المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شبهة غريب الألفاظ


مزون الطيب
30-01-2012, 05:39 PM
ردا على عباس عبد النور [1]

مما يُجْلِب أبو العبابيس ( عباس عبد النور ) ويَشْغَب به على القرآن باعتباره عيبا من عيوبه تلك القائمة التى أوردها السيوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن" من غريب الألفاظ فى كتاب الله، مع أنها كلها مفهومة، قائلا إن من العيب الشديد إيراد ألفاظ وعبارات غير مفهومة فى نص من النصوص (ص148). ومن تلك القائمة "سندس" و"قلوبنا غُلْف" و"مِدْرارًا" و"هيهات هيهات" و"يتمطَّى" و"جزاءً وِفَاقًا" و"أوّاب" و"أباريق" و"زنجبيل" و"ممنون" و"كواعب" و"أتراب" و"سرادق" و"شُوَاظ". وقد يكون السيوطى قَصَد بـ"الغرابة" أن تلك الألفاظ والعبارات لم تكن معهودة على نطاق واسع من قبل، وإن كنت أشك فى ذلك، إذ إنى لا أستطيع أن أجد فيها شيئا صعبا على الفهم. فليقل السيوطى إذن ما يشاء، فالعبرة بالواقع، والواقع يقول إن معظم الألفاظ التى أوردها السيوطى فى قائمته، إن لم تكن كلها تقريبا، مفهومة تماما لنا الآن، فما بالنا بعرب العصر النبوى؟




وحتى أُرِىَ القراء الكرام أن الأمر ليس على ما ادعاه عِبْس السخيف العقل أسوق هنا بعض شواهد من شعر الجاهليين والمخضرمين على تلك الألفاظ بما يبرهن أجلى برهان أن تلك الألفاظ كانت متداولة ومفهومة فى عصر النبوة وما قبله. قال سلامة بن جندل:
كَريحِ ذَكِيِّ المِسكِ بِاللَّيْلِ رِيحُهُ * يُصَفَّقُ في إِبريقِ جَعْدٍ مُنَطَّقِ
وقال تأبط شرا:
خَفَضتُ بِساحَةٍ تَجري عَلَينا * أَباريقُ الكَرامَةِ يَومِ لَهْوِ
وقال المتلمس الضبعى:
لَهُ جُدَدٌ سودٌ كَأَنَّ أَرَندَجًا * بِأَكرُعِهِ، وَبِالذِراعَينِ سُندُسُ
وقال زهير بن أبى سلمى:
هَيهاتَ هَيهاتَ مِن نَجدٍ وَساكِنِهِ * مَن قَد أَتى دونَهُ البَغْثاءُ وَالثَمَدُ
وقال عوف بن عطية بن الخرع:
فأَثنت تَقُودُ الخَيلَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * كَمَا انقَضَّ بَازٍ أَغلَفُ الرِّيشِ أَقتَمُ
(و"أغلف" هو مفرد "غُلْف". وقوله تعالى عن اليهود فى الآية من سورة "البقرة": "وقالوا: قلوبنا غُلْف" هو إشارة إلى ما جاء فى الكتاب المقدس عنهم هم وأشباههم من أن قلوبهم غير مختونة، أى مغلقة، فهم لا يريدون أن يفقهوا شيئا مما يقال لهم، عنادًا منهم واستهزاءً. وفى الإصحاح 7/51 فى سفر "أعمال الرسل" من أسفار العهد الجديد إشارة من إسطفانوس إلى هذا على سبيل التوبيخ والاحتقار: "يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم". ومن قبل نقرأ فى الإصحاح التاسع عدد 25و26 من سفر "إرميا": "
ها أيام تأتي يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف. مصر ويهوذا وأدوم وبني عمون وموآب وكل مقصوصي الشعر مستديرا الساكنين في البرية لأن كل الأمم غلف وكل بيت إسرائيل غلف القلوب" (uncir*****cised in heart- incirconcis de coeur). وفى الإصحاح الرابع والأربعين من سفر "حزقيال": "
وقل للمتمردين, لبيت إسرائيل: هكذا قال السيد الرب: يكفيكم كل رجاساتكم يا بيت إسرائيل بإدخالكم أبناء الغريب الغلف القلوب (uncir*****cised in heart- incirconcis de coeur) الغلف اللحم ليكونوا في مقدسي, فينجسوا بيتي بتقريبكم خبزي الشحم والدم. فنقضوا عهدي فوق كل رجاساتكم. ولم تحرسوا حراسة أقداسي, بل أقمتم حراسا يحرسون عنكم في مقدسي.هكذا قال السيد الرب: ابن الغريب أغلف القلب (uncir*****cised in heart- incirconcis de coeur) وأغلف اللحم لا يدخل مقدسي من كل ابن غريب الذي من وسط بني إسرائيل". وفى الإصحاح العاشر من سفر "التثنية" يتجه الخطاب إلى بنى إسرائيل على النحو التالى: "16 فاختنوا غرلة قلوبكم ولا تصلبوا رقابكم بعد".
وفى مادة "ختان" من "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ عن المغزى الروحى فى الكتاب المقدس لعملية الختان ما يلى: "يتضح المغزى الروحي للختان من القول: "ويختن الربُّ إلهُك قلبَك وقلبَ نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا" (تث30: 6). ولا نظن أن نبيا مثل إرميا يعلق أهمية كبيرة على عمل سطحي كالختان لو لم يكن له مغزاه الروحي العميق. ولذلك يوبخ قومه بشدة بأنهم لا يَفْضُلون المصريين أو الأدوميين أو الموآبين أو العمونيين لأنهم "غُلْف القلوب" (إرميا9: 26). ويستخدم الرسول بولس لفظ "القطع" للدلالة على الختان الظاهري في الجسد غير المصحوب بتغيير روحي في القلب (في3: 2). كما يكتب في رسالته إلى الكنيسة في رومية: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا... وختان القلب بالروح لا بالكتاب (أي بالحرف) هو الختان الذي مَدْحُه ليس من الناس بل من اللـه" (رو 2: 28و29)". كما يتناول محرر المادة الاستعمال المجازى لعبارة "القلب الأغلف" قائلا: "والقلب الأغلف (أي غير المختون) هو القلب المغلق الذي لا يتأثر بأي كلام صالح، كما أن الأذن الغلفاء لا تقدر أن تصغي (إرميا6: 10)، والشفاه الغلفاء هي التي تتعثر في القول. ويأمرهم الرب قائلاً:"اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تصلِّبوا رقابكم بعد" (تث10: 16). كما يخاطب إستفانوس اليهود بالقول: "يا قساة القلوب وغير المختونين بالقلوب والأذان، أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم، كذلك أنتم" (أع7: 51)".
ولقد كان المعنى واضحا تماما لمعاصرى النبى: فأما اليهود منهم فأمرهم مفهوم، وأما الوثنيون فحتى لو لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذه الخلفية التى سقتها هنا فالعبارة تشبه قولهم هم أنفسهم ردا على دعوة النبى لهم بالدخول فى الدين الجديد: "وقالوا: قلوبنا فى أَكِنّةٍ مما تَدْعونا إليه، وفى آذاننا وَقْرٌ، ومن بيننا وبينك حِجَاب"، فلا غموض فيها على الإطلاق). وقال المسيَّب بن عَلَس:
وَكَأَنَّ طَعمَ الزَنْجَبيلِ بِهِ * إِذ ذُقْتَهُ وَسُلافَةَ الخَمرِ
وقال عدىّ بن وداع الأزدى:
كَأَنَّ مجامِعَ الهُلُباتِ منهُ * وَهادِيَها لميعادٍ وِفَاقِ
وقالت الخنساء:
يا عَينُ فِيضِي بِدَمعٍ مِنكِ مِغْزارِ * وَابْكِي لِصَخرٍ بِدَمعٍ مِنكِ مِدْرارِ
وقال النابغة الذبيانى عن الليل وتطاوله بالهموم:
تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ * وَلَيْسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآئِبِ
(و"آئِب" هو اسم الفاعل من "آبَ يؤوبُ"، و"الأَوّاب" هو اسم المبالغة من "آئب"، أى الذى يرجع دائما إلى ربه كلما أذنب ذنبا فيتوب منه ولا يصر عليه). وقال لبيد بن ربيعة العامرى:
إِذا آرِقٌ أَفْنَى مِنَ اللَيلِ ما مَضَى * تَمَطَّى بِهِ ثِنْيٌ مِنَ اللَيلِ راجِحُ
وقال النابغة الجعدى عن لحم صيد شَوَوْه وأكلوه فى البرّية:
فاشتَوَيْنا مِن غَرِيضٍ طَيِّبٍ * غَيرِ مَمنُونٍ وَأُبْنا بِغَبَشْ
وقال امرؤ القيس:
فَجاءَت قَطُوفَ المَشْيِ هَيّابَةَ السُّرَى * يُدافِعُ رُكناها كَواعِبَ أَرْبَعَا
وقال عبد الله بن عجلان النهدى:
أَتَتْ بَينَ أَترَابٍ تَمَايَسُ إِذ مَشَتْ * دَبِيبَ القَطَا أَو هُنَّ مِنهُنَّ أَقْطَفُ
وقال جبر المعاوى:
وَقَد لَفَّ شَخْصَيْنا سُرادِقُ هَبْوَةٍ * فَخانَكَ صَبرٌ يَومَ ذَلِكَ مُخْدَجُ
وقال عدى بن زيد:
في حَديدِ القِسْطاس يَرقُبُني الحا رِسُ، وَالمَرءُ كُلَّ شَيءٍ يُلاقِي
وقال أمية بن ابى الصلت:
يَظَلُّ يَشُبُّ كيرًا * وَيَنفُخُ دائِباً لَهَبَ الشُّوَاظِ
ولنفترض أن تلك الكلمات هى فعلا كلمات غريبة، فمن قال إن هذا عيب؟ إن من يقول ذلك ساذج أحمق لأنه يريد أن يسوى بين مستعملى اللغة، وبالتالى لا ينبغى أن يستخدم أى منهم لفظة لا يعرفها الآخرون، وهو ما يذكرنا بما كان الشيوعيون الحمقى يدعون إليه قائلين إنه لا ينبغى أن يزيد أى من الناس عن غيره فى مقدار ما يمتلك من مال، إلى أن اكتسح التاريخ الشيوعية والشيوعيين إلى مزابله جزاءً وِفَاقًا على ضيق عطنهم وتصلب أمخاخهم وغَلَف قلوبهم! إن مستعملى اللغة يتفاوتون بالضرورة كما يتفاوت الناس فى كل شىء، فما بالنا بخالق اللغات كلها؟ والواجب على من لا يعرف أن يجتهد فيتعلم ما لم يكن يعلم، وإلا بقيت الأمور على ما هى عليه يوم خلق الله الدنيا فى مبتدإ الأمر دون تطور أو تقدم. لكن ماذا نقول للحمقى المتاعيس؟

الدكتور إبراهيم عوض

[1] عباس عبد النور شخصية وهمية ينسب اليه كتاب محنتي مع القرآن غير ان الكاتب الحقيقي للكتاب نصراني جاهل جهول والغرض من اتخاذه اسم عياس هو ايهمام القارئ بان الكاتب مسلم