرمل ، وتعزية المصابين .
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها كانت أسلمت في مكة وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه سلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، ولما عادت إلى المدينة بني بها ، وكان من دوافع هذا الزواج احترامهاوكفالتها وجبر خاطرها بعد مصابها بتنصّر زوجها ، وعداوة أبيها .
ويتلخص مما تقدم أن من دوافع هذا الزواج ، أسباب هذا التعدد الرحمة بالأرامل وكفالة النساء المسنّات الأيامى ، فهل يكون التزوج بهؤلاء النسوة وأمثالهن لغرض الشهوة والاستمتاع كما يتقوّل البعض ؟.
-----------------------------
(18) وكانوا ثلاثة: سلمة وعمر وزينب.
اما توثيق روابط الصحبة: فظاهر في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بابنتي احب الناس إليه ، وأعزهم عليه: عائشة بنت ابي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً . أما زواجه بعائشة أم المؤمنين فقد ؤوى ابن سعد وابن أبي عاصم من طريق عائشة قالت : لما توفيت خديجة – رضي الله عنها – قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خَلّة لفقد خديجة ، فقال: أجل ، كانت أم العيال ، وربة البيت .
قالت: أفلا أخطب عليك ؟ قال: بلى ، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك ، فخطبت عليه سودة بنت زمعة ، و عائشة بنت أبي بكر . وفي رواية : قالت خولة للنبي صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ألا تزَوَّج؟ قال: من ؟ قالت : إن شئت بكراً ، وإن شئت ثيّبا ، قال : فمن البكر ، قالت : بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر ، قال : ومن الثيب ؟ قالت : سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك ، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ .. قالت عائشة: فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أمّ رومان ، فقالت خولة : ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟!. قالت: وماذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة ، قالت : وددت ، لو تنتظرين أبا بكر ، فجاء أبوبكر فذكرت له ، فقال : وهل تصلح له وهي بنت أخية ؟ فرجعت فكذرت ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( قولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ).
وهنا نقف لحظة لنعرف ماذا يقصد الدِّيق أبو بكر من قوله : ( وهل تصلح له وهي بنت أخيه ؟) يقصد أن الرابطة الأخوية الصادقة التي تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت في القوة والمتانة مبلغ رابطة إخوّة النسب ، فما كان يتصور رضي الله عنه أن عائشة تحل له ، وماكان يدور في خلده أن يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بابنته ؛ ولكن لما علم أبو بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقلته له خولة : (أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ) ، لما علم ذلك هشّ لهاذا الزواج وفرح به ، بل كان مفتخراً بهذه المصاهرة معتزاً بها على مدى الأيام ؛ فإذا اجتمعت فضيلة وإخوة الدين ، وفضيلة المصاهرة ، وفضيلة الصحبة والسبق إلى الإسلام في إنسان ، فلتكن في أبي بكر الصديق ، فقد جمع الخير من كل جهاته ، وحاز المجد من جميع أطرافه رضي الله عنه وأرضاه .
أما زواجه بحفصة بنت عمر أم المؤمنين ، فقد روى ابن الأثير في أسد الغابة حفصة كانت متزوجة بخنيس بن حذافة السَّهمي ، وكان من المهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة ، وممن شهدوا بدراً ، ومات في المدينة متأثراً بجراحه بعد موقعة أحد ، فرأى عمر أن يزوجها ، فعرضها على أبي بكر فسكت ، وعرضها على عثمان بعد موت زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ماأريد أن أتزوج اليوم ، وإنما كان يرجوا أن يزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم ، وقد ساء عمر رضي الله عنه ماكان من أبي بكر وعثمان ، وهنا الكفئان الكريمان لابنته ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة )، فلقي أبو بكر عمر فقال : لا تَجدْ عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لتزوجتها ، وكان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصه سنة ثلاث من الهجرة على القول الراجح.
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة في السنة الثانية من الهجرة ، فكان هذا قرّة عين لوزيره الأول ، وصاحبه في الغار ، وتزوج في حفصة في السنة الثالثة من الهجرة ليسوي بين عمر وبين أبي بكر في شرف المصاهرة ، ومتانة الصحبة ، ولم يكن في الإمكان أن يكافئهما على صدقهما وإخلاصهما وجهادهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الزواج ، وأكرم من تلك المصاهرة.
لولا الذي فعلة الرسول صلى الله عليه وسلم من الزواج بحفصة لكانت حسرة في قلب عمر ، ولوعة تعتلج نفسه وصدره ؛ فما أكرم سياسته صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم وفاءه للأصحاب المخلصين! ..
---------------------------------------
(19) خلة: حاجة.
(20) هي ام عائشة.
وأما إعطاء القدوة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة والمثل الكامل في حسن معاشرته لأزواجه ، وإرادة الخير لهن ، وتحقيق العدل بينهن ، ولا بأس أن نذكر طرفاً من هذه المعاملة الطيبة حتى يتأسى المتزوجون بها ، ويمشوا على هديها ونهجها ، وبالتالي حتى يعلم كل ذي عقل وبصيرة الحكمة من هذا التعدد والسر من هذا الجمع.
أ‌- القسمة بالعدل: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يقسم أوقاته بالعدل بين نسائه جميعاً ، وكان يدور عليهن كل يوم امرأةً امرأةً ، إلى أن يصل إلى التي عندها الدور (فيبيت عندها) ، ولما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبغي رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، روى أحمد وأصحاب السنن أن سودة بنت زمعة لما أسنّت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت يارسول الله: وهبتُ يومي لعائشة ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها ؛ تحقيقاً لجانب العدل ، ولما حج أخذهن كلهن معه . ولما مرض عليه السلام مرضه الأخير شقّ عليه أن ينتقل بين بيوت نسائة كل يوم كما كان يفعل في حال صحته ، فكان يسأل – كما روى البخاري - : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ يريد يوم عائشة ، فأذن له أزواجه كلهن أن يكون حيث شاء ، فختار بيت عائشة وفيه توفي ، وروى أبو داود أنه بعث في مرضه إلى نسائة فاجمعهن ، فقال : ( إني لا أستطيع أن أدور بينكن ؛ فإن رأيتنّ أن تأذنّ لي أن أكون عند عائشة ) فأذنّ له ، ومن حكمة ذلك أن يدفن في بيتها ، وقد كان صرح من قبل بأنه يدفن حيث يموت.
وقس على عدله بالمبيت عدله صلى الله عليه وسلم بالنفقة واللطف والبشاشة والتكريم.
ب‌- احترامه لآرائهن: كان عليه الصلاة والسلام يقبل من نسائه أن يراجعنه فيما لا يرضين به ، فلا يسخطه ذلك ، حتى أصبح نساء الصحابة يقتدين بهن ، فقد روى الطبري عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : ( فَصِحْتُ على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولِمَ تُنكِر أن أراجِعَك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ).
ت‌- مساعدته في خدمة البيت: روى الطبري وغيره عن عائشة أنها لما سئلت : ماذا كان يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت قالت: ( كما يصنع أحدكم ، يشيل هذا ، ويحط هذا ، ويخدم في مهنة أهله ، ويطح لهن اللحم ، ويقمّ البيت ، ويعين الخادم في خدمته ) وفي رواية : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ).
ث‌- استنكاره ضرب النساء: روى ابن سعد في طبقاته أن سبعين امرأة شكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب رجالهن لهن ، فأغضبه ذلك ، وقال : إنه لا يحب أن يرى ذلك أبداً ، وقال : عندما شكت له مرأة ضرب زوجها : ( يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ، ثم يظل يعانقها ولا يستحي ) وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر على الناس ضرب نسائهم ، فإن أعطى لأصحابه القدوة العملية في الملاطفة ، وعدم ضرب النساء ، فقد روى ابن سعد عن عائشة أنها قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط ، ولا خادماً ، ولا ضرب شيئاً قط ؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله ) .
ج‌- وفاؤه لمن مات منهن: من المعلوم أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، كانت أول زوجاته صلى الله عليه وسلم فقد قضى معها زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته ، ولما ماتت ظل النبي صلى الله عليه وسلم طول عمره يذكرها ، ويكرم صديقاتها ومعارفها.
وذكرت كتب التاريخ والسِّير أن عجوزاً زارت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فأكرم مثواها ، وبسط لها رداءه فأجلسها عليه ، فلما انصرفت سألته عائشه عنها لتعلم سبب إكرامه لها ، فأخبرها أنها كانت تزور خديجة .
وروى ابن عبد البر والدَّوْلابي أن عائشة كانت تغار من خديجة كلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت له مرة: هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها؟ - تعني نفسها- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( لا والله ماأبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من الناس ) قالت عائشة : فقلت في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبداً.
وروى الشيخان عن عائشة أنها قالت : (ماغرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها قط ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يطعها أعضاءً ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، وربما قلت له : لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ؟! فيقول إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ، وإني لأحب حبيبها ).
ح‌- مداعبتهن والبشاشة لهن: كان عليه الصلاة والسلام يبسم دائماً في وجه نسائه ، ويلين لهن ، ويجاملهن ويؤانسهن ، فقد روى ابن سعد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس ، وأكرم الناس ، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان يسّاماً ).
أما المداعبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب نساءه ويمازحهن ، وحينما يجلس معهن ويخلو بهن ، وقد كان لعائشة بنت الصديق رضي الله عنهما من قلب رسولا لله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن لأحد من نسائه بعد خديجة رضي الله عنها ، فكانت الحبيبة بنت الحبيب ، وكانت هي أكثرهن إدلالاً عليه لصغر سنها ، وفرط ذكائها ، ومنزلة والدها . وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ
وروى الإمام أحمد في مسنده أن عائشة أم المؤمنين خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره ، وكانت صغيرة لم تبدُنْ بعد ، فتسابق وإياها فسبقته ، فسكت عنها إلى أن بَدُنتْ ، وخرجت معه مرة أخرى فتسابقا ، فسبقها ، فجعل يضحك وهو يقول لها (هذه بتِيك) أي واحدة بواحدة.
خ‌- موقفه منهن موقف الصلح: المرأة بما جبلت عليه من عاطفة فياضة ، وغيرةٍ متقدمة ، تتأثر دائماً بأي موقف يثيرها ، وبأية حادثة تحدث لها ، وما نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جملة نساء البشر ؛ لهن عواطف تتأثر ، ومشاعر تتحرك ، فمن الطبيعي أين يقع بينهن شئ من الخصومات وسوء التفاهم ، ومن الطبيعي كذلك أن يقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهن موقع المصلح المعلم ، حتى إذا صلح أمرهن ، وتهذبت نفوسهن كن لغيرهن من النساء قدوة ، وللزوجات والأمهات مثالا .
وإليكن طرفاً من هذا التعليم والإصلاح :
• روى الترمذي أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة قالتا : نحن أكرم على رسول الله منها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ( ألا قلت : وكيف تكونان خيراً مني ، وزوجي محمد ، وأبي هارون ، وعمي موسى ؟! ) وقد لقبتها زينب مرة باليهودية ، فهجرها النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً عقوبة لها.
• وروى ابن سعد أن عائشة اختصمت مرة مع زينب – إحدى ضرائرها – أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر الرسول إليهما نظرة المغضب ولم يكلمهما ، فانتبهت عائشة لنظرات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستطاعت بلباقتها أن تضفي على الجو روح الألفة والسرور ،فبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : ( إنها بنت أبي بكر !! ).
• وروى أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلا للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا – تعني أنها قصيرة – فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد قلتِ كلمة واحدة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) أي أن كلمتها لو ألقيت في البحر لأفسدته.
• وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يقربهن شهراً ، واعتزلهن كلهن زجراً وتأديباً لتواطئهن والائتمار بينهن ، حتى يكنَّ قدوة صالحة لسائر النساء.
تلكم أهم المواقف التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في ملاطفته لأهله ، وحسن معاشرته لأزواجه ، ألا فليأخذ المتزوجون من هذه المواقف دروس القدوة ، وليستلهموا منها مواطن العبرة ، حتى لا يقعوا في الجور ، ولا يتعثروا في أوحال الانحراف والظلم . ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقتصراًعلى زوجة واحدة لما عرف الناس هذه التعاليم العملية ، ولما اتضح لهم المنهج السليم في معاشرة الأهل ومعاملة الزوجات ، ولما اتضح لهم مواطن الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب .
---------------------------------------------------------
(21) المسند 6 : 108.
(22) أما رواية ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد فراقها فناشدته أن يمسكها فإنها ضعيفة
(23) ابن سعد.
(24) أي يكنسه.
(25) ابن سعد ( 8 : 148 ).
(26) وإذا كان القرآن الكريم أباح للزوج أن يضرب زوجت في حال النشوز ضرباً غير مبرح؛ فينبغي ألا يعرب عن البال أن هذا الضرب يأتي بالمرحلة الأخيرة بعد الوعظ والهجر في المضجع كما نصت عليه الآية ، ثم بالتالي إن كان ينفع ولم يترتب على الضرب فتنة أشد ولا مصيبة أعظم ، وأن لا يضرب في أماكن الخطر كالوجه مثلاً ؛ والأفضل في حق الزوج أن لا يلجأ إلى الضرب اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لم يضرب امرأة قط كما مر.
(27) لم تبدن : أي لم يصيبها السمن,
(28) قد كان نساء النبي صلى الله عيه وسلم تواطأن على طلب التوسعه في النفقة ، وإفشاء السر ، والكيد لبعض النساء من زوجاته ، وارجع إلى القرطبي في تفسيره لسورة التحريم ، وآية : {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ ...}(52) الموجودة في الأحزاب تجد ما فيه الكفاية .
أما ما يتعلق بالإجابة عن السؤال الأول: فنقول: إن زواج الرسول صلى الله عليه وسل

 

 

 

                          العودة للصفحة الرئيسية                                                                                                                                                                             

شبكة الحقيقة