المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحريف أقوال يسوع ... من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا ؟" للدكتور بارت إيرمان


نور الإسلام
05-02-2012, 11:22 AM
تحريف أقوال يسوع ...
من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا ؟"

http://img517.imageshack.us/img517/8540/image003uh4.jpg



ولعل أهمية الكتاب تنبع من أمرين :

أحدهما أن في هذا الكتاب إجابة على السؤال المسيحي الشهير : "إذا كان الكتاب المقدس محرف ...فمن الذي حرفه ؟ ولماذا حرفه ؟" و الثاني أن الشهادة في حالة إيرمان هي من شاهدٍ من أهلها ،فالرجل ليس مسلما بل مسيحيًّا (أو على الأقل كان كذلك قبل أن يوصله الكتاب المقدس و دراسة مخطوطاته وحقائق تاريخ الكنيسة إلى الإلحاد ) ... وهذا الرجل توصل إلى ما توصّل إليه و هو لم يقرأ من قبل قوله تعالى " فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ..." ورغم ذلك بعد ألف وأربعمائة عام على هذه الآية الإلهية يأتي أحد علمائهم ليضع بخطوط حمراء صدق وتأكيد هذه الآية القرآنية ... فيتهم هو أيضًا النساخ بتحريف الكتاب المقدس... بل وبضياع نصوصه للأبد ..!


هذا وسنقوم بمشيئة الله بنشر الكتاب في هذا المنتدى المبارك فصلا بعد آخر على حلقات .


معلومات عن الكتاب:

اسم الكتاب في لغته الأصلية هو:

Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why

والكتاب كان أفضل الكتب مبيعا في أمريكا في عام نشره حسب صحيفة النيويورك تايمز .



تعريف بالمؤلف:

http://www.us.oup.com/us/companion.websites/ehrman/Images/EhrmanPhoto.jpg


بارت إيرمان أحد علماء العهد الجديد و متخصص في تاريخ القرون الأولى أي الفترة المبكرة للديانة المسيحية . وقد حصل على درجتي الدكتوراه في الفلسفة و الأستاذية في اللاهوت من معهد برينستون اللاهوتي التعليمي حيث درس على يد العلّامة "بروس ميتزجر" .

وهو حاليا يعمل كعميد لقسم الدراسات الدينية بجامعة نورث كارولينا في تشابيل هيل. وقد كان عميدا للمنطقة الجنوبية الشرقية لجمعية أدب الكتاب المقدس، و عمل كمحرر لعدد من نشرات الجمعية . وهو الآن مؤلف مشارك لسلسلة من أدوات ودراسات العهد الجديد.

كثير من مؤلفات إيرمان كانت تتمركز حول الأوجه المتعددة لفرضية "والتر باور" التي تفترض أن الديانة المسيحية كانت على الدوام منقسمة على نفسها . وقد اعتبر إيرمان دوما رائدًا في علاقة تاريخ الكنيسة المبكرة بالقراءات المتباينة الموجودة في ثنايا مخطوطات الكتاب المقدس و في صياغة مصطلح "مسيحية عصر ما قبل الأرثوذكسية".

فقد كان إيرمان يدندن ، في كتاباته، حول النقد النصِّي . فمنذ عصر آباء الكنيسة ، ظل الهراطقة (مرقيون على سبيل المثال) يواجهون اتهامات حول العبث بمخطوطات الكتاب المقدس. يطرح إيرمان في مؤلفاته نظريته حول أن المسيحيون الأرثوذكس هم في أغلب الأحوال من " أفسدوا " المخطوطات ،عبر تحريفهم النص ، تدعيما لوجهات نظر معينة. وقد قام بتأليف و المساهمة في إصدار تسعة عشر كتابا.

وإيرمان لديه طفلين ، بنتٌ تسمى كيلي ، و ولد اسمه ديريك . وهو متزوج من سارة بيكويث (دكتوراه في الفلسفة من الكلية الملكية في لندن) ، وأستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة دوك.
أصبح إيرمان في سن المراهقة مسيحيا إنجيليا. و التحق بمعهد مودي لدراسة الكتاب المقدس و كلية ويتون (حصل على البكالوريوس عام 1978 ). رغبته في التعرف على كلمات الكتاب المقدس الأصلية قادته إلى علم النقد النصي ،الذي بدوره ضعضع إيمانه بالكتاب المقدس ككلمة الله المنزَّهة عن الخطأ . إيرمان في الوقت الحاضر يعتبر نفسه "لا أدريًّا".



مؤلفات بارت إيرمان:



• Ehrman, Bart (2006). The Lost Gospel of Judas Iscariot: A New Look at Betrayer and Betrayed. Oxford University Press, USA.




• Ehrman, Bart (2006). Peter, Paul, and Mary Magdalene: The Followers of Jesus in History and Legend. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2005). Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why. HarperSanFrancisco.

• Metzger, Bruce M.; Ehrman, Bart (2005). The Text of the New Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2004). Truth and Fiction in The Da Vinci Code: A Historian Reveals What We Really Know about Jesus, Mary Magdalene, and Constantine. Oxford University Press, USA .

• Ehrman, Bart (2004). A Brief Introduction to the New Testament. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2003). The Lost Christianities: The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2003). The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart; Jacobs, Andrew S. (2003). Christianity in Late Antiquity, 300-450 C.E.: A Reader. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume II. Epistle of Barnabas. Papias and Quadratus. Epistle to Diognetus. The Shepherd of Hermas. Harvard University Press.

• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume I. I Clement. II Clement. Ignatius. Polycarp. Didache. Harvard University Press.

• Ehrman, Bart (2003). The New Testament and Other Early Christian Writings: A Reader. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (2003). Lost ******ures: Books that Did Not Make It into the New Testament. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (1999). Jesus: Apocalyptic Prophet of the New Millennium. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (1998). After the New Testament: A Reader in Early Christianity. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (1996). The Orthodox Corruption of ******ure: The Effect of Early Christological Controversies on the Text of the New Testament. Oxford University Press, USA.

• Ehrman, Bart (1987). Didymus the Blind and the Text of the Gospels (The New Testament in the Greek Fathers; No. 1). Society of Biblical Literature.










يتبع

نور الإسلام
05-02-2012, 11:23 AM
إهداء إلى بروس ميتزجر

http://img516.imageshack.us/img516/5029/image001qq0.jpg

تمهــــــيد


كان موضوع هذا الكتاب يدور في عقلي ، ربما أكثر من أي شئ كتبت عنه ، خلال الثلاثين عامًا الماضية ، وذلك منذ أن كنت في أواخر سني مراهقتي ومنذ أن كنت أخطو خطواتي الأولى في دراسة العهد الجديد.ولأن هذا الموضوع كان جزءًا منِّي لفترة طويلة، فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان شخصي للأسباب التي جعلت هذه المادة ،وما تزال،شديدة الأهمية بالنسبة إلي.
هذا الكتاب يدور حول مخطوطات الكتاب المقدس و الاختلافات الموجودة فيها،وحول النساخ الذين نسخوا الأسفار وحرفوها أحيانًا. ربما لا يبدو ذلك أمرًا متوقعًا كمدخل إلى السيرة الذاتية لشخص ما،لكنه كذلك في حالتي تلك. لا يملك الإنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه الأمور.لكن قبل توضيح كيف ولماذا كانت مخطوطات العهد الجديد تمثل شيئا مختلفًا تمامًا عاطفيًًّا وفكريًّا بالنسبة إلي ،وإلى إدراكي لذاتي،وللعالم الذي أحيا فيه،ولأفكاري حول الإله،وحول الكتاب المقدس،ينبغي أن أحكي بعض الخلفيات عن شخصيتى. وُلدتُ وترعرعت في مكانٍ وزمانٍ محافظين ـــــ في قلب البلاد، وبداية منتصف الخمسينات.نشأتي لم تشهد شيئا غير عادي.كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من خمس أفراد،من المترددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي.بدءًا من العام الذي كنت فيه في الصف الدراسي الخامس انضممت إلى الكنيسة الأسقفية في لورنس،بولاية كينساس،التي كان يرأسها قسيس طيب وحكيم، تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا لأحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد معه في متاعب أثناء المدرسة العليا المتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخين السجائر).

مثل كثير من الكنائس الأسقفية،هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها في نظر المجتمع .كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ،وكان الكتاب المقدس جزءا من هذه الطقوس.لكن الكتاب المقدس لم يكن محط الاهتمام الكامل:لقد كان الكتاب المقدس آنذاك واحدًا من الطرق إلى الإيمان والعمل ،إلى جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة .لم نكن نتكلم في الواقع عن الكتاب المقدس كثيرًا،ولم نكن نقرأه كثيرًا،حتى في فصول مدارس الأحد،التي كان تركيزها الأكبر على القضايا العملية والاجتماعية ،وعن الكيفية التي ينبغي أن نعيش بها في العالم.لكن الكتاب المقدس استحوذ على مكانة عظيمة في بيتنا،خاصة بالنسبة لأمي،التي كانت تقرأ لنا منه أحيانًا وتعمل على أن تتأكد من أننا نفهم قصصه وتعاليمه الأخلاقية(و"عقائده"بدرجة أقل) . حتى قبل سنوات دراستي في المدرسة الثانوية،أفترضُ أنني كنت أرى في الكتاب المقدس كتابًا غامضًا له بعض الأهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد لم يكن شيئا مستحقًا لأن يتم تعلمُه ومدارسته.لقد كان الكتاب المقدس يمثل للدين إحساسًا بالأصالة والقِدَم وكان بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل لا يقبل الانفصام بالإله والكنيسة والعبادة . إلى الآن،لم أر أي مبرر يدفعني لقراءته من تلقاء نفسي أو لإتقانه.لكن الأمور تغيرت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت في السنة الثانية في المدرسة الثانوية.لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة "الميلاد مرة ثانية" في محيطٍ شديدِ الاختلافِ عن محيط الكنيسة في مدينتي . لقد كنت نموذجًا للولد "المتزمت"ـــ فأنا طالب صالح،مهتم ومشارك في الرياضات المدرسية لكن ليس لدرجة النبوغ في واحدة منها ،مهتم ومشارك في الحياة الاجتماعية ولكني لست منتميًا إلى الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية في المدرسة. أتذكر شعورًا بنوع من الفراغ الداخلي بلغ درجةً لم يستطع أي شئ ملأه ـــ لا التسكع مع الأصدقاء (كنا بالفعل قد أدمنا جلسات جماعية للشراب في الحفلات)،ولا أخذ المواعيد الغرامية(بدأنا في دخول عالم الجنس شديدالغموض )، ولاالدراسة (كنت أذاكر بجد و أبليت بلاءا حسنًا لكن لم أكن نجمًا فوق العادة)، ولا العمل(كنت مندوبًا للمبيعات لحساب شركة تبيع المنتجات لفاقدي البصر)،ولا الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي يجب أن يكون في صباح كل أحد معترفًا بكل شئ حدث في ليلة كل سبت).كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب في مرحلة المراهقة ؛لكنني، بالطبع،لم أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت أن شيئًا لابد وأنه ينقصني.حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة الحياة الجامعية التابعة لنادي المسيح ؛ التي كانت تجري في بيوت الشباب ــــ أول لقاء حضرته كان حفلة في حديقة منزل (yard Party) لأحد الشباب وكان وسيمًا ومحبوبًا ،وهذا ما جعلني أظن أن المجموعة ستكون رائعة.قائد المجموعة كان في العشرينات من عمره يسمى "بروس" و كان يقيم هذا النوع من الحفلات لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل المسيح التي يتم تنظيمها على النطاق المحلي أن تحول شباب المدارس الثانوية إلى "مولودين مرة أخرى" ثم بعد ذلك إشراكهم في دراسات جادة للكتاب المقدس،واجتماعات للصلاة،وما إلى ذلك . كان لبروس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من آبائنا و أكثر خبرة منا ـــ ولديه رسالة قوية،وهي أن الفراغ الذي نحسه داخلنا (كنا مراهقين! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود "يسوع" في قلوبنا .ولو طلبنا فقط من "يسوع" أن يدخل،فسيدخل ويملأ حياتنا بالبهجة والسعادة التي يعرفها فقط "الحاصلون على الخلاص" . كان باستطاعة "بروس" أن يستحضر ما شاء من الاقتباسات من الكتاب المقدس في أي وقت،وكان يفعل ذلك بصورة مذهلة .ولشعوري بالتوقير تجاه الكتاب المقدس ،مع جهلي به، كان الأمر يبدو مقنعًا بكل ما في الكلمة من معنى.ولقد كان الأمر هنا مختلفًا عما كنت أشعر به تجاه الكنيسة التي كانت تستخدم طقوسًا قديمة ولذلك بدت ملائمة أكثر لبالغين عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن المتعة وروح المغامرة،وأيضًا يشعرون في ذواتهم بالفراغ.بالمختصر المفيد،تعرفت في النهاية ب"بروس"،و قبلت رسالته الخلاصية ،وطلبت من المسيح أن يدخل إلى قلبي، ومررت عن طيب خاطر بتجربة الميلاد مرة أخرى.لقد ولدت في الواقع قبل ذلك بخمسة عشر عامًا،لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة في نظري. وجعلتني أبدأ رحلة إيمان مستمرة شهدت تحولات ومنعطفات كثيرة ،انتهت بنهاية مميتة برهَنَتَْ على أنها،في الواقع،طريق جديدة سلكتها في ذلك الوقت، تجاوزت الآن ما يزيد عن ثلاثين سنة.هؤلاء اللذين مروا بتجربة الولادة من جديد من بيننا يظنون أنفسهم المسيحيين"الوحيدين"ــــ عكس هؤلاء اللذين يذهبون إلى الكنيسة بشكل روتيني ،اللذين ليس لديهم المسيح حقًيقةً في قلوبهم ولذلك يذهبون إلى الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح.إحدى الطرق التي تجعلنا مختلفين عن هؤلاء الآخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب المقدس والصلاة . وخاصة دراسة الكتاب المقدس. بروس نفسه كان دارسًا للكتاب المقدس.فقد كان يدرس في معهد "مودي" للكتاب المقدس في شيكاغو وكان باستطاعته أن يقتبس جوابًا من الإنجيل لأي سؤال نفكر فيه(بل ولكثير من الأسئلة التي لم نكن لنفكر فيها على الإطلاق).أحسست سريعًا بالغيرة تجاه هذه القدرة على الاقتباس من الكتاب المقدس وانخرطت أنا أيضًا في حلقات لدراسة الكتاب المقدس ،درست بعض النصوص،فهمت مناسباتهم،وحتى حفظت الآيات الرئيسية .أقنعني بروس أنني يجب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا "جادًا" وأن أكرس نفسي بالكامل للإيمان المسيحي.هذا كان يعني أن أدرس الكتاب المقدس بالكامل في معهد "مودي" للكتاب المقدس،الذي كان،من بين أمور أخرى عديدة،يمثل تغييرًا جذريًا لنمط حياتي.في معهد "مودي" هناك "قانون" أخلاقي يجب على الطلاب أن يمتثلوه:لا خمر،لا تدخين،لا رقص،لا قمار،لا أفلام.بل كثير بما فيه الكفاية من الكتاب المقدس . كنا معتادين على ترديد:"معهد مودي للكتاب المقدس ،حيث الكتاب المقدس هو ما يميزنا."أظن أنني نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدريبي ذي نظامٍ قاسٍ.في كل مناسبة،قررت أن أتعامل مع إيماني بجدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق لمعهد "مودي"،التحقت به،وذهبت إلى هناك في خريف 1973.لقد كانت تجربة معهد "مودي" تجربة قوية.قررت أن أتخصص في اللاهوت الكتابي،وهو ما كان يعني الحصول على الكثير من دروس الكتاب المقدس ودورات اللاهوت النظامي.وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها في هذه الدورات،صدق عليها كل الأساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطلاب (وقد فعلنا الشئ ذاته):الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة.ليس به أية أخطاء.أوحاه الله وكل كلمة من كلماته ــــ "وحيًا شفويًا،كاملاً."

كل الدورات العلمية التي حصلت عليها تفترض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إلا وجهة نظر مضلِّلَة أو حتى هرطوقية.البعض،فيما أظن،سيسمي ذلك عملية غسيل مخ.بالنسبة إليَّ،كان ذلك"ارتقاءا" هائلاً عن وجهة النظر الخجولة تجاه الكتاب المقدس التي كنت أعتنقها باعتباري عضوًا تقليديٍّا في الكنيسة الأسقفية في ريعان شبابي. هذه هي المسيحية الواضحة ،التي تناسب الملتزمين التزامًا كاملاً. إلا أنه كان هناك إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب المقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا لكلماته نفسها . فكما تعلمنا في معهد "مودي" في واحدةٍ من الدورات الأولى للمنهج الدراسي،ليس لدينا بالفعل النصوص الأصلية للعهد الجديد.ما بحوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات،كتبت بعد ذلك بسنين ـــ بل بعد ذلك بمئات السنين ،في الغالب الأعم. فوق ذلك،ليس بين هذه النسخ نسخة صحيحة بالكامل ،حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و/أو عن قصد بتغييرها عن مواضعها. كل النساخ فعلوا ذلك.ولذلك بدلا من امتلاك كلمات المخطوطات الموحى بها فعليًا(أي الأصول)،ما لدينا هو نسخ مليئة بالأخطاء (errorridden) من تلك الأصول. لذلك، كان التحقق مما قالته أصول الكتاب المقدس إحدى أكثر المهام إلحاحًا ، مع وضع الظروف التالية في الاعتبار (1) أنها موحى بها (2)أننا لا نمتلكها . يجب أن أذكر أن كثيرًا من أصدقائي في "مودي" لم يروا أن هذه المهمة تستحق كل هذه الاهتمام أو العناء.كانوا سعيدين بالركون إلى الزعم بأن الأصول كانت من الوحي،وبتجاهل أن الأصول ،إن بشكل أكبر أو أقل، لم يعُد لها وجود. بالنسبة إليَّ،على الرغم من ذلك،كانت هذه مشكلة قهرية .لقد كانت هذه هي كلمات الكتاب المقدس ذاتها التي كان الرب قد أوحاها.وبالتأكيد كان من الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان الله يريد أن يتواصل معنا،مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته،ووجود بعض الكلمات التي كتبها الآخرون(أي التي أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن تساعدنا كثيرًا لو أردنا أن نعرف كلماته . هذا ما جعلني مهتمًا بمخطوطات العهد الجديد في ذلك الوقت حينما كنت في الثامنة عشر من عمري. في معهد "مودي"،تعلمت الأساسيات في ميدان "النقد النصي" ـــ وهو مصطلح علمي يقصد به علم استعادة الكلمات "الأصلية" لنص ما من مخطوطاته التي تم العبث بها. إلا أنني حتى ذلك الوقت لم أكن مؤهلاً بعد للتعامل مع هذا العلم .أولاً كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ،لغة العهد الجديد الأصلية،وربما لغات قديمة أخرى مثل العبرية(لغة العهد القديم حسب المصطلح المسيحي) واللاتينية، بالإضافة إلى اللغات الأوروبية الحديثة مثل الألمانية والفرنسية ،من أجل لاطلاع على ما قاله العلماء الآخرون بخصوص هذه القضايا . لقد كان الطريق أمامي طويلا . في نهاية الثلاث سنوات التي قضيتها في معهد "مودي"( كانت الدبلومة مدتها ثلاث سنوات)،كنت قد أبليت بلاءًا حسنًا في مقرراتي الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبتي أن أصبح عالمًا مسيحيًا.كان تصوري في ذلك الحين أنَّ ثمة وفرة في العلماء الحاصلين على تعليم عال بين المسيحيين الإنجليين،لذلك أردت أن أصبح "صوتًا" للإنجيليين داخل الدوائر العلمانية،عبر الحصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم بالتدريس في المحيطات العلمانية في الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي الدينية الإنجيلية. أولاً ،كان يلزمني الحصول على درجة البكالوريوس،ولكي أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات الإنجيلية الأعلى مقامًا.وقع اختياري على "ويتون كوليدج"، الواقعة في إحدى ضواحي شيكاغو. في "مودي" تلقيت تحذيرات بخصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيين حقيقيين في "ويتون" ــ وهو ما يكشف حجم التطرف في "مودي": فـ"ويتون" كانت مفتوحة فقط أمام المسيحيين الإنجيليين وقد تخرج منها بيلي جراهام ،على سبيل المثال . في البداية وجدتها أكثر تحررًا ولو قليلا بالمقارنة مع ما أؤمن به .كان الطلاب يتحدثون عن الأدب، والتاريخ،والفلسفة أكثر من الحديث عن الوحي الشفوي للكتاب المقدس. كانوا يفعلون ذلك من منظور مسيحي،ولكن بغض النظر عن ذلك:ألم يلاحظوا بالفعل أهمية هذا الأمر (أي الوحي الشفوي)؟

قررت أن أتخصص في الأدب الإنجليزي في جامعة "ويتون"،حيث كانت القراءة إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إلى الدوائر العلمية ، فسيكون عليَّ أن أصبح واسع الاطلاع في مجالٍ من مجالات العلم بخلاف الكتاب المقدس. قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية. في ذلك الوقت ، وخلال فصلي الدراسي الأول في "ويتون" ،التقيت الدكتور "جيرالد هاوثورن" ،أستاذي في اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر الأشخاص تأثيرًا في حياتي كعالم ،وكأستاذ،و،أخيرًا ،كصديق . كان "هاوثورن" ،تماما مثل معظم أساتذتي في "ويتون"، مسيحيًا إنجيليًا ملتزمًا.لكنه كان لا يخشى من أن يُخْضِع إيمانه للأسئلة . في حينه، وجدت في ذلك علامة على الضعف (في الحقيقة،كنت أعتقد أنني تقريبًا أمتلك جميع الأجوبة عن أسئلته)؛في النهاية رأيت فيه التزامًا حقيقيًا بمقتضيات الحقيقة و رأيت فيه استعدادًا للانفتاح على إمكانية أن تكون أراء الإنسان في حاجة للمراجعة في ضوء اتساع المعرفة وخبرات الحياة. كان تعلم اليونانية تجربة مثيرة بالنسبة لي. وحينما انتهت دراستي ،كنت جيدًا للغاية في أساسيات اللغة وكنت على الدوام طامحًا إلى المزيد.وفي مرحلة أكثر عمقًا، أصبحت تجربة تعلم اللغة اليونانية إلى حدٍ ما مجهدة لي ولنظرتي للكتاب المقدس.ثم صرت أرى في مرحلة مبكرة أن المعنى الكامل للنص اليوناني للعهد الجديد لا يمكن التعرف عليه إلا عندما نقرأه وندرسه في لغته الأصلية (الأمر نفسه ينطبق على العهد القديم،كما عرفت فيما بعد عندما تعلمت العبرية).وكل هذا كان يدعم ، حسب ما كنت أعتقد ، اتجاهي لتعلم اللغة على نحوٍ أعمق . في الوقت ذاته،جعلني ذلك أشك في مفهومي عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المنزلة حرفيًّا. وإذا كان المعنى الكامل لكلمات الكتاب المقدس لا يمكن الحصول عليه إلا عبر دراسة الكتاب المقدس باللغة اليونانية(والعبرية)،ألا يعني ذلك أن معظم المسيحيين ،اللذين لا يعرفون اللغات القديمة،لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إلى معرفة ما أراد الله منهم أن يعرفوه؟ ألا يجعل هذا من عقيدة الوحي مجرد عقيدة ملائمة فقط للنخبة واسعة الإطلاع ، ممن يمتلكون المهارات الفكرية و الفراغ اللازمين لتعلم اللغات ودراسة النصوص عبر قراءتها بلغتها الأصلية؟ما الفائدة التي نتحصل عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من الله ما دام غالبية الناس لا يعرفون سبيلا إلى هذه الكلمات على الإطلاق ،وإنما بإمكانهم الاطلاع فحسب على ترجمات أكثر أو أقل إتقانًا لهذه الكلمات إلى لغة ليس لها أيُّ علاقة بالكلمات الأصلية،مثل الإنجليزية ؟ (1)

كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكير على نحوٍ متزايد في المخطوطات التي تحوي الكلمات.كلما تعمقت في دراسة اليونانية،كلما صرت أكثر اهتمامًا بالمخطوطات التي تحتفظ لنا بالعهد الجديد،وبعلم النقد النصي،والذي من المحتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا في استعادة الكلمات الأصلية للعهد الجديد على صورتها التي كانت عليها . وكنت دئاما أعود إلى سؤالي الأساسي:كيف يمكن للقول إن إن الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة أن يساعدنا لو كنا في الواقع لا نمتلك تلك الكلمات المعصومة التي أوحاها الله ،وإنما الكلمات التي نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا وبطريقة غير صحيحة أحيانًا أخرى(كثيرة)؟ ما الفائدة المرجوة من القول إن الأصول كانت موحى بها؟ نحن لا نمتلك الأصول! ما نمتلكه هو نسخ محرفة ،والأغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنين عن الأصول وهي تختلف عنها،بوضوح،في آلاف المواضع . اجتاحتني هذه الشكوك ودفعتني إلى التنقيب بتعمق أكبر،بغية الوصول إلى فهم أوضح للحقيقة التي كان عليها الكتاب المقدس . أنهيت دراستي في "ويتون"في عامين وقررت،بتوجيهاتٍ من الأستاذ هاوثورن،أن أتخصص في النقد النصي للعهد الجديد بالاتجاه إلى الدراسة تحت إشراف الخبير ذي الشهرة العالمية في هذا الميدان ،العالم بروس .م. ميتزجر ، الذي كان يقوم بالتدريس في معهد "برينستون" اللاهوتي. مرة أخرى حذرني أصدقائي من الإنجيليين من الالتحاق بـمعهد "برينستون"،لأنه،كما قيل لي،سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيين "حقيقيين"هناك. لقد كان معهدبرينستون ،رغم هذا ،معهدًا مشيخيًا ،لكنه لم يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور المسيحيين المولودين مرة أخرى. كانت دراستي للأدب الإنجليزي،والفلسفة،والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت آفاقي بشكل كبير ،وأصبحت أجد متعتي الآن في المعرفة ،المعرفة بكافة أشكالها،الدينية والدنيوية . ولو أن معرفة "الحقيقة"تعني أن لا أكون بعدُ من المسيحيين المولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم في الثانوية ،فليكن ما يكون . كنت أنوي أن أواصل بحثي عن الحقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني إليه، وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها لا يقلل من قيمتها كونها غير متوقعة أو كونها تتلائم بصعوبة مع التصنيفات التي تضعها خلفيتي الإنجيلية . عند وصولي إلى معهد "برينستون" اللاهوتي ،التحقت سريعًا بفصول السنة الأولى للتفسير باليونانية والعبرية،وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع بمثل هذه الدروس.وجدت في هذه الفصول تحديًا ،على المستويين العلمي والشخصي . أما التحدي على المستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل،لكنَّ التحديات الشخصية التي واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية العاطفية. فكما أشرت،كنت بالفعل قد بدأت في "ويتون" في الشك في بعض المظاهر الأساسية في التزامي نحو الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة من الخطأ.هذا الالتزام كان عرضة لتهديدات جدية خلال دراستي التفصيلية في "برينستون" . لقد قاومت كل محاولة لتغيير وجهات نظري،ووجدت عددًا من الأصدقاء،القادمين،مثلي، من مدارس إنجيلية محافظة وكانوا يحاولون أن "يحافظوا على الإيمان "(وهي طريقة مثيرة للضحك لوضع الإيمان في برنامج مسيحي لاهوتي ،أي التمسك بالماضي حيث كنا ، على الرغم من كل ما يتناقض مع ذلك من مؤشرات ). لكنَّني بدأت أنشغل بدراساتي . وجاءت نقطة التحول في الفصل الدراسي الثاني ،خلال دورة كنت أحضرها تحت إشراف أكثر الأساتذة تقديرا وتدينا وكان اسمه "كولين ستوري".وقد كانت الدورة حول تفسير إنجيل مرقس، وكان إنجيلي المفضل حينها (وما يزال). وقد كان يُشْتَرَطُ فينا لحضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إنجيل مرقس كاملا باللغة اليونانية(حفظت كلمات الإنجيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من بداية الفصل الدراسي):كان علينا أن نحتفظ بدفتر ملاحظات تفسيرية نسجل فيها انطباعتنا حول تفسير الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش المشكلات المتعلقة بتفسيرات النصوص،وكان ينبغي علينا أن نكتب مقالا في نهاية الفصل الدراسي حول إشكال تفسيري نختاره نحن . وقد اخترت الفقرة في مرقس 2 ،حيث يتصدى الفريسيون ليسوع لأن تلامذته كانوا يمشون عبر أحد الحقول،وكانوا يأكلون من السنابل في يوم السبت.كان يسوع يريد أن يبيِّن للفريسيين أن"السبت جعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت"ولذلك ذكَّرهم بما كان الملك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله بالجوع،و كيف أنهم قد دخلوا إلى الهيكل "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر"وأكلوا من خبز التقدمة،الذي كان مخصصًا للكهنة فقط . إحدى الإشكاليات الشهيرة في الفقرة هي عندما ينظر الإنسان إلى الفقرة التي استشهد بها يسوع من العهد القديم (1 صمويل 21 : 6 )، يتضح أن داوود لم يفعل ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن الأعظم ،وإنما عندما كان أخيمالك والد أبيثار هو الكاهن . بطريقة أخرى ،هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات التي يشار إليها لبيان أن الكتاب المقدس ليس معصومًا من الخطأ على الإطلاق ، بل يحوي أخطاءًا. في ورقتي التي قدمتها إلى الأستاذ "ستوري"،طورت فكرة جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشير إلى حدوث ذلك "حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر،" فإن هذا لا يعني في الحقيقة أن أبيثار كان هو الكاهن الأعظم ،وإنما المعنى هو أن هذا الحدث وقع في هذا الجزء من النص الكتابي الذي يعتبر فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية .كانت فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية المشار إليها هو معنى معقد إلى حد ما. كنت على يقين لا يتزعزع أن الأستاذ"ستوري" سيثني على هذه الرؤية الجدلية ،حيث إنني أعلم أنه عالمٌ مسيحيٌّ صالحٌ وهو بالتأكيد (مثلي) لا يمكن أن يفكر مطلقًا في أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب المقدس. لكنه كتب في نهاية بحثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر فيّ كثيرًا لأسباب عدة. فقد كتب يقول:"ربما مرقس وقع في خطأ."
بدأت أفكر في هذا التعليق،وفي كل العمل الذي قدمته في البحث،وفهمت أنني كان من المفترض أن أقوم ببعض المناورات التفسيرية الوهمية للالتفاف حول المشكلة ،وأن الحلَّ الذي اقترحته في الحقيقة كان ممطوطًا إلى حدٍ ما . في النهاية وصلت لنتيجة:"...ربما مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا."

وما أن كتبت هذا الاعتراف،حتى زالت السدود.لأنه لو كان ثمة خطأٌ واحدٌ صغيرٌ وتافهٌ في مرقس 2 ،فربما يوجد أخطاءأخرى في أماكن أخرى أيضًا. فعندما سيقول يسوع بعد ذلك في مرقس 4 إن بذرة الحنطة هي"أصغر كل بذور الأرض،"فربما ليس بي حاجة أن أوافق على تفسيرٍ وهميٍّ حول كيف أن حبة الحنطة هي الأصغر بين كل البذور ، في الوقت الذي أعلم تمامًا أنَّ هذا ليس صحيحًا .وربما ينطبق أمر هذه الأخطاء على قضايا أكثر أهمية. فمن المحتمل أنه حينما يقول مرقس إن يسوع صلب في اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس 14 : 12 ،15:25) وحينما يقول يوحنا إنه مات في اليوم السابق لتناوله إياه(يوحنا 19 :14)ــــ ربما كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا . أو عندما يشير لوقا في حكايته لقصة ميلاد يسوع أن يوسف ومريم عادا إلى الناصرة بعد مايزيد عن شهر بالتمام من مقدمهم إلى بيت لحم (وتأديتهم لطقوس التطهير ؛لوقا 2 :39 )،في الوقت الذي يشير متى إلى أنهم هربوا بدلا من ذلك إلى مصر (متى 2: 19-22) ـــ ربما يكون هذا تناقضًا آخر . و حينما يقول بولس إنه بعد أن آمن على الطريق إلى دمشق لم يذهب إلى أورشاليم لكي يرى هؤلاء اللذين كانوا رسلاً من قبله(غلاطية 1 :16-17)،في الوقت الذي يقول سفر الأعمال أن ذلك كان عمله الأول بعد مغادرته دمشق (الأعمال 9 :26) ـــ فربما يكون هذا تناقضًا آخر.هذا النوع من الفهم تواكب مع المشكلات التي كنت أواجهها كلما درست بعناية أكبر مخطوطات العهد الجديد الموجودة.ليس أمامنا سوى أن نقول إن الأصول كانت منزلة من قبل الله ،لكنَّ الحقيقة هي أننا لا نملك هذه الأصول ـــــ ولذلك، القول إنها كانت موحى بها لا يساعدنا كثيرًا،إلا إذا استطعت إعادة بناء الأصول. زد على ذلك أن الغالبية الساحقة من المسيحيين لم يسمح لهم بالوصول إلى الأصول طوال تاريخ الكنيسة كاملا ولم يسمح لهم بوضع مسألة المصدر الإلهي لهذه الأصول موضع نقاش .بل إن الأمر لا يقتصر على فقدان الأصول، بل نحن لا نملك أيضًا النسخ الأولى من الأصول. بل نحن لا نملك أي نسخٍ حتى الجيل الثالث منها .ما نملكه هو نسخ كتبت في وقت متأخرـــ متأخر للغاية.على أحسن تقدير،كانت نسخًا كتبت بعد ذلك بقرون كثيرة . وهذه النسخ تختلف جميعها من واحدة لأخرى،في مواضع كثيرة تُعَدُّ بالآلاف. وهذه النسخ ، كما سنرى فيما بعد في هذا الكتاب، تختلف بعضها عن بعض في مواضع كثيرة للغاية إلى درجة أننا حتى لا نعرف عدد الاختلافات الموجودة . وللتسهيل يمكننا أن نضعها على هيئة مقارنات: عدد الاختلافات بين مخطوطاتنا كبيرٌ على نحوٍ يفوق عدد كلمات العهد الجديد . معظم هذه الاختلافات لاقيمة لها وغير ذات أهمية . وقسم كبير منها يبين لنا ببساطة أن النسَّاخ في القديم كانت مقدرتهم على الاستهجاء ليست بأفضل حالا من مقدرة الناس في أيامنا هذه (بل لم يكن لديهم حتى معاجم،ناهيك عن مصحِّحٍ إملائي). رغم ذلك،ما هو سبب كل هذه الاختلافات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى كلمات الكتاب المقدس ،فما الفائدة من ذلك إذا كنا لا نمتلك بالفعل كلمات الكتاب المقدس الأصلية ؟

في بعض المواضع ،كما سنرى، لا يمكننا أن نصل إلى درجة من اليقين تخولنا أن نقول إننا أعدنا بناء النص الأصلي على نحوٍ دقيق. إن معرفة ما تعنيه كلمات الكتاب المقدس لهو أمر عسير إذا كنا لا نعرف حتى ماهية هذه الكلمات !

تحول هذا الأمر إلى مشكلة في وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق بالوحي،لأنني وصلت إلى الاقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب المقدس هو أسهل على الله من قدرته على الإيحاء بها بدايةً .ولو كان الله يريد أن تصل كلماته إلى شعبه ،فبالتأكيد سيعطيهم إياها(وربما سيعطيهم إياها في لغة يمكنهم فهمها،وليس في اللغة العبرية أو اليونانية). حقيقةُ أننا لا نمتلك هذه الكلمات يجب أن تؤكد لنا ،حسب ما كنت أعتقد ،أنه لم يحفظ هذه الكلمات من أجلنا. وإذا لم يكن قد صنع هذه المعجزة (أي حفظ الكتاب)،فيبدو أنه ليس هناك مبررٌ يجعلنا نعتقد أنه صنع المعجزة الأولى التي هي إنزال هذه الكلمات كوحي.

باختصار،تعلُّمي للغة اليونانية ودراستي للمخطوطات اليونانية،أدت بي إلى إعادة النظر بصورة جذرية في مفهومي لماهية الكتاب المقدس.كان ذلك تغييرًا مزلزلا بالنسبة إلي . قبل ذلك ـــ منذ بداية تجربة الميلاد مرة ثانية التي مررت بها في المدرسة العليا،مرورًا بأيام تزمتي الديني في معهد "مودي"،و الذي استمرَّ وصولا إلى أيامي التي عشتها كإنجيليٍّ في معهد "ويتون"ـــ كان إيماني مبنيًا بالكامل على نظرة يقينية إلى الكتاب المقدس باعتباره كلمة الرب الموحى بها والمعصومة تماما من الخطأ . الآن ما عدتُ أرى الكتاب المقدس على هذا النحو . بدأ الكتاب المقدس يبدو لي ككتاب بشري تماما .فكما دوَّن النساخون المنتمون إلى بني البشر نصوص الكتاب المقدس و حرَّفوها ،فكذلك وبالطريقة ذاتها دونت نصوص الكتاب المقدس منذ البداية بمعرفة مؤلفين من بني البشر. لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإلى النهاية.كتبه مؤلفون متنوعون من البشر في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة تلبيةً لحاجات مختلفة. كثيرٌ من هؤلاء المؤلفين بلا شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل الله لقول ما حدث ،لكنهم كان لهم آراؤهم ،ومعتقداتهم ،ورؤاهم ،وحاجاتهم ،و رغباتهم و،مفاهيمهم ،وعقائدهم اللاهوتية الخاصة. وهذه الآراء،والعقائد،ووجهات النظر،والحاجات،والرغبات،والمفاهيم ،والعقائد اللاهوتية أملت عليهم كلَّ شئ قالوه. لقد كانوا مختلفين في كل هذه الأمور.ومن بين أمور أخرى، كان هذا يعني أن مرقس لم يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ، وذلك لأنه لم يكن يقصد الشئ ذاته الذي يقصده لوقا. يوحنا يختلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا . بولس في رسائله يختلف عن بولس الموجود في الأعمال.ويعقوب يختلف عن بولس. كلُّ مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ، وهو بحاجة إلى أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض أنهم جميعًا من البشر)من أجل ما يجب عليه أن يقوله ،وليس عبر الافتراض أن ما يكتبه هو الشئ ذاته،أو متطابق مع،ملائم لما يجب أن يكتبه كلُّ مؤلف آخر. الكتاب المقدس ،في النهاية، هو كتابٌ بشريٌّ. كانت هذه الرؤية جديدة عليّ ،ومن الواضح أنها لم تكن الرؤية ذاتها التي كنت أعتنقها أبَّان كوني مسيحيًا إنجيليًا ـــ ولا هي الرؤية التي يعتنقها الغالبية من المسيحيين الإنجيليين اليوم. اسمحوا لي أن أقدم مثالا للتباين الذي اتسمت به رؤيتي المغايرة للكتاب المقدس. عندما كنت في معهد "مودي"،كان كتاب ،كوكب الأرض العظيم الراحل،لهال ليندسيي Hal Lindsey عن التخطيط الرؤوي apocalyptic لمستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا في الجامعة. كان كتاب ليندسي هو الأكثر رواجًا ليس فقط في "مودي"،بل إنه كان ،في الحقيقة،العمل الأكثر مبيعًا بين الأعمال المنبنية على حقائقwork of nonfiction (بالإضافة إلى الكتاب المقدس؛واستخدام مصطلح "المنبني على حقائق" هو استخدام فضفاض بعض الشئ) المكتوبة باللغة الإنجليزية في السبعينات.كان ليندسي يؤمن ،مثلنا حينما كنا في مودي، بأن الكتاب المقدس معصومٌ بشكل مطلق من الخطأ في كل كلمة من كلماته،إلى درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد الجديد وأن تعرف الكيفية التي يريدك الرب أن تعيش من خلالها ،و ليس ذلك فحسب ،بل ما يريدك أن تؤمن به،بل و أن تعرف أيضًا ما كان الله ذاته يخطط لأن يفعله في المستقبل وكيف كان سيفعله. كان العالم متجهًا نحو أزمة رؤوية ذات أبعاد كارثية ،وكانت كلمات الكتاب المقدس المنزهة عن الخطأ يمكن قراءتها لإظهار ماهية ،وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك. لقد كنت متيمًا بشكل خاص بال"توقيت". أشار ليندسي إلى مثل شجرة التين الذي ضربه يسوع كعلامة على التوقيت الذي يمكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة هرمجدون المستقبلية . كان تلاميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحين لحظة "النهاية" ويسوع يجيبهم:

فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.(متى 24 :32-34).
ماذا يعني هذا المثل؟ يحلل ليندسي رسالتها،معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته المعصومة من الخطأ، عبر الإشارة إلى أن "شجرة التين" في الكتاب المقدس كثيرًا ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل. ماذا يعني أن تخرج أغصانها؟ هذا سيعني أن الشعب بعد أن يدخل في بيات فَصْلِيّ (شِتوي) ،سيعود مرة أخرى للحياة.ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إلى الحياة؟ في 1948، حينما أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى،يشير يسوع إلى أن النهاية ستأتي في خلال الجيل ذاته الذي سيقع له ذلك .وما هو عمر الجيل وفقًا للكتاب المقدس؟ أربعون سنة.من هنا فإنه حسب التعليم الإلهي الموحى به مباشرة من بين شفاه يسوع: ستحل نهاية العالم في وقت ما قبل عام 1988،أي بعد أربعين سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى.كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا تمامًا .ربما يبدو الأمر غريبًا الآن ــــ مع الأخذ في الاعتبار أن العام 1988 قد جاء وذهب من دون أن تقع هرمجدون ـــ لكن،من ناحية أخرى،هناك ملايين المسيحيين اللذين لا يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب المقدس يمكن قراءته حرفيًا ككتاب موحى به في تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصولا إلى نهاية التاريخ كما نعرفه . انظر إلى آخر صيحة في هذه الأيام وهي سلسلة (Left Behind) للكاتبين "تيم لاهاي" و"جيري جينكينز"،التي هي رؤية رؤوية أخرى لمستقبلنا مبنية على القراءة الحَرْفِية للكتاب المقدس،وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن ستة ملايين نسخة في يومنا الحاضر.إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب المقدس كتخطيط معصوم لإيماننا ،وحياتنا،و مستقبلنا إلى رؤيته ككتاب بشري إلى حد بعيد،يحمل وجهات نظر بشرية ،كثيرٌ منها تختلف الواحدة عن الأخرى ، ولا تمثل واحدة منها دليلاً معصومًا من الخطأ يرشدنا إلى الكيفية التي ينبغي أن نحيا على هديها . هذا هو التغيير الذي انتهيت ،حسب وجهة نظري ، من صياغته،والذي أؤمن به الآن بصورة مطلقة. كثيرٌ من المسيحيين ،بالطبع،لم يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب المقدس وفقًا لتلك الرؤية الحَرفِيَّة،وبالنسبة لهم مثل هذه الرؤية ربما بدت متحيزة وغير دقيقة(ناهيك عن غرابتها و عدم ارتباطها بقضايا الإيمان) . وهناك ،على الرغم من ذلك، عددٌ كبير من الناس هنا وهناك ما يزالون ينظرون إلى الكتاب المقدس على هذا النحو.أحيانًا،أرى ملصقًا على سيارة يقول:"الرب قاله،أنا أؤمن به،وهو حل مشاكلنا ." ودائما ما يكون جوابي ،ماذا لو كان الرب لم يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتبره يقدم لك كلمة الرب، يحتوي بدلا من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان الكتاب المقدس لا يقدم لك جوابًا أكيدًا للأسئلة المعاصرة ــــ الإجهاض،حقوق المرأة،حقوق الشواذ،التفوق الديني،الديموقراطية الغربية،وما أشبه؟ ماذا إن كان من المتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف نعيش وبماذا نؤمن،بدون تنصيب الكتاب المقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط يهدينا إلى الطريق المباشر للاتصال بالخالق؟

هناك أسباب واضحة تدفعنا للاعتقاد أن الكتاب المقدس،في الواقع،ليس من ذلك النوع من الهداة المنزهين عن الخطأ لحياتنا :فبين أمور أخرى ، كما كنت أوضح ، في مواضع كثيرة لا نعرف حتى(كعلماء،أو كقراء منتظمين فحسب)كيف كانت أصول كتاب المقدس . لقد تغيرت معتقداتي الشخصية بشكل عنيف من خلال إدراكي لهذا، لتسوقني إلى طرق مختلفة تمامًا عن تلك التي مررت بها في أواخر سني مراهقتي وبواكير العشرينات من عمري. واصلت تقديري للكتاب المقدس وللرسائل الكثيرة والمتنوعة التي يحتويها ــ بقدر ما أصبحت أقدر كتابات المسيحيين الأوائل الأخرى التي كتبت قريبا من الفترة ذاتها وبعد ذلك بقليل ، كتابات الشخصيات الأقل شهرة مثل إجناتيوس الأنطاكي ،كليمنت الروماني (نسبة إلى روما)،وبرنابا السكندري،وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من معتقدات أخرى ، في الوقت نفسه تقريبًا،مثل كتابات يوسيفوس ،ولوسيان السمساطي،وبلوتارخ . كلُّ هؤلاء المؤلفين كانوا يحاولون أن يتصوروا العالم وموقعهم فيه، وفي كل عمل من أعمالهم يوجد أشياء قيِّمة يمكننا تعلمها. من المهم أن نعرف كلمات هؤلاء المؤلفين، حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن تكون عليه أقوالهم أو أحكامهم ،ثم،بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش في ضوء هذه الكلمات . إن هذا يعود بي إلى اهتمامي بمخطوطات العهد الجديد ودراسة هذه المخطوطات من خلال الميدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي . ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ، وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إلى العلماء ولكن بالنسبة إلى المهتمين بالكتاب المقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن لا يزالون من أنصار التفسير الحرفي،أو ممن كانوا أنصارا للتفسير الحرفي سابقًا ،أو حتى ممن لم يكونوا يومًا من أنصار التفسير الحرفي، ولأيِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب المقدس كظاهرة تاريخية وثقافية). الأمر المثير للصدمة،بالرغم من ذلك،هو أن غالبية القراء ـ حتى هؤلاء اللذين يهتمون بالمسيحية ،وبالكتاب المقدس،وبالدراسات الكتابية،و هؤلاء اللذين يؤمنون بالكتاب المقدس ككتاب معصوم من الخطأ والآخرون اللذين لا يؤمنون بذلك ــ لا يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد النصي.وليس من الصعب معرفة أسباب هذا .وعلى الرغم من حقيقة أن النقد النصي كان موضوعًا لعلم عمره الآن ما يزيد عن ثلاثمائة عام،فإن هناك بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم يخاطب الجمهور العلماني ـــأي للذين لا يعلمون شيئا عنه، أي للجمهور الذي لا يعرف اليونانية ولا اللغات الأخرى اللازمة لدراساته الأكثر تعمقًا ،وللذين لا يعلمون حتى أن هناك "مشكلة" في النصوص،ولكنهم في الوقت ذاته لديهم الفضول لمعرفة جواب السؤالين التاليين كليهما: ما هي هذه المشاكل و كيف باشر العلماء التعامل معها؟(2) . هذا الكتاب الذي نحن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب علمي ، هو الأول من نوعه . كتبته لمن لا يعرفون شيئا من الناس عن النقد النصي ولكنهم ربما يحبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية التي كان النساخ يغيرون من خلالها الكتاب المقدس والكيفية التي نعرف بها مواضع هذا التغيير. كتبتها معتمدًا على تفكير دام ثلاثين عامًا حول هذا الموضوع، وصدورًا عن الرؤية التي أعتنقها الآن،مرورًا بهذه التحولات العنيفة لرؤيتي حول الكتاب المقدس. كتبته من أجل كل من يجد في نفسه اهتمامًا بمعرفة الكيفية التي وصل إلينا بها العهد الجديد،وبمعرفة كيف أننا في بعض المواقف لا نعرف حتى الصورة التي كانت عليها الكلمات الأصلية التي خطتها يدُ المؤلف،وبمعرفة الطريقة الطريفة التي تم تغيير هذه الكلمات أحيانًا من خلالها ،ومعرفة كيف أننا ربما ،عبر تطبيق بعض مناهج التحليل الأكثر صرامة، أعدنا بناء هذه الكلمات الأصلية كما كانت .
لأسباب كثيرة،من هنا ، يعتبر لهذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي،وهو ومحصلة نهائية لرحلة طويلة. وقد يكون ،بالنسبة للآخرين،جزءا من رحلتهم الشخصية.


يتبع.........................

نور الإسلام
05-02-2012, 11:23 AM
الفصـــــــل الأول
جذور الكتاب المقدس المسيحي
http://img404.imageshack.us/img404/8707/image001ll0.jpg

لكي ندرس نسخ العهد الجديد التي بحوذتنا ، نحتاج أولا إلى البدء بدراسة أحد الخصائص غير المألوفة التي تتميز بها المسيحية في محيط العالم اليوناني الروماني:ألا وهي طابعها الكتابيّ (Bookish). في الواقع ،لكي نفهم هذه الخصيصة التي تتميز بها المسيحية ،نحن بحاجة ،قبل الحديث عن المسيحية،إلى البدء بالحديث عن الديانة اليهودية،وهي الديانة التي انبثقت منها المسيحية . حيث إن اليهودية ،التي كانت "ديانة الكتاب" الأولى في الحضارة الغربية،كانت قد سبقت كتابيّة المسيحية إلى حد ما وتنبأت بها.

اليهودية باعتبارها ديانة الكتاب


كانت اليهودية ، التي هي أساس المسيحية، ديانة غير مألوفة في العالم الروماني،على الرغم من أنها لم تكن منقطعة النظير. فمثل أتباع أيَّة ديانة أخرى من (المئات ) من الديانات التي كانت موجودة في منطقة حوض المتوسط،كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إلهية تسكنها الكائنات العلوية(ملائكة،رؤساء ملائكة،طغمات الملائكة،القوى)؛كما اتفقوا على عبادة إله عبر تقديم الأضحيات التي هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛ وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية بحيث يسكن فيه هذا الكائن الإلهي هنا على الأرض ( الذي هو الهيكل في أورشليم)، حيث تسفك دماء هذه الأضاحي . وقد كانوا يصلُّون إلى هذا الإله طلبا لقضاء حوائج جماعية وشخصية. وحكوا قصصًا عن الكيفية التي تعامل بها هذا الإله مع البشر في الزمن الماضي ، وانتظروا عونه للبشر في الزمن الحاضر . في كل هذه النواحي ، لم تكن اليهودية "مختلفة" في أعين كل المؤمنين بالآلهة الأخرى داخل الإمبراطورية.لكنَّ اليهودية في بعض النواحي ،على الرغم من ذلك ، كانت متميزة عن غيرها. فكلُّ الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية كانت ديانات شركية ـ أي تعترف بالعديد من الآلهة من كل الأنواع وبمختلف الوظائف وتتوجه إليها بالعبادات :مثل الآلهة العظيمة للدولة ، والآلهة الأقل شأنًا في الأقاليم المختلفة ، آلهة تراقب المناحي المختلفة لميلاد الإنسان ،وحياته ، وموته . ومن ناحية أخرى ، كانت اليهودية ديانة توحيديَّة ؛ فاليهود أصرُّوا على عبادة الإله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب ، الإله الذي ،حسب زعمهم ، كان قد خلق هذا العالم ، وحكمه،وهو وحدُه الذي كان في حاجةِ شعبِه . وفقًا للتقليد اليهودي ،هذا الإله الواحد القادر على كل شئ دعى إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ووعده بالحماية والدفاع عنه في مقابل إخلاصه المطلق له، وله وحده . كان بين الشعب اليهودي ،كما كان يُعتَقد، وبين الله "عهد"،أي اتفاق بموجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم . هذا الإله الواحد هو المستحق وحده للعبادة وللطاعة ؛ وهكذا ،للسبب ذاته ،كان ثمة هيكل واحد فقط ،على عكس الديانات الشركيّة في ذلك العصر التي ،على سبيل المثال ،تسمح أن يوجد أي عدد من المعابد لإله مثل "زيوس". بلا شك ،كان بإمكان اليهود أن يعبدوا الله في أي مكان يعيشون فيه ،لكنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح لله إلا في الهيكل في أورشليم .أما في الأماكن الأخرى ،مع ذلك ،فيمكنهم أن يجتمعوا معًا في "الكنيسات" للصلاة ولمناقشة التقاليد الآبائية التي تتعلق بشئون دينهم . هذه التقاليد تشتمل على قصص تدور حول علاقة الله بآباء شعب إسرائيل – أو آباء و أمهات الإيمان ـ إذا جاز التعبير : إبراهيم ،سارة ، إسحاق ، راشيل ،يعقوب ، رُفقى ،يوسف ،موسى ،داوود ،وهلم جرا ــ وأيضًا تعاليم مفصَّلة بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يسيِّرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته. أحد الأشياء التي تجعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات الإمبراطورية الرومانية أن هذه التعاليم ، إلى جانب التقاليد الآبائية الأخرى، كانت مكتوبة في ثنايا كتبٍ مقدسة. إلا أن المعرفة الوثيقة للإنسان المعاصر بالديانات الغربية الرئيسية المعاصرة (اليهودية ،المسيحية ، الإسلام)،ربما ستجعل من العسير أن يتصور المرء غرابة هذا الأمر ، لكنَّ الكتب لم تلعب فعليًا أيَّ دورٍ في الديانات الوثنية التي كانت موجودة في العالم الغربي القديم. هذه الديانات كانت تقريبا وبشكل خاص معنية بتمجيد الآلهة عبر طقوس الذبح. لم يكن ثمّةَ عقائدٌ يمكن تعلُّمها ،ومن ثمَّ تفسيرُها في ثنايا الكتب ، وتقريبا لم يكن ثمَّة مبادئ أخلاقية تحتذى ، فيتم تضمينها في الكتب. وهذا لا يعني أننا نقول إن أتباع الديانات الوثنية المتنوعة لم يكن لديهم أي عقائد حول آلهتهم أو أنهم لم يكن لديهم أي مبادئ أخلاقية ،بل ما نقصده هو أن العقائد والأخلاق ـ وهو ما يبدو غريبًا على الأسماع في العصر الحديث ـ لم تلعب تقريبا أيَّ دور في الدين تحديدًا. فتلك العقائد والأخلاق كانت بدلا من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية، والفلسفات ، بالطبع ،يمكن أن تكتب في الكتب. وحيث إن الديانات القديمة ذاتها لم تتطلب أي مجموعة خاصة من "العقائد السليمة" أو ، في الغالب ، من" القوانين الأخلاقية،" فالكتب لم تلعب تقريبًا أي دور فيها. كانت اليهودية فريدة في أنها أكدّت على تقاليدها ،وعاداتها، وقوانينها الآبائية ، وأصرت على أن يتمَّ تسجيلُها في ثنايا الكتب المقدسة، التي كانت لها ،من أجل هذا، منزلة "الكتاب المقدس" في أعين الشعب اليهودي. في أثناء الفترة موضع دراستنا ـ القرن الأول من الميلاد (1)، عندما كانت الكتب المتضمَّنة في العهد الجديد في مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية يعتقدون أن التعاليم التي أعطاها الرب بشكل خاص للشعب موجودة في ثنايا كتب موسى ،المشار إليها مجموعةً بالتوراة ،التي تعني حرفيًا شيئا مثل "قانون" أو "هداية."

تتكون التوراة من خمسة كتب ،يطلق عليها أحيانا (Pentateuch) أي (أسفار موسى الخمسة)،التي هي بداية الكتاب المقدس اليهودي (الذي يقابل مصطلح العهد القديم عند المسيحيين): التكوين ، الخروج ،اللاويين، العدد ، التثنية.

ها هنا يجد المرء روايات عن خلق العالم ،دعوة شعب إسرائيل ليصيروا شعب الله ،قصص الآباء والأمهات وعلاقة الله بهم ،والأهم (والأطول مساحةً )،القوانين التي أعطاها الله لموسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل المجتمع . لقد كانت قوانينًا مقدسة ، ينبغي تعلُّمها ،ومناقشتها ، واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة في ثنايا مجموعة من الكتب.
كان لليهود كتبًا أخرى كانت تمثل شيئًا مهمَّا لحياتهم الدينية الجماعية أيضًا،على سبيل المثال ،أسفار الأنبياء (مثل إشعياء ،إرميا ، عاموس)، الأشعار (أو المزامير)، والأسفار التاريخية( مثل يشوع وصموئيل). في المحصلة ، بعد فترة من ظهور المسيحية ، حدث وأن أصبحت مجموعة من هذه الكتب العبرية ـ اثنان وعشرين منهم تحديدًا ـ ينْظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية للكتاب المقدَّس ،أي الكتاب المقدس اليهودي في الوقت الحاضر ،الذي قبله المسيحيون باعتباره الجزء الأول من القائمة القانونية المسيحية ، أو ما يعرف بـ"العهد القديم ." (2)

هذه الحقائق المختصرة حول اليهود ونصوصهم المكتوبة هي من الأهمية بمكان لأنها تمثل الخلفية بالنسبة للمسيحية ،التي كانت أيضًا ، منذ لحظاتاها الأولى ،ديانة "كتابية". لقد بدأت المسيحية ،بالطبع ، من خلال يسوع ، الذي كان نفسه حبرًا يهوديًا (Rabbi ) (أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة ، وربما الكتب اليهودية المقدسة الأخرى ،و لقن تلاميذه تفسيره الخاص لهذه الكتب (3) . ومثل معلمي عصره الآخرين ،أكد يسوع أن النصوص المقدسة،قانون موسى على وجه الخصوص، تمثل إرادة الله . لقد قرأ من هذه الكتب المقدسة ،وتعلَّمها،وقام بتفسيرها ،والتزم بها،وعلَّمها. لقد كان تلامذته ،منذ البداية ، يهودًا وكانوا ينظرون إلى الكتب التي تحوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا ، بالفعل ،في بداية المسيحية ،كان أتباع هذه الديانة الجديدة ،أي تلاميذ يسوع ،فريدين في الإمبراطورية الرومانية :فهم كانوا مثل اليهود من قبلهم ،لكنهم لم يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا ،فقد أوجدوا سلطة مقدسة في ثنايا كتب مقدسة . لقد كانت المسيحية في بدايتها ديانة الكتاب .

المسيحية باعتبارها ديانة الكتاب

كما سنرى قريبا ، لم تكن الأهمية التي احتلتها الكتب لدى المسيحية الأولى تعني أنَّ كلَّ المسيحيين كان بإمكانهم قراءة الكتب ؛ بل على العكس من ذلك تماما ، معظم المسيحيين الأوائل ،مثلهم مثل غالبية الشعب في أنحاء الإمبراطورية (بمن فيهم اليهود ! ) ، كانوا أمِّيين . لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الكتب لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إلى الدين . في الحقيقة ، كانت الكتب ذات أهمية رئيسية، بشكل مطلق ، لحياة المسيحيين في مجتمعاتهم .

الرسائل المسيحية المبكرة

أول ما يجب ملاحظته هو أن أنواعًا كثيرة ومتباينة من الكتابة كانت تحمل أهمية للمجتمعات المسيحية النامية في القرن الأول بعد وفاة يسوع . فأقدم البراهين التي بين أيدينا عن المجتمعات المسيحية تأتي من الرسائل التي كتبها القادة المسيحيون . بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا . أقام بولس الكنائس في أنحاء غرب المتوسط ، بشكل أساسي في المراكز الحضرية ،وبصورة جلية عبر إقناع الوثنيين (أي أتباع الديانات الشركية داخل الإمبراطورية) بأن إله اليهود هو الإله الوحيد المستحق للعبادة ،وأن يسوع كان ابنه،الذي مات من أجل خطايا العالم وأنه سيعود قريبًا للدينوية على الأرض (انظر 1تسالونيكي 1 : 9-10 ) . ليس من الواضح إلى أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب المقدس ( أي نصوص الكتاب المقدس اليهودي) في محاولته لإقناع مُتنَصِّريه المُحْتَمَلين بأن رسالته هي رسالة الحق ؛ لكنه يشير في واحدة من ملخصاته الهامة لرحلاته الوعظية إلى أن ما يعظ به هو أن "المسيح مات ، حسب الكتب " (1 كورنثوس 15 : 3-4). من الواضح أن بولس ربط بين أحداث موت المسيح و قيامته، بتفسيره لإحدى الفقرات الرئيسية في الكتاب المقدس اليهودي ،التي كان باستطاعته بشكل واضح ،باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة ، أن يقرأها لنفسه ،وأن يفسرها لمستمعيه في محاولة لتنصيرهم كثيرا ما تكللت بالنجاح. وبعد أن يقوم بتحويل عددٍ من الناس إلى المسيحية في مكان معين ، كان بولس ينتقل إلى مكان آخر ويحاول ، وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح ، أن يحوّل الناس فيه أيضًا إلى المسيحية. لكنه في بعض الأحيان ( وربما كثيرا ؟)كانت تتناهى إلى مسامعه أخبارًا من إحدى مجتمعات المؤمنين الأخرى التي أقامها من قبل :و أحيانًا (أم هل نقول كثيرا ؟) لم تكن هذه الأخبار جيدة : فأفراد المجتمع بدءوا يسلكون سلوكا رديئا ، وظهرت مشكلات الفجور الأخلاقي (Immorality) ،و"المعلمون الكذبة" (false teachers) أصبحوا ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ،بعض أفراد المجتمع بدءوا في اعتناق العقائد الباطلة ، وهكذا . عند سماعه هذه الأخبار ،كتب بولس ردًا في رسالة إلى المجتمع ،تتناول هذه المشكلات . كانت هذه الرسائل شديدة الأهمية لحياة المجتمع ،وفي النهاية أصبح عددٌ من هذه المجتمعات ينظر إلى هذه الرسائل باعتبارها كتابًا مقدسًا .حوالي ثلاث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت جزءا من العهد الجديد. يمكننا تصوُّر الأهمية التي كانت تحتلها هذه الرسائل في مراحل الحركة المسيحية الأولى من أول الكتابات المسيحية التي لدينا ، أي رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي ،التي عادة ما تؤرخ بعام 49 ميلاديًا تقريبًا (4) ، أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع ، و قبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات الأناجيل عن حياته .ينهي بولس رسالته بقوله، " سَلِّمُوا عَلَى الإِخْوَةِ جَمِيعاً بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ ؛ أُنَاشِدُكُمْ بِالرَّبِّ أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ"( 1 تسالونيكي 5 :26 – 27 ).

لم يكن هذا الخطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما معنيٌّ به ؛ إن الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا الخطاب ، وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رسميًا منه ،كمؤسسٍ للمجتمع . كانت الخطابات من أجل ذلك يتم نشرها في كل مكان تتواجد به الجماعات المسيحية منذ أقدم العصور . كانت الرسائل حلقة الاتصال بين المجتمعات التي كانت تعيش في أماكن مختلفة ، فقد وحَّدت إيمان و طقوس المسيحيين ؛وذكرت ما كان يفترض أن يؤمن به المسيحيون وكيف يفترض أن يكون سلوكهم . كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد المجتمع في اجتماعاتهم ـ حيث لم يكن معظم المسيحيين ،كما أوضحت ،مثلهم في ذلك مثل الغالبية العظمى من الآخرين ، باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم.

أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد الجديد . العهد الجديد ، في الواقع ، يتشكل بشكل كبير من رسائل بولس و القادة المسيحيين الآخرين للمجتمعات المسيحية (الكرونثيون و الغلاطيون على سبيل المثال ) والأفراد المسيحيين (فيليمون كمثال).أضف إلى هذا أن الرسائل التي بقيت حية ــ منها إحدى وعشرين متضمنة في العهد الجديد ـ هي فقط جزء صغير من هذه الكتابات . بالنسبة لبولس وحده ، يمكننا أن نفترض أنه كتب رسائل كثيرة أخرى أكبر من من تلك المنسوبة إليه في العهد الجديد. فقد كان ،أحيانًا ، يذكر رسائل أخرى لم يعد لها وجود ؛ ففي 1 كورنثوس 5 : 9 ، على سبيل المثال ، ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إلى الكورنثيين (في وقت ما قبل الرسالة الأولى إلى الكورنثيين ). وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض الكورنثيين (1 كور 3 : 1) . لكنَّ أثرًا لم يبق لأيٍّ من هذه الرسائل.

ارتاب العلماء لفترة طويلة في أن بعضًا من هذه الرسائل الموجودة في العهد الجديد منسوبةً لبولس هي في الحقيقة من كتابات أتباعه المتأخرين ونسبت إليه بالباطل (5) . و لو صحَّت هذه الشكوك ،فستعطي دليلًا لا شك فيه على أهمية الرسائل عند الحركة المسيحية الأولى : فلكي يجذب الإنسان الأسماع إلى وجهات نظره ، كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفترضًا أن ذلك سيمنحها حجمًا من الموثوقية جديرًا بالاعتبار .

إحدى هذه الرسائل التي يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إلى أهل كولوسي ، التي تؤكد بحد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى لم يعُد لها الآن وجود: " وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَاأنْتُمْ أيْضاً. "(1كولوسي 4 : 16 ). من الواضح أن بولس – إما هو نفسه ، أو شخص آخر يكتب باسمه ـ كتب رسالة إلى مدينة اللاودكية المجاورة. هذه الرسالة أيضًا مفقودة (6) .

النقطة التي أدندن حولها هي أن الرسائل كانت تحمل أهمية لحياة المجتمعات المسيحية الأولى. هذه الرسائل كانت هي الوثائق المكتوبة التي كتبت لترشدهم في إيمانهم و عباداتهم . فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد .وساعدت على جعل المسيحية ديانة شديدة الاختلاف عن غيرها من الأديان الأخرى المنتشرة في أنحاء الامبراطورية ،وذلك في أن المجتمعات المسيحية المتعددة ،التي تتوحد من خلال هذا الأدب المشترك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي 4 :16) ، كانت ملتزمة بالتعاليم الموجودة في الوثائق المكتوبة أو "الكتُب". ولم تكن الرسائل هي الوحيدة التي حملت أهمية بالنسبة لهذه المجتمعات . فلقد كان هناك أدبٌ ،في الحقيقة ، يتم انتاجه ، ونشره ،وقراءته و الالتزام به على نطاق شديد الاتساع من خلال المسيحيين الأُوَل ،وهو أدب شديد الاختلاف عن أيِّ شئ آخر شهده العالم الروماني الوثني على الإطلاق . وبدلا من وصف كل هذا الأدب بتفصيل مملّ ، يمكنني الآن ببساطة أن أذكر بعض الأمثلة من تلك الأنواع من الكتب التي كانت تُكتَب وتُوَزَّع.

يتبـع بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:25 AM
الأناجيل المبكرة

كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة ،وتعاليم ، وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل ،التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع . أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا ـ وهي تلك التي كتبها متَّى ،ومرقس ،ولوقا ، ويوحنا في ثنايا العهد الجديد ـ لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منها على سبيل المثال ،الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع ، ويهوذا توما أخيه ، ورفيقته مريم المجدلية. كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا . نعلم ذلك ،على سبيل المثال ،من إنجيل لوقا ،الذي يشير مؤلفه أنه يسترشد في كتابة روايته ب"كثيرٍ" من المؤلَّفات السابقة (لوقا 1 : 1)،التي من الواضح جدا أنها لم يعد لها وجود . إحدى هذه الروايات الأكثر قِدَمًا ربما كانت هي المصدر الذي حدده العلماء تحت اسم المصدر "Q" ،والذي يحتمل أنه كان رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ، واستخدمها كل من لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثير من تعاليم يسوع التي انفردا بها (على سبيل المثال صلاة الرب والتطويبات ) (7) . فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ،كما رأينا ، على ضوء الكتابات المقدسة اليهودية. هذه الكتب أيضًا ـ أي كلا من الأسفار الخمسة و الكتابات اليهودية الأخرى ، مثل أسفار الأنبياء و المزامير ـ كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بين المسيحيين ،الذين سبروا أغوارها ليروا ما يمكنها كشفه بخصوص إرادة الله كما تحققت في شخص المسيح خاصةً. كانت نسخ من هذا الكتاب المقدس اليهودي ،مترجمة في العادة باليونانية (تسمى السبعينية ) ، منتشرة على نطاق واسع ،إذن، في المجتمعات المسيحية الأولى كمصادر للدراسة والتأمل.

الأعمال المبكرة للرسل
ليست حياة يسوع فحسب ،بل أيضًا حياة الأتباع الأوائل كانت محطًّا لاهتمام المجتمعات المسيحية المتنامية في القرنين الأول والثاني . ليست مفاجأة ،إذن ،أن نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعمالهم التبشيرية ،خاصة بعد موت وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند المسيحيين المهتمين بمعرفة المزيد من المعلومات عن دينهم . إحدى هذه القصص ، أي سفر أعمال الرسل ، نجحت في النهاية في أن تصبح جزءًا من العهد الجديد . لكنَّ قصصًا أخرى كثيرة كُتِبَتْ عن الرسل كلٌّ على حدى ،مثل تلك الموجودة في أعمال بولس ، وأعمال بطرس ،وأعمال توما . أعمال أخرى نجى بعضها من الضياع ولكن في صورة مقاطع صغيرة فحسب ، بينما فُقِدَ البعض الآخر تمامًا .


الرؤى المسيحية
كما أشرت ،نشر بولس (مع الرسل الآخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على الأرض . النهاية الوشيكة لكل الأشياء كانت أمرًا سَحَرَ باستمرار لُبَّ المسيحيين الأوائل ،الذين في العموم كانوا يتوقعون أن الله سيتدخل قريبًا في شئون العالم ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على الأرض مملكته الخيِّرة ،وعلى رأسها يسوع. بعض المؤلفين المسيحيين كتبوا قصصًا تنبُّؤيَّة
(prophetic accounts) عمّا سيحدث في هذه النهاية الكارثية للعالم كما نعرفه. لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق في هذا النوع من الأدب "الرؤَوِيّ" (apocalyptic) ، في كتاب دانيال ،على سبيل، في الكتاب المقدس اليهودي ، أو كتاب أخنوخ1 (book of 1 Enoch) في الأبوكريفا اليهودية . ومن بين الرؤى المسيحية ،دخلت واحدة في النهاية إلى العهد الجديد: رؤيا يوحنا . بينما كانت رؤى أخرى ،من بينها رؤيا بطرس و الراعي لهرماس ، شائعة القراءة في عددٍ من المجتمعات المسيحية في القرون الأولى للكنيسة.



نُظُم الكنيسة

تضاعفت المجتمعات المسيحية ونمت ،بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خلال الأجيال التي جاءت من بعده. كانت الكنائس المسيحية في الأصل ،أو على الأقل تلك التي أقامها بولس نفسه ،من المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعاتٍ ذات مواهب قيادية
(charismatic) . فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من المجتمع قد أُوتِيَ "موهبةً" ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس لمساعدة المجتمع في تسيير حياته الحاضرة: على سبيل المثال ،هناك مواهب التعليم ، موهبة الإدارة ، موهبة إعطاء الصدقات ،موهبة الشفاء ،وموهبة التنبوء . إلا أنه في نهاية المطاف ، حينما بدأت التنبؤات الخاصة بالنهاية الوشيكة للعالم في الاضمحلال ، بدى واضحًا أن هناك حاجة لإيجاد بنية كنسية أكثر صرامة ،خاصة إذا كانت الكنيسة ستظل قائمة لفترة طويلة (قارن 1 كرونثوس 11 ؛ مع متّى 16 ،18). بدأت الكنائس الواقعة على جانبي البحر المتوسط ، ومن بينها تلك التي أسسها بولس ، في تعيين قادة سيتولُّون المسئولية واتخاذ القرارات (بدلا من النظر إلى كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" في الموهبة من الروح )؛ فبدأت القواعد الخاصة بكيفية عيش المجتمع المسيحي معًا ، وبكيفية ممارسته لشعائره المقدسة (العماد والقربان المقدس على سبيل المثال ) ، وتعليم الأعضاء الجدد ..إلخ ،يتمُّ صياغتها. وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق التي تذكر الكيفية المثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة. لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية" أمرًا ذا أهمية متزايدة في القرنين المسيحيين الثاني والثالث،لكن في العام 100 بعد الميلاد تقريبًا كان الكتاب المعروف باسم "ديداخي (تعليم ) الرسل الاثنى عشر" هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل. وخلال زمن قصير تبعه العديد من الكتب.


كتب اللاهوت الدفاعي المسيحي
عندما كانت المجتمعات المسيحية في مرحلة النشوء ،كانت تجابه أحيانًا بمعارضة من اليهود و الوثنيين الذين رأوا في هذا الإيمان الجديد تهديدًا وارتابوا في انخراط أتباعه في طقوس لا أخلاقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إلى الحركات الدينية الجديدة في أحيان كثيرة بالريبة ذاتها تماما). هذه المعارضة أدت في أحيان كثيرة إلى وقوع اضطهادات للمسيحيين في مجتمعهم المحلي؛ وفي النهاية أصبحت الاضطهادات ذات طابع "رسميّ"، حيث تدخلت السلطات الرومانية للقبض على المسيحيين وفي محاولة لإجبارهم على الرجوع إلى معتقداتهم الوثنية القديمة . وعندما كانت المسيحية تنمو ،نجحت في النهاية في استمالة المثقفين إلى الإيمان ،وهم الذين كانوا مؤهلين جيدًا لمناقشة الاتهامات التي رُفِعَت في وجوه المسيحيين ودحضها. كتابات هؤلاء المثقفين يطلق عليها أحيانًا الدفاعيات ،من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) المقابلة لكلمة "دفاع". المدافعون كتبوا أعمالا فكرية دفاعًا عن الإيمان الجديد ، محاولين إظهار أن المسيحية هي ديانة تبشر بالقيم الأخلاقية ،وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء الإجتماعي للإمبراطورية الرومانية ، وأن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة في توجهها نحو عبادة الإله الحق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة الخطرة المبنية على الخرافات. هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء المسيحيين الأوائل ،لأنها أمدتهم بالحجج التي يحتاجونها عند تعرضهم للاضطهاد. هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل في العصر الذي كُتِبَ فيه العهد الجديد ،على سبيل المثال ، في 1بطرس 3 : 15 نقرأ " مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ " وفي سفر الأعمال ،حيث يدافع بولس والرسل الآخرون عن أنفسهم ردًا على الاتهامات التي وجهت إليهم . قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ،كانت الكتابات الدفاعية قد أصبحت شكلا معروفًا من الكتابة المسيحية


سِيَر الشهداء المسيحيين
قريبا من الفترة الزمنية ذاتها التي بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ،بدأ المسيحيون في تدوين روايات عن اضطهاداتهم و الاستشهادات التي وقعت نتيجة لهذه الاضطهادات. هناك بعض الوصف للأمرين كليهما في سفر الأعمال الموجود في العهد الجديد،حيث كانت المعارضة للحركة المسيحية،وإلقاء القبض على الزعماء المسيحيين، وإعدام أحدهم (ستيفانوس) على الأقل تشكل جزءا هاما من الحكي داخل السفر (انظر أعمال 7) . بعد ذلك ، في القرن الثاني الميلادي ، بدأت سير الشهداء في الظهور . أول ما ظهر منها كان استشهاد بوليكاربوس ، الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا لكنيسة "سميرنا"، في آسيا الصغرى، تقريبا طوال النصف الأول من القرن الثاني كاملا. قصة موت بوليكاربوس موجودة في رسالة كتبها أفراد كنيسته ،حيث كتبوها لمجتمع مسيحي آخر . بعد ذلك مباشرة ، بدأت قصص الشهداء الآخرين في الظهور.هذه القصص أيضا كانت واسعة الانتشار بين المسيحيين ،لأنها منحت هؤلاء الذين كانوا محلا للاضطهاد من أجل الإيمان تشجيعا ،ومنحتهم البوصلة التي بها يعرفون طريقهم في مواجهة أقصى التهديدات مثل الوقوع في الأسر ،والتعذيب و الموت.

المقالات ضد الهراطقة
لم تقتصر المشكلات التي واجهت المسيحيين على التهديدات الخارجية المتمثلة في الاضطهاد. فقد كان المسيحيون ،منذ أقدم العصور ، يعون أن ثمة تنوُّعًا في تفسير "الحقيقة" الدينية كان موجودا بين صفوفهم. فها هو الرسول بولس يشتكي من "المعلمين الكذبة" ــ على سبيل المثال،في رسالته إلى الغلاطيين . فإذا قرأنا الروايات الموجودة ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الغرباء . فقد كانوا مسيحيين فهموا الدين بطرق مختلفة على نحوٍ مطلق . وللتعامل مع هذه المشكلة ،بدأ القادة المسيحيون في كتابة المقالات التي تتصدى "للهراطقة"(أي الذين اختاروا الطريق الخطأ لفهم الإيمان)؛ تمثل بعض رسائل بولس ، إلى حدٍ ما ، أقدم النماذج لهذا النوع من المقال . في النهاية أصبح المسيحيون من كل الاتجاهات معنيين بمحاولة تحديد "التعليم الحق" (وهو المعنى الحرفي لكلمة "الأرثوذكسية") وبالتصدي لهؤلاء الذين يدافعون عن التعاليم الباطلة . هذه المقالات المضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات المشهد الأدبي المسيحي المبكر. الأمر الطريف هو أنَّ مجموعات" المعلمين الكذبة" كتبوا هم أيضًا مقالات ضد "المعلمين الكذبة"،حتى إن المجموعة التي أقامت ذات مرة وللأبد ما أصبح المسيحيون يؤمنون به ( هؤلاء مسئولون ،على سبيل المثال، عن العقائد التي وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا لانتقادات المسيحيين الذين اعتنقوا عقائدا اعتبرت في النهاية تعاليم باطلة. علمنا ذلك من خلال بعض الاكتشافات الحديثة نسبيًا للآداب "الهرطوقية"، التي يصر فيها من يُعْرَفُون بالهراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم التي يعتنقها قادة الكنيسة " الأرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (8).


التفاسير المسيحية المبكرة
مساحة واسعة من الجدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة تم الزج بها في تفسير النصوص المسيحية، ومن ضمنها "العهد القديم"،الذي ادعى المسيحيون أنه جزء من كتابهم المقدس . هذا يبين مرة أخرى كيف احتلت النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات المسيحية المبكرة. في النهاية ،بدأ المؤلفون المسيحيون في كتابة تفاسير هذه النصوص ،ليس بالضرورة بغرض دحض التفاسير الباطلة على نحوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثيرا ما كان في الحسبان أيضًا)،لكن أحيانا ببساطة لتفسير معنى النصوص و لإظهار علاقاتها بالحياة و الممارسة المسيحيتين .من الطريف أن أول التفاسير المسيحيَّة التي نعرفها لأيِّ نص من نصوص الكتاب المقدس كان كاتبه هو واحد ممن يسمَّوْن هراطقة ، وهو الغنوصي المسمى هيراكليون الذي عاش في القرن الثاني ،والذي كتب تفسيرًا لإنجيل يوحنا (9) .
في النهاية أصبح وجود التفاسير ،والحواشي التفسيرية ،والتفاسير التطبيقية، ،والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل المجتمعات المسيحية في القرنين الثالث والرابع.
لقد كنت أقوم بتلخيص الأنواع المختلفة من الكتابات التي كانت ذات أهمية لحياة الكنائس المسيحية الأولى . كما أتمنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة كانت هي الظاهرة الأكثر أهمية بالنسبة للكنائس والمسيحيين المنضويين تحتها . لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة المسيحية ـ على عكس الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية ـ منذ البداية .فالكتب قصَّت علينا الروايات التي حكاها المسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتلامذته؛ وزودت الكتبُ المسيحيين بالتعاليم التي ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة التي يعيشون حياتهم من خلالها ؛ كما وحَّدَت الكتب بين المجتمعات المنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة واحدة عالمية ؛و دعَّمت الكتبُ المسيحيين في أيام الاضطهاد وأعطتهم نماذج من التضحية بالذات ليتمثلوها في مواجهة التعذيب والموت ؛ لم تعطِهم الكتب فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ،وحذرت من تعاليم الآخرين الباطلة و عجَّلت من قبول المعتقدات الصحيحة (الأرثوذكسية)؛ و سمحت الكتب للمسيحيين أن يعرفوا المعنى الصحيح للكتابات الأخرى ، معطية إياهم إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ،وكيف يتعبدُّون ،وكيف ينبغي أن يكون سلوكهم . لقد كانت منزلة الكتب في القلب تمامًا من حياة المسيحيين الأوائل.


تشكل قائمة الكتب الرسمية المسيحية(القانون)
في النهاية ،بعض هذه الكتب المسيحية بدأ المسيحيون ينظرون إليها ليس فقط باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإنما أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها تمامًا كمصدر تستقى منه المعتقدات والممارسات الخاصة بالمسيحيين. لقد صارت هي الكتاب المقدس.


بدايات القانون المسيحي
لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي (Christian canon of s cripture طويلة ومعقدة ، ولست بحاجة إلى أن أدخل في كل التفصيلات هنا (10) . بدأ ، كما أشرت بالفعل من قبل ، المسيحيون بقانون مبنيٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعترف بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من الله ، وعلَّم تلاميذه تفسيره الشخصيّ له . كان المسيحيون الأوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِِلَ الكتب التي يتكون منها الكتاب المقدس اليهودي (الذي لم يكن قد نُصِّبَ حتى هذه اللحظة و إلى الأبد ك"قانون") باعتباره كتابهم المقدس الخاص. في اصطلاح مؤلفي العهد الجديد ،بما فيهم بولس ، أقدم مؤلفينا ، يشير مصطلح "الكتابات المقدسة (s-riptures ) " إلى الكتاب المقدس اليهودي ،وهو مجموعة الكتب التي كان الرب قد أعطاها لشعبه والتي تنبأت بالمسيح الآتي ،يسوع . مع ذلك ، لم يدم الأمر طويلا حتى بدأ المسيحيون في قبول الكتابات الأخرى باعتبارها مساوية للكتب المقدسة اليهودية. هذا القبول ربما كان له جذوره في التعاليم الأصلية ليسوع نفسه ،حيث أخذ تلاميذه تفسيره للكتاب المقدس باعتباره على قدم المساواة في الموثوقية مع كلمات الكتاب المقدس نفسه . من المحتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عبر الطريقة التي عبر بها عن بعض تعاليمه . ففي أثناء موعظة الجبل ،على سبيل المثال ،تم تصوير المسيح وكأنه يذكر القوانين التي أعطاها الرب لموسى ، ثم يعطي تفسيره الخاص الأكثر تشددا لها ،مشيرا إلى أن تفسيره هو الجدير بالاعتماد والقبول. هذا يوجد فيما يعرف في إنجيل متى ، في الفصل 5 ب"المقابلات" . يقول يسوع ،" «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ « ما يقوله يسوع ، في سياق تفسيره للشريعة ،يبدو مماثلا في الموثوقية للشريعة نفسها . أو يقول يسوع ،" قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ.(وهي وصية أخرى من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." في بعض المناسبات تبدو هذه التفسيرات الموثوقة للكتاب المقدس ،في الواقع ،ناسخةً لشرائع الكتاب المقدس(أي اليهودي) ذاتها. على سبيل المثال ،يقول يسوع ،" وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ،(وهو أمرٌ موجودٌ في التثنية 24 :1) أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي."
من العسير أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب طلاق ، لو لم يكن الطلاق في حقيقة الأمر خيارًا متاحًا . على أية حال ،أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم في الرتبة ذاتها التي تحتلها شرائع موسى ـ التي هي شرائع التوراة ذاتها. هذا الأمر أصبح أكثر وضوحًا فيما بعد في زمن العهد الجديد ، ففي الرسالة الأولى إلى تيموثي ، التي من المفترض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثيرا ما يعدُّونها مكتوبة بمعرفة أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه . في 1 تيموثاوس 5 : 18 يستحث المؤلف قراءه إلى أن يدفعوا مالا إلى من يعظون بينهم ، ويدعم هذا الحث باقتباسٍ من "الكتاب المقدس". الأمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتين ، اقتبس واحدة من التوراه ("لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِسًا ،" تثنية 25 : 4) والأخرى جاءت من كلمات يسوع ("وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ")؛ انظر لوقا 10 : 7). يبدو أنَّ أقوال يسوع ، حسب وجهة نظر هذا المؤلف ، كانت على قدم المساواة بالفعل مع الكتاب المقدس . و لم تكن تعاليم يسوع فحسب هي التي كان الجيلان المسيحيان الثاني والثالث يعتبرانها جزءا من الكتاب المقدس . بل اعتبرت كتابات رسله أيضا كذلك. الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد الجديد كتابةً، أي رسالة بطرس الثانية ، وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه لم يكتب في الحقيقة بقلم بطرس وإنما بقلم واحدٍ من أتباعه ، الذي كتبه تحت اسم مستعار . ففي 2 بطرس3 يشير المؤلف إلى أن المعلمين الكذبة يحرِّفون معنى رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله،" يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضا" (2 بط 3 : 16 ). يبدو أن رسائل بولس ً قد فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس. بعد عصر العهد الجديد بقليل ، كانت بعض الكتابات المسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رسمية نافعة لحياة ومعتقدات الكنيسة. الرسالة التي كتبها في بداية القرن الثاني بوليكاربوس، أسقف سميرنا المذكور سابقا ، تعتبر مثالا بارزًا . لقد طلبت كنيسة فيليبي النصيحة من بوليكاربوس فيما يتعلق تحديدًا بقضية تمَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من الواضح أنه تورط في بعض أشكال سوء الإدارة المالية داخل الكنيسة ( ربما اختلاس أموال تخص الكنيسة ). رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيليبي ،التي بقيت إلى الآن ، هي رسالة مثيرة لعددٍ من الأسباب ، ليس أقلها نزوعها إلى الاقتباس من كتابات أقدم تخص المسيحيين. ففي أربعة عشر فصلا فقط ، يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات الأقدم، مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيليبي يواجهونه ( على العكس من اثني عشر اقتباسا فقط من الكتابات المقدسة اليهودية )؛ وفي أحد المواضع يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إلى أهل أفسوس كتابا مقدسا . كان من المعتاد كثيرا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشير إليها ، مصوِّرًا للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (11).


يتبع ...............

نور الإسلام
05-02-2012, 11:26 AM
الأناجيل المبكرة
كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة ،وتعاليم ، وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل ،التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع . أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا ـ وهي تلك التي كتبها متَّى ،ومرقس ،ولوقا ، ويوحنا في ثنايا العهد الجديد ـ لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منها على سبيل المثال ،الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع ، ويهوذا توما أخيه ، ورفيقته مريم المجدلية. كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا . نعلم ذلك ،على سبيل المثال ،من إنجيل لوقا ،الذي يشير مؤلفه أنه يسترشد في كتابة روايته ب"كثيرٍ" من المؤلَّفات السابقة (لوقا 1 : 1)،التي من الواضح جدا أنها لم يعد لها وجود . إحدى هذه الروايات الأكثر قِدَمًا ربما كانت هي المصدر الذي حدده العلماء تحت اسم المصدر "Q" ،والذي يحتمل أنه كان رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ، واستخدمها كل من لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثير من تعاليم يسوع التي انفردا بها (على سبيل المثال صلاة الرب والتطويبات ) (7) . فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ،كما رأينا ، على ضوء الكتابات المقدسة اليهودية. هذه الكتب أيضًا ـ أي كلا من الأسفار الخمسة و الكتابات اليهودية الأخرى ، مثل أسفار الأنبياء و المزامير ـ كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بين المسيحيين ،الذين سبروا أغوارها ليروا ما يمكنها كشفه بخصوص إرادة الله كما تحققت في شخص المسيح خاصةً. كانت نسخ من هذا الكتاب المقدس اليهودي ،مترجمة في العادة باليونانية (تسمى السبعينية ) ، منتشرة على نطاق واسع ،إذن، في المجتمعات المسيحية الأولى كمصادر للدراسة والتأمل.
الأعمال المبكرة للرسل
ليست حياة يسوع فحسب ،بل أيضًا حياة الأتباع الأوائل كانت محطًّا لاهتمام المجتمعات المسيحية المتنامية في القرنين الأول والثاني . ليست مفاجأة ،إذن ،أن نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعمالهم التبشيرية ،خاصة بعد موت وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند المسيحيين المهتمين بمعرفة المزيد من المعلومات عن دينهم . إحدى هذه القصص ، أي سفر أعمال الرسل ، نجحت في النهاية في أن تصبح جزءًا من العهد الجديد . لكنَّ قصصًا أخرى كثيرة كُتِبَتْ عن الرسل كلٌّ على حدى ،مثل تلك الموجودة في أعمال بولس ، وأعمال بطرس ،وأعمال توما . أعمال أخرى نجى بعضها من الضياع ولكن في صورة مقاطع صغيرة فحسب ، بينما فُقِدَ البعض الآخر تمامًا .
الرؤى المسيحية
كما أشرت ،نشر بولس (مع الرسل الآخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على الأرض . النهاية الوشيكة لكل الأشياء كانت أمرًا سَحَرَ باستمرار لُبَّ المسيحيين الأوائل ،الذين في العموم كانوا يتوقعون أن الله سيتدخل قريبًا في شئون العالم ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على الأرض مملكته الخيِّرة ،وعلى رأسها يسوع. بعض المؤلفين المسيحيين كتبوا قصصًا تنبُّؤيَّة
(prophetic accounts) عمّا سيحدث في هذه النهاية الكارثية للعالم كما نعرفه. لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق في هذا النوع من الأدب "الرؤَوِيّ" (apocalyptic) ، في كتاب دانيال ،على سبيل، في الكتاب المقدس اليهودي ، أو كتاب أخنوخ1 (book of 1 Enoch) في الأبوكريفا اليهودية . ومن بين الرؤى المسيحية ،دخلت واحدة في النهاية إلى العهد الجديد: رؤيا يوحنا . بينما كانت رؤى أخرى ،من بينها رؤيا بطرس و الراعي لهرماس ، شائعة القراءة في عددٍ من المجتمعات المسيحية في القرون الأولى للكنيسة.
نُظُم الكنيسة
تضاعفت المجتمعات المسيحية ونمت ،بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خلال الأجيال التي جاءت من بعده. كانت الكنائس المسيحية في الأصل ،أو على الأقل تلك التي أقامها بولس نفسه ،من المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعاتٍ ذات مواهب قيادية
(charismatic) . فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من المجتمع قد أُوتِيَ "موهبةً" ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس لمساعدة المجتمع في تسيير حياته الحاضرة: على سبيل المثال ،هناك مواهب التعليم ، موهبة الإدارة ، موهبة إعطاء الصدقات ،موهبة الشفاء ،وموهبة التنبوء . إلا أنه في نهاية المطاف ، حينما بدأت التنبؤات الخاصة بالنهاية الوشيكة للعالم في الاضمحلال ، بدى واضحًا أن هناك حاجة لإيجاد بنية كنسية أكثر صرامة ،خاصة إذا كانت الكنيسة ستظل قائمة لفترة طويلة (قارن 1 كرونثوس 11 ؛ مع متّى 16 ،18). بدأت الكنائس الواقعة على جانبي البحر المتوسط ، ومن بينها تلك التي أسسها بولس ، في تعيين قادة سيتولُّون المسئولية واتخاذ القرارات (بدلا من النظر إلى كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" في الموهبة من الروح )؛ فبدأت القواعد الخاصة بكيفية عيش المجتمع المسيحي معًا ، وبكيفية ممارسته لشعائره المقدسة (العماد والقربان المقدس على سبيل المثال ) ، وتعليم الأعضاء الجدد ..إلخ ،يتمُّ صياغتها. وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق التي تذكر الكيفية المثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة. لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية" أمرًا ذا أهمية متزايدة في القرنين المسيحيين الثاني والثالث،لكن في العام 100 بعد الميلاد تقريبًا كان الكتاب المعروف باسم "ديداخي (تعليم ) الرسل الاثنى عشر" هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل. وخلال زمن قصير تبعه العديد من الكتب.


كتب اللاهوت الدفاعي المسيحي

عندما كانت المجتمعات المسيحية في مرحلة النشوء ،كانت تجابه أحيانًا بمعارضة من اليهود و الوثنيين الذين رأوا في هذا الإيمان الجديد تهديدًا وارتابوا في انخراط أتباعه في طقوس لا أخلاقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إلى الحركات الدينية الجديدة في أحيان كثيرة بالريبة ذاتها تماما). هذه المعارضة أدت في أحيان كثيرة إلى وقوع اضطهادات للمسيحيين في مجتمعهم المحلي؛ وفي النهاية أصبحت الاضطهادات ذات طابع "رسميّ"، حيث تدخلت السلطات الرومانية للقبض على المسيحيين وفي محاولة لإجبارهم على الرجوع إلى معتقداتهم الوثنية القديمة . وعندما كانت المسيحية تنمو ،نجحت في النهاية في استمالة المثقفين إلى الإيمان ،وهم الذين كانوا مؤهلين جيدًا لمناقشة الاتهامات التي رُفِعَت في وجوه المسيحيين ودحضها. كتابات هؤلاء المثقفين يطلق عليها أحيانًا الدفاعيات ،من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) المقابلة لكلمة "دفاع". المدافعون كتبوا أعمالا فكرية دفاعًا عن الإيمان الجديد ، محاولين إظهار أن المسيحية هي ديانة تبشر بالقيم الأخلاقية ،وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء الإجتماعي للإمبراطورية الرومانية ، وأن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة في توجهها نحو عبادة الإله الحق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة الخطرة المبنية على الخرافات. هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء المسيحيين الأوائل ،لأنها أمدتهم بالحجج التي يحتاجونها عند تعرضهم للاضطهاد. هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل في العصر الذي كُتِبَ فيه العهد الجديد ،على سبيل المثال ، في 1بطرس 3 : 15 نقرأ " مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ " وفي سفر الأعمال ،حيث يدافع بولس والرسل الآخرون عن أنفسهم ردًا على الاتهامات التي وجهت إليهم . قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ،كانت الكتابات الدفاعية قد أصبحت شكلا معروفًا من الكتابة المسيحية
سِيَر الشهداء المسيحيين
قريبا من الفترة الزمنية ذاتها التي بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ،بدأ المسيحيون في تدوين روايات عن اضطهاداتهم و الاستشهادات التي وقعت نتيجة لهذه الاضطهادات. هناك بعض الوصف للأمرين كليهما في سفر الأعمال الموجود في العهد الجديد،حيث كانت المعارضة للحركة المسيحية،وإلقاء القبض على الزعماء المسيحيين، وإعدام أحدهم (ستيفانوس) على الأقل تشكل جزءا هاما من الحكي داخل السفر (انظر أعمال 7) . بعد ذلك ، في القرن الثاني الميلادي ، بدأت سير الشهداء في الظهور . أول ما ظهر منها كان استشهاد بوليكاربوس ، الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا لكنيسة "سميرنا"، في آسيا الصغرى، تقريبا طوال النصف الأول من القرن الثاني كاملا. قصة موت بوليكاربوس موجودة في رسالة كتبها أفراد كنيسته ،حيث كتبوها لمجتمع مسيحي آخر . بعد ذلك مباشرة ، بدأت قصص الشهداء الآخرين في الظهور.هذه القصص أيضا كانت واسعة الانتشار بين المسيحيين ،لأنها منحت هؤلاء الذين كانوا محلا للاضطهاد من أجل الإيمان تشجيعا ،ومنحتهم البوصلة التي بها يعرفون طريقهم في مواجهة أقصى التهديدات مثل الوقوع في الأسر ،والتعذيب و الموت.

المقالات ضد الهراطقة
لم تقتصر المشكلات التي واجهت المسيحيين على التهديدات الخارجية المتمثلة في الاضطهاد. فقد كان المسيحيون ،منذ أقدم العصور ، يعون أن ثمة تنوُّعًا في تفسير "الحقيقة" الدينية كان موجودا بين صفوفهم. فها هو الرسول بولس يشتكي من "المعلمين الكذبة" ــ على سبيل المثال،في رسالته إلى الغلاطيين . فإذا قرأنا الروايات الموجودة ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الغرباء . فقد كانوا مسيحيين فهموا الدين بطرق مختلفة على نحوٍ مطلق . وللتعامل مع هذه المشكلة ،بدأ القادة المسيحيون في كتابة المقالات التي تتصدى "للهراطقة"(أي الذين اختاروا الطريق الخطأ لفهم الإيمان)؛ تمثل بعض رسائل بولس ، إلى حدٍ ما ، أقدم النماذج لهذا النوع من المقال . في النهاية أصبح المسيحيون من كل الاتجاهات معنيين بمحاولة تحديد "التعليم الحق" (وهو المعنى الحرفي لكلمة "الأرثوذكسية") وبالتصدي لهؤلاء الذين يدافعون عن التعاليم الباطلة . هذه المقالات المضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات المشهد الأدبي المسيحي المبكر. الأمر الطريف هو أنَّ مجموعات" المعلمين الكذبة" كتبوا هم أيضًا مقالات ضد "المعلمين الكذبة"،حتى إن المجموعة التي أقامت ذات مرة وللأبد ما أصبح المسيحيون يؤمنون به ( هؤلاء مسئولون ،على سبيل المثال، عن العقائد التي وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا لانتقادات المسيحيين الذين اعتنقوا عقائدا اعتبرت في النهاية تعاليم باطلة. علمنا ذلك من خلال بعض الاكتشافات الحديثة نسبيًا للآداب "الهرطوقية"، التي يصر فيها من يُعْرَفُون بالهراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم التي يعتنقها قادة الكنيسة " الأرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (8).
التفاسير المسيحية المبكرة
مساحة واسعة من الجدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة تم الزج بها في تفسير النصوص المسيحية، ومن ضمنها "العهد القديم"،الذي ادعى المسيحيون أنه جزء من كتابهم المقدس . هذا يبين مرة أخرى كيف احتلت النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات المسيحية المبكرة. في النهاية ،بدأ المؤلفون المسيحيون في كتابة تفاسير هذه النصوص ،ليس بالضرورة بغرض دحض التفاسير الباطلة على نحوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثيرا ما كان في الحسبان أيضًا)،لكن أحيانا ببساطة لتفسير معنى النصوص و لإظهار علاقاتها بالحياة و الممارسة المسيحيتين .من الطريف أن أول التفاسير المسيحيَّة التي نعرفها لأيِّ نص من نصوص الكتاب المقدس كان كاتبه هو واحد ممن يسمَّوْن هراطقة ، وهو الغنوصي المسمى هيراكليون الذي عاش في القرن الثاني ،والذي كتب تفسيرًا لإنجيل يوحنا (9) .
في النهاية أصبح وجود التفاسير ،والحواشي التفسيرية ،والتفاسير التطبيقية، ،والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل المجتمعات المسيحية في القرنين الثالث والرابع.
لقد كنت أقوم بتلخيص الأنواع المختلفة من الكتابات التي كانت ذات أهمية لحياة الكنائس المسيحية الأولى . كما أتمنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة كانت هي الظاهرة الأكثر أهمية بالنسبة للكنائس والمسيحيين المنضويين تحتها . لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة المسيحية ـ على عكس الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية ـ منذ البداية .فالكتب قصَّت علينا الروايات التي حكاها المسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتلامذته؛ وزودت الكتبُ المسيحيين بالتعاليم التي ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة التي يعيشون حياتهم من خلالها ؛ كما وحَّدَت الكتب بين المجتمعات المنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة واحدة عالمية ؛و دعَّمت الكتبُ المسيحيين في أيام الاضطهاد وأعطتهم نماذج من التضحية بالذات ليتمثلوها في مواجهة التعذيب والموت ؛ لم تعطِهم الكتب فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ،وحذرت من تعاليم الآخرين الباطلة و عجَّلت من قبول المعتقدات الصحيحة (الأرثوذكسية)؛ و سمحت الكتب للمسيحيين أن يعرفوا المعنى الصحيح للكتابات الأخرى ، معطية إياهم إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ،وكيف يتعبدُّون ،وكيف ينبغي أن يكون سلوكهم . لقد كانت منزلة الكتب في القلب تمامًا من حياة المسيحيين الأوائل.
تشكل قائمة الكتب الرسمية المسيحية(القانون)
في النهاية ،بعض هذه الكتب المسيحية بدأ المسيحيون ينظرون إليها ليس فقط باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإنما أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها تمامًا كمصدر تستقى منه المعتقدات والممارسات الخاصة بالمسيحيين. لقد صارت هي الكتاب المقدس.
بدايات القانون المسيحي
لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي (Christian canon of ******ure) عملية طويلة ومعقدة ، ولست بحاجة إلى أن أدخل في كل التفصيلات هنا (10) . بدأ ، كما أشرت بالفعل من قبل ، المسيحيون بقانون مبنيٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعترف بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من الله ، وعلَّم تلاميذه تفسيره الشخصيّ له . كان المسيحيون الأوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِِلَ الكتب التي يتكون منها الكتاب المقدس اليهودي (الذي لم يكن قد نُصِّبَ حتى هذه اللحظة و إلى الأبد ك"قانون") باعتباره كتابهم المقدس الخاص. في اصطلاح مؤلفي العهد الجديد ،بما فيهم بولس ، أقدم مؤلفينا ، يشير مصطلح "الكتابات المقدسة (******ures) " إلى الكتاب المقدس اليهودي ،وهو مجموعة الكتب التي كان الرب قد أعطاها لشعبه والتي تنبأت بالمسيح الآتي ،يسوع . مع ذلك ، لم يدم الأمر طويلا حتى بدأ المسيحيون في قبول الكتابات الأخرى باعتبارها مساوية للكتب المقدسة اليهودية. هذا القبول ربما كان له جذوره في التعاليم الأصلية ليسوع نفسه ،حيث أخذ تلاميذه تفسيره للكتاب المقدس باعتباره على قدم المساواة في الموثوقية مع كلمات الكتاب المقدس نفسه . من المحتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عبر الطريقة التي عبر بها عن بعض تعاليمه . ففي أثناء موعظة الجبل ،على سبيل المثال ،تم تصوير المسيح وكأنه يذكر القوانين التي أعطاها الرب لموسى ، ثم يعطي تفسيره الخاص الأكثر تشددا لها ،مشيرا إلى أن تفسيره هو الجدير بالاعتماد والقبول. هذا يوجد فيما يعرف في إنجيل متى ، في الفصل 5 ب"المقابلات" . يقول يسوع ،" «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ « ما يقوله يسوع ، في سياق تفسيره للشريعة ،يبدو مماثلا في الموثوقية للشريعة نفسها . أو يقول يسوع ،" قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ.(وهي وصية أخرى من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." في بعض المناسبات تبدو هذه التفسيرات الموثوقة للكتاب المقدس ،في الواقع ،ناسخةً لشرائع الكتاب المقدس(أي اليهودي) ذاتها. على سبيل المثال ،يقول يسوع ،" وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ،(وهو أمرٌ موجودٌ في التثنية 24 :1) أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي."
من العسير أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب طلاق ، لو لم يكن الطلاق في حقيقة الأمر خيارًا متاحًا . على أية حال ،أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم في الرتبة ذاتها التي تحتلها شرائع موسى ـ التي هي شرائع التوراة ذاتها. هذا الأمر أصبح أكثر وضوحًا فيما بعد في زمن العهد الجديد ، ففي الرسالة الأولى إلى تيموثي ، التي من المفترض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثيرا ما يعدُّونها مكتوبة بمعرفة أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه . في 1 تيموثاوس 5 : 18 يستحث المؤلف قراءه إلى أن يدفعوا مالا إلى من يعظون بينهم ، ويدعم هذا الحث باقتباسٍ من "الكتاب المقدس". الأمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتين ، اقتبس واحدة من التوراه ("لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِسًا ،" تثنية 25 : 4) والأخرى جاءت من كلمات يسوع ("وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ")؛ انظر لوقا 10 : 7). يبدو أنَّ أقوال يسوع ، حسب وجهة نظر هذا المؤلف ، كانت على قدم المساواة بالفعل مع الكتاب المقدس . و لم تكن تعاليم يسوع فحسب هي التي كان الجيلان المسيحيان الثاني والثالث يعتبرانها جزءا من الكتاب المقدس . بل اعتبرت كتابات رسله أيضا كذلك. الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد الجديد كتابةً، أي رسالة بطرس الثانية ، وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه لم يكتب في الحقيقة بقلم بطرس وإنما بقلم واحدٍ من أتباعه ، الذي كتبه تحت اسم مستعار . ففي 2 بطرس3 يشير المؤلف إلى أن المعلمين الكذبة يحرِّفون معنى رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله،" يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضا" (2 بط 3 : 16 ). يبدو أن رسائل بولس ً قد فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس. بعد عصر العهد الجديد بقليل ، كانت بعض الكتابات المسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رسمية نافعة لحياة ومعتقدات الكنيسة. الرسالة التي كتبها في بداية القرن الثاني بوليكاربوس، أسقف سميرنا المذكور سابقا ، تعتبر مثالا بارزًا . لقد طلبت كنيسة فيليبي النصيحة من بوليكاربوس فيما يتعلق تحديدًا بقضية تمَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من الواضح أنه تورط في بعض أشكال سوء الإدارة المالية داخل الكنيسة ( ربما اختلاس أموال تخص الكنيسة ). رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيليبي ،التي بقيت إلى الآن ، هي رسالة مثيرة لعددٍ من الأسباب ، ليس أقلها نزوعها إلى الاقتباس من كتابات أقدم تخص المسيحيين. ففي أربعة عشر فصلا فقط ، يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات الأقدم، مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيليبي يواجهونه ( على العكس من اثني عشر اقتباسا فقط من الكتابات المقدسة اليهودية )؛ وفي أحد المواضع يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إلى أهل أفسوس كتابا مقدسا . كان من المعتاد كثيرا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشير إليها ، مصوِّرًا للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (11).


يتبع .......................

نور الإسلام
05-02-2012, 11:26 AM
دور الطقوس الدينية المسيحية في تشكيل
القائمة الرسمية للكتاب المقدس

في وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ،نعلم أن المسيحيين كانوا يستمعون إلى الكتب المقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة. كاتب رسالة تيموثي 1 ،على سبيل المثال ،يحفِّز مستلم الرسالة أن: "َ أعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ (أي العامَّة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ."(4 : 13). وكما رأينا في حالة الرسالة إلى أهل كولوسي ،يبدو أن رسائل المسيحيين كانت تُقرأ على المجموعة المجتمعة أيضًا. ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ، كان جزءٌ كبيرٌ من طقوس العبادة المسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب المقدس . في فقرة كثيرا ما تناولتها ألسنة المتناقشين من كتابات المفكر المسيحي و عالم الدفاعيات جوستينوس الشهيد ،على سبيل المثال ، لدينا إشارة إلى ما تضمنته الخدمة الكنسية في مدينته الأم روما:
في اليوم المسمى يوم الأحد ،كلُّ من يعيشون في المدن أو في البلد يجتمعون سويًا في مكان واحدٍ ، و تُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء ، بحسب ما يسمح الوقت ؛ثمَّ، لما يتوقف القارئ ،يلقي القسيس التعاليم ،ويعظ بضرورة احتذاء هذه الأعمال الطيبة . . . (1 أبولوج 67)
يبدو على الأرجح أن الاستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص المسيحية ـ على سبيل المثال ، أعلت " مذكرات الرسل" ، التي عادةً ما ينظر إليها على أنها هي نفسها الأناجيل ، من مكانة هذه النصوص لدى معظم المسيحيين حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة بالاعتماد والقبول (authoritative) ،على قدم المساواة مع الكتابات المقدسة اليهودية ("كتابات الأنبياء") ذاتها .

دور مارقيون في تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس


يمكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي حتى الآن عن كثب من خلال ما بين أيدينا من دليل . ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه جوستينوس ، أي في منتصف القرن الثاني ، كان ثمة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر يمارس نشاطه داخل روما ، وهو الفيلسوف المعلم مرقيون ، الذي حكم عليه فيما بعد بالهرطقة (12) . مرقيون كان شخصية مثيرة للاهتمام للعديد من الأسباب . فهو كان قد جاء إلى روما من آسيا الصغرى ، وكان بالفعل قد كوَّن ثروة مما كان واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن . عند وصوله إلى روما ، تبرع للكنيسة في روما بمبلغ طائل ،ربما لكي يحصل ، إلى حدٍ ما ، على عونها الكريم . وقد ظلَّ في روما لخمس سنوات ، منفقا كثيرا من وقته في نشر مفهومه عن الإيمان المسيحي وفي كتابة تفاصيل هذا الإيمان في العديد من الكتابات. لم يكن عمله الأكثر تأثيرا هو شئ قام بكتابته ،بل شئ قام بتعديله. لقد كان مرقيون هو أول مسيحيٍّ، فيما نعلم، قام بتشكيل "قانون" فعليٍّ للكتاب المقدس ـ أي مجموعة من الكتب التي ،كما زعم ، تضم النصوص المقدسة النافعة للإيمان . لكي نفهم هذه المحاولة الأولى لتشكيل قائمة رسمية للكتاب المقدس ، نحتاج إلى أن نعرف قليلا من المعلومات حول تعاليم مرقيون الفريدة . لقد كان مرقيون مأخوذًا تمامًا بحياة وتعاليم الرسول بولس ،الذي كان يعتبره الرسول الوحيد "الحقيقيَّ" من الأيام الأولى للكنيسة. في بعض رسائله ، مثل الرسائل إلى أهل رومية و أهل غلاطية ، كانت تعاليم بولس تنص على أن المنزلة الطيبة أمام الله تأتي فقط من الإيمان بالمسيح ، وليس بأداء أيٍٍّ من الأعمال التي فرضتها الشريعة اليهودية. التقط مرقيون هذا الاختلاف بين شريعة اليهود و بين الإيمان بالمسيح ليصل به إلى ما رأى أنه نتيجة ذلك المنطقية ،وهي أنَّ هناك تمايزًا تامًّا بين الشريعة من ناحية وبين الإنجيل من الناحية الأخرى. لقد كانت الشريعة مختلفة تمام الاختلاف عن الإنجيل ،في الحقيقة ، إلى درجة جعلت من المستحيل أن يكونا كلاهما قد جاءا من الإله ذاته . استنتج مرقيون أن رب يسوع (وبولس) لم يكن ،لهذا السبب ،الإله ذاته الذي أوحى العهد القديم. لقد كان ثمة ،في الواقع، إلهان اثنان مختلفان: إله اليهود ، الذي خلق العالم ، ودعا إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ، وأنزل إليهم قانونه القاسي ؛ وإله يسوع ،الذي أرسل المسيح إلى العالم لينقذ بني البشر من الانتقام القاسي لرب اليهود الخالق.
آمن مرقيون بأن هذا المفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس نفسُه ،وهكذا ، ضمَّت قائمتُه الرسمية للكتاب المقدس الرسائلَ العشرَ التي كتبها بولس وهي التي كانت متاحة له ( هذه الرسائل كلها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسائل الرعوية، وهي الرسالتان الأولى والثانية إلى تيموثي وتيطس)؛ ولأنَّ بولس كان أحيانًا يشير إلى "إنجيله"، فقد ضمَّ مرقيون إنجيلا (Gospel) إلى قائمته ، وهو شكل من إنجيل لوقا المعروف لنا الآن . وهذا كل ما في الأمر . لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا : لم يكن ثمة عهدٌ قديمٌ ،بل كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ، مضافا إليه عشر رسائل . ليس ذلك فحسب : بل كان مرقيون يعتقد أن المؤمنين الكاذبين ، أي الذين لم يكونوا يشاطرونه مفهومه الخاص عن الإيمان ، قد نقلوا هذه الأحد عشر كتابا عبر نسخها و إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم الخاصة التي من بينها مفهومهم "الباطل" عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله يسوع . وهكذا "صحَّح" مرقيون الكتب الأحد عشر التي تضمنتها قائمته عبر حذف الإشارات إلى إله العهد القديم ،أو إلى الخلق باعتباره عمل الإله الحق ، أو إلى الشريعة باعتبارها شئ ينبغي الالتزام به .
كما سنرى ، محاولة مرقيون لجعل نصوصه المقدسة تتوائم بشكل أكثر إحكاما مع تعاليمه عبر تحريفها لم تكن بالأمر الجديد . فقبله وبعده على حدٍ سواء ، حرَّف نساخ الأدب المسيحي المبكر من وقت لآخر نصوصهم ليجعلوها تقول ما يعتقدون أنها بالفعل تعنيه.

القائمة "الأرثوذكسية " بعد عصر مرقيون

يعتقد كثير من العلماء أن المسيحيين الآخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع تصور لما يفترض أن يصبح قائمةً لأسفار العهد الجديد كشكل من أشكال المقاومة لمرقيون تحديدا. من الطريف أنه في العصر الذي عاش فيه مرقيون ،كان جوستينوس يمكنه الكلام بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل "بدون الإشارة إلى أيٍّ هذه الكتب ( أو ربما الأناجيل ) كان مقبولا في الكنائس ولماذا ، في حين اتخذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ، عارض مرقيون أيضًا ، بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما موقفا أكثر مَيْلا للجزم والتأكيد . إنه إيريناوس، أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا في العصر الحديث )،الذي كتب عملا من خمس مجلدات ضد الهراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيين ، و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ الوضوح فيما يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعتبر من بين الأناجيل القانونية . في فقرة يكثر اقتباسها من مؤلَّفه ضد الهراقطة ، يقول إيريناوس إن مرقيون لم يكن وحده فحسب الذي افترض بالباطل أن هذا الإنجيل أو ذاك فقط من بين الأناجيل هو المستحق لأن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ، بل كان معه أيضا "هراطقة" آخرون ، :فالمسيحيون المتهوِّدون الذين تمسكوا بالصلاحية المتواصلة للشريعة استخدموا متى وحده ؛ بعض المجموعات الذين زعموا أن يسوع ليس هو المسيح في الحقيقة قبلوا إنجيل مرقس فحسب ؛ مرقيون وأتباعه قبلوا فقط (شكلا من ) لوقا ؛ ومجموعة من الغنوصيين سموا بال"فلانتينيين "قبلوا إنجيل يوحنا فحسب . هؤلاء جميعًا كانوا مخطئين ، مع ذلك، لأنه ليس من الممكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن المناطق التي نعيش فيها في العالم هي أربع مناطق ، والرياح الرئيسية أربعة ، وفي حين تنتشر الكنيسة في أنحاء العالم ، وعامود الكنيسة و أرضها هو الإنجيل... . فمن المناسب أن يكون لها عمدان أربع ، (ضد الهراطقة 3 . 11 .7)
بكلمات أخرى ، زوايا الأرض أربع ، الرياح أربعة ، العمدان أربعة ـ فمن الضروري ،حينذ ، أن تكون الأناجيل أربعة . وهكذا ، قرب نهاية القرن الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ متَّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا كانت هي الأناجيل ؛ ولم يكن ثمة أكثر من ذلك أو أقل. ولقد استمرت النقاشات حول حدود القائمة الرسمية لقرون عديدة . ويبدو أن المسيحيين هنا وهناك كانوا مهتمين بمعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة وذلك ليعلموا :
أولا: أي الكتب ينبغي قراءتها في خدمة الصلاة
وثانيًا: وهو الأمر وثيق الصلة بالسبب الأول ، ليعرفوا أي الكتب يمكن الوثوق بها كناصح أمين يرشدهم إلى ما يجب أن يؤمنوا به والسلوكيات التي ينبغي أن يسيروا على هديها .
لم تكن القرارات التي اتخذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن ينظر إليه في النهاية باعتباره قانونيًّا قرارات تم اتخاذها على نحوٍ آليٍّ أو بشكل خال من المشاكل ؛ لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ، وأحيانا عنيفة . ربما يعتقد كثير من المسيحيين اليوم أن قائمة كتب العهد الجديد الرسمية ظهرت إلى الوجود ببساطة في يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ، إلا أن هذا الاعتقاد لا يضارعه في البعد عن الحقيقة أيُّ شئٍ آخر. كما سيتضح ، نحن قادرون على تحديد الوقت الذي قام فيه واحدٌ من المسيحيين من الموثوق بهم بوضع قائمة تضم كتب عهدنا الجديد السبعة والعشرين - أو أكثر أو أقل . ربما سيبدو مدهشا أن هذا المسيحي كان يمارس الكتابة في النصف الثاني من القرن الرابع ، أي بعد ثلاثمائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت تُكتَب فيه كتب العهد الجديد ذاتها. هذا المؤلف هو أثناسيوس، أسقف الإسكندرية الأقوى. في عام 367 م ، كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إلى الكنائس المصرية تحت ولايته ، ضمَّنها نصيحة بخصوص الكتب التي ينبغي أن تقرأ في الكنائس باعتبارها الكتاب المقدس. حيث ذكر في قائمته كتبنا السبعة والعشرين ، واستثنى ما عداها من كتب . هذه هي المناسبة الأولى المسجلة لشخص يؤكد أن مجموعة الأسفار التي نعرفها هي العهد الجديد . بل حتى أثناسيوس لم يحسم هذه المسألة . فقد استمرت المناظرات لعشرات السنين ، بل وحتى القرون . إنَّ الكتب التي نطلق عليها لفظ العهد الجديد لم تُجمَع معًا في قائمة رسمية واحدة و لم تعتبر كتابا مقدسا ،في النهاية ،إلا بعد مرور المئات من السنين على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة الأولى.

قُرَّاءُ الكتابات المسيحية

في الباب السابق تركّز نقاشنا حول تقنين (canonization )الكتاب المقدس. وكما رأينا سابقا كان المسيحيون ، رغم ذلك ،يكتبون و يقرأون أنواع كثيرة من الكتب في القرون الأولى ، وليس فقط الكتب التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد. لقد كان ثمة أناجيل أخرى ،وأعمال ، ورسائل ، و رؤى ؛ و كان هناك تدوينات للاضطهادات ، وحكايات عن الاستشهاد ، وكتب تدافع عن الإيمان ، ونظم كنسية ، وأعمال تهاجم الهراطقة ، ورسائل وعظية و تعليمية ،وشروحات للكتاب المقدس - منظومة كاملة من الأعمال الأدبية التي ساعدت في رسم حدود المسيحية وجعلها تلك الديانة التي كانتها . سيكون من المفيد في هذه المرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤالا أساسيًّا حول كل هذه الأعمال الأدبية. من الذي كان يقوم بقراءتها ؟
في عالم اليوم ، ربما سيبدو ذلك سؤالا غريبًا نوعًا ما . فلو كان المؤلفون يكتبون كتبًا من أجل المسيحيين ، فالذين يقرأون الكتب سيكونون ولابد من المسيحيين. فإذا كان السؤال يتناول العالم القديم فإنه سيمثل مرارة خاصة لأن غالبية الناس ، في العالم القديم ، لم يكونوا يعرفون القراءة . إنَّ معرفة القراءة والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا في الغرب المعاصر . نحن نقرأ طوالَ الوقت ، وكلَّ يوم . نقرأ الجرائد و المجلات و الكتب من كل الأنواع - ترجمات الشخصيات ، الروايات ،كتب "كيف تفعل كذا" (how-to books) ، كتب "اعتمد على نفسك" (self-help books)، كتب الحمية (diet)، كتب دينية ، كتب فلسفية ، علوم التاريخ ،مذكرات ، وهكذا بلا توقف .
لكنَّ السهولة التي نشعر بها اليوم مع اللغة المكتوبة ليس لها أي علاقة بممارسات القراءة وحقائقها في العصور القديمة. لقد أظهرت الدراسات المتعلقة بمعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة الجماهير للقراءة والكتابة هي ظاهرة حديثة ، ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (13) .فهي تحدث فقط عندما ترى الأمم أن ثمة فائدة اقتصادية في جعلها كلَّ شخص قادرا على القراءة ، إلى الدرجة التي تجعلهم ينتوون أن يكرسوا كل الموارد الضخمة - خاصة الوقت ، المال ، و الموارد البشرية- التي يحتاجونها للتأكد من أن كل إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة. في المجتمعات غير الصناعية ، كانت الموارد مطلوبة لأشياء أخرى بدرجة كبيرة ، ومعرفة القراءة والكتابة لم تكن تساعد اقتصاد المجتمع ولا رفاهيته ككل. وفي المحصلة ، حتى العصر الحالي ، كل المجتمعات تقريبًا كانت تضم أقلية صغيرة فحسب من القادرين على القراءة والكتابة .
وهذا ينطبق حتى على المجتمعات القديمة التي نربطها تلقائيًا بالقراءة والكتابة - روما ، على سبيل المثال ،خلال القرون المسيحية المبكرة ، أو حتى اليونان في أثناء الفترة الكلاسيكية . أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة والكتابة في الأزمنة القديمة و أكثرها تأثيرا ،هي تلك التي كتبها ويليام هاريس البروفيسور بجامعة كولومبيا ،حيث تشير إلى أنه في أفضل الأوقات و الأماكن ـ أثينا ،على سبيل المثال ، في أوج الفترة الكلاسيكية في القرن الخامس قبل الميلاد- كانت معدلات القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة 10 – 15 في المائة من السكان . لكي نعكس حقيقة هذه الأرقام ، هذا يعني أنه في أفضل الظروف ،85 – 90 في المائة من السكان لم يكن بإمكانهم القراءة ولا الكتابة . في القرن المسيحي الأول ، في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية ، معدلات معرفة القراءة والكتابة ربما كانت أقل نوعًا ما (14) . حتى وضع تعريف ، كما سيتضح ، لما تعنيه القدرة على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد . فكثير من الناس يمكنهم القراءة لكنهم ، على سبيل المثال ، يعجزون عن تكوين جملة كاملة. ثمَّ ما هو معنى كونك تعرف القراءة ؟ هل الناس يمكن تصنيفهم بين من يعرفون القراءة والكتابة لو كان باستطاعتهم معرفة معنى المسلسلات الكرتونية في الوقت الذي لا يعرفون فيه معنى الصفحة الافتتاحية ؟ هل يمكننا أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان باستطاعتهم توقيع أسمائهم في الوقت الذي لا يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد النصوص ؟
مشكلة التعريف تبدو أكثر وضوحا عندما نطبقها على العالم القديم ، حيث كان لدى القدماء أنفسهم صعوبة في تحديد ما يعنيه أن تكون عارفا للقراءة والكتابة . أحد الأمثلة التوضيحية الأكثر شهرة تأتي من مصر في القرن المسيحي الثاني . طوال معظم العصور القديمة ، حيث لم يكن معظم الناس يعرف الكتابة ، كان ثمة " قرّاء" و "كتّاب" أجروا أنفسهم لتقديم خدمات لمن يحتاجهم من الناس ممن يمارسون الأعمال (business) التي تتطلب نصوصًا مكتوبة : إيرادات الضرائب ،عقود قانونية ،تراخيص ،رسائل شخصية ، وما شابه . في مصر ، كان ثمة موظفون رسميون تم تعيينهم للقيام بمهمة مراقبة بعض المهام الحكومية التي تتطلب معرفة الكتابة . هذه الوظائف للعمل كنساخ محليين ( أو في القرى) لم تكن عادة يسعى إليها: فمثل كثير من الوظائف الإدارية " الرسمية " ، كان الناس الذين يطلب إليهم أن يتولوها مطلوب منهم أن يدفعوا من جيوبهم أموالا للحصول على هذه الوظيفة . هذه الوظائف ، بمعنى آخر ، كانت تذهب إلى الأفراد الأكثر ثراءا داخل المجتمع وكانت تحمل بالنسبة لهم نوعا من المنزلة ،لكنها كانت تتطلب إنفاقا من أموالهم الشخصية .
المثال الذي يصور مشكلة تعريف معنى معرفة القراءة والكتابة يتعلق بأحد النساخ المصريين وكان يدعى بتاوس ، من قرية كارانيس في صعيد مصر . كما يحدث كثيرا ، عُيّن بيتاوس للقيام بواجباته في قرية أخرى اسمها بتوليمايس هورمو، حيث أوكلت إليه مهمة الإشراف على الشئون المالية والزراعية . في عام 184 ميلاديا ، كان من المفترض أن يقوم بالرد على شكاوى موجهة ضد ناسخ قرية أخرى من "بتوليمايس هورمو" ، وهو شخص يدعى "إيشيريون"، الذي كان قد عُيِّن في مكان آخر للقيام بمسئولياته كناسخ . سكان القرية تحت ولاية "إيشيريون" كانوا منزعجين بسبب عجز "إيشيريون" عن القيام بواجباته ، لأنه ،كما اتهموه ، كان "أمّيّا".
في تعامله مع هذا النزاع جادل "بتاوس" قائلا إن "إيشيريون" لم يكن أمِّيًّا على الإطلاق ، لأنه كان قد وقع بالفعل باسمه على مجموعة من الوثائق الرسمية . أي بمعنى آخر ، "معرفة القراءة والكتابة" كانت تعني من وجهة نظر "بيتاوس " ببساطة القدرة على التوقيع على الوثائق باستخدام الاسم .
"بيتاوس " نفسه كان يجد مشقة في التوقيع على الوثائق أكثر من ذلك بكثير . فلدينا قصاصة من البردي مارس "بيتاوس" عليها قدرته على الكتابة ،حيث كتب عليها ،لأكثر من اثني عشر مرة ، كلمات (باليونانية) تقول إنه كان متوجبا عليه توقيع وثائقا رسمية :" أنا "بيتاوس" ، ناسخ القرية ،قمت بتحرير هذه ." الأمر الغريب أنه قام بنسخ الكلمات في المرات الأربع الأولى بطريقة صحيحة ،لكنه في المرة الخامسة أغفل الحرف الأول من الكلمة الأخيرة ، وفي المرات السبع الباقية استمر في إغفال الحرف ،الأمر الذي يشير إلى أنه لم يكن يكتب كلمات يعرف كيف يكتبها، بل ينسخ السطر السابق ذكره ليس إلا.
من الواضح أنه لم يكن باستطاعته قراءة الكلمات البسيطة التي كان يدونها في الصفحة حتى. وذلك على الرغم من أنه كان الناسخ المحلي الرسمي (15) !
لو وضعنا "بيتاوس " بين "القادرين على القراءة والكتابة" في العصور القديمة ، فكم من الناس كان بإمكانهم قراءة النصوص فعليا وفهم معناها ؟ من المستحيل أن نحاول التفكير في رقمٍ دقيقٍ ، لكنَّ النسبة المئوية يبدو أنها لن تكون عالية جدا . هناك أسباب تدعونا للاعتقاد بأنه في داخل المجتمعات المسيحية ، كانت الأرقام أقل حتى من هذا بوجه عام . هذا سببه أن المسيحيين فيما يبدو ، خاصة في وقت مبكر من عمر الحركة ، كانوا في الغالب منحدرين من الطبقات الدنيا غير المتعلمة . كانت هناك استثناءات دائما ،بالطبع ، مثل الرسول بولس و المؤلفين الآخرين الذين دخلت أعمالهم ضمن العهد الجديد والذين كانوا كتَّابًا ماهرين بشكل واضح . بالتأكيد هذا هو الوضع الحقيقي للمسيحيين الأوائل ، الذين كانوا رسلا ليسوع . في روايات إنجيلية ، نجد أن معظم تلاميذ يسوع كانوا أميين بسطاء من الجليل - صيادين غير متعلمين ، على سبيل المثال . اثنان منهما ، بطرس ويوحنا ، قيل عنهما بوضوح أنهما كانا "أمِّيين" في سفر الأعمال ( 4 : 13). بولس الرسول يشير لشعب كنيسته الكورنثيين : " قليل منكم من هم حكماء بالمقاييس البشرية " (1 كو 1 : 27 ) ـ التي ربما تعني أن البعض القليل كان حاصلين على تعليم جيد ، لكن ليس الغالبية . فإذا تقدمنا إلى القرن المسيحي الثاني ، يبدو أن الأمور لم تتغير كثيرا . فكما أشرت ، بعض المثقفين قبلوا الإيمان ، لكنّ المسيحيين معظمهم كانوا من الطبقات الدنيا وغير المتعلمة . أحد الأدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من مصادر عديدة . واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيين من خصوم المسيحية المسمى "سيلزس" والذي عاش في أواخر القرن الثاني . كتب "سيلزس" كتابا اسمه " الكلمة الحقة "( The True Word) ، هاجم فيه المسيحية لعدد من الأسباب ، متذرعا بأنها ديانة حمقاء خطرة يجب محوها من على وجه الأرض . للأسف ، لا نملك "الكلمة الحقة " ذاتها ؛ وكل ما لدينا هو اقتباسات منها وردت في كتابات أوريجانوس أحد الآباء المشهورين في الكنيسة ، الذي عاش لمدة سبعين عاما بعد "سيلزس" وطلب إليه أن يكتب ردا على اتهاماته .
كتاب أوريجانوس "ضد سيلزس" نجا من الضياع وهو المصدر الرئيسي لمعلوماتنا عما قاله الناقد المثقف "سيلزس" في كتابه ضد المسيحيين (16). أحد أهم خصائص كتاب أوريجانوس هو أنه يقتبس من أقدم كتاب من كتب "سيلزس" بشكل مطول ،سطرًا بسطر ، قبل أن يقدم تفنيده لما جاء في الاقتباس. هذا يسمح لنا بإعادة بناء دعاوى "سيلزس" بدقة متناهية . أحد هذه الدعاوى هو أن المسيحيين هم أناس جاهلون من الطبقات الدنيا . والغريب أن أوريجانوس ، في ثنايا رده ، لم ينكر ذلك . تأمل الاتهامات التالية التي وجهها "سيلزس".
الوصايا المسيحية هي مثل ذلك . "لا تتركوا شخصا متعلما ، أو حكيما ، أو عقلانيا يقترب . لأن هذه القدرات حسب اعتقادنا هي قدرات شريرة . أما الشخص الجاهل ، الشخص الغبي ، الشخص غير المتعلم ، الشخص الذي هو مثل طفل ، فلتتركوه يأتي بجسارة ."( ضد سيلزس 3 . 44 )
فوق ذلك ، نحن نرى أن هؤلاء الذين يظهرون معارفهم السرية في المعارض و يتجولون للتسول لن يدخلوا أبدا إلى جماعة الأذكياء من الناس ، ولن يجرؤا على كشف معتقداتهم النبيلة في حضورهم ؛ ولكن عندما يرون غلمانا مراهقين أو حشدًا من العبيد أو رفقة من الحمقى ، فإنهم يندفعون ويبدأون في التفاخر .( ضد سيلزس 3 . 50 )
في البيوتات الخاصة أيضا نرى عمال الصوف ، والإسكافيين ،وعمال غسل الملابس وأكثر الفلاحين جهلا و بداوة ، ممن لن تواتيهم الجراءة أن يتفوهوا ببنت شفة في مواجهة ساداتهم الأكبر سنا و الأكثر ذكاءا .لكنهم حالما يجدون صغار السن في السر أو بعض النساء الحمقى معهم ، فإنهم يخرجون من أفواههم بعض الأقوال المثيرة للدهشة مثل أنهم(أي الأطفال) ، على سبيل المثال، يجب ألا يولوا لحديث آبائهم وأساتذتهم في المدارس أي انتباه. . . ؛ويقولون إن هذه الأحاديث لا معنى لها وغير مفهومة … لكن ، لو كانوا يريدون ، فينبغي أن يتركوا آباءهم وأساتذتهم في المدارس ، وأن يذهبوا مع النساء والأطفال صغيري السن من زملاء لعبهم إلى محل الملابس الصوفية ، أو إلى محل الإسكافي أو إلى محل غاسلة الملابس ، حيث يمكنهم تعُّلم الكمال. و يقنعونهم من خلال قول ذلك. ( ضد سيلزس 3 . 56 )
يرد أوريجانوس بأن المسيحيين المؤمنون حقا هم في الحقيقة حكماء ( وبعضهم ، في الواقع ، من ذوي التعليم الجيد)، لكنهم حكماءا فيما يتعلق بالله ، وليس فيما يتعلق بالأشياء في هذا العالم . أي أنه ،بمعنى آخر ،لم ينكر أن المجتمع المسيحي يتشكل في الغالب من الطبقات الدنيا ،غير المتعلمة.

القراءة العامة في العصور المسيحية القديمة

يبدو أننا ، إذن ، في وضع ينطوي على تناقض ظاهريٍّ اتسمت به المسيحية الأولى. فالمسيحية كانت ديانة كتابية ، لديها كتابات من كل الأنواع ثبت أنها ذات أهمية بالغة لكل شأن تقريبًا من شئون الإيمان. إلا أن الناس لا يمكنهم قراءة هذه الكتابات. كيف يمكننا تفسير هذا التناقض ؟
في الواقع ، القضية ليست بكل هذه الغرابة لو تذكرنا ما أشرنا إليه من قبل ، ألا وهو أن المجتمعات من كل الأنواع في كل زمن من العصور القديمة كانوا عموما يحصلون على خدمات المتعلمين لمصلحة غير المتعلمين . لأن "قراءة" كتاب في العالم القديم لم تكن تعني ، عادة ً ، قراءة الإنسان كتابا لنفسه ؛ بل كانت تعني قراءته بصوت عالٍ أمام الآخرين . فمن الممكن أن يقال عن الشخص إنه قرأ كتابا عندما يكون في حقيقة الأمر قد سمعه يُقْرَأُ على لسان الآخرين . يبدو أنه لا مفر من التسليم بالاستنتاج الذي يقول إن الكتب- بقدر ما كانت مهمة للحركة المسيحية المبكرة – إلا أنها دائما ما كانت تقريبا تُقرأ بصوتٍ عالٍ في المشاهد الاجتماعية ، مثل مشهد الصلاة .
ينبغي أن نتذكر هنا أن بولس علَّم مستمعيه السالونيكيين أن " تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ. " ( 1 تس 5 : 27 ). وهذا من المحتمل أنه كان يحدث بصوت عال ، في الاجتماع . وكاتب الرسالة إلى أهل كولوسي كتب : وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا انْتُمْ ايْضاً." ( كولو 4 : 16 )
وتذكروا أيضًا تقرير جوستينوس الشهيد الذي يقول إنه " في اليوم المسمى الأحد ، كل من يعيشون في المدن أو في البلدة يجتمعون معا في مكان واحد ، وتُقرأ عليهم مذكرات الرسل و كتابات الأنبياء ، بقدر ما يسمح الوقت "(1 أبولوجي 67).
النقطة ذاتها أثيرت في كتابات مسيحية مبكرة أخرى . على سبيل المثال ، في سفر الرؤيا قيل لنا ، " طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّة "(1 : 3) ـ التي تشير بوضوح إلى القراءة العامة للنص . في كتاب أقل شهرة يدعى رسالة كلمنت الثانية ، من منتصف القرن الثاني ، يشير المؤلف ، في إشارة إلى كلماته الوعظية ،" أقرأ إليكم طلبا أن تصغوا إلى المكتوب ، لعلكم تخلِّصون أنفسكم ومن يقرأ لكم "(2 كلمنت 19 . 1 )
خلاصة القول ، كانت الكتب التي كانت ذات أهمية قصوى في المسيحية المبكرة تُقرأ في الغالب بصوت عال عبر هؤلاء الذين كان باستطاعتهم القراءة ، لكي يستطيع الأمِّيون الاستماع إليها ، وفهمها ، بل وحتى دراستها . على الرغم من أن المسيحية الأولى كانت في العموم تتشكل من المؤمنين الأميين ، إلا أنها كانت ديانة أدبية إلى حد كبير . مع ذلك، هناك موضوعات أخرى مهمة نحتاج أن ندرسها. لو كانت الكتب ذات أهمية كبيرة للمسيحية الأولى ، لو كانت تقرأ للمجتمعات المسيحية في محيط البحر المتوسط ، كيف حصلت هذه المجتمعات على هذه الكتب فعليًّا؟ كيف أصبحت متاحة للاستخدام العام . لقد حدث ذلك في عصور ما قبل ظهور أدوات النشر المكتبي ، وكذلك وسائل الطباعة الإليكترونية ،بل وحتى حروف الطباعة المتحركة. لو حصلت مجتمعات المؤمنين على نسخٍ من الكتب المسيحية العديدة المتداولة ،فكيف حصلوا على هذه النسخ ؟من كان يقوم بعملية النسخ ؟ والأكثر أهمية بالنسبة لموضوع دراستنا النهائي ،كيف يمكننا ( أو كيف أمكنهم ) أن نعرف أن النسخ التي حصلوا عليها كانت نسخًا دقيقة ، وأنهم لم يقوموا بتعديلها في أثناء عملية النسخ ؟



هوامش الفصل الأول

(1) يستخدم العلماء في عالم اليوم هذا المصطلح (Common Era) بديلا عن الشكل القديم (Anno domini) أو (A.D ) التي تعني :"في يوم ميلاد الرب"، لأن الأول منهما مناسب أكثر لكلّ الأديان.

(2) للاطلاع على وصف إجمالي يتناول تشكل القائمة الرسمية للكتاب المقدس اليهودي ، انظر مادتي ("Canon, Hebrew Bible") في كتاب "جيمس ساندر " (the Anchor Bible Dictionary) المطبوع بتحرير ديفيد نويل فريدمان (نيويورك ، دابلداي ،1992)، الجزء 1 ص 838 – 852 .
(3) إن إطلاق لقب "ربِّي" أو "معلم" على يسوع لا يعني أنني أقول إن المسيح حظي باحترام رسمي داخل الديانة اليهودية لكنني ببساطة أعني أنه كان معلمًا يهوديًّا . لم يكن ،بالطبع ،معلمًا فحسب ، ربما يمكن من الأفضل اعتباره كـ"نبيّ."
للاطلاع على المزيد من النقاشات ،انظر كتاب بارت إرمان : يسوع :النبيّ الرؤوي للألفية الجديدة (Apocalyptic Prophet of the New Millennium) من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك . القسم المطبوعات،1999).
(4) لمعرفة معنى هذا الاختصار انظر هامش رقم 1 بالأعلى
(5) سيشمل هذا الثلاث رسائل (الثلاثية البوليسية "Deutero-Pauline") إلى أهل كولوسي ،أهل أفسس ، والرسالة 2 إلى أهل تسالونيكي و ،بشكل خاص ، الرسائل "الرعوية " "pastoral" الثلاث وهي الأولى والثانية إلى تيموثي و الرسالة إلى تيطس . للاطلاع على أسباب تشكك العلماء في صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس نفسه ، انظر كتاب بارت إرمان "العهد الجديد : مقدمة تاريخية للكتابات المسيحية المبكرة (The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings), الطبعة الثالثة.(نيويورك:جامعة أكسفور .قسم المطبوعات،2004)،الفصل 23.
(6) في وقت متأخر، كانت هناك العديد من الرسائل المزيفة تدعي أنها الرسالة إلى اللاوديكيين. ما يزال لدينا واحدة منها،التي عادة ما تدخل في إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد الجديد. وهي تزيد قليلا عن كونها مزيج من أقوال و جُمَلٍ بولسية (أي منسوبة إلى بولس)، تم ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس. هناك رسالة أخرى تسمى " إلى اللاوديكيين" تزييفها من خلال مارقيون ، المهرطق الذي عاش في القرن الثاني ، أمر واضح ؛ إلا أن هذه الرسالة لم يعد لها وجود.

(7) على الرغم من أن المصدر Q لم يعد له وجود، هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا لا نعرف على وجه اليقين محتوياته الكاملة. انظر كتاب "العهد الجديد " لإرمان ، في الفصل ال6 . الاسم Q هو اختصار للكلمة الألمانية Quelle ،التي تعني "مصدر"(الذي هو مصدر لكثير من مادة لوقا ومتّى من أقوال المسيح).
(8) كمثال ،في الرسائل(tractates) المعروفة باسم رؤيا بطرس و المقالة الثانية لشيث العظيم (Treatise of the Great Seth)،اللذان اكتُشفا كلاهما في 1945 في مخبأ للوثائق "الغنوصية"قريبا من قرية نجع حمّادي في مصر . للاطلاع على الترجمة ،انظر مكتبة نجع حمادي بالإنجليزية ،لجيمس .م.روبنسون، الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو:هاربر سان فرانسيسكو ،1988 )،362 - 378.

(9) اسم غنصويين مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ،التي تعني "معرفة". الغنوصية تشير إلى مجموعة من الأديان من القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية الحصول على المعرفة السرية (secret knowledge) من أجل الخلاص من هذا العالم المادي الشرير.

(10) للاطلاع على نقاش أكثر تفصيلا "Lost Christianities:The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003)
خاصةً الفصل 11 . للاطلاع على معلومات أكثر العملية برمتها يمكن الحصول عليها في كتاب هاري جامبل""The New Testament Canon:Its Making and Its Meaning مطبعة (فيلادلفيا:فورترس برس،1985). للاطلاع على شرح نموذجي علمي موثوق ،انظر كتاب بروس ميتزجر ""The Canon of The New Testament:Its Origin,Development,and Significance
طبع (أكسفورد :كلاروندون برس،1987).

(11) للاطلاع على ترجمة حديثة لرسالة بوليكاربوس ،انظر بارت إرمان( الآباء الرسوليين) من منشورات (Loeb Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003)
المجلد 1.

(12) لمزيد من المعلومات حول مارقيون وتعاليمه ،انظر "الديانات المسيحية المفقودة" لبارت إرمان ص 103- 108 .
(13) انظر على وجه الخصوص كتاب "The ancient Literacy" لويليام .?.هاريس من مطبوعات(كامبردج، القسم الإعلامي بجامعة هارفارد).
(14) للمزيد حول معدلات معرفة القراءة و الكتابة بين اليهود في العصر القديم ، انظر كتاب كاثرين هـ. إزسر " الأمية اليهودية في فلسطين الرومانية"( توبنجين : موهر / سيبيك ،2001 ).
(15) انظر نقاش كيم هاينز أيتسن في كتاب " حراس الحروف: معرفة القراءة والكتابة ،قوة و ناقلوا الأدب المسيحي المبكر " ( نيو يورك ،جامعة أكسفورد ،القسم الإعلامي ،2000) ، 27 – 28 ، ومقالات هـ .سي .يوتي التي ذكرتها هناك .

(16) الترجمة الإنجليزية القياسية لهنري تشادويك " ضد سلزاس"( كامبردج : القسم الإعلامي بالجامعة ،1953)، هي التي تتبعتها هنا .




تم الفصل الأول ولله الحمد

نور الإسلام
05-02-2012, 11:26 AM
قبل البدء ...
هذا الجزء قام بترجمته أخونا الفاضل توحــــــيد
-----------------------------------------------
http://img408.imageshack.us/img408/2710/image001rf0.jpg
الفصل الثاني: نساخ الكتابات المسيحية الأولى

كما رأينا في الفصل الأول، كانت المسيحية منذ بدايتها ديانة لها أدبياتها، حيث لعبت الكتب بكافة أنواعها دوراً محورياً في حياة ومعتقدات المجتمعات المسيحية الناشئة في حوض المتوسط. كيف إذن كان وضع هذه الأدبيات المسيحية من ناحية النشر والتوزيع؟ الإجابة، بطبيعة الحال،هي أنه لكي يتمَّ توزيع كتابٍ ما على نطاقٍ واسعٍ، فلابد من أن يتمَّ نسخه أولا.
النسخ في العالم اليوناني - الروماني
كانت الطريقة الوحيدة لنسخ كتابٍ في العالمِ القديمِ هي أن تتمَّ كتابتُه باليد حرفاً بحرف، وكلمةً وراء أخرى. كان ذلك عملاً بطيئاً ودقيقا - لكن لم يكن ثمَّة بديل آخر. ولأننا اعتدنا اليوم على رؤية نسخٍ عديدةٍ من الكتب تظهر على رفوف المكتبات في طول البلاد وعرضها خلال أيام من نشرها، فإننا نتقبل ببساطة أن تكون نسخةٌ ما من "شفرة دافنشي" مثلاً مطابقةً تماماً لأي نسخة أخرى من الكتاب نفسه . فلن تتغير أيٌّ من الكلمات - سيكون هو الكتاب نفسه أيًّا ما كانت النسخة التي نقرأها. لكنَّ الحالَ لم يكن كذلك في العالم القديم. فكما أنه لم يكن متيسرًا توزيعُ الكتبِ على نطاقٍ واسعٍ (لعدم وجود شاحناتٍ، ولا طائراتٍ، ولا سككٍ حديديةٍ) لم يكن كذلك ممكنًا إصدارُها على نطاق واسع (لعدم وجود المطابع). ولأنه لم يكن ثمة بُدٌّ من نسخها باليد، نسخة نسخة، ببطء، وبمعاناة، فإنَّ معظم الكتب لم يتمَّ إصدارُها بكميات كبيرة. والكتب القليلة التي تم إصدارُ نسخٍ عديدةٍ منها لم تكن متطابقة، إذ إنه لابد أن يكون الناسخون الذين نسخوا تلك النصوص قد قاموا بإدخال تعديلات عليها - مبدِّلين الكلمات أثناء نسخها، إما عن طريق الخطأ (زلات الأقلام وغيرها من صور الإهمال) أو عمداً (عندما يقصد الناسخ تغيير الكلمات التي ينسخها).
إنَّ أيَّ شخصٍ يقرأ كتاباً من العصورِ القديمة لا يستطيعُ الجزمَ بأنَّه إنما يقرأ ما كتبه المؤلَّفُ ذاته ، فلربما وقع للكلمات تبديل. بل - في الحقيقة - إنَّ المرجَّح هو أنَّ تبديلا للكلمات قد حدث ، ولو جزئيًّا.
يصدر الناشر اليوم عددًا معينًا من الكتب للجمهور عن طريق إرسالها لمحلات بيع الكتب. أما في العالم القديم، ولأن الكتب لم تكن تصدر بكميات كبيرة، ولا كانت هناك دورٌ للنشر ولا محلاتٌ لبيع الكتب، فقد كانت الأمور مختلفة (1). عادةً ما كان المؤلِّف يكتب كتابًا، وربما يجعل مجموعة من الأصدقاء يقرأونه، أو يستمعون إليه وهو يُقرأ عليهم. مما كان يشكل فرصةً لتعديلِ وتصحيحِ بعض محتوياته. بعد ذلك، وعندما يكون المؤلف قد أتمَّ كتابه، فإنه ينسخ بعضَ النسخ لبعض الأصدقاء والمعارف. تأتي بعد ذلك مرحلة النشر، وعندها لا يعود الكتاب تحت السيطرة الكاملة للمؤلِّف، وإنما بين أيدي آخرين. إن أراد هؤلاء الآخرون المزيد من النسخ - ربما لإعطائها لأقرباء أو لأصدقاء آخرين - كان عليهم أن يتَّخذوا الترتيبات الضرورية لنسخها، مثلا، بالاعتماد على ناسخٍ محليٍّ يتعيش من مهنة النسخ، أو على عبدٍ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ ويقوم بالنسخ كجزءٍ من واجباته المنزلية.
نعلم أن هذه الطريقة يمكن أن تكون بطيئة وغير دقيقة لدرجة تدفع إلى الجنون، وأنَّ ما ينتج عن هذه الطريقة من نسخ يمكن أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح شيئًا مختلفًا تمام الاختلاف عن الأصل. والدليل على ذلك يأتينا من الكُتَّاب القدامى أنفسِهم. سأذكر هنا مثالين من الأمثلة المثيرة للاهتمام من القرن الأول الميلادي. في مقالة شهيرة عن مشكلة الغضب، يشير الفيلسوف الروماني "سينيكا" إلى الفارق بين الغضب الموجَّه نحو من قد سبب لنا الأذى، والغضب الموجه نحو ما ليس بإمكانه أن يفعل أيَّ شيء يعرِّضُنا للأذى. وليوضح النوع الثاني، يضرب مثلاً بـ "بعض الأشياء التي لا حياة فيها، كالمخطوطة التي نلقي بها لأنها مكتوبة بخط صغير للغاية، أو نمزقها لأنها مليئة بالأخطاء (2)." لا شك أن تجربة قراءة نص ممتلئٍ بـ "الأخطاء المطبعية" (أو أخطاء النسخ) هي تجربة محبطة لدرجة قد تؤدي إلى تشتيت ذهن القارئ.
هناك أيضا هذا المثال التهكمي الذي نجده في إحدى إبيجرامات الشاعر الروماني الساخر "مارشال" ، الذي يحيط قارئه علمًا في إحدى قصائده بأنه:
"إن بدت لك - أيها القارئ - أيًّا من القصائد المكتوبة في هذه الأوراق غامضة أو ركيكة فتلك ليست غلطتي، ولكنَّ الناسخَ هو من أفسدها بسبب عجلته لإتمام نسخ القصيدة من أجلك .أمَّا إن كنت تظن أنها غلطتي وليست غلطته، فسأعرف أنك معدوم الذكاء "ومع ذلك، أنظر، هؤلاء سيئون" كما لو كنت أنكر ما هو واضح، أجل إنهم سيئون، لكنك لا تستطيع أن تأتي بأفضل منهم؟" (3)
نسخ النصوص أفسح المجال لاحتمالات الأخطاء؛ وهذه المشكلة لوحظت على نطاقٍ واسعٍ طوال العصور القديمة.
النسخ في دوائر المسيحية الأولى
لدينا في النصوص المسيحية الأولى عددٌ من الإشارات التي ترصُد ممارساتِ النسخ (4). واحدة من أكثر هذه الإشارات إثارةً للاهتمام نجدها في نص رائج يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثاني واسمه "الراعي" لهرماس . قـُرئ هذا الكتاب على نطاق واسع خلال الفترة بين القرن الثاني الميلادي ووصولا إلى القرن الرابع الميلادي؛ حتَّى إن بعض المسيحيين يعتقدون أنه يجب أن يعتبر جزءًا من القائمة القانونية للكتاب المقدّسِ . وهو مدرج كأحد كتب العهد الجديد، على سبيل المثال، في واحدة من أقدم مخطوطاتنا التي لا تزال محفوظة ، ألا وهي المخطوطة " السينائية" الشهيرة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع.
في الكتاب، نبيٌّ مسيحيٌّ يدعى "هرماس" كتب عددًا من الرؤى ، بعضها كان يتعلق بالمستقبل، والبعض الآخر كان يتعلق بالحياة الشخصية والاجتماعية لمسيحيِّي أيامه.
في موضع قريب من بداية الكتاب (وهو كتاب كبير، أكبر من أيٍّ من الكتب الأخرى التي عُدّت جزءًا من العهد الجديد) يرى هرماس رؤية تقرأ فيها سيدة عجوز، وهي تمثل نوعًا من الرمز الملائكي للكنيسة المسيحية، بصوت مرتفع من كتابٍ صغيرٍ. وتسأل هرماس إذا ما كان باستطاعته إعلام إخوانه المسيحيين بالأشياء التي سمعها. فيجيب بأنه لا يستطيع أن يتذكر كل ما قرأَتْه، ويطلب منها أن " اعطني الكتاب لأنسخ منه نسخة " فتعطيه إياه، وعندئذ يروي قائلاً:
"أخذتـُهُ وذهبت بعيداً إلى جزء آخر من الحقل، حيث نسختـُه بالكامل، حرفاً بحرف، لأني لم أستطع التمييز بين المقاطع . وعندئذ، عندما أتممت حروف الكتاب، انتـُزع فجأة من بين يديّ؛ لكنني لم أرَ من فعل ذلك." (الراعي 5.4)
وعلى الرغم من أنه كان كتابًا صغيرًا، إلا أنَّ نسخه حرفًا بحرف لابد وأنه كان عملا صعبًا. وعندما يقول هرماس إنه " لم يستطع التمييز بين المقاطع " فمن الجائز أنه كان يشير إلى إنه غير ماهر في القراءة – ذلك، أنه لم يكن مدرَّبًا كناسخٍ محترفٍ يستطيع أن يقرأ النصوص بطلاقة. إحدى المشاكل المتعلقة بالنصوص اليونانية القديمة (و التي تضمُّ كلَّ الكتابات المسيحية القديمة، بما فيها نصوص العهد الجديد) أنها عندما نُسِخَت، لم يستخدم في نسخها أيٌ من علاماتِ الترقيمِ ، ولم يتمَّ التمييز بين الأحرف الاستهلالية والأحرف العادية، وكذلك ، وهو ما سيراه القراء المعاصرون أكثر إثارة للدهشة، لم تُستَخدام المسافات للفصل بين الكلمات. هذا النمط من الكتابة المتصلة يسمى (سكريبتوا كونتينوا ) " ******uo continua". ومن الواضح أن هذا النمط جعل قراءة النص ، ناهيك عن فهمه. أمرًا عسيرًا في بعض الأحيان. فعبارة مثل: (godisnowhere) يمكن للمؤمن أن يقرأها: (God is now here) أي (الإله هنا الآن) ويمكن للملحد أن يقرأها (God is nowhere) وتعني: (الإله ليس له وجود) (5).وماذا يمكن أن تعني" lastnightatdinnerisaw abundanceonthetable"؟ هل تعني حدثًا عاديًا أم حدثًا خارقًا؟
من الواضح أن "هرماس" عندما يقول إنه لم يستطع التمييز بين المقاطع ، فإنه يعني أنه لم يستطع قراءة النص بطلاقة لكنه استطاع تمييز الحروف، وعلى ذلك فقد نسخها حرفًا بعد حرف . ومن الجلي أنك إن لم تفهم ما تقرأ، فإن احتمالات الوقوع في أخطاء النسخ تتضاعف.
ويشير "هرماس" إلى النَّسْخِ مرة أخرى في موضعٍ لاحقٍ من رؤيته. حيث تأتيه السيدة العجوز مرةً أخرى وتسأله إن كان قد سلَّم الكتاب الذي نسخة لقادة الكنيسة أم لم يفعل بعدُ؛ فيجيبها أنه لم يفعل ، فتقول له:
"حسنًا فعلت، إذ لدي بعض الكلمات لأضيفها. عندئذٍ، عندما أنتهي من الكلمات كلِّها فسوف تقوم بإبلاغها لكل من وقع عليهم الاختيار. وعلى ذلك فسوف تكتب كتابين صغيرين، وترسل أحدهما إلى "كلمنت" والآخر إلى "جرابت". "كلمنت" سوف يرسل كتابه إلى المدن الأجنبية، فهذه هي مهمته. أما "جرابت" فسوف تعظ الأرامل واليتامى. وأنت ستقرأ كتابك في هذه المدينة مع الشيوخ الذين يقودون الكنيسة."(الراعي 3 . 8)
وهكذا، فإن النص الذي كان قد نسخه ببطء أضيفت إليه بعض الإضافات التي كان عليه أن يسجِّلها؛ و كان عليه أن ينسخ منها نسختين. إحداهما ستعطى لرجل يدعى "كلمنت"، الذي من الجائز أن يكون هو نفسه الشخص المعروف من خلال نص آخر على أنه الأسقف الثالث لمدينة روما – وربما حدث هذا قبل توليه رئاسة الكنيسة – حيث إنه يبدو هنا كما لو كان مبعوثًا خارجيًّا للمجتمع المسيحي الروماني. هل كان ناسخًا رسميًّا يتولى نسخ نصوصَهم؟
النسخة الأخرى تذهب لامرأة تدعى "جرابت" التي يحتمل أنها كانت ناسخة هي الأخرى، وربما تولت إعداد نسخ لبعض أعضاء الكنيسة في روما. أما "هرماس" نفسُه فإنَّ عليه أن يقرأ نسخته من الكتاب على مسيحيي مجتمعه، (وقد يكون معظمهم من الأمِّيين الذين لا يستطيعون قراءة النص بأنفسهم) – إلا أن الطريقة التي يُفترَض أن ينفَّذَ بها ذلك مع عدم قدرته على التمييز بين المقاطع لم يتمَّ تفسيرُها مطلقًا.
وهكذا، فقد ألقينا نظرةً خاطفةً على الكيفية التي كانت تتمُّ بها عمليةُ النسخِ في الكنيسةِ الأولى. ومن المفترض أن الحال كان مشابها لذلك في الكنائس المختلفة المنتشرة على جانبي المتوسط، على الرغم من أن أيًا من هذه الكنائس (على الأرجح) لم تكن بحجم كنيسة روما. مجموعةٌ مختارةٌ قليلةُ العدد كانوا نسّاخ الكنيسة، وبعض هؤلاء النسّاخ كانوا أكثر مهارة من الآخرين . يبدو أنَّ "كلمنت" كان مكلَّـفًا بنشر الأدب المسيحي كواحدة من مهامه، بينما "هرماس" يؤدي المهمة لأنها ببساطة قد أوكلت إليه هذه المرة، والنُّسَخُ التي يقوم هؤلاء الأعضاء المتعلمون (وبعضهم أوسع علمًا من بعض)بنسخها تتم قراءتها على المجتمع المسيحي بعمومه.
ما الذي يمكن أن نضيفه عن هؤلاء النسّاخ المنتمين للمجتمع المسيحي؟ لا نعرف على وجه التحديد من كان "كلمنت" أو"جرابت"، إلا أن لدينا معلومات إضافية عن "هرماس"؛ فهو يقول عن نفسه إنه عبدٌ سابقٌ (الراعي 1. 1) ، ومن الواضح أنه كان قادرًا على القراءة والكتابة، بل ومتعلمًا تعليمًا جيدًا نسبيًّا. وهو لم يكن من بين قادة كنيسة روما (فلم يذكر بين شيوخ الكنيسة)، مع أن تقليدًا لاحقًا يزعم أنَّ أخاه ،الذي كان اسمه "بيوس"، أصبح أسقفاً للكنيسة في منتصف القرن الثاني (6). إن كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن تكون العائلة قد تبوَّأت مكانةً مرموقةً داخل المجتمع المسيحي – على الرغم من كون "هرماس" عبداً في يوم من الأيام. ولمَّا كان المتعلمون وحدهم، بطبيعة الحال، هم القادرين على الكتابة، ولما كان التعلم يتطلب عادة توفُّر الوقت والمال اللازمين (ما لم يكن الشخص قد تم تدريبه على القراءة والكتابة وهو عبد)، فمن الظاهر أن النسّاخ المسيحيين الأوائل كانوا من بين أكثر الناس ثراءً وأفضلهم تعليمًا في المجتمع المسيحي الذي عاشوا فيه.
كما رأينا، كانت عمليات النسخ خارج المجتمعات المسيحية، في العالم الروماني على اتساعه، تتمُّ إما على أيدي النسَّاخ المحترفين، أو على أيدي عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛ ويعني ذلك، من بين ما يعني، أنه كقاعدة لم يكن الأشخاص الذين يقومون بالنسخ هم أنفسهم الأشخاص الراغبين في الحصول على النصوص، وإنما كان الناسخون في الغالب الأعمّ ينسخونها لمصلحة آخرين. إلا أنَّ واحدا من أهم الاكتشافات الحديثة التي قام بها العلماء الباحثون في نسـَّّاخ المسيحية الأولى، هو أن الحال كان على العكس من ذلك تماما. إذ يبدو أن المسيحيين الذين كانوا يقومون بالنسخ، كانوا هم أنفسهم من يحتاجون النُسَخ، بمعنى أنهم كانوا ينسخونها إما لاستخدامهم الشخصيّ، أو لمصلحة المقربين منهم، أو كانوا ينسخونها من أجل الآخرين في مجتمعهم (7). باختصار، لم يكن الأشخاص الذين قاموا بنسخ النصوص المسيحية الأولى، في معظم الأحوال – إن لم يكن في كلها، محترفين يمتهنون النسخ؛ وإنما ببساطة كانوا هم الأفراد القادرين على القراءة والكتابة من بين أعضاء الطائفة المسيحية، واللذين توفرت لديهم الرغبة والقدرة على النسخ. (مثل "هرماس" المذكور أعلاه)
بعض هؤلاء الأفراد – أو معظمهم؟ - ربما كانوا قادة للمجتمعات. لدينا من الأسباب ما يدفعنا للاعتقاد بأنَّ الزعماء المسيحيين الأوائل كانوا من الأعضاء الأكثر ثراءًا في الكنيسة، من ذلك أن الكنائس كانت عادةً ما تجتمع في منازل أعضاءها (لم تكن ثمة مبانٍ للكنائس، على حد علمنا، خلال القرنين الأول والثاني من عمر الكنيسة) ومنازل الأعضاء الأكثر ثراءًا هي التي كان بمقدورها أن تتَّسع لعددٍ كبيرٍ من الناس، حيث كان معظم الناس في تلك المدن القديمة يعيشون في غرف ضيقة. ولا يتعارض مع المنطق أن نفترض أنّ الشخص الذي تولَّى أمرَ توفير المكان، تولى قيادة الكنيسة أيضًا، كما تفترض عددٌ من الرسائل المسيحية التي وصلتنا، والتي يوجِّه فيها الراسل تحياته إلى فلان .. وإلى "الكنيسة التي تجتمع في بيته." أصحاب المنازل الأكثر ثراءًا هؤلاء، كانوا على الأرجح هم الأفضل تعليمًا، وعلى ذلك فليس من المستغرب أن يُطلب منهم أحيانًا أن "يقرأوا" الكتابات المسيحية على جماعات المصلين، كما نرى على سبيل المثال في (1تيموث 4 : 13) " إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ( أي العامة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ " فهل من الممكن، إذن، أن يكون قادة الكنيسة مسئولين، على الأقل لفترة لا بأس بها من الوقت، عن نسخ الكتابات المسيحية التي كانت تُقْرَأ على جماعة المصلين؟
مشكلات تتعلق بنسخ النصوص المسيحية المبكرة
لأنَّ النصوص المسيحية الأولى لم تكن تنسخ بمعرفة نسّاخ محترفين (8)، على الأقل في أثناء القرنين أو القرون الثلاثة الأولى من عمر الكنيسة، وإنما بمعرفة أشخاص متعلمين ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة والرغبة لأداء هذه المهمة، فمن الممكن أن نتوقع أنه في النسخ الأولى، على وجه الخصوص، كان يوجد أخطاء النسخ شائعة الحدوث. في الحقيقة، توجد لدينا أدلة دامغة على ذلك، حيث كانت (هذه الأخطاء) محلا لبعض الشكاوى العارضة من مسيحيين يقرأون تلك النصوص ويحاولون اكتشاف الكلمات الأصلية التي خطتها أيدي المؤلفين. ففي إحدى المرات، على سبيل المثال، يسجل الأب "أوريجانوس" المنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ الأناجيل الموجودة تحت تصرفه:
"لقد أصبحت الاختلافات بين المخطوطات عظيمة، إما بسبب إهمال بعض النسـّاخ أو بسبب التهور الأحمق للبعض الآخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة ما نسخوه،أم، بينما يراجعونه، يقومون بالحذف والإضافة على هواهم؟(9) "
لم يكن "أوريجانوس" الشخص الوحيد الذي لاحظ تلك المشكلة، فقد أشار إليها أيضاً خصمُه الوثني "سيلزس" قبل ذلك بسبعين سنة، ففي سياق هجومه على المسيحية وأعمالها الأدبية، طعن "سيلزس" في النسـَّاخ المسيحيين لاتِّباعهم أساليبًا تنتهك أصول النسخ:
" بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب،يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيِّرون النصَّ الأصليَّ للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو مرات عديدة أكبر من ذلك، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم ".(ضد سيلزس 2 . 27)
والملفت للنظر في هذه الواقعة بالتحديد هو أن "أوريجانوس"، عندما جوبه باتهام من أطراف خارجية برداءة الممارسات النسخية بين المسيحيين، أنكر أن يكون المسيحيون في الواقع قد غيّروا النص، على الرغم من أنه هو نفسه قد انتقد تلك الحقيقة في كتاباته الأخرى. والاستثناء الوحيد الذي يذكره في سياق الرد على "سيلزس" يتعلق بعدة مجموعات من المهرطقين الذين ،حسبما يزعم "أوريجانوس"،حرَّفوا النصوص المقدسة بأسلوب خبيث (10).
لقد سبق ورأينا هذا الاتهام بأن المهرطقين غيَّروا أحيانًا في النصوص التي قاموا بنسخها بهدف جعلها أقرب إلى تأييد وجهات نظرهم، حيث كان هذا هو ما اتهم به "مرقيون" الفيلسوف اللاهوتي المنتمي للقرن الثاني، الذي قام بتقديم قانونه الكنسي المكون من أحد عشر كتابًا مقدسًا بعد أن قام بحذف الأجزاء التي تتعارض مع نظريته التي تزعم أن "بولس" كان يرى أن الرب في العهد القديم لم يكن هو الربَ الحقيقيَّ. يزعم خصم "مرقيون" الأرثوذكسي "إيريناوس " أن "مرقيون" قد قام بما يلي:
مزق أوصال رسائل "بولس"، حاذفاً منها كل ما قاله الرسول عن الرب الذي خلق العالم ، ليطمس حقيقة أنه أب ربنا يسوع المسيح ، وكذلك فعل مع هذه الفقرات من الكتابات النبوية التي اقتبسها الرسل لكي يعلّمونا أنهم جهروا بالأمر فيما سبق مجئ السيّد.
(ضد الهراطقة 1 . 27 . 2 )

http://www.hurras.org/vb/clear.gif (http://www.hurras.org/vb/newreply.php?do=newreply&p=60266)

نور الإسلام
05-02-2012, 11:27 AM
لم يكن مرقيون هو المتهم الوحيد . فتقريبا في الفترة ذاتها التي كان إيريناوس يعيش فيها ،عاش أسقف كورينثيا الأرثوذكسي المسمى "ديونيسيوس" الذي كثيرا ما جأر بالشكوى من أن المؤمنين الكاذبين قد حرَّفوا كتاباته من غير وازع من ضمير ، مثلما قد فعلوا مع كثير من النصوص المقدسة .
عندما دعاني رفاقي المسيحيون إلى أن أكتب رسائل إليهم فعلت ما طلبوه مني . رسل الشيطان هؤلاء مملؤون بالزوان © ، يحذفون أشياء و يضيفون أشياء . لهم العذاب مدَّخر . لا عجب إذن لو تجرأ بعضهم على تشويه أعمالي المتواضعة ماداموا يتآمرون على العبث حتى بكلمة الرب نفسه .

كانت الاتهامات من هذا النوع الموجه ضد "الهراطقة" ـ أي بخصوص قيامهم بتحريف نصوص الكتاب المقدس ليجعلوها تقول ما أرادوا منها أن تعنيه ـ أمر واسع الانتشار بين الكتّاب المسيحيين الأوائل . من الجدير بالملاحظة ، مع ذلك ، أن دراسات حديثة أظهرت أن الدليل المستمد من مخطوطاتنا الباقية يشير بأصابع الاتهام إلى الاتجاه المعاكس . فالنساخ الذين كانوا مؤمنين بالتقليد الأرثوذكسي كثيرا ما قاموا بتحريف النصوص ، أحيانا بهدف التخلص من احتمال أن " يسئ استخدامها " المسيحيون لتأكيد العقائد الهرطوقية وأحيانا ليجعلوها أكثر موافقة للعقائد التي يتبنّاها مسيحيو طائفتهم . (11)

الخطورة الحقيقية التي تمثلت في إمكانية تحريف النصوص حسب الرغبة ، بمعرفة نسّاخ لم يشعروا بالاستحسان تجاه الطريقة التي صيغت بها هذه النصوص ،هي أمر واضح بطرق أخرى كذلك . نحتاج دائما إلى أن نتذكُّر أنَّ نساخ الكتابات المسيحية المبكرة كانوا يعيدون إنتاج نصوصهم في عالمٍ لم يعرف ماكينات طباعة أو بيوت نشر فحسب وإنما أيضًا لم يكن فيه على الإطلاق أية قوانين تتعلق بحقوق النشر. فكيف يمكن للمؤلفين أن يضمنوا أن نصوصهم لم تكن تتعرض للتَّعديل عند توزيعها ؟ الإجابة المختصرة هي أنهم لم يكن لديهم أية ضمانة على الإطلاق . وهذا ما يوضِّح السبب الذي من أجله كان المؤلِّفون في أحايين كثيرة يبتهلون لكي تتنزَّل اللعنات على أي ناسخ يُدْخِلُ على نصوصهم أية تعديلات بغير إذن منهم . هذا النوع من اللعنات نجده في إحدى الكتابات المسيحية المبكرة التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد ، ألا وهي سفر الرؤيا ،التي يكتب مؤلفها ، قريبا من نهاية نصه ، تحذيرا رهيبًا :

لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هَذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. (رؤيا 22 : 18 – 19 )

لم يكن هذا تهديدًا للقارئ بأنه ينبغي أن يقبل أو أن يؤمن بكلِّ ما هو مكتوب في كتاب النبؤات هذا ، كما يتمُّ تفسيره في أحيان كثيرة ؛ بل هو تهديد تقليديٌّ لنسّاخ السفر بأنهم ينبغي أن لا يضيفوا أو يحذفوا أيًّا من كلماته . لعناتٌ مشابهةٌ يمكن رؤيتها متناثرة في ثنايا عدد من الكتابات المسيحية المبكرة . تأمَّلْ التهديدات الأكثر صرامة التي كتبها العالم المسيحي اللاتيني روفينوس بخصوص ترجمته لواحد من أعمال أوريجانوس :

أناشد كل إنسان ربما ينسخ أو يقرأ هذه الكتب، بإخلاص في حضرة الله الآب والابن والروح القدس ، وأستحلفه بحق إيمانه بالملكوت الآتي ، وبكنيسة القيامة من الأموات ، وبالنار الأبدية المُعدّة للشيطان وملائكته ، أن لا يضيف أيَّ شئ لما هو مكتوب و أن لا يحذف منه شيئا ، وأن لا يحدِثَ أي إدخال أو تحريف ،و أن يقارن بين منسوخ يده وبين النسخ التي قام بالنسخ منها، كي لا يرث إلى الأبد هذا المكان ، حيث العويل وصرير الأسنان وحيث النار التي لا تنطفئ والأرواح التي لا تموت .(12)

هذه التهديدات الرهيبة ـ جحيم وكبريت ـ هي ببساطة من أجل تحريف بعض الكلمات الواردة في نص . بعض المؤلفين ، رغم ذلك ، كانوا عازمين بكل ما في الكلمة من معنى على التأكد من أن تنسخ كلماتهم بصورة سليمة ، فليس ثمة تهديد يمكن أن يكون رادعًا على نحوٍ كافٍ في مواجهة نسّاخ يمكنهم تحريف النصوص حسب أهوائهم ، في عالم لم تكن فيه حقوق نشر وتأليف.

التغييرات التي تعرض لها النص

يخطئ ، مع ذلك ، من يفترض أن التغييرات الوحيدة التي كانت تحدث ، كانت تقع عن طريق نسَّاخٍ فعلوا ذلك بمخاطرة شخصية عبر تدخلهم المتعمَّد في صياغة النص. في الواقع ، غالبية التغييرات الموجودة في مخطوطاتنا المسيحية المبكرة ليس لها علاقة باللاهوت ولا بالأيديولوجيا . معظم التغييرات هي إلى حدٍ بعيدٍ نتاج أخطاء محضة وبسيطة ـ أخطاء القلم ، حذوفات عرضية ، إضافات ناتجة عن الإهمال ، أخطاء في التهجي ،أغلاط من هذا النوع أو ذاك . لقد كان النساخ غير مؤهلين : ومن المهم أن نتذكر أنَّ معظم النساخ في القرون الأولى لم يكونوا مدربين على القيام بهذا النوع من العمل بل كانوا ببساطة أفرادًا متعلمين من بين أعضاء كنائسهم وكانوا ( إن بصورة أكبر أو أقل) قادرين على القيام بذلك وراغبين فيه . بل حتى فيما بعد ، بدءا من القرنين الرابع والخامس ، عندما ظهر النساخ المسيحيون كطبقة محترفة داخل الكنيسة (13) ، وفيما بعد حينما كانت معظم المخطوطات تُنسخ بمعرفة رهبان مكرّسين لهذا النوع من العمل داخل الأديرة - حتى في ذلك الوقت ،كان بعض النساخ أقل براعة في النسخ من الآخرين. في هذه الأوقات كلها كانت المهمة شاقة ، كما يشار إلى ذلك في بعض الملاحظات التي أضيفت إلى بعض المخطوطاتٍ والتي يكتب فيها أحد النساخ نوعًا من صرخات الارتياح مثل ، " نهاية المخطوطة . لله الحمد " (14) . وقد يكون النساخ في بعض الأحيان مهملين بالفطرة ؛وأحيانا يكونون جوعى أو شاعرين بالنعاس ، وفي أحايين أخرى يكونون فحسب غير معنيين بتقديم أفضل ما عندهم.

وحتى النساخ الذين اتسموا بالكفاءة ،و اليقظة و نالوا قسطًا من التدريب كانوا يقعون أحيانًا في الأخطاء . وفي بعض الأحيان قاموا بتغيير النص، كما رأينا ، لأنهم اعتقدوا أنه كان من المفترض أن يتم تغييره . إلا أن ذلك لم يكن نتيجة فحسب لأسباب لاهوتية معينة. لقد كانت هناك أسباب أخرى من وجهة نظر النسَّاخ تجعلهم يقومون بتغييرات عمدية - على سبيل المثال، عندما كانوا يأتون أمام فقرة بدت وكأنها تمثل خطئًا يجب تصحيحه ، أو ربما أمام تناقض موجود في النص ،أو إشارة جغرافية خاطئة ، أو إحالة إلى أحد نصوص الكتاب المقدس في غير محلها . لذا ، عندما أحدث النساخ تغييرات مقصودة ، كانت دوافعهم أحيانا نقية نقاء الثلج الأبيض . لكنّ التغييرات حدثت رغم ذلك ، وكلمات المؤلفين الأصلية ،نتيحة لذلك ،ربما قد حُرِّفت و ضاعت نهائيًّا. هناك صورة توضيحية طريفة للتغيير العمدي الذي وقع لنص موجود في واحدة من أنقى مخطوطاتنا القديمة ،ألا وهي المخطوطة الفاتيكانية ( يسميها البعض كذلك لأنها اكتشفت في المكتبة الفاتيكانية )،التي كتبت في القرن الرابع . ففي افتتاحية سفر العبرانيين هناك فقرة يقال لنا فيها ، وفقا لمعظم المخطوطات، إنَّ " المسيح يحمل (باليونانية : PHERON) كل الأشياء بكلمة قدرته"( عبرانيين 1 : 3 ). أما في المخطوطة الفاتيكانية ،فقد أحدث الناسخ الأصلي اختلافا دقيقا في النص ، باستخدامه أحد الأفعال المشابهة في اللغة اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص في الفاتيكانية كالتالي:" المسيح يُظِهر ( باليونانية :PHANERON) كل الأشياء بكلمة قدرته." بعد ذلك بعدة قرون ، قرأ ناسخ ثان هذه الفقرة في المخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة يُظهِِر ( manifests ) بالأكثر شيوعا يحمل (bears) - ماحيًا بذلك الكلمة الأولى وكاتبًا الأخرى. ثمّ قرأ المخطوطة ، بعد ذلك ببعض القرون ، ناسخ ثالث ولاحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ، بدوره ،الكلمة يحمل وأعاد كتابة الفعل يظهر .ثم أضاف ملاحظة ناسخ في الهامش ليشير إلى ما دار في خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه . تقول الملاحظة :" أيها الوغد الأحمق ، دع القراءة القديمة ،لاتحرفها !"

أحتفظُ بنسخة من تلك الصفحة وقمتُ بوضعها داخل إطار وعلقتها على الحائط فوق مكتبي كوسيلة ثابتة تذكرني بالنساخ ونزوعهم إلى تغيير ، وإعادة تغيير ما لديهم من نصوص. من الواضح أنَّ هذا كان تغييرا لحق بكلمة واحدة : فلماذا كل هذا الاهتمام به ؟ إن مبعث الاهتمام بهذا التغيير هو أن الطريقة الوحيدة لفهم ما يريد المؤلف أن يقوله هي أن تعرف كيف كانت كلماته - كل كلماته - في الحقيقة .( فكّر في كل المواعظ التي تبنى على أساس كلمة واحدة موجودة في أحد النصوص: ماذا لو أن هذه الكلمة لم يكتبها المؤلف في الحقيقة ؟) إن القول إن المسيح كشف كل الأشياء بكلمة قدرته يختلف اختلافًا تامًّا عن قولنا إنه يمسك الكون كله بكلمته !

مشكلات التعرف على "النص الأصلي"

وهكذا ، وقعت كل أنواع التغيير في المخطوطات عبر النساخ الذين قاموا بنسخها . ولعلنا نقوم بدراسة أنواع التغييرات بتعمق أكبر في أحد الفصول الأخيرة من هذا الكتاب . أما الآن ، يكفي أن نعرف أن هناك تغييراتٍ كانت تحدثُ ،و أنها كانت تحدث على نطاق واسع ، خاصة خلال المائتي عامًا الأولى التي كانت تنسخ فيهما النصوص ،عندما كان معظم النساخ من الهواة . أحد القضايا الرئيسية التي ينبغي أن يتعامل معها النقاد النصيين هي الطريقة التي سيستخدمونها في استرجاع النص الأصلي ـ أي النص كما كتبه المؤلف أول مرة - مع الوضع في الاعتبار أن مخطوطاتنا مليئة على نحوٍ بالغ بالأخطاء . هذه المشكلة تتفاقم وذلك لأنه ما أن يقعَ خطأٌ ،فمن الجائز أن يتحول إلى جزءٍ ثابتٍ من التقليد النصيِّ ، بل أكثر ثباتًا ،في الواقع ، من النص الأصلي نفسه . بطريقة أخرى ،أقول إنه بمجرد أن يغير ناسخٌ من النساخ نصًا ـ سواءٌ أكان ذلك بشكل عارض أو بصورة متعمدة - فإن هذه التغييرات تصبح باقـية في مخطوطته (ما لم يظهر ،بطبيعة الحال، ناسخ آخر ليصحح الخطأ). الناسخ التالي الذي ينسخ هذه المخطوطة ينسخ هذه الأخطاء (ظنًّا منه أنها هي ما يقوله النص )، و يضيف أخطاءا من عنده . الناسخ الذي يليه والذي سينسخ بعدئذ تلك المخطوطة سيقوم بنسخ الأخطاء التي تخص الناسخين السابقين له كليهما ويضيف أخطاءًا من عنديات نفسه ، وهكذا دواليك . الطريقة الوحيدة التي ستتكفل بتصحيح الأخطاء هي أن يعترف ناسخٌ بأنَّ ناسخًا سابقًا له قد وقع في خطأ ويحاول هو أن يصحِّحَ المشكلة . ليس هناك ضمانة ،رغم ذلك ، أن يقوم هذا الناسخ ،الذي يحاول تصحيح هذا الخطأ ،بالأمر بطريقة صحيحة . بطريقة أخرى ،هذا الناسخ ربما في الواقع يغيّر النص بطريقة غير صحيحة عندما كان كل ما يفكر فيه هو أن يصحح الخطأ، لذلك ينتج عندنا الآن ثلاثة أشكال من النص :النص الأصلي ،النص الخطأ ، النص الناتج عن المحاولة الخاطئة لتصحيح الخطأ. وتتعدد الأخطاء و تتكرر ؛ أحيانا يتم تصحيحها و أحيانا تتفاقم المشكلة .وهكذا تسير الأمور لقرون . أحيانا ، بالطبع ، يكون لدى ناسخ أكثر من مخطوطة واحدة بين يديه ، و يستطيع تصحيح الأخطاء في المخطوطة الأولى من خلال القراءات الصحيحة في المخطوطة الأخرى .هذا فعليًّا ، في حقيقة الأمر ، يؤدي إلى تحسين الموقف بصورة ملحوظة . من ناحية أخرى ، من المحتمل أحيانا أيضًا أن يقوم ناسخ بتصحيح المخطوطة الصحيحة في ضوء النص الخاص بمخطوطة غير صحيحة . والاحتمالات تبدو بلا نهاية . مع وضع هذه المشكلات في الاعتبار ، كيف يمكننا أن نأمل في استعادة نصٍّ أصليٍّ ما ، أي النص الذي كتبه المؤلف بالفعل ؟ إنها مشكلة هائلة . في الواقع ، إنها مشكلة ضخمة إلى درجة أنَّ عددًا من نقاد النصوص بدأوا في الادعاء أننا ربما سنتوقف أيضًا عن مناقشة أي شئ يتعلق بالنص " الأصلي" ، لأن النص الأصلي بالنسبة إلينا لا يمكن الوصول إليه . ربما يكون في هذا القول نوعٌ من المبالغة ، لكنَّ مثالا واقعيًّا أو مثالين مأخوذين من كتابات العهد الجديد ربما يكشف لنا حقيقة هذه المشكلات.

أمثلة لهذه المشكلات


بالنسبة للمثال الأول ، دعونا نأخذ رسالة بولس إلى أهل غلاطية . الصعوبات العديدة التي يتحتم علينا التعامل معها ، حتى بخصوص الكتابة الأصلية للرسالة ، ربما ستجعلنا متعاطفين أكثر مع هؤلاء الذين يريدون أن نتخلى عن التفكير في الشكل الذي كان عليه النص " الأصلي ". لم تكن غلاطية مدينة منعزلة بها كنيسة منعزلة ؛ بل كانت منطقة في آسيا الصغرى (تركيا المعاصرة ) كان بولس قد أنشأ فيها كنائس. عندما يكتب إلى أهل غلاطية ، فهل كان يكتب لواحدة من الكنائس أم لها جميعا ؟ كان بولس ،على ما يبدو ، بما أنه لا يحدد أي مدينة على وجه الخصوص ، يقصد أن تصل الرسالة إليها جميعا . هل هذا يعني أنه كتب نسخا متعددة من الرسالة نفسها ، أم أنه أراد أن يتم تمرير الرسالة الواحدة على كل كنائس المنطقة ؟ ليس لدينا معلومات بخصوص هذا الأمر . لنفترض أنه كتب نسخا متعددة . فكيف فعل ذلك ؟ في البدء ، يبدو أن هذه الرسالة ، مثل رسائل بولس الأخرى ،لم تكتب بخط يده وإنما بيد أمين سر للنسخ . الدليل على ذلك يأتي من نهاية الرسالة ، حيث أضاف بولس حاشية في مخطوطته الخاصة ، لكي يعرف المرسل إليهم أنه شخصيا هو المسئول عن الرسالة ( وهو أسلوب شائع مستخدم في الرسائل المكتوبة بطريق الإملاء في العصور القديمة ):" اُنْظُرُوا، بأي أحرف كبيرة أكتب إِلَيْكُمْ بِيَدِي!"(غلاطية 6 : 11). رسالته المكتوبة بخط يده ، بكلمات أخرى ، كانت أكبر حجما و ربما أقل احترافية من ناحية الشكل من تلك التي كتبها الناسخ الذي كان قد أمليت عليه الرسالة (15) .

الآن ، لو أملى بولس الرسالة ، فهل أملاها كلمة بكلمة ؟ أم هل قام بتوضيح النقاط الرئيسية وترك للناسخ الحرية في تسويد ما تبقى ؟

المنهجان كلاهما كانا شائعا الاستخدام لدى كتَبَة الرسائل في العصر القديم (16) . لو أكمل الناسخ بقية الرسالة ، فهل يمكننا التيقن من أنه قد أكملها تماما على الصورة التي أرادها بولس ؟ فإذا لم يفعل ، فهل لدينا في الواقع كلمات بولس ، أم هي كلمات بعض النساخ المجهولين ؟ لكن دعونا نفترض أن بولس أملى الرسالة كلمة بكلمة . فهل من الممكن أن يكون الناسخ في بعض المواضع قد كتب الكلمات الخاطئة ؟ أغرب من ذلك قد حدث . في هذه الحالة ، فمخطوطة الرسالة ( أي النص الأصلي ) فيها من البداية " خطأ" ، لذا فجميع النسخ اللاحقة لن تكون من كلمات بولس ( في المواضع التي أخطأ فيها ناسخه ).
فلنفترض ، مع ذلك ، أن الناسخ كتب الكلمات صحيحة بنسبة مائة بالمائة . لو صدرت نسخ عديدة من الرسالة ، فهل يمكننا أن نتأكد من أن كل النسخ كانت أيضًا صحيحة مائة بالمائة ؟ من المحتمل ، على الأقل ، أنه حتى لو نسخت جميعا في حضور بولس ، فكلمة أو اثنين هنا أو هناك ستتغير في نسخة أو في أخرى من النسخ. لوكان الأمر كذلك ،ماذا لو أن واحدة من تلك النسخ كانت هي التي صنعت منها كل النسخ اللاحقة ـ بدءا من القرن الأول ،وصولا إلى القرنين الثاني والثالث،وهلم جرًّا؟
في هذه الحالة ، النسخة الأقدم التي مثلت الأساس لكل النسخ اللاحقة من الرسالة لم تكن بالتمام ما كتبه بولس ،أو الذي أراده أن يُكتب. وبمجرد أن تنتشر النسخة ـ أي بمجرد أن تصل إلى غايتها في إحدى مدن غلاطية ـ فهي ،بطبيعة الحال ،ستنسخ ، وستحدث الأخطاء . في بعض الأحيان ربما سيغير النساخ النص بصورة عمدية ؛وأحيانا تقع الأخطاءعن طريق السهو . هذه النسخ المشتملة على الأخطاء يتم نسخها ؛وهكذا ،سيحدث الأمر ذاته في المستقبل. في مكان ما وسط هذا كله ، النسخة الأصلية ( أو كل من النسخ الأصلية ) ينتهي بها الحال إلى الضياع، أو البِلى ، أو إلى التلف. في بعض الأحيان ، لا يعود ممكنا مقارنة نسخة بالأصل للتأكد من أنها "صحيحة" ، حتى لو وُجِد شخص ما لديه الرغبة في فعل ذلك.
ما ظل باقيا اليوم ، إذن ، ليس هو النسخة الأصلية من الرسالة ، ولا واحدة من النسخ الأولى التي كان بولس نفسها قد كتبها ، ولا أيًا من النسخ التي أنتجت في أيٍّ من مدن غلاطيا التي أرسلت إليها تلك الرسالة ، ولا أيًا من النسخ المنسوخة بناءا على هذه النسخة . النسخة الأولى الكاملة إلى حد ما التي نملكها من الرسالة إلى أهل غلاطية (مخطوطة مؤلفة من كِسَر ،أي أن فيها عددا من الأجزاء المفقودة ) هي ورقة بردي تعرف باسم (P46)( حيث أنها كانت البردية رقم ستة وأربعين من برديات العهد الجديد وضعا في الفهارس أو الكشوف الخاصة بذلك)، والتي يرجع تاريخها إلى 200 ميلاديا تقريبا (17) . أي تقريبا بعد مرور 150 عاما من كتابة بولس للرسالة . لقد كانت متداولة ، ويتم نسخها أحيانا بشكل صحيح وأحيانا بشكل غير صحيح ، لخمسة عشر عَقْدًا قبل أن يتم إنتاج أيٍ من النسخ التي بقيت إلى الوقت الحاضر. لا يمكننا إعادة بناء نسخة من تلك النسخ التي أنتجت منها البردية " P46 ". فهل كانت هي ذاتها نسخة دقيقة ؟ لو كان الأمر كذلك ،فإلى أي درجة كانت دقتها (how accurate)؟ لقد كانت بالتأكيد تحوي أخطاءا من نوعا ما ، كما كان الحال مع النسخة ذاتها التي نُسِخَت منها ، والنسخة التي نسخت منها تلك النسخة ، وهلم جرا.
باختصار ، إن الحديث عن النص "الأصلي" للرسالة إلى أهل غلاطية هو أمرٌ شديد التعقيد . فالنص ليس لدينا . وأفضل ما يمكننا فعله هو أن نعود إلى مرحلة نسخه المبكرة ، وأن نأمل ببساطة في أن ما نعيد بناءه فيما يتعلق بالنسخ التي أنتجت في هذه المرحلة ـ بناءا على النسخ التي حدث وأن نجت من الضياع ( بعدد متزايد كلما اتجهنا إلى العصور الوسطى ) ـ يعكس بصورة معقولة ما كتبه بالفعل بولس نفسُه ، أو على الأقل ما كان ينوي أن يكتبه حينما قام بإملاء الرسالة .
بالنسبة للمثال الثاني لهذه المشكلات، دعونا نأخذه من إنجيل يوحنا . هذا الإنجيل يختلف بشدة عن غيره من الأناجيل الموجودة في ثنايا العهد الجديد ،فهو يخبرنا بعدد من القصص التي تختلف عن مثيلاتها في الأناجيل الأخرى و يستخدم أسلوب كتابة شديد الاختلاف . هنا ،في يوحنا ، أقوال المسيح هي عبارة عن حورات مطولة كبديل عن الأقوال المباشرة والفصيحة ؛ لا يقول يسوع في يوحنا ، على سبيل المثال ،أمثالا أبدا وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى . فوق ذلك ، الأحداث المحكية في يوحنا غالبا ما لا يكون لها وجود إلا في هذا الإنجيل فحسب : فعلى سبيل المثال ، حوارات المسيح مع نيقوديموس (في الفصل 3 ) ومع المرأة السامرية (الفصل 4) أو معجزاته الخاصة بتحويل الماء إلى خمر (الفصل 2) و إقامة أليعازر من الأموات (الفصل10). إن الصورة التي يرسمها المؤلف ليسوع هي صورة مختلفة اختلافًا تامًّا أيضًا ؛ فيسوع يقضي كثيرا من وقته ،وهو ما يختلف مع الأناجيل الثلاثة الأخرى ، في شرح من يكون هو (باعتباره المرسل من السماء )و في صنع " المعجزات" لكي يثبت أن ما يقوله عن نفسه صحيح .
لقد كان ليوحنا بلا شك مصادره الخاصة التي بنى عليها روايته ـ مصدر ربما كان يحكي معجزات يسوع ، على سبيل المثال ، ومصادر كانت تصف حواراته (18) . لقد جمع هذه المصادر معا ليحصل على سرده المتدفق لحياة يسوع ، ومهمته التبشيرية ، وموته و قيامته. من المحتمل ، مع ذلك ، أن يكون يوحنا في الواقع قد أنتج عددا مختلفا من النسخ لإنجيله . لقد لاحظ القراء طويلا ،على سبيل المثال، أن الفصل 21 يبدو وكأنه إضافة متأخرة . يبدو الإنجيل بالتأكيد أنه قد انتهى عند العدد 20 : 30 – 31 ؛ وأن الأحداث الواردة في الفصل 21 تبدو كنوع من الأفكار التي تخطر على البال في وقت متأخر ، ويحتمل أن تكون قد أضيفت لكي تكمل قصص ظهورات ما بعد القيامة ولتشرح أنه عندما مات "التلميذ الحبيب" المسئول عن حكاية التقاليد في الإنجيل ، لم يكن ذلك عكس النبوءة (قارن مع 21 : 22 – 23 ). فقرات أخرى من الإنجيل أيضًا غير مترابطة تماما مع الفقرات الباقية . حتى الفقرات الافتتاحية 1 : 1 – 18 ، التي تشكل نوعا من المقدمات الاستهلالية للإنجيل ، تبدو وكأنها مختلفة عن باقي الأعداد . هذه القصيدة المشهورة التي تتحدث عن "كلمة" الله الذي كان موجودا مع الله منذ البدء وكان نفسه الله ، والذي "صار جسدا " في المسيح يسوع . هذه الفقرة مكتوبة بأسلوبٍ شعريٍ رفيع ليس له وجود في بقية الإنجيل ؛ فوق ذلك ،وبينما تتكرر موضوعاته الحيوية في بقية القصة ، بعض كلماته الأكثر أهمية لم تتكرر مرة أخرى. لذا ، يسوع قد رسمت له صورة في أنحاء القصة باعتباره الشخص الذي جاء من فوق ، لكنه لم يُدْعَ "الكلمة" مرة أخرى في الإنجيل. هل يمكن أن تكون هذه الفقرة الاستهلالية قد أخذت من مصدر مختلف عن بقية الرواية ، وأنها أضيفت كبداية لائقة بمعرفة المؤلف بعد أن كانت نسخة أقدم من كتابه قد تم بالفعل نشرها ؟
افترض جدلا ، لمدة ثانية ، أن الفصل 21 و الأعداد 1 : 1- 18 لم يكونوا عناصر أصلية من الإنجيل . ماذا سيقدم ذلك من نفع لناقد نصيّ يريد أن يعيد بناء النص "الأصلي"؟ وأي أصل يعاد بناؤه ؟ كل مخطوطاتنا اليونانية تحتوي على هذه الفقرة موضع الدراسة . لذا فهل يعيد الناقد النصيّ بناء شكل من الإنجيل كان يحتوي هذه الفقرات في الأصل باعتباره النص الأصلي ؟ لكن أليس من الأولى أن نعتبر أن الشكل " الأصلي " المفترض أن يكون هو النسخة الأقدم ، هو ذلك الذي لا يحتويها ؟ لو أن شخصا أراد أن يعيد بناء الشكل الأقدم ،فهل من العدل أن يتوقف عند إعادة بناء ، فلنقل ، النسخة الأولى من إنجيل يوحنا ؟ لماذا لا يذهب حتى أبعد من ذلك و يحاول أن يعيد بناء المصادر التي تقف وراء الإنجيل ، مثل مصادر الآيات و مصادر الحوارات ، أو حتى التقاليد الشفهية التي تقف وراءها ؟
هذه أسئلة تؤرق النقاد النصيين ، والتي أدت بالبعض إلى أن يجادلوا حول ضرورة إهمال أي سعي وراء النص الأصلي ـ حيث إننا حتى لا يمكننا أن نتفق حول ما يحتمل أن يعنيه الحديث عن النص "الأصلي" ، فلنقل ،للرسالة إلى أهل غلاطية و إنجيل يوحنا . من ناحيتي ،مع ذلك ، ما زلت أفكر في أننا حتى لو لم نكن قادرين على الوصول إلى اليقين التام بخصوص ما يمكننا أن نحصل عليه ، إلا أننا نستطيع على الأقل أن نصل إلى التأكد من أن كل المخطوطات الباقية قد نسخت من مخطوطات أخرى ، والتي كانت بدورها منسوخة من مخطوطات أخرى ، وأننا على الأقل قادرين على العودة إلى المرحلة المبكرة و الأكثر قدما لكل تقليد مخطوط لأيٍ من كتب العهد الجديد . كل مخطوطاتنا لرسالة الغلاطيين ،على سبيل المثال ،تعود بشكل واضح إلى نص ما كان ينسخ ؛ كل مخطوطاتنا الخاصة بإنجيل يوحنا تعود بوضوح إلى نسخة من إنجيل يوحنا كانت تضم المقدمة الاستهلالية و الفصل 21 . وهكذا ينبغي أن نبقى راضين عن معرفتنا أن العودة إلى أقدم نسخة يمكن الحصول عليها هو أفضل ما يمكننا فعله ، سواء أستعدنا النص " الأصلي " أم لا . هذا الشكل الأكثر قدما من النص هو بلا شك متصل بشكل وثيق ( وثيق للغاية ) بما كتبه المؤلف في الأصل ، و لذلك فهو بمثابة الأساس لتفسيرنا لتعاليمه الخاصة .
يتبــــــــــــــــــع بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:28 AM
إعادة بناء نصوص العهد الجديد

هناك مشكلات مماثلة ، بطبيعة الحال ، تنطبق على كتاباتنا المسيحية المبكرة ، سواء أكانت تلك الموجودة في العهد الجديد أو الموجودة خارجه ، وسواء أكانت أناجيل ، وأعمالا ، رسائلا ،رؤىً ، أو أيًّا من أنواع الكتابة المسيحية الأخرى .
مهمة الناقد النصي هي "تحديد" ما يمثله الشكل الأقدم لكل هذه الكتابات . كما سنرى ، هناك مبادئ مستقرة للقيام بهذا ال"تحديد" ، وهناك طرق لتقرير أي من الاختلافات الموجودة في مخطوطاتنا هي التي تمثل الأخطاء(غير المقصودة) ، وأيها يمثل تغييرات مقصودة ، وأيها يبدو أنه يعود إلى المؤلف الأصلي . لكنها ليست مهمة يسيرة . فالنتائج ، من ناحية أخرى ،يمكن أن تكون كاشفة ،وممتعة و حتى مثيرة . لقد كان النقاد النصيون قادرين على تحديد عدد من المواضع التي لا تمثل فيها المخطوطات التي بين أيدينا نص العهد الجديد الأصليّ وذلك بيقين نسبيّ. بالنسبة لهؤلاء الذين ليس لديهم إطلاقا أيُّ معرفة مناسبة بهذا المجال ، ولكنهم يعرفون العهد الجديد جيدا ( فلنقل ، من خلال الترجمة الإنجليزية)، يمكن أن تكون بعض النتائج مفاجئة . في ختام هذا الفصل ، سأناقش فقرتين مشابهتين ـ فقرتان من الأناجيل ،في حالتنا هذه،نحن الآن على يقين تام من أنهما لم تكونا منتميتين في الأصل إلى العهد الجديد، على الرغم من أنهما أصبحتا أجزاءا مشهورة من الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين عبر القرون وظلا هكذا حتى اليوم .

المرأة الزانية

قصة يسوع والمرأة الزانية ربما هي واحدة من أشهر قصص يسوع في الكتاب المقدس ؛ ولقد ظلت دائما إحدى القصص المفضلة لدى جميع أفلام هوليوود التي تناولت حياته . بل إنها حتى نجحت في أن تكون جزءا من فيلم آلام المسيح لمخرجه مل جيبسون ،رغم أن الفيلم يركز فقط على الساعات الأخيرة من حياة يسوع ( القصة تمت معالجتها في إحدى الارتجاعات الفنية (flashbacks) ). هذه القصة ،رغم شهرتها ، موجودة في فقرة واحدة فقط من العهد الجديد ،تحديدا في يوحنا 7 : 53 ـ 8 : 12 ، وهي لا تبدو أصليةً حتى في هذا الموضع .

حبكة القصة عادية . فيسوع يعلِّم في الهيكل ، ومجموعة من الكتبة والفريسيين ،أعداءه اللدودين ،يقتربون منه ، محضرين معهم امرأة " أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ" .لقد أحضروها أمام يسوع لأنهم يريدون أن يضعوه أمام اختبار. فالشريعة الموسوية ،كما يخبرونه ،تطالب بأن ترجم مثل هذه المرأة حتى الموت ؛ لكنهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله هو حول هذا الأمر. هل ينبغي أن يرجموها أم يظهروا تجاهها الرحمة ؟ إنه شَرَكٌ ،بطبيعة الحال. فلو أخبرهم يسوع أن يتركوها لحال سبيلها ، سيتهم بأنه قد انتهك شريعة الله ؛ ولو قال لهم أن يرجموها سيتهم بمخالفة تعاليمه الخاصة عن المحبة والرحمة و الغفران . لم يتعجل يسوع الرد ؛ بدلا من ذلك انحنى ليتمكن من الكتابة على الأرض . ولما استمروا في سؤاله ، إذا به يقول لهم ،" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ! ". ثم يعود إلى كتابته على الأرض ،في حين يبدأ هؤلاء في المغادرة - وهم يشعرون كما هو واضح بالخزي من فعلتهم الشريرة - حتى إن أحدًا بخلاف المرأة لم يبق في المكان. فنظر يسوع إلى أعلى ، وهو يقول:" يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ " فردت عليه " لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ " فأجابها حينئذ " ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً" . إنها قصة رائعة ، مفعمة بالمشاعر و بالمدارة الماكرة التي استخدم فيها يسوع ذكاءه لينجو بنفسه- ناهيك عن المرأة المسكينة- من هذا الشَرَك .

بطبيعة الحال ، بالنسبة لقارئٍ يقظٍ ، تثير القصة أسئلة عديدة . لو كانت هذه المرأة مقبوض عليها بتهمة الزنا ، على سبيل المثال ،فأين الرجل الذي ضبطت معه ؟ كلاهما مستوجبٌ الرجم ، وفقا لشريعة موسى (انظر لاويين 20 : 10 ). فوق ذلك ، عندما كتب يسوع على الأرض ، ماذا كان يكتب بالضبط ؟ (وفقا لتقليد قديم ، كان يسوع يكتب خطايا المشتكين ،الذين لما رأوا أن جرائمهم كانت معروفة ،غادروا يجللهم العار!)

وحتى لو كان يسوع بالفعل يعلِّم رسالة المحبة ،فهل كان يعتقد فعلا أن شريعة الله التي أعطاها لموسى لم تعد سارية المفعول و ينبغي أن لا تطاع ؟ وهل كان يعتقد على وجه الإطلاق أن الخطايا لا يعاقب المرء عليها ؟

على الرغم من رونق القصة ،وجودتها الأخاذة ، وحبكتها الفطرية ، فهناك مشكلة أخرى عويصة تواجهها . كما سيتضح ، فهذه القصة لم تكن أصلية في إنجيل يوحنا. بل لم تكن ،في الواقع ، جزءا أصيلا من أيِّ إنجيل . فلقد أضيفت بمعرفة ناسخ آخر في زمن متأخِّر . كيف نعرف ذلك ؟ في الواقع ، العلماء الذين اشتغلوا بالتقليد المخطوط ليس لديهم أي شكوك بشأن هذه الحالة على وجه الخصوص . في هذا الكتاب في وقت لاحق سنقوم بفحص أكثر عمقًا أنواع الدليل الذي يورده العلماء للحكم على هذا النوع من التغيير. سأشرح الآن قليلا من الحقائق الأساسية التي ثبت أنها مقنعة للعلماء كلهم تقريبا من مختلف الاتجاهات : القصة غير موجودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا لإنجيل يوحنا (18) ؛ أسلوب الكتابة المستخدم فيها أصعب كثيرًا من ذلك الذي نجده في بقية إنجيل يوحنا (بما في ذلك القصص التي قبلها والتي بعدها مباشرة)؛كما تتضمن عددا كبيرا من الكلمات والجمل التي هي بطريقة أخرى غريبة عن الإنجيل . والنتيجة التي لا مفر منها : هذه الفقرة لم تكن جزءًا أصيلا من الإنجيل .

فكيف حدث أن أضيفت هذه القصة إذن ؟ هناك العديد من النظريات حول هذا الأمر . معظم العلماء يعتقدون أنه من المحتمل أنها كانت قصة معروفة ومتداولة في التقليد الشفوي حول يسوع ،وأنها أضيفت في لحظة ما إلى هامش إحدى المخطوطات . ومن هناك اعتقد بعض النساخ أو غيرهم أن الملاحظة الموجودة في الهامش يقصد منها أن تكون جزءا من النص ولذلك أدخلوها مباشرة بعد القصة التي تنتهي عند يوحنا 7 : 52 . من الجدير بالملاحظة أن نساخا آخرين أدخلوا القصة في مواضع مختلفة في العهد الجديد ـ بعضهم بعد يوحنا 21 : 25 ،على سبيل المثال،والآخرون ،وهو أمر في غاية الطرافة ،بعد لوقا 21 : 38 . على أية حال ، أيّا كان كاتب القصة ، إلا أنه لم يكن يوحنا بالتأكيد.

لو لم تكن هذه القصة جزءا من يوحنا في الأصل،فهل كان من المفترض أن تكون جزءا الكتاب المقدس؟ لن يجيب كل إنسان على هذا السؤال بالطريقة ذاتها ،لكن بالنسبة لغالبية النقاد النصيين ، الإجابة هي لا .


الاثنا عشرة عددًا الأخيرة من مرقس



المثال الثاني الذي سنناقشه ربما لا يكون مألوفا لدى القارئ المتقطع للكتاب المقدس، لكنه كان ذا أثر عظيم الشأن في تاريخ التفسير الكتابي (biblical) ويفرض مشكلات على الدرجة نفسها على علماء التقليد النصي للعهد الجديد. إن هذا المثال مأخوذ من إنجيل مرقس و يتعلق بخاتمته.

في الرواية المرقسية ، يقال لنا إن يسوع يصلب و يدفن بمعرفة يوسف الأريماتي في اليوم السابق للسبت (15 : 42 – 47 ). في اليوم التالي للسبت ،عادت مريم المجدلية و نساء أخريات إلى القبر ربما لكي يدهنَّ الجسد (16 : 1- 2 ). عندما يصلن ، يجدن أن الحجر قد تم تحريكه بعيدا . ولدى دخولهن إلى القبر ، يرين شابا في ثوب أبيض ، يخبرهن أن،" لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. " ثم يأمر النساء أن يخبرن التلاميذ أن يسوع قد سبقهم إلى الجليل و أنهم سيرونه هناك ،" هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ " لكن النساء يهربن من القبر ولا يقلن أي شئ لأي شخص ،" لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "(16 : 4-8 ).

ثم تأتي الأعداد الاثنا عشر الأخيرة في مرقس الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية المعاصرة ، وهي الأعداد التي تواصل الحكاية. يسوع نفسه يقال عنه إنه ظهر لمريم المجدلية ، التي ذهبت و أخبرت التلاميذ ؛ لكنهم لم يصدقوها( ألعداد 9 – 11). فيظهر بعد ذلك إلى اثنين آخرين (الأعداد 12-14 )، وفي النهاية للأحد عشر تلميذا (الاثنا عشر باستثناء يهوذا الإسخريوطي) الذين اجتمعوا معا على المائدة . يوبخهم يسوع على عدم إيمانهم ،ثم يكلفهم بالخروج و أن يكرزوا بإنجيله " لكل الخليقة". من يؤمن ويعتمد " يخلُص"، ومن لا يؤمن "يُدن". ثم يأتي اثنان من أكثر الأعداد إثارة للجدل في الفقرة :

وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ.يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ. (الأعداد 17 – 18 )

يُرْفَع يسوع إلى السماء ، ويجلس على يمين الله . وأما التلاميذ فيخرجون إلى العالم مكرزين بالإنجيل ،و كلامهم يشهد على صحته ما يرافقه من آيات (الأعداد 19 – 20 ).

إنها فقرة رهيبة ،غامضة ،مثيرة للمشاعر ،و قوية . إنها واحدة من الفقرات التي يستخدمها المسيحيون الخمسينيون لإظهار أن أتباع يسوع سيكونون قادرين على التكلم ب"ألسنة" غير معروفة لهم ، كما يحدث ذلك في أثناء طقوس العبادة عندهم ؛ وهي الفقرة الرئيسية التي تستخدمها مجموعات "مدربي الثعابين الأبالاتشيين " (Appalachian snake-handlers) الذين حتى اليوم يمسكون بالثعابين السامة في أيديهم لكي يظهروا إيمانهم بكلمات يسوع بأنهم عندما يفعلون ذلك لن يصيبهم أي أذى. لكن ثمة مشكلة واحدة . مرة أخرى ، هذه الفقرة ليست جزءا أصيلا في إنجيل مرقس . فلقد أضافها أحد النساخ المتأخرون . هذه المشكلة النصية بطريقة ما هي أكثر إثارة للجدل من الفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ، لأن مرقس بدون هذه الأعداد الختامية سيكون له خاتمة شديدة التناقض و يصعب فهمها .

هذا لا يعني ،كما سنرى بعد لحظات، أن العلماء يميلون لقبول هذه الأعداد . أسباب اعتبارها إضافة هي أسباب قوية ، وتقريبا لا يمكن الجدال بشأنها . لكنَّ العلماء يتجادلون حول ما كانت عليه بالفعل النهاية الأصلية لإنجيل مرقس ، مع التسليم بأن هذه الخاتمة ،الموجودة في كثير من الترجمات الإنجليزية (على الرغم من أنها توسم عادة بأنها غير موثوقة )و في بعض المخطوطات اليونانية الأحدث ،غير أصلية . الدليل على أن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل مرقس مشابه نوعيًا لذلك الخاص بالفقرة التي تتحدث عن المرأة الزانية ،ومرة أخرى لست بحاجة إلى الدخول في التفاصيل هنا .هذه الأعداد مفقودة في أقدم وأفضل مخطوطاتنا التي تخص إنجيل مرقس ، إلى جانب شواهد أخرى هامة ؛ فمثلا أسلوب الكتابة فيها يختلف عن ما نجده في أي مكان آخر في مرقس ؛ التحول أو النقلة بين هذه الفقرة و الأخرى التي تسبقها يصعب فهمه( مريم المجدلية ، مثلا ، يتم التعريف بها في العدد 9 كما لو كانت لم تذكر من قبل ، على الرغم من أنها تم التحدث عنها في الأعداد السابقة ؛ هناك مشكلة أخرى مع اللغة اليونانية يجعل حتى هذا التحول أكثر صعوبة )؛ وهناك عدد كبير من الكلمات والجمل في الفقرة ليس لها وجود في أي مكان آخر في مرقس. باختصار ، الدليل كاف لإقناع كل علماء النص تقريبا أن هذه الأعداد تمثل إضافة إلى إنجيل مرقس. في غياب هذه الأعداد ،مع ذلك ،تنتهي القصة بشكل مفاجئ للغاية . انتبه لما سيحدث عندما تحذف هذه الأعداد .يقال للمرأة أن تخبر التلاميذ أن يسوع سيسبقهم إلى الجليل و سيلتقيهم هناك ؛ لكنهن ،أي النساء ، يهربن من القبر و لا يقلن أي شئ لأي شخص " لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ ". وهنا ينتهي الإنجيل . من الواضح أن النساخ اعتقدوا أن الخاتمة كانت مفاجئة للغاية . هل النساء لم يخبرن أحدًا ؟ إذن ،هل التلاميذ لم يعرفوا على الإطلاق بحدوث القيامة ؟ وهل يسوع نفسه لم يظهر لهم أبدا ؟ يالها من خاتمة! لحل هذه المشكلة ، أضاف النساخ خاتمة من عندهم (19) .

"بعض العلماء يتفقون مع النساخ حول الاعتقاد بأن العدد 16 : 8 هو نهاية تم بترها بشكل مفاجئ جدا يتجاوز الحد المعقول بالنسبة لخاتمة إنجيل. و لا يعني هذا ،كما أشرت من قبل ، أن هؤلاء العلماء يؤمنون بأن الأعداد الاثنا عشر الأخيرة الموجودة في مخطوطاتنا الحديثة نسبيا تمثل النهاية الأصلية ـ هم يعلمون أن هذا ليس صحيحا ـ لكنهم يعتقدون أن الصفحة الأخيرة من مرقس ، التي يلتقي فيها يسوع فعليا تلاميذه في الجليل ، من المحتمل ، أن تكون قد فُقِدَت بطريقة ما، ويعتقدون أن كل نسخنا من الإنجيل تعود لتلك المخطوطة المبتورة بدون صفحتها الأخيرة . هذا التفسير جائز تماما .ومن الجائز أيضًا ،في رأي علماء آخرين ،أن مرقس لم يكن يقصد حقا أن ينهي إنجيله بالعدد 16 : 8 (20) . فهي بالتأكيد نهاية مروعة . فالتلاميذ لم يعلموا أبدا حقيقة قيامة يسوع لأن النساء لم يخبرنهم بذلك على الإطلاق . بقي سبب وحيد فقط يدفعنا للتفكير بأن هذه ربما تكون الطريقة التي اختارها مرقس لينهي بها إنجيله :ألا وهو أن مثل هذه النهاية تتوافق جيدا مع دوافع أخرى في كل مكان من إنجيله .فكما لاحظ دارسوا إنجيل مرقس طويلا ، لم يبدُ التلاميذ أبدا " أذكياء" في هذا الإنجيل (بخلاف بعض الأناجيل الأخرى). فالإنجيل يقول عنهم مرارا وتكرارا أنهم لم يفهموا يسوع (6 : 51 – 52 ؛ 8 : 21 )، وعندما يقول لهم يسوع في مناسبات عديدة أنه ينبغي أن يتألم ويموت ، يفشلون بوضوح في فهم كلماته (8: 31 – 33 ؛9 : 30 – 32 ؛10 : 33- 40 ). ربما ،في واقع الأمر ، لم يكن بإمكانهم على الإطلاق أن يفهموا( بخلاف قرّاء إنجيل مرقس ، الذين يستطيعون أن يفهموا من هو المسيح في الواقع من أول الأمر ). أيضًا ، من الطريف أن نلاحظ أنه في كل موضع من إنجيل مرقس ، عندما يتمكن شخص ما من فهم شئ ما عن المسيح ،يأمر يسوع هذا الشخص بالسكوت ـ إلا أن الشخص كثيرا ما يتجاهل الأمر ويذيع الخبر ( انظر مثلا 1 : 43 – 45 ). فياله من أمر مثير للسخرية أنه عندما يقال للنساء عند القبر أن لا يصمتن بل يتكلمن ، فإذ بهن يتجاهلن الأمر أيضًا ـ ويصمتن !

باختصار ، ربما كان مرقس قد تعمد أن يوقف قارئه مندهشا أمام هذه النهاية المبتورة ـ وهي طريقة ذكية لجعل القارئ يتوقف ، ويأخذ نفسا متقطعا و يسأل : ما هذا ؟



الخاتمة

الفقرات التي ناقشناها فيما سبق تغطي موضعين فقط من بين آلاف المواضع التي تعرضت فيها مخطوطات العهد الجديد للتغيير على يد النساخ . في المثالين كليهما ، نحن نتعامل مع إضافات أحدثها النساخ في النص ، أضافات ضخمة العدد . ومع أن معظم التغييرات لم تكن بهذه الجسامة ، إلا أنه ثمة كثير من التغييرات الهامة (وكثير جدا من التغييرات غير الهامة ) في مخطوطات العهد الجديد الموجودة لدينا . في الفصول التالية سنرغب في رؤية كيف بدأ العلماء في اكتشاف هذه التغييرات وكيف طوروا مناهج لفهم ما كان عليه الشكل الأقدم من النص ( أو النص " الأصلي ") ؛ سنكون حريصين بشكل خاص على رؤية المزيد من الأمثلة عن المكان الذي تعرضت فيه هذه النصوص للتغيير ـ وكيف أثرت هذه التغييرات على ترجماتنا الإنجليزية للكتاب المقدس . أودّ أن أنهي هذا الفصل بملاحظة بسيطة عن أمر مثير للسخرية الشديدة يبدو أننا اكتشفناه . كما رأينا في الفصل 1 ، كانت المسيحية منذ البداية ديانة كتابية أكدت على بعض النصوص باعتبارها الكتاب المقدس الرسمي . وكما رأينا في هذا الفصل ، رغم ذلك ، نحن لا نملك في الواقع هذه النصوص الرسمية . إن الديانة المسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ، وما بقي فقط ،في شكل نسخ، يختلف من واحدة لأخرى ، وفي كثير من الأحيان يكون الاختلاف في أمور شديدة الأهمية . إن مهمة الناقد النصي هي محاولة استعادة الشكل الأقدم من هذه النصوص . هذه المهمة واضح أنها شديدة الأهمية ، حيث إننا لا يمكن أن نفسر الكلمات الواردة في العهد الجديد لو لم نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات . فوق ذلك ، كما آمل أن يكون واضحا الآن ، معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل هؤلاء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من الله . بل هي مهمة من أجل أي شخص يعتقد أن العهد الجديد كتاب هام . وبالتأكيد كل شخص مهتم بالتاريخ ، والمجتمع و بثقافة الحضارة الغربية يعتقد ذلك ، لأن العهد الجديد ،إن لم يكن أكثر من ذلك ، هو منتج ثقافي ضخم ، وكتاب يوقِّره الملايين ويمثل الأساس لأكبر الديانات في عالم اليوم ."


يتبع ..

نور الإسلام
05-02-2012, 11:28 AM
هوامـــش الفصل الثاني
(1) لمزيد من النقاش ، انظر كتاب هاري واي. جامبل " كتب وقراء في الكنيسة المبكرة: تاريخ النصوص المسيحية (نيو هافن : مطبعة جامعة يال ،1995 )، الفصل 3.
(2) " مقالات أخلاقية "(Moral essays ) لسينيكا ،تحرير وترجمة جون و. باسور (John .w Basore ) (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ لندن :هاينمان ،1925 )، ص 221 .
(3) مارشال : الإبيجرامات ، تحرير وترجمة والتر .سي . إيه. كر (مكتبة لويب الكلاسيكية ؛ كمبريدج : مطبعة جامعة هارفارد ،1968 )،1 :115 .
(4) للاطلاع على نقاش واسع انظر كتاب "حراس الحروف " لهاينز أيتزن".
(5) استعرت هذا المثال من بروس .م .ميتزجر . انظر كتاب "نص العهد الجديد: نقله و ضياعه و استعادته " لبروس ميتزجر وبارت إرمان ، الطبعة ال4 (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد ،2005 )، 22 – 23 .
(6) هذا ما صرح به في القائمة الموراتورية الشهيرة ، أقدم قائمة من الكتب المقبولة باعتبارها "قانونية" بمعرفة مؤلفها المجهول . انظر "الديانات المسيحية المفقودة " لبارت إرمان ،240 – 243 .
(7) هذه واحدة من استنتاجات كيم هاينز الهامة في كتابه "حراس الحروف ".
(8) أقصد بقولي "ناسخ محترف" هؤلاء النساخ الذين كانوا مدربين بشكل خاص و/أو يحصلون على مقابل مادي نظير قيامهم بنسخ النصوص كجزء من وظيفتهم . في فترة متأخرة ، كان الرهبان في الأديرة بصورة نمطية مدربين ، لكنهم لم يكونوا يحصلون على مقابل مادي؛ وربما يشملهم تعريفي بين طبقات النساخ المحترفين .
(9) تفسير متى 15 .14 ، كما يقتبسه بروس ميتزجر في كتابه " إشارات واضحة في أعمال أوريجانوس إلى القراءات المتباينة في مخطوطات العهد الجديد" في الدراسات الكتابية والآبائية في ذكرى روبرت بيرس كاسي ، بتحرير ج. نيفيل بيردسال و روبرت .و.تومسون (فرايبرج :هيردر،1968 )،78 – 79 .
(10) ضد سيلزس 2 . 27 .
© نوع من النبات يرمز به إلى الأتباع الزائفين كما في متى 13 : 25 – 30 .
(11) انظر كتاب بارت .د إرمان " التخريب الأرثوذكسي للكتاب المقدس : آثار النزاعات المبكرة حول طبيعة المسيح على نص العهد الجديد (نيو يورك : مطبعة جامعة أكسفورد ،1993 )
(12) أوريجانوس "حول المبادئ الأولى "(On Frist principles ) مقدمة روفينوس ؛كما اقتبسها جامبل في كتابه " كتب وقراء" ص 124 .
(13) انظر هامش رقم 8 في الأعلى .
(14) لملاحظات أخرى أضيفت إلى المخطوطات بمعرفة نساخ منهكين أو شاعرين بالملل ، انظر الأمثلة التي ساقها ميتزجر وإرمان في " نص العهد الجديد" الفصل 1 ، القسم الثالث .
(15) في مناسبة واحدة فحسب عرف واحد من أميني سر النسخ لدى بولس نفسه ؛ كان شخص يسمى تيرتيوس ، أملى عليه بولس رسالته إلى أهل رومية ، انظر رومية 16 : 22 .
(16) انظر ،على وجه الخصوص ، كتاب "السكرتاريا في رسائل بولس (the Secretary in the Letters of Paul) " لـ إي.راندولف ريتشاردز (توبنجن :مور/سيبيك ، 1991 ).
(17) حتى العهد الجديد يشير غإلى أن كتبة الإنجيل طان لديهم "مصادر " لقصصهم . في لوقا 1 : 1- 4 ،على سبيل المثال ،يصرح المؤلف أن "كثيرين" من السابقين كانوا قد كتبوا قصة حول الأمور التي قالها يسوع وفعلها ،وأنه ، بعد قراءته لكتاباتهم ومشاورته "لشهود وخدام الكلمة "، قرر أن يكتب قصته الخاصة ، وهي القصة التي كما يقول هو ،خلافا للآخرين ،"أكثر دقة ". أو بكلمات أخرى ، كان لدى لوقا مصدرا الأحداث التي حكاها كلاهما المكتوب منهما والشفوي ـ فهو نفسه لم يكن شاهدا على حياة يسوع الأرضية . والأمر نفسه يبدو متطابقا مع كُتَّاب الأناجيل الآخرين كذلك . بخصوص مصادر إنجيل يوحنا ،انظر كتاب إرمان "العهد الجديد " 164 – 167.
(18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين .
(18) سنرى فيما بعد كيف أن بعض المخطوطات يمكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من الآخرين .
(19) في الواقع ، كان هناك نهايات مختلفة أضيفت بمعرفة نساخ مختلفين ـ ليس فقط الاثنا عشر عددا المألوفة لقراء الكتاب المقدس الإنجليزي . للاطلاع على كل النهايات ، انظر كتاب بروس ميتزجر " تفسير نصي حول العهد الجديد اليوناني " الطبعة الثانية . (نيويورك : جمعية الكتاب المقدس الموحد ،1994 )، 102 ـ 106 .
(20) انظر كتاب إرمان " العهد الجديد " الفصل 5 ،خصوصا الصفحات 79 – 80 .

نور الإسلام
05-02-2012, 11:28 AM
الفصل الثالث
نصوص العهد الجديد...الطبعات،المخطوطات،والاختلافات


ما رأيناه من الممارسات التي كانت تقع في أثناء عملية النسخ حتى هذه اللحظة ينتمي في الأغلب إلى القرن الثالث المسيحي ،عندما كان معظم نساخ النصوص المسيحية من غير المحترفين ،ممن لم يتلقوا تدريبًا على القيام بهذه الوظيفة ، بل كانوا ببساطة مسيحيين مثقفين من هذه الطائفة أو تلك،ممن يعرفون القراءة والكتابة ولذلك طُلب إليهم أن يعيدوا كتابة النصوص التي تمتلكها الطائفة في أوقات فراغهم (1) .ولأنهم لم يحصلوا على تدريبٍ عالٍ يؤهلهم للقيام بعمل كهذا ،فقد كانوا أكثر ميلا للوقوع في تلك الأخطاء التي ما كان للمحترفين من النسَّاخ أن يقعوا فيها.
هذا يفسر لماذا كانت النسخ المبكرة من كتابات المسيحيين الأوائل تميل إلى الاختلاف في العادة من نسخةٍ لأخرى وبالمقارنة مع النسخ المتأخرة أكثر مما تختلف فيه النسخ المتأخرة(ولنقل التي تنتمي إلى العصور الوسطى العليا) فيما بينها . في النهاية أصبحت هناك طبقة من النساخ المسيحيين المحترفين تمثل جزءًا من المشهد الفكري المسيحي ،وبظهور هؤلاء النسَّاخ المحترفين ظهرت ممارسات نسخية أكثر انضباطًا ،ارتكبت فيها الأخطاء بشكل أقل من المعتاد.
قبل أن يحدث ذلك،وأثناء القرون الأولى من عمر الكنيسة،كانت النصوص المسيحية يتم نسخها في أي مكان كانت تكتب فيه أو تؤخذ إليه. ولأن النصوص كانت تنسخ محليًّا،فلم يكن من قبيل المفاجأة أن تقوم المدن الأخرى بتطوير أنواع أخرى من التقاليد النصية.
بكلماتٍ أخرى،المخطوطات التي كتبت في روما وجدت فيها الكثير من الأخطاء ذاتها،لأنها كانت في الغالب وثائقًًا "للاستخدام المحلي" ،كتبت من ناسخ لآخر ؛فلم تتأثر كثيرًا بالمخطوطات التي كانت تنسخ في فلسطين؛ وتلك التي نسخت في فلسطين كانت لها خصائصها المميزة،والتي لم تكن من النوع نفسه الموجود في مخطوطات مكان مثل الإسكندرية،في مصر. فوق ذلك، في القرون المبكرة للكنيسة،كان لبعض الأماكن نسَّاخ أفضل من المتوفرين في الأماكن الأخرى.ولقد أصبح العلماء المعاصرون يقرُّون بأن نساخ الإسكندرية– التي كانت مركزًا فكريًأ رئيسيًا في العالم القديم- كانوا بشكل خاص من ذوي الضمائر الحية ،حتى في هذه القرون القديمة،وهناك ،أي في الإسكندرية، ظل شكلٌ شديدُ النقاءِ من نصوص كتابات المسيحيين الأوائل محفوظًا،طوال عشرات السنين،عبر نساخ مسيحيين متفانين و ماهرين نسبيًا.


النساخ المسيحيُّون المحترفون
متى بدأت الكنيسة في استخدام النسَّاخ المحترفين لنسخ نصوصها؟ هناك أسباب مقنعة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن ذلك قد حدث في وقت ما قريب من بداية القرن الرابع. فقبل ذلك الحين،كانت المسيحية ديانة صغيرة تعتنقها أقلية داخل الإمبراطورية الرومانية ،كثيرًا ما تعرضت هذه الأقلية للاضطهاد،و للتعذيب أحيانًا. ولكنَّ تغييرًا عنيفًا وقع حينما تحول إمبراطور روما،قسطنطين،إلى الإيمان عام 312 ميلاديًا تقريبًا. فجأة تغير حال المسيحية من كونها ديانة المنبوذين مجتمعيًا ،المعذَّبين بأيدي الرعاع و سلطات الإمبراطورية على حدٍ سواء ،إلى لاعبٍ رئيسيّ في المشهد الديني في الإمبراطورية. لم يتوقف التعذيب فحسب بل وانهالت العطايا على الكنيسة من القوة الأعظم في العالم الغربي. وقد نتج عن ذلك اعتناقات جماعية للمسيحية،كما أصبح أن تكون تابعًا من أتباع المسيح أمرًا شائعًا في عصرٍ زعم فيه الإمبراطور نفسه علانيةً التزامه بالمسيحية.أعداد أكبر وأكبر من الحاصلين على تعليم عالٍ و من المدربين تحولوا إلى المسيحية. وكان من الطبيعيّ أن يكونوا الأشخاص الأكثر أهليةً لنسخ نصوص التقليد المسيحي.هناك أسباب تجعلنا نفترض أن قريبًا من هذه الفترة ظهرت الإسكريبتوريات المسيحية (Christian ******oria) في المناطق الحضرية الرئيسية(2). والإسكريبتوريا هي مكان لنسخ المخطوطات يتميز بكون نسَّاخه من المحترفين. لدينا إشارات عن أماكن النسخ (الإسكريبتيريات) المسيحية التي كانت تعمل في وقت قريبٍ من بواكير القرن الرابع. في 331 ميلاديًا كتب الإمبراطور قنسطنطين ،الذي كان يريد توفير نسخ من الكتب المقدسة (Bibles ) في الكنائس الرئيسية التي قام ببنائها، أمرًا لأسقف قيصرية ،يوسابيوس (3)،لكي يتولى الإشراف على كتابة خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الإمبراطور. تعامل يوسابيوس مع هذا الطلب بكل الأبهة والاحترام اللذين يستحقهما ،وعمل على تنفيذه. وكما هو واضح،فإن تنفيذ مثل هذا الأمر الجسام كان يتطلب مواقع للنسخ تتسم بالاحترافية ،ناهيك عن المواد اللازمة لكتابة نسخ باهظة من الكتابات المقدسة المسيحية. نحن الآن في عصر آخر قبل هذا بقرن فقط أو قرنين عندما سيكون على الكنائس المحلية أن تطالب ببساطة بأن يقوم واحدًا من أعضائها بجمع وقت فراغ كاف لكتابة نسخة من نص. بدءًا من القرن الرابع أصبحت نسخًا من الكتاب المقدس تكتب عن طريق المحترفين؛هذا حدَّ بشكل كبير من عدد الأخطاء التي تسللت إلى النص. في النهاية،بعد أن مرَّت ليس فقط عشرات السنين بل قرون، أصبح نسخ المخطوطات اليونانية يقع على عاتق الرهبان اللذين يعملون في الأديرة،اللذين قضوا أيامهم في نسخ النصوص المقدسة بعناية وبضمير حيّ. استمر هذا الأمر منذ مطلع العصور الوسطى وعبرها ،وصولا إلى عصر اختراع الطباعة بالحروف المتحركة في القرن الخامس عشر.الحجم الأكبر من المخطوطات اليونانية المتوفرة في أيدينا كتبت بأقلام هؤلاء النساخ المسيحيين المنتمين إلى القرون الوسطى اللذين عاشوا وعملوا في الشرق (في المناطق الواقعة الآن في تركيا واليونان على سبيل المثال)،المعروف باسم الامبراطورية البيزنطية. ولهذا السبب، تسمى المخطوطات اليونانية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع فما فوق أحيانًا المخطوطات "البيزنطية". و كما أوضحت سابقًا،أي شخص له معرفة بمنهج مخطوطات العهد الجديد يعلم أن هذه النسخ البيزنطية تميل إلى أن تكون شديدة التشابه من واحدة لأخرى، في حين تختلف النسخ الأقدم بشكل كبير سواء فيما بينها أو مع شكل النص الموجود في هذه النسخ الأحدث(أي البيزنطية). السبب وراء ذلك لابد وأنه واضح الآن: هذا الأمر كان له علاقة بشخصية ناسخ النصوص (النساخ المحترفين) ومكان قيامهم بعملية النسخ(في نطاق محدودة نسبيًا). على الرغم من ذلك ،من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن كون المخطوطات الأحدث متوافقة بشكل كبير بعضها مع بعض ،فإنها تكون لهذا السبب شاهدنا الرئيسي على النص "الأصلي" للعهد الجديد.وذلك لأن الإنسان ينبغي أن يتسائل دائمًا:أين حصل هؤلاء النسَّاخ المنتمين إلى القرون الوسطى على هذه النصوص التي نسخوها بهذه الطريقة الاحترافية؟ لقد حصلوا عليها من نصوص أقدم ،التي هي مع ذلك نسخ من نصوص أقدم،التي هي بدورها نسخٌ من نصوص أخرى أقدم. لذلك، النسخ الأقرب من ناحية الشكل إلى الأصول هي ،ربما وبشكل غير متوقع،نسخ العصور الأقدم الأكثر اختلافا و الأقل اتقانًا،وليس النسخ الأحدث التي تتميز بأنها أكثر احترافية وتوافقًا.

الفولجاتا(الشعبية) اللاتينية

ممارسات النساخ التي قمت بتلخيصها تتعلق بشكل أساسي بالجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية ،حيث كانت اللغة اليونانية،ومازالت،هي اللغة الرئيسية.لم يكن على المسيحيين في المناطق التي لا تتحدث باليونانية من اللذين كانوا يريدون النصوص المسيحية المقدسة بلغتهم المحلية الخاصة ،على الرغم من ذلك،الانتظار طويلا . كانت اللاتينية،بالطبع،لغة الشطر الأكبر من الجزء الغربي من الإمبراطورية؛ أما السوريانية فقد كانت اللغة الرسمية في سوريا؛بينما القبطية هي السائدة في مصر . في كل منطقة من هذه المناطق ، أصبحت كتب العهد الجديد تترجم إلى هذه اللغات الوطنية،ربما في وقت ما في النصف الثاني من القرن الثاني . ثم بعد ذلك نسخت هذه النصوص ذاتها عبر النسَّاخ في مناطقهم المحلية (4). حملت الترجمات اللاتينية أهمية خاصة لتاريخ النص،لأن عددًا كبيرًا جدًا من المسيحيين الغربيين نظروا إلى هذه اللغة كلغتهم الرئيسية. إلا أنه سرعان ما ظهرت إشكاليات بخصوص الترجمات اللاتينية للكتاب المقدس،حيث كان ثمَّة عدد كبير جدًا منها وقد كانت هذه الترجمات شديدة الاختلاف بشكل كبير فيما بينها . تحولت المشكلة إلى أزمة قريبًا من نهاية القرن الرابع المسيحي عندما منح البابا (داماسوس) (جيروم)، العالم الأبرز بين علماء عصره، تفويضًا لوضع ترجمة لاتينية "رسمية" يمكنها أن تلقى قبول المسيحيين المتحدثين باللسان اللاتيني في روما وأي مكان آخر كنص معتمد(an authoritative text). يتحدث جيروم نفسه عن كثرة الترجمات المتوفرة ،وأخذ على نفسه عهدًا بحل هذه المشكلة. وعبر اختياره لواحدة من أفضل الترجمات اللاتينية المتوفرة آنذاك،وبمقارنة نص هذه الترجمة بالمخطوطات اليونانية الأرفع مقامًا المتوفرة تحت يده، قام جيروم بإنتاج طبعة جديدة من الأناجيل باللغة اللاتينية. ومن المحتمل أنه ،أو واحد من أتباعه، كان مسئولا عن الطبعة الجديدة من كتب العهد الجديد اللاتينية الأخرى(5). هذا الشكل من الكتاب المقدس باللغة اللاتينية-ترجمة جيروم- أصبح يعرف بالكتاب المقدس "الفولجاتا" (= الشعبية) الخاصة بالعالم المسيحي المتحدث باللاتينية. وقد كانت "الفولجاتا" هي الكتاب المقدس بالنسبة للكنيسة الغربية،وهي ذاتها نسخت وأعيد نسخها مرارًا وتكرارًا. لقد كانت الفولجاتا هي الكتاب الذي كان المسيحيون يقرأونه،والعلماء يدرسونه،واللاهوتيون يستخدمونه طوال قرون حتى الزمن الحاضر.اليوم يبلغ عدد نسخ "الفولجاتا" اللاتينية ضعف ما هو موجود من مخطوطات العهد الجديد اليونانية.

النسخة المطبوعة الأولى من العهد الجديد باللغة اليونانية

كما أشرت، نص العهد الجديد نُسِخ في شكل معياري بكل ما في الكلمة من معنى عبر قرون العصور الوسطى،سواء في الشرق(النص البيزنطي) أو في الغرب (الفولجاتا اللاتينية). لقد كان اختراع ماكينة الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي على يد جوهانس جوتنبرج(1400 – 1468) هو الذي غيَّر كل شئ يتعلق بإعادة إنتاج الكتب بشكل عام وأسفار الكتاب المقدس على وجه الخصوص. فعبر طباعة الكتب بالحروف المتحركة ،أصبح الإنسان باستطاعته أن يضمن خروج كل صفحة في صورة مماثلة تمامًا لكل صفحة أخرى، من غير وجود اختلاف في صياغة النص من أي نوع كان. لقد ذهبت بلا رجعة تلك الأيام التي كان النسّاخ ينتجون فيها كلٌّ على حدى نسخًا مختلفة من النص ذاته عبر التغييرات غير المقصودة أو تلك المتعمدة. ما أصبح يكتب باستخدام آلة الطباعة يماثل النقش على الحجر .فوق ذلك ،أصبحت الكتب يتم إنتاجها بسرعة أكبر: فلم تعد هذه الكتب في حاجة لأن يتم نسخها على حرف واحد بشكل منفصل.وصارت ،نتيجة لذلك، تنتج بتكلفة أقل. ربما ليس هناك أي شئ أحدث تأثيرًا جذريًا على العالم المعاصر مقارنة بماكينة الطباعة؛ الشئ الأقرب في تأثيره بعد الطباعة (والذي ربما،كمحصلة نهائية،يمتاز عنها بشكل كبير) هو ظهور الكمبيوتر الشخصي. العمل الرئيسي الأول التي كان له أن يطبع من خلال ماكينة طباعة جوتنبرج كان نسخة رائعة من الكتاب المقدس اللاتيني (الفولجاتا)، الذي استغرقت طباعته الفترة بين العامين 1450 و 1456 (6). في خلال نصف القرن الذي تلى ذلك،حوالي خمسين نسخة من "الفولجاتا" تمت طباعتها في العديد من بيوت الطباعة في أوروبا. وربما يبدو غريبًا أنه لم يكن هناك حافزٌ لطباعة نسخة من العهد الجديد باليونانية خلال هذه السنوات المبكرة من عمر الطباعة. لكن السبب يسهل اكتشافه:إنه السبب الذي أشرنا إليه من قبل بالفعل. لقد كان العلماء في أنحاء أوروبا- بما فيهم علماء الكتاب المقدس- معتادين خلال ألف عام تقريبًا على الاعتقاد بأن ترجمة جيروم الشعبية (الفولجاتا)هي كتاب الكنيسة المقدس(شئ ما يشبه ما تفترضه بعض الكنائس المعاصرة من أن نسخة الملك جيمس هي الكتاب المقدس "الصحيح"). كان الاعتقاد هو أن الكتاب المقدس اليوناني كتاب غريب عن اللاهوت و العلم؛ ففي الغرب اللاتيني كان ينظر إليه كشئ ينتمي إلى المسيحيين اليونان الأرثوذكس،اللذين ينظر إليهم كمنشقين تمردوا على الكنيسة الصحيحة. عددٌ قليل من العلماء في غرب أوروبا كانوا بالكاد يعرفون القراءة باليونانية. وهكذا، من البداية، لم يجد أحدٌ شعورًا بالحاجة إلى طباعة كتاب مقدس باليونانية. أول عالم غربي واتته فكرة إنتاج نسخة من العهد الجديد باليونانية كان الكاردينال الإسباني المسمى خيمينس دو سيزنيروس(1437 – 1517). تحت قيادته،مجموعة من العلماء،بينهم واحدٌ يسمى دييجو لوبيز دي ستونيكا،أخذوا على عاتقهم طباعة نسخة متعددة المجلدات من الكتاب المقدس. وكانت هذه النسخة متعددة اللغات؛أي أنها أعادت إنتاج الكتاب المقدس بلغات متعددة.وهكذا،طرحوا العهد القديم باللغة العبرية الأصلية، "الفولجاتا" اللاتينية،والسبعينية اليونانية،جنبًا إلى جنب في أعمدة .(ما كان هؤلاء المحررون يعتقدونه بخصوص أفضلية "الفولجاتا" يمكن أن نراه في تعليقاتهم بخصوص هذا الترتيب في مقدمتهم : فقد شبهوه بالمسيح ــــ متمثلا في "الفولجاتا" ـــ الذي كان مصلوبًا بين مجرمين، اليهود الأشرار ممثلين في النص العبري واليونانيين المنشقين ممثلين في السبعينية.)
طُبِعَ هذا العمل في بلدة تدعى "ألكالا" التي تسمى باللاتينية "كومبلوتم" (Complutum) . لهذا السبب ، عرفت نسخة خيمنس باسم الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات. المجلد الخاص بالعهد الجديد كان أول ما تم طبعه(المجلد رقم 5 ،وتم الانتهاء منه في 1514)؛ كان يضم بين دفتيه النص اليوناني ومعجمًا يونانيًا مصحوبًا بالمقابل اللاتيني. إلا أنه لم يكن هناك نية لنشر هذا المجلد في شكل منفصل ـ فقد نشرت المجلدات الست جميعها معًا(كانت الست مجلدات تضم قاموس وكتاب نحو عبري لتساعد على قراءة المجلدات 1-4)،واستغرق هذا وقتًا كبيرًا. العمل بالكامل تم الانتهاء منه بحلول 1517؛ لكن وحيث إنه كان منتجًا كاثوليكيًا، كان يلزمهم تصديق البابا ليو العاشر،قبل أن يخرج إلى الوجود. وقد حصلوا عليه أخيرًا في 1520، ولكن بسبب تعقيدات أخرى ،لم يتم توزيعه قبل 1522، بعد وفاة خيمنس نفسه بخمس سنوات تقريبًا. كما رأينا ،قريبًا من هذه الفترة كان هناك المئات من المخطوطات اليونانية (أي نسخ مكتوبة بخط اليد)تحت يد الكنائس المسيحية والعلماء في الشرق. كيف تسنى لـ"ستونيكا" ومن تحت قيادته من المحررين أن يحددوا أي هذه المخطوطات يصلح للاستخدام،وأي هذه المخطوطات كان متوفرًا بالفعل بين أيديهم؟
للأسف ،هذه الأسئلة لم يكن باستطاعة العلماء مطلقًا الإجابة عليها بشكل مؤكد. في إهدائه للعمل ،عبر خيمنس عن امتنانه للبابا ليو العاشر من أجل النسخ اليونانية التي استعارها من "المكتبة الباباوية." وهكذا فربما أتت مخطوطات هذه الطبعة من ممتلكات الفاتيكان. بعض العلماء بالرغم من ذلك يساورهم الشك في أن المخطوطات التي كانت متوفرة محليًا ربما تكون قد استخدمت . بعد حوالي 250 عامًا من إصدار الكتاب المقدس الكومبلوتي، زار عالم دانماركي يدعى مولدنهوفر "ألكالا" لمعاينة مصادرها المتوفرة في المكتبات حتى يجيب على هذا السؤال،لكنه لم يستطع أن يجد مخطوطات للعهد الجديد اليوناني على الإطلاق. وقد قام ،لارتيابه في أن المكتبة لابد وأنها كانت تحوي في وقت ما بعضًا من هذه المخطوطات،بإجراء أبحاثا دؤوبة حتى أُخبِر أخيرًا من خلال أمين المكتبة بأن المكتبة كانت تحوى بالفعل مخطوطات يونانية قديمة للعهد الجديد،لكنها بيعت جميعا في عام 1749 لصانع صواريخ يدعى "توريو" "كرقوق عديمة الفائدة "(لكن صالحة لصناعة الصواريخ النارية). مؤخرًا حاول العلماء تكذيب هذه الحكاية (7). إلا أنها على الأقل تظهر أن دراسة مخطوطات العهد الجديد اليونانية ليست علم لصناعة الصواريخ.


يتبـــــــــــــــــع بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:29 AM
أول طبعات العهد الجديد اليوناني نشرًا

على الرغم من أن الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات كان أول نسخة مطبوعة من العهد الجديد اليوناني ،إلا أنه لم يكن أول الطبعات نشرًا. فقد طبعت النسخة الكومبلوتية ،كما رأينا ، حوالي 1514 . لكنها لم ترَ النور كنسخة منشورة قبل 1522. بين ذينك التاريخين قام العالم المقدام والمفكر الإنساني الهولندي "ديسيديريوس إيرازاموس" بطبع ونشر نسخة من العهد الجديد اليوناني ،ليحصل بذلك على شرف تحرير ما يعرف بالـ(editio princeps)، أي أولى النسخ نشرًا. كان "إيرازاموس" قد قام بدراسة العهد الجديد،جنبًا إلى جنب مع الكتابات الأخرى العظيمة التي أبدعها القدماء،على فترات متقطعة خلال سنوات عديدة،ورأى في لحظةٍ ما مدى أهمية إصدار نسخة للطباعة .
غير أن ناشرًا يدعى "جوهان فروبن"سرعان ما اقنعه، عند زيارته مدينة "بازل" في أغسطس 1514 ، بأن يتقدم خطوة إلى الأمام. كان كلا من إيرازاموس وفروبن يعلمان أن الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات في حيز الإعداد للنشر، ولذلك قررا نشر نص يوناني بأسرع ما يمكن ،إلا أن التزامات أخرى منعت "إيرازاموس" من مواصلة مهمته بشكل جادٍّ حتى يوليو من العام 1515. في هذا الوقت ذهب إلى "بازل" بحثًا عن المخطوطات الملائمة التي يمكنه استخدامها كأساسٍ لنصه. لم يكتشف ثروة عظيمة من المخطوطات ،لكنَّ ما وجده كان كافيًا لتنفيذ مهمته. في الأغلب ، اعتمد على حفنة قليلة من مخطوطات القرون الوسطى المتأخرة ،التي قام بوضع علامات عليها كما لو كان يقوم بتحرير نسخة مكتوبة يدويًا استعدادا للطباعة؛ عامل المطبعة أخذ المخطوطات بتلك العلامات عليها و رتب حروفه مباشرة من خلالهم. يبدو أن "إيرازموس" اعتمد بشدة على مخطوطة واحدة فقط من القرن الثاني عشر لكتابة الأناجيل وغيرها،وأيضًا مخطوطات من القرن الثاني عشر لكتابة سفر أعمال الرسل و الرسائل – على الرغم من أنه كان قادرًا على الرجوع إلى مخطوطات أخرى عديدة و إدخال تصحيحات اعتمادًا على قراءاتها. من أجل سفر الرؤية كان مضطرًا لاستعارة مخطوطة من صديقه الأديب الألماني "جوهانس رويشلين" ؛ هذه المخطوطة، للأسف، كانت قراءة بعض المواضع فيها مستحيلا تقريبًا، وكانت صفحتها الأخيرة ،التي حوت الأعداد الستة الأخيرة من السفر، مفقودة. وفي أثناء عجلته لإنهاء عمله، استخدم إيرازموس في هذه المواضع "الفولجاتا" اللاتينية حيث قام بترجمة نصها مرة أخرى إلى اليونانية ، ونتيجة لذلك إختلق بعض القراءات النصية التي ليس لها وجود في أي مخطوطة يونانية باقية حتى اليوم. وهذه ،كما سنرى،هي نسخة العهد الجديد التي كان مترجموا نسخة "الملك جيمس" يستخدمونها لمدة قرن تقريبًا بعد ذلك. بدأت عملية طباعة نسخة إرازاموس في أكتوبر 1515 وتم الانتهاء منها خلال خمسة أشهر فحسب.تضمنت النسخة النص اليوناني المجمَّع على عجل والنسخة المنقحة من "الفولجاتا" اللاتينية، جنبًا إلى جنب (في النسخ الثانية و ما تلاها،ضم إرازموس ترجمته اللاتينية الخاصة لنص الكتاب المقدس بدلًا من "الفولجاتا" الأمر الذي أحدث ما هو أكثر من الصدمة لكثيرٍ من علماء اللاهوت في هذا العصر اللذين لا يزالون يعتبرون أن "الفولجاتا" هي كتاب الكنيسة المقدس "الحقيقي"). لقد كان كتابًا كبيرًا بلغت صفحاته الألف تقريبًا. ومع ذلك، كما قال "إرازموس" نفسه فيما بعد،لقد كانت "درجة العجلة في نشرها أكبر من درجة تنقيحها" (أو كما قال حرفيًا باللغة اللاتينية: praecipitatum verius quam editum).
من المهم الاعتراف بأن نسخة إرازموس(أصدر خمس نسخ ،كلها تعتمد بشكل أساسي على هذه النسخة الأولى المجمعة بشكل متسرع ) هي النسخة المنشورة الأولى (editio princeps)من العهد الجديد اليوناني ليس لأنها تمثل حكاية تاريخية ممتعة، لكن أكثر من ذلك لأنها أصبحت ،باعتبارها تاريخ للنص المتطور، الشكل المعياري للنص اليوناني الذي قامت بنشره دور الطباعة في غرب أوروبا لما يزيد عن ثلاثة قرون.
تتابعت العديد من النسخ اليونانية التي أصدرها ناشرون من ذوي الأسماء المعروفة جيدًا لدى العلماء في هذا المجال مثل: "استيفانوس" ،أو(روبرت إشتين)،"ثيودور بيزا"،و"بونافينتشر" و"أبراهام إلتسفير". كل هذه النصوص،بالرغم من ذلك، اعتمدت ،إن بشكل أكبر أو أقل، على نسخ من سبقهم، والتي تعود جميعها إلى نسخة إرازموس بكل أخطائها والتي اعتمدت على حفنة قليلة من المخطوطات(أحيانًا مخطوطتين فقط أو حتى واحدة ـــ بل بلا أي مخطوطة أحيانًا وذلك في أجزاء من سفر الرؤية!)التي كانت قد كتبت في وقت متأخر نسبيًّا من القرون الوسطى. دور الطباعة في الغالب لم تبحث عن المخطوطات التي ربما تكون أقدم وأفضل ليعتمدوا عليها في إخراج نصوصهم. بل قاموا ،بدلاً من ذلك ، بطبع وإعادة طبع النص ذاته،مدخلين فقط تغييرات محدودة للغاية. البعض من هذه النسخ رائع بالتأكيد. فالطبعة الثالثة من نسخة ستيفانوس المنشورة في 1550 ،على سبيل المثال، جديرة بالذكر باعتبارها أولى النسخ على الإطلاق احتوءا على ملاحظات توثق الاختلافات بين بعض المخطوطات محل البحث؛ كما إن طبعته الرابعة(1551) هي ،على أية حال، الأبرز بين طبعاته، حيث إنها النسخة اليونانية الأولى من العهد الجديد التي قسمت النص إلى أعداد. قبل ذلك،كان النص يطبع بأجمعه بدون أي إشارة إلى التقسيم إلى أعداد. هناك حكاية طريفة تتعلق بالكيفية التي قام بها ستيفانوس بعمل هذه النسخة. ذكر ابنه فيما بعد أن استيفانوس كان قد اتخذ قراره بخصوص التقسيم بالأعداد(معظمها مازال باقيًا عندنا في الترجمات الإنجليزية) بينما كان يقوم برحلة على ظهر حصان. بلا شك كان يعني أن والده كان"يعمل على الطريق"ـــــ ما يعني أنه أدخل أرقام الأعداد أثناء الليالي التي كان يقضيها في الفنادق حيث كان يقيم. لكن بعد أن قال ابنه بشكل حرفي إن ستيفانوس أدخل هذه التغييرات "وهو على ظهر حصانه" اقترح بعض المعنيين، تهكمًا، أن يكون بالفعل قد قام بعمله أثناء ترحاله. ولذلك عندما كان حصانه يرتطم بأي مطب بشكل مفاجئ ،كان قلم ستيفانوس يقفز،ما يفسر بعض المواضع الشاذة إلى حدٍ ما التي مازلنا نجدها في ترجماتنا الإنجليزية للعهد الجديد. ما أحاول أن أثبته ،على الرغم من ذلك، هو أن كل النسخ اللاحقة،بما فيها نسخ ستيفانوس،تعود في النهاية إلى النسخة ال" editio princeps " الخاصة بإرازموس التي كانت تعتمد على بعض المخطوطات اليونانية الأحدث،وليست بالضرورة موثوق بها،ــــ وهي تلك التي وجدها في "بازل" إلى جانب المخطوطة التي استعارها من صديقه رويتشلين. ليس هناك سبب يجعلنا نعتقد أن هذه المخطوطات كانت عالية الجودة على نحوٍ خاص. بل ببساطة كانت تلك المخطوطات هي التي كان بمقدوره الحصول عليها. بالفعل ،كما يبدو ،هذه المخطوطات لم تكن الأفضل من ناحية الجودة:فلقد كتبت،في النهاية، بعد المخطوطات الأصلية بحوالي أحد عشر قرنًا!
كمثال،المخطوطة الرئيسية التي استخدمها "إرازموس" لإخراج الأناجيل كانت تحتوي على قصة المرأة الزانية الموجودة في إنجيل يوحنا و أيضًا الاثنى عشر عددًا الأخيرة من إنجيل مرقس ،وهي الفقرات التي لم تكن في الأصل جزءًا من الأناجيل،كما علمنا في الفصل السابق. لقد كان هناك على الرغم من ذلك فقرة أساسية من الكتاب المقدس لم تكن موجودة ضمن المخطوطات المصدر التي كانت لدى "إرازموس". وهي تسجيل الأعداد من رسالة يوحنا الأولى إصحاح 5 والأعداد 7-8 والتي يطلق عليها العلماء مسمى الـ فاصلة اليوحنّاويّة " Johannine Comma" . هذه الأعداد موجودة في مخطوطات الفولجاتا اللاتينية ولكنها مفقودة في الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية . هذه الفقرة كانت هي المفضلة لدى اللاهوتيين المسيحيين لفترة طويلة،حيث إنها الفقرة الوحيدة في الكتاب المقدس بأكمله التي تشير بوضوح إلى عقيدة الثالوث ،أي وجود ثلاثة أقانيم بطبيعة إلهية، إلا أن الثلاثة جميعًا يشكلون إلهًا واحدًا فحسب . هذه الفقرة تقرأ في الفولجاتا كالتالي:
" لأن اللذين يشهدون في السماء هم ثلاثة:الآب، الكلمة، والروح،وهذه الثلاثة هي واحد؛ واللذين يشهدون في الأرض ثلاثة ،الروح،الماء،والدم،وهؤلاء الثلاثة في الواحد."
وهي فقرة غامضة ،لكنها تدعم التعاليم التقليدية الخاصة بالكنيسة والمتعلقة بـ"الإله المثلث الأقانيم الذي هو واحد " على نحوٍ لا لبس فيه.
في غياب هذه الفقرة، لابد أن نستنبط عقيدة الثالوث من عدد من الفقرات المجمَّعَة للدلالة على أن المسيح هو الله،كما هو الحال بالنسبة للروح وللآب و على أن هناك ،على الرغم من ذلك ، إلهًا واحدًا فحسب. هذه الفقرة ،على النقيض من الفقرات الأخرى، تصرح بهذه العقيدة بشكل مباشر وموجز. لكنَّ "إرازموس" لم يجدها في مخطوطاته اليونانية والتي ببساطة تُقرأ بدلا من ذلك كالتالي:
"هناك ثلاثة يشهدون:الروح،الماء،والدم،وهذه الثلاثة هم واحد."
أين ذهب "الآب، والابن،والروح القدس"؟ لم يرد أيّ ذكرٍ لهم في مخطوطة "إرازموس" الرئيسية،أو في أيٍّ من المخطوطات الأخرى التي رجع إليها،وهكذا، بطبيعة الحال، لم يذكرهم في نسخته اليونانية الأولى . وهذا ما أثار غضب اللاهوتيين في عصره أكثر من أي شئ آخر .فقد اتهموه بالعبث بالنص في محاولة منه للتخلص من عقيدة التثليث والحط من فاعليتها،التي هي عقيدة الطبيعة الإلهية الكاملة للمسيح. أحد المحررين الرئيسيين للكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات واسمه"ستونيكا" قام بنشر تجريحه في سمعة "إيرازموس" وأصر على أن يعيد العدد في الطبعات المستقبلية إلى مكانها الصحيح.
وتمضي القصة،ويوافق "إرازموس"ــــ ربما في لحظة ضعف ــ على أن يدرج هذا العدد في الطبعة المستقبلية للعهد الجديد باللغة اليونانية على شرطٍ واحدٍ:أن يقدم خصومه مخطوطة يونانية يحتمل أن يوجد بها هذا العدد(وجودها في مخطوطات لاتينية ليس كافيًا). وهكذا ظهرت إلى الوجود مخطوطة يونانية! في الواقع ، ظهرت هذه المخطوطة إلى الوجود بهذه المناسبة. يبدو أن شخصًا ما قام بنسخ نصٍ يونانيٍ يحوي الرسائل وعندما وصل إلى هذه الفقرة موضع البحث،قام بترجمة النص اللاتيني إلى اللغة اليونانية ،لتظهر ال" Johannine Comma" في شكلها المألوف... والمفيد لاهوتيًا. المخطوطة التي قدمت إلى "إرازموس"، بكلمات أخرى ،يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر أي أنها كتبت حسب طلب الزبون. وعلى الرغم من تشككه،إلا أن "إرازموس" كان عند كلمته وضمَّن الـ" Johannine Comma" نصَّ نسختِه وكل طبعاته المتتالية. هذه الطبعات،كما أشرت من قبل،أصبحت الأساس بالنسبة لكل النسخ التي أعيدت طباعتها من العهد الجديد اليوناني مرة بعد أخرى عبر أناس مثل "ستيفانوس" ،"بيزا"،و"إلزيفيرز". هذه النسخ قدمت شكلا من النص اعتمد عليه في النهاية مترجموا "نسخة الملك جيمس" من الكتاب المقدس. وكذلك الفقرات المألوفة لدى قراء الكتاب المقدس بترجمته الإنجليزيةـ بدءًا من نسخة الملك جيمس الصادرة 1611 فصاعدًا،حتى النسخ المعاصرة في القرن العشرين ــــ التي ضمت الفقرة الخاصة بالمرأة الزانية،والإثني عشر عددًا الأخيرة من مرقس،و الفاصلة اليوحناوية(Johannine Comma )،على الرغم من أن أيًا من هذه الفقرات ليس لها وجود في المخطوطات اليونانية الأقدم والأعلى شأنًا للعهد الجديد. هذه الفقرات دخلت إلى تيار الوعي لدى المتحدثين بالإنجليزية فقط عبر مصادفة تاريخية وذلك اعتمادًا على مخطوطات تصادف أن كانت في متناول يد "إرازموس" وأخرى صنعت لمساعدته.
هذه النسخ اليونانية المتنوعة التي صدرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت شديدة التشابه لكنَّ دور الطباعة تمكنت في النهاية من الزعم أنها النص المقبول عالميًا لدى كل العلماء وقراء العهد الجديد اليوناني ــ وهو ما حدث بالفعل،حينما لم يعد هناك منافسون!
الادعاء الأكثر ورودًا على الألسنة نجده في نسخة صدرت عام 1633 بمعرفة "أبراهام" و "بونافنتشر إلزفير" (اللذان هما عمٌّ وابن أخيه)، أخبروا فيه قراءهم ،في كلماتٍ أصبحت منذئذ معروفة لدى العلماء،:"أنتم الآن تملكون النص المقبول لدى الجميع،الذي لم نضمنه أي شئ تعرض للتغيير أو التشويه."(8)
المعنى الوارد في هذا السطر،خاصة هذه الكلمات:"المقبول لدى الجميع،" هو ما أمدنا بالجملة الشائعة " Textus Receptus"( التي يتم اختصارها بالرمز T.R) ،وهو مصطلح يستخدمه علماء النقد النصي للإشارة إلى النص اليوناني الذي يعتمد ،لا على أقدم المخطوطات وأفضلها،وإنما على شكل من النص نشره في الأصل "إرازموس" وسلمه إلى دور الطباعة لما يزيد عن ثلاثة قرون حتى بدأ علماء النقد النصي يشددون على أن العهد الجديد اليوناني ينبغي أن ينشأ على أسس علمية تعتمد على أقدم مخطوطاتنا و أفضلها وليس ببساطة على نسخ أعيد طبعها وفقًا لرغبات الزبون. لقد كان شكلا نصيًّا أدنى قيمة من النص المستلم " Textus Receptus" هو الذي كان أساسًا للترجمات الإنجليزية المبكرة ،مثل إنجيل الملك جيمس ،والنسخ الأخرى حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا.



"مِلّ" وشواهده على العهد الجديد اليوناني

كان نص العهد الجديد اليوناني ،إذن،يبدو وكأنه يقف على قدم صلبة حسب قناعات معظم العلماء اللذين استطاعوا أن يستفيدوا من النسخ المطبوعة خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر . في النهاية،كل النسخ تقريبًا كانت متماثلة في صياغتها.إلا أن العلماء كرَّسوا أنفسهم أحيانًا لكشف والإشارة إلى أنَّ المخطوطات اليونانية تختلف عن النص والذي طبع بشكل غير رسمي. رأينا كيف أن "ستيفانوس" ضمَّن نسخته المطبوعة في 1550 هوامشًا تحدد مواضع الاختلاف بين مخطوطات عديدة كان قد اطلع عليها(أربعة عشر مخطوطة إجمالا). بعدذلك ، في القرن السابع عشر،نُشِرَت نسخٌ بمعرفة علماء إنجليز مثل "بريان والتون" و "جون فِلّ" تعاملوا فيها مع الاختلافات بين المخطوطات المحفوظة (والمتاحة) بشكل أكثر جدية إلى حدٍ ما. لكنَّ أحدًا تقريبًا لم يعترف بضخامة مشكلة الاختلاف النصي حتى العام 1707 وهو عام صدور واحدة من كلاسيكيات ميدان النقد النصي للعهد الجديد،وهو الكتاب الذي كان له تأثيرٌ وخيمٌ على دراسة نقل(transmission) العهد الجديد اليوناني ،فاتحًا كل السدود التي أجبرت العلماء على التعامل مع مشكلة النصية لمخطوطاتنا للعهد الجديد بشكل أكثر جدية (9) . إنها نسخة العهد الجديد اليوناني التي أصدرها "جون ملّ"،الحاصل على درجة الزمالة من الكلية الملكية ،بجامعة أكسفورد. استثمر "ملّ" ثلاثين عامًا من العمل الدؤوب في تجميع المادة العلمية اللازمة لنسخته. النص الذي قام بطباعته هو ببساطة نسخة "ستيفانوس" الصادرة في عام 1550 م . لكنَّ الشئ المُهمّ في نسخة "ملّ " لم يكن النص الذي استخدمه، بل القراءات التي تختلف عن نصه هذا التي ذكرها في هوامشه النقدية. كان بمقدور "مِلّ" الوصول إلى حوالي مائة مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد. أضف إلى ذلك، أنه قام بفحص كتابات آباء الكنيسة الأوائل بعناية ليرى الكيفية التي كانوا يستشهدون بها بالنص – حيث افترض أن الإنسان يمكنه أن يعيد بناء المخطوطات التي كانت لدى هؤلاء الآباء عن طريق فحص اقتباساتهم. فوق ذلك، وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف الكثير من اللغات القديمة الأخرى بخلاف اللاتينية،فإنه قد استخدم نسخة نشرت قبل ذلك عن طريق "والتون " ليرى المواضع التي تختلف فيها النسخ الأقدم المكتوبة بلغات مثل السوريانية والقبطية عن تلك المكتوبة باليونانية.
على أساس هذه الجهود المكثفة التي استمرت ثلاثين عامًا بهدف تجميع المخطوطات،نشر "مِلّ" نصه المصحوب بالشواهد،التي أشار فيها إلى مواضع الاختلاف بين المخطوطات الحية الموجودة في حوذته. نظرًا للصدمة و الفزع اللذين شعر بهما كثير من قرائه،فرزت شواهد "مِلّ" قريبًا من ثلاثين ألف موضع من الاختلافات بين المخطوطات الموجودة. ثلاثون ألف موضع كانت تمثل قراءات مختلفة للفقرات الواردة في العهد الجديد احتوتها المخطوطات ،والقراءات الآبائية(نسبة إلى آباء الكنيسة)،والنسخ.
لم يكن "مِلّ" شاملا في تقديمه للبيانات التي جمعها. لقد وجد،في الواقع،أكثر بكثير من ثلاثين ألف موضع من الاختلافات. لكنه لم يذكر كل ما اكتشفه. فقد تجاهل اختلافات مثل تلك التي تتعلق بتغيير ترتيب الكلمات. مع ذلك، كانت المواضع التي ذكرها كافية لدفع جمهور القراء بعيدًا عن القبول بالواقع اعتمادًا على كثرة طباعة النص المستلم (Textus Receptus) والافتراض الأبله بأنه داخل النص المستلم يملك المرء العهد الجديد اليوناني"الأصلي". الآن دخلت مكانة النص الأصلي في حيز النزاع من أوسع الأبواب. لو لم يكن المرء يعلم أي الكلمات تنتمي بالفعل للعهد الجديد اليوناني،فكيف سيكون بمقدوره أن يستخدم هذه الكلمات في تقرير العقيدة والتعاليم المسيحية الصحيحة؟



النزاع الذي أحدثته شواهد "مِلّ"

تأثير كتاب "ملّ" أصبح ملموسًا بشكل سريع،على الرغم من أنه لم يعش ليشهد بنفسه مآل النزاع. لقد مات، ضحية لسكتة قلبية،بعد نشر مؤلفه الضخم بأسبوعين فقط. موته المفاجئ(قال أحد المراقبون أنه حدث نتيجة "تناول كمية كبيرة للغاية من القهوة"!) لم يمنع خصومه،على الرغم من ذلك، من مواصلة النزاع. الهجوم الأكثر قسوة حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في مجلد علمي كتبه أحد المناظرين البارعين وكان يسمى "دانيال ويتبي"،الذي نشر في عام 1710 مجموعة من الملاحظات على تفسير العهد الجديد ،أضاف إليها ملحقًا من مائة صفحة فحص فيه بشكل أكثر تفصيلا الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" في ثنايا شواهده. كان "ويتبي" عالم لاهوت بروتستانتي محافظ وكانت رؤيته الأساسية تتلخص في أنه على الرغم من أن الرب بالتأكيد لم يحُل دون تسلل الأخطاء إلى النسخ التي أعدها النسَّاخ من العهد الجديد،إلا أنه في الوقت ذاته لم يسمح على الإطلاق بفساد النص (أي تحريفه) إلى الحد الذي يكفي لمنعه (أي الكتاب المقدس)من إنجاز هدفه وغرضه المقدس. ولذا نجده ينتحب قائلا،"أشعر بالحزن والغيظ من أنني وجدت الكثير في مقدمة "مِلّ" النقدية مما يبدو بوضوح تام أنه يضع أساس الإيمان في دائرة عدم الموثوقية،أو على أحسن تقدير يعطي الآخرين الحُجة للارتياب."(10)
ويستمر"ويتبي" فيفترض أن العلماء الرومان الكاثوليك- اللذين يطلق عليهم لقب"الباباويين"- سيشعرون بسعادة بالغة بسبب قدرتهم على إظهار أن الكتاب المقدس لم يكن مرجعًا كافيًا للإيمان وذلك اعتمادًا على الأسس غير الموثوقة للنص اليوناني للعهد الجديد، الأمر الذي يعني أن مرجعية الكنيسة بدلا من ذلك هي الأحق بالتقديم. كما نجده يصرح:"يجادل "مورينوس"(وهوعالم كاثوليكي)حول فساد النص اليوناني الذي يجعل سلطانه موضع شك بسبب اختلاف القراءات الموجودة في العهد الجديد اليوناني الخاص بـ"ر.ستيفنس" (=ستيفانوس)؛ فما حجم النصر إذن اللذي سيحققه الباباويّون على النص ذاته عندما سيَرَوْن الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" بعد عمل مضنٍ استمر ثلاثين عامًا والتي تزيد عن الموجود الآن بأربعة أضعاف؟" (11)
تابع "ويتبي" دفوعه حول كون نص العهد الجديد ،في الواقع،هو نص موثوق به،حيث إنَّ الاختلافات التي ذكرها "مِلّ" نادرًا ما تتناول مسألة عقائدية أو قضية سلوكية، والغالبية العظمى من اختلافات "مٍِلّ" ليس لها أي صلة بقضية الموثوقية.
ربما كان "ويتبي" يقصد أن يبلغ رده تأثيره من دون أن يقرأه أحد في الواقع؛فهو رد يتكون من مائة صفحة منمقة،كثيفة،وغير جذابة من الدفوع المتشابهة،ومن ثمّ فهو يحاول أن يبني قضيته ببساطة على ضخامة حجم رده. دفاع "ويتبي" ربما كان سينهي الجدل حول هذه القضية بشكل أفضل لو لم يظهر هؤلاء اللذين استخدموا المواضع الثلاثين ألفًا التي استخرجها "مِلّ" لكي يصلوا بها إلى النهاية التي كان "ويتبي" يخشاها،ألا وهي الجدال حول كون نص الكتاب المقدس لا يمكن الوثوق به لأن عدم موثوقيته تنبع من ذاته. الذين جادلوا حول هذه القضية تزعَّمهم "أنتوني كولينز" وهو إنجليزي ديسطيقي ***** وكان صديقًا وتابعًا لـ"جون لوك"الذي كتب في عام 1713 كتيبًا عنونه بـ "مقالة حول التفكير الحر". هذا الكتيب كان نموذجًا للأفكار الديسطيقية في بواكير القرن الثامن عشر: حيث كان يدعوا إلى تقديم المنطق والدليل على الوحي(الموجود في الكتاب المقدس كمثال) والمعجزات المتوهمة.في الفصل الثاني من الكتاب الذي يتناول "القضايا الدينية" يذكر "كولينز"،في وسط الآلاف من الأمور الأخرى،أن رجال الدين المسيحيين ("مِلّ" كمثال) كانوا ولا يزالون "يملكون الدليل ويبذلون الجهد لإثبات أن نص الكتاب المقدس غير موثوق به،" مشيرًا من ثمّ إلى اختلافات "مِلّ" الثلاثين ألفًا.



يتـبـــــــــــــع بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:30 AM
أثار كتيب "كولينز"،الذي قُرئ على نطاق واسع وكان له تأثيرٌ بالغٌ ، عددًا من الردود الصارمة،كثيرٌ منها كان يتسم بالغموض ويتطلب جهدًا لفهمه،وبعضها ينم عن مستوى علمي رفيع وينم عن شعور بالاستياء . كانت محصلته الأبرز، ربما، أنها استقطبت إلى حلبة الصراع واحدًا من ذوي السمعة العالمية الرفيعة من العلماء ،ألا وهو "ريتشارد بنتلي"، عميد ترينيتي كوليج بجامعة كامبردج . اكتسب "بنتلي" شهرته من اشتغاله بأعمال المؤلفين الكلاسيكيين من أمثال هوميروس،هوراس،و تيرينس. في رده على كل من "ويتبي" و"كولينز"،الذي صدر تحت عنوان " pseudonym Phileleutherus Lipsiensis" الذي يعني شئ ما مثل "مُحِبُّ الحرية من "ليبزج" "ــ في إشارة واضحة إلى دعوة "كولينز" إلى "التفكير الحر")، أوضح "بنتلي" أن القراءات المختلفة التي أحصاها "مِلّ" لا يمكن أن تجعل أساس الإيمان البروتستانتي موضع شك ،حيث إن هذه القراءات كانت موجودة حتى قبل أن يلاحظها "مِلّ" . فهو لم يخترعها اختراعًا و لكنه فقط لفت الأنظار إليها!
لو كان لنا أن نصدق ليس هذا المؤلف الحكيم (كولينز) فحسب ،ولكن أيضًا أستاذكم الحاصل على درجة الدكتوراه الأكثر حكمة (ويتبي)، فإنه (أي مِلّ)كان شغله الشاغل طوال كل هذا الوقت أن يثبت أن نص الكتاب المقدس مشكوك في أصالته...فعلام كل هذا الصريخ والشجب من أستاذكم" ويتبي"؟جهود الدكتور ،كما يقول هو، تجعل كامل نص الكتاب المقدس موضع ريبة و يضر بكلا من الحركة الإصلاحية لمصلحة "الباباويين"و الدين ذاته لمصلحة الملحدين... لا سمح الله ! سنظل نظن به كل الخير. بالتأكيد هذه القراءات المتباينة كانت موجودة من قبل في العديد من النماذج؛ إن الدكتور "مِلّ" لم يصنعهم صنعًا ولم يبتكرهم ابتكارا ، ما قام به هو أن أبرزهم فحسب أمام أعيننا. ولذلك لو كان الدين صحيحًا قبل ذلك ، على الرغم من وجود مثل هذه القراءات المتباينة: فإنه ما يزال صحيحًا وبالتالي موثوقًا به، على الرغم معرفة كل الناس بها (أي بالقراءت المتباينة). بناءا على ذلك ، ليس هناك حقيقة أو مسألة معروضة عرضًا غير متحيزٍ يمكن أن تؤثر على الإطلاق على دين الحق (12)
"بنتلي" ، كونه خبيرًا في التقاليد النصية للكتابات الكلاسكية، يواصل لفت الانتباه إلى أن الإنسان يمكنه أن يتوقع العثور على عددٍ وفيرٍ من القراءات النصية المتباينة كلما اكتشف عددًا كبيرًا من المخطوطات. فلو كان لعمل من الأعمال مخطوطة واحدة فحسب ، فحينئذٍ لن تجد قراءات نصية متباينة. فإذا وجدت مخطوطة أخرى ،فستختلف عن الأولى في عددٍ من المواضع . وعلى الرغم من ذلك ، فإنَّ هذا ليس بالأمر السيء لأن عددًا من هذه القراءات المتباينة سيبين أين احتفظت المخطوطة الأولى بالخطأ. أضف مخطوطة ثالثة وستجد قراءات متباينة إضافية،بل أيضًا مواضع جديدة ،في المحصلة،قد حُفِظ فيها النص الأصلي(أي في المكان الذي تتفق فيه المخطوطتان الأوليان في خطأ ما). وهكذا دَوَاليْك - كلما يتم اكتشاف مخطوطات جديدة ، كلما تتزايد القراءات المتباينة؛ لكنَّ ذلك يرلفقه كذلك المزيد من التشابهات التي في مكان ما بين هذه القراءات المتعددة يمكن للمرء أن يكتشف النص الأصلي. لذلك، الثلاثين ألف قراءة الكتباينة التي كشف عنها "مِلّ" لا تطعن في سلامة العهد الجديد؛ فهذه القراءات تقدم ببساطة البيانات التي يحتاجها العلماء للعمل على إنشاء النص ،الذي هو النص الأكثر موثوقية من أي نص آخر كتب في العالم القديم. كما سنرى في الفصل القادم ، هذا الجدال الدائر حول كتاب "مِلّ" دفع في النهاية "بنتلي" ليحول قدراته العقلية غير العادية إلى مشكلة تأسيس النص الأقدم المتوفر من العهد الجديد. قبل الانتقال إلى هذا البحث فربما ينبغي علينا ،على الرغم من ذلك ، أن نعود خطوة إلى الوراء لكي نتأمل مكاننا اليوم بالمقارنة مع اكتشاف "مِلّ" الرائع فيما يخص الثلاثين ألف قراءة المتباينة الموجودة في التقليد المخطوط للعهد الجديد .

موقفنا في الوقت الحاضر


على الرغم من أن "مل" علِمَ بوجود حوالي مائة مخطوطة يونانية وقام بفحصها ليكشف الاختلافات الثلاثين ألفًا التي أعلن عنها، فإن ما نعرفه اليوم أكثر من ذلك ،بل أكثر من ذلك بكثير. ففي آخر إحصاء ،تم الكشف عن أكثر من خمسة آلاف وسبعمائة مخطوطة يونانية و فهرستها. وهذا يمثل من ناحية العدد سبعة وخمسين ضعفًا مما أتيح لـ"ملّ" الاطلاع عليه في عام 1707 . هذه الخمسة آلاف وسبعمائة تشمل كل شئ بدءًا من أصغر كِسَر من المخطوطات – أي في حجم بطاقة الائتمان – إلى الأعمال الرائعة و شديدة الضخامة التي حفظت كاملةً . بعضها يتكون من كتابٍ واحدٍ فقط من العهد الجديد ؛والبعض الآخر يضم بين ثناياه مجموعة صغيرة (الأناجيل الأربعة و رسائل بولس كمثال) ؛ والقليل للغاية منها يشمل العهد الجديد بكامله (13) . هناك ،أيضًا ، كثير من مخطوطات النسخ ( = ترجمات العهد الجديد) المبكرة المتعددة. هذه المخطوطات يمتد تاريخها بين بدايات القرن الثاني ( كسرة صغيرة تسمى P52،والتي تضم عددًا من الأعداد من يوحنا 18) وصولا إلى القرن السادس عشر (14) . هذه المخطوطات تتفاوت بشكل كبير من ناحية الحجم :فبعضها يمثل نسخًا صغيرة في حجم كف اليد ، مثل النسخة القبطية من إنجيل متى ،التي تسمى المخطوطة الصعيدية(Scheide Codex) ، والتي يبلغ حجمها 4x5 بوصة ؛والبعض الآخر نسخٌ كبيرة للغاية ومثيرة للإعجاب منها المخطوطة السينائية سابقة الذكر التي يبلغ حجمها 15 x 13.5 بوصة والتي أثارت الإعجاب عند الكشف عنها كاملة . البعض من هذه المخطوطات كان من مواد رخيصة وتم نسخه على عجل ؛فبعضها كان قد تم نسخه بالفعل فوق صفحات مستعملة (أي أنها وثيقة تم محوها وكتب نص العهد الجديد على قمة الصفحات الممحاة)؛ بينما البعض الآخر كان نسخًا أنفق عليها بسخاء و غالية الثمن ومنها بعض المخطوطات التي كُتِبَت على رق أرجواني اللون بحبر فضيّ أو ذهبيّ .
كالعادة ، يتحدث العلماء عن أربعة أنواع من المخطوطات اليونانية (15) .
1- الأقدم وهي البرديات ،وهي مخطوطات مكتوبة على مواد مصنوعة من قصب البردي ، وهي مخطوطات قيمة لكنها رخيصة الثمن ومادة كتابة ذات فعالية في العالم القديم ؛ يؤرخ لها بين القرنين الثاني والسابع .
2- المخطوطات الماجوسكول (= المكتوبة بالحروف الكبيرة ) وهي مصنوعة من البرشمان (= جلود الحيوانات ؛أحيانًا يطلق عليها الرق) ثم أطلق عليها الحروف الكبيرة ، وهي تشبه إلى حد ما الحروف الكابيتال المعروفة لدينا؛ وتؤرخ هذه المخطوطات ،في أغلب الأحيان ،من القرن الرابع إلى التاسع.
3- المخطوطات المينوسكول (= ذات الحروف الصغيرة )وهي مصنوعة أيضًا من البرشمان لكنها كتبت بحروف صغيرة كثيرا ما يتم وصلها (من غير أن يغادر القلم الصفحة) إلى ما يشبه المقابل اليوناني لحروف الرقعة (التي تكون الحروف فيها متشابكة )؛وهذه يؤرخ لها بدءًا من القرن التاسع فصاعدًا
4- الفصول وهي عادة ما تكتب بالحروف الصغيرة من ناحية الشكل ، لكنها بدلا من أن تضم كتب العهد الجديد ، تضم في شكل منتظم ، "قراءات " مأخوذة من العهد الجديد لاستخدامها في الكنيسة كل أسبوع أوفي كل عطلة (مثل الفصول التي تستخدم في الكنائس اليوم ).
بالإضافة إلى هذه المخطوطات اليونانية ، نعلم بوجود عشرة آلاف مخطوطة للفولجاتا اللاتينية ،ناهيك عن مخطوطات النسخ الأخرى ، مثل الترجمة السريانية ، والقبطية ، الأرمينية ، والجورجية القديمة ،ومخطوطات الكنيسة السلافية ...إلى آخره ( تذكروا أن "مِلّ" كان لديه إمكانية الاطلاع على القليل من النسخ القديمة فحسب ، وهذه كان يعرفها فقط عن طريق ترجماتها اللاتينية).
بالإضافة إلى ذلك ، لدينا كتابات آباء الكنيسة مثل "كليمنت السكندري"، "أوريجانوس" و "أثاناسيوس" من بين الآباء اليونانيين و "ترتليانوس"،و "جيروم" ،و "أوغسطينوس" من بين الآباء اللاتينيين – كلهم اقتبسوا من نصوص العهد الجديد في مواضع ،مما جعل إعادة بناء ما كانت عليه مخطوطاتهم (التي هي مفقودة حاليًا،في الغالب) أمرًا ممكنًا.
في وجود هذه الوفرة من الأدلة ،ماذا يمكننا أن نقول عن العدد الإجمالي للقراءات المتباينة المعروفة في وقتنا الحاضر ؟
يختلف العلماء بشكل كبير في أحكامهم – البعض يقول إن هناك 200.000 قراءة متباينة تم التعرف عليها ،البعض الآخر يقول 300.000 ، البعض يقول 400.000 أو أكثر ! نحن لا نعلم على وجه اليقين عددها لأنه ،على الرغم من التطورات المدهشة التي حدثت في مجال تكنولوجيا الكمبيوتر ،لا أحد إلى الآن قادرٌ على عدّهم جميعًا . ربما ، كما أشرت من قبل ،من الأفضل ببساطة أن نضع المسألة في صورة مقارنات.فلنقل: إن عدد القراءات المتباينة بين مخطوطاتنا يفوق عدد الكلمات الموجودة في العهد الجديد.


أنواع الاختلافات التي تشتمل عليها مخطوطاتنا

لو كان لدينا مشكلة في الحديث حول أعداد التغييرات الموجودة حتى الآن ،فماذا يمكننا أن نقول حول أنواع التغييرات الموجودة في هذه المخطوطات؟ يفرق العلماء اليوم بشكل عام بين التغييرات التي يبدو أنها وقعت بشكل غير المقصود عبر أخطاء النساخ وتلك التي تقع بشكل متعمد ، أي بعد تروٍّ وطول نظر . هذه ليست تحديدات قاطعة وعجلى ،بطبيعة الحال ، لكنها تبدو حتى الآن سليمة: فالإنسان يمكنه مشاهدة كيف أن ناسخًا من النساخ يمكن أن يغفل عن طريق السهو كلمة عند كتابته أحد النصوص (تغيير عرضي) ،لكن من الصعب مشاهدة كيف أمكن للأعداد الإثنى عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس أن تضاف إلى الإنجيل بخطأٍ في الكتابة .
وهكذا ، ربما يجدر بنا أن ننهي هذا الفصل بأمثلة قليلة لكل نوع من هذه التغييرات. سأبدأها بالإشارة إلى بعض أنواع القراءات المتباينة التي تقع بشكل "عرضيّ".



تغييرات عرضية

أخطاء الأقلام العرضية(16) كانت بلا شك تزداد تفاقمًا ،كما رأينا ، بسبب حقيقة أن المخطوطات اليونانية كانت جميعها مكتوبة بالخط المتصل (scriptuo continua) - وبدون علامات ترقيم ،غالبًا، وبلا حتى مسافات فاصلة بين الكلمات. هذا يعني أن الكلمات التي بدت متشابهةً كثيرًا ما كانت تؤدي لإساءة الفهم بين واحدة وأخرى. كمثال ، في 1 كور 5: 8 ، يخبر بولس قراءه أنهم ينبغي أن يتناولوا المسيح ،حمل الفصح ، وأن لا يأكلوا "الخَمِيرَةٍ العَتِيقَةٍ ، خَمِيرَةِ الْخُبْثِ وَ الشَّرِّ." الكلمة الأخيرة ،الشر، تقابلها باليونانية بونيراس PONERAS ،التي تشبه كثيرًا كلمة بورنياس PORNEIAS المقابلة لـمعنى" الفجور الجنسي". الفرق في المعنى ربما ليس كبيرًا، لكن من المدهش أنه في مخطوطتين من المخطوطات الموجودة ، يحذر بولس بكل وضوح وصراحة ليس من الشر بشكل عام ، ولكن من الرذيلة الجنسية خصوصًا. هذا الشكل من الأخطاء الإملائية كان يحدث على الأرجح بسبب حقيقة أن النساخ أحيانًا يختصرون كلمات معينة اختصارًا للوقت والمساحة. الكلمة اليونانية المقابلة لحرف العطف "الواو"،كمثال، هي KAI ،التي كان بعض النساخ ببساطة يكتبون بدلا منها الحرف الأول K ، مع وضع علامة تحتانية في النهاية للإشارة إلى أنها اختصار . على نحوٍ مماثلٍ ،في 1 كور 12 : 13 ، يشير بولس إلى أن كل إنسان في المسيح قد " تم تعميده إلى جسدٍ واحد " وأنهم جميعًا "سقوا من روحٍ واحدةٍ."
الكلمة "روح" (PNEUMA) كانت قد تمَّ اختصارها في معظم المخطوطات إلى (PMA)، التي من المتوقع أنها ستفهم خطئًا ،وقد حدث ذلك بالفعل حين فهمها بعض النُسَّاخ باعتبارها المقابل اليوناني للكلمة "شراب"(POMA) ؛ وهكذا ففي هذه الشواهد قيل إن بولس يشير إلى أن الجميع "شربوا من شراب واحد." نوع شائع من الأخطاء في المخطوطات اليونانية حدث حينما كان سطران من النص المنسوخ ينتهي بالحروف نفسها أو بالكلمات نفسها.
ربما كان ناسخ من النساخ يكتب السطر الأول من نص ما ، وبعد ذلك عندما ترجع عينه إلى الصفحة ،فلربما سيلاحظ الكلمات ذاتها موجودةً في السطر التالي ،بدلا من السطر الذي كان للتوّ ينسخه؛ عندها سيواصل النسخ من هناك و ،نتيجة لذلك، سيهمل الكلمات أو السطور الواقعة بينهما أو كليهما . هذا النوع من الأخطاء يطلق عليه ال (periblepsis ) أي (قفزة عين) الواقعة نتيجة للـ (homoeoteleuton) أي (النهايات المتشابهة).
أحد الأمور التي أعلِّمها لطلابي هي أنهم يستطيعون الادعاء بحصولهم على تعليم جامعي بمجرد أن يستطيعوا الحديث بذكاء حول (قفزة العين التي تتسبب فيها النهايات المتشابهة).
يمكننا شرح كيفية حدوث ذلك عبر التمثيل بنص إنجيل لوقا 12: 8-9 الذي يُقْرَأ كالتالي :
8 الذي يعترف بي أمام البشر ، ابن الإنسان
سيعترف به أمام ملائكة الله
9 لكن من ينكرني أمام البشر
سينكره أمام ملائكة الله
مخطوطتنا الأقدم المصنوعة من البردي لهذه الفقرة تخلو من العدد 9 بالكامل ؛ وليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف وقع الخطأ. الناسخ قام بنسخ الكلمات "أمام ملائكة الله" في العدد 8 ، وعندما ارتدت عينه إلى الصفحة ،لاحظت عينه الكلمات ذاتها في العدد 9 فافترض أنها هي ذاتها الكلمات التي قام للتوّ بنسخها ـ وهكذا واصل نسخ العدد 10، تاركًا العدد 9 بالكامل .
أحيانًا يكون هذا النوع من الأخطاء أكثر كارثية بشكل مريع بالنسبة لمعنى النص. في إنجيل يوحنا 17 :15 ،على سبيل المثال، يقول يسوع في صلاته إلى الرب عن تلامذته:
لا أطلب منك أن تحفظهم من ال
عالم ، لكن أن تحفظهم من ال
شرير.
في واحدة من أفضل مخطوطاتنا (المخطوطة الفاتيكانية من القرن الرابع) الكلمات " عالم. . .من ال" نجدها محذوفة ، لكي يصبح يسوع الآن يتفوه بهذه الصلاة المشئومة " لا أطلب منك أن تحفظهم من الشرير"!
في بعض الأحيان كانت الأخطاء العرضية تقع لا لأنَّ الكلمات كانت تبدو متشابهة ،لكن لأن نطقهم يبدو متشابهًا.
من الممكن أن يحدث هذا ،على سبيل المثال ، عندما يقوم أحد النساخ بنسخ نص يملى عليه - عندما يكون أحد النساخ يقرأ من إحدى المخطوطات و ناسخ آخر أو عدد أكبر من النساخ الآخرين يقومون بنسخ الكلمات إلى مخطوطة جديدة،كما كان يحدث أحيانًأ في السكريبتوريات بعد القرن الرابع . فلو حدث أن كلمتين كانتا تنطقان بالطريقة ذاتها، فإن الناسخ الذي يضطلع بمهمة النسخ ربما عن طريق السهو سيستخدم الكلمة الخاطئة في نسخته خاصةً إذا كان المعنى يبدو جيدًا للغاية (رغم خطئه). يبدو أن هذا هو ما حدث ،على سبيل المثال، في سفر الرؤيا 1 :5 ، حيث يصلي المؤلف إلى "الواحد الذي حررنا من خطايانا."
فالكلمة المقابلة ل" حرَّر" هي (LUSANTI) يتطابق نطقها تماما مع الكلمة المقابلة ل" طهَّرَ" (LOUSANTI)، وهكذا فلن نتفاجأ أن يصلِّي المؤلِّف في عدٍد من مخطوطات التي ترجع إلى العصور الوسطى إلى الواحد "الذي طهرنا من خطايانا."
مثال آخر وقع في رسالة بولس إلى أهل رومية ، حينما يصرح بولس بأنه" منذ أن تبررنا بالإيمان ، حصلنا على السلام مع الرب" (روم. 5: 1). أم هل هذا هو ما قاله؟ الجملة التي تعني " حصلنا على السلام،" في الحقيقة ،تُنطق تماما مثلما تُنطق الجملة "اجعلنا نحصل على السلام," التي هي نوع من الحثّ. وهكذا في عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك البعض من أقدم المخطوطات الموجودة في حوذتنا،لم يكن بولس على يقين من أنه وأتباعه وصلوا إلى السلام مع الله ،فهو يحث نفسه والآخرين على أن يسعوا إلى السلام. هذه فقرة من أجلها لاقى علماء النقد النصيّ مشقة في تقرير أي القراءات هي الصحيحة (17). في حالات أخرى يوجد ما هو أقل التباسا ، لأن التغيير الحادث في النص ،إن كان غير مفهوم ،ينتج عنه نصٌ غير مفهوم كبديل عن النص المفهوم . وهذا يحدث كثيرا ،وكثيرا ما كان للأسباب ذاتها التي كنا نناقشها.
على سبيل المثال ،في يوحنا 5 :39 ، يخبر يسوع خصومه أن "يفتشوا الكتب . . . لأنها تشهد لي." في إحدى المخطوطات القديمة ،الفعل الأخير تم تبديله بفعل يشبهه من ناحية النطق لكنه لا يعطي معنى مفهومًا في سياقه. في تلك المخطوطة يقول يسوع " فتشوا الكتب . . . لأنها تتجنّى عليّ"!
مثال آخر يأتي من سفر الرؤيا ،حيث يرى النبي رؤيا عن عرش الله وحوله يوجد" َقَوْسُ قُزَحَ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ" (4 :3). في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا هناك اختلاف، شديد الغرابة كما سيبدو ، يقال لنا فيه إنَّ "شيوخًا يشبهون الزمرد " حول العرش!
ولعل أكثر الأخطاء غرابة في مخطوطاتنا من بين كل الآلاف من الأخطاء غير المقصودة هو ذلك الخطأ الذي يقع في واحدة من المخطوطات المينوسكول (ذات الأحرف الصغيرة) للأناجيل الأربعة التي تحمل رقم 109 رسميًا ، والتي كتبت في القرن الرابع(18) . خطأها الفريد من نوعه يقع في لوقا ،الإصحاح 3 ،في حساب سلسلة نسب يسوع .من الواضح أن النساخ كان ينسخ مخطوطة تضع سلسلة النسب في عمودين.
لبعض الأسباب ،لم يقم بنسخ عمود واحدٍ في المرة الواحدة ، لكنه نسخ عبر العمودين. كنتيجة لذلك ،الأسماء الواردة في سلسلة النسب أصبحت غير متوافقة ، حيث معظم الأبناء دعوا إلى آباء غير آبائهم بطريق الخطأ. لا يزال هناك ما هو أسوأ ،العمود الثاني من النص الذي كان الناسخ يقوم بنسخه لا يشتمل على الكثير من سلاسل النسب التي يحتويها الأول ، لنصل الآن ، في النسخة التي قام بنسخها ، إلى أن أبا الجنس البشري (أي الاسم الأخير المذكور) ليس هو الله وإنما أحد الإسرائيليون الذي يدعى فارص (Phares)؛ والله ذاته قيل عنه أنه ابن أحد البشر الذي يدعى آرام !



التغييرات العمدية

التغييرات التي رأيناها يسهل ، من بعض الوجوه ، تحديدها والتخلص منها أكثر من غيرها عند محاولة إيجاد الشكل الأقدم من النص. التغييرات العمدية يميل تحديدها إلى أن يكون أكثر صعوبة بعض الشئ.وذلك تحديدًا لأنها حدثت (بوضوح) مع سبق الإصرار والترصد، كما أن هذه التغييرات تميل إلى أن تعطي معنى مفيدًا. وحيث إنها تعطي معنى مفيدًا ، فسيكون هناك دائما نقّادٌ يجادلون حول أن هذه التغييرات تعطي المعنى الأفضل- ما يعني أنها هي القراءة الأصلية. هذا ليس نزاعًا بين العلماء الذين يعتقدون أن النص قد تعرض للتحريف وبين هؤلاء الذين يعتقدون غير ذلك. الجميع يعلمون أن النص قد تم التلاعب به ، وإنما القضية هنا هي: أي قراءة تمثل التحريف وأيها تمثل أقدم شكل يمكننا الحصول عليه من النص. وفي هذا يتنازع العلماء أحيانا.
في عدد كبير من الحالات – أغلبها في الحقيقة - يتفق العلماء . ربما من المفيد لنا في هذه اللحظة أن نتناول بالبحث مجموعة كبيرة من أنواع التغييرات العمدية التي نجدها بين مخطوطاتنا ،وذلك باعتبارها تلك التغييرات التي سترينا الأسباب التي دفعت النسّاخ إلى اقتراف التحريف.
في بعض الأحيان قام النساخ بتغيير النصوص الموجودة بين أيديهم لأنهم كانوا يظنون أن النص يحتوي على خطأ يتعلق بإحدى الحقائق. يبدو الأمر على هذا النحو عند بداية إنجيل مرقس حيث يقدم المؤلف لإنجيله بقوله " كما هو مكتوب في إشعياء النبي ، ها أنا ارسل أمام وجهك ملاكي . . . اصنعوا سبله مستقيمة." المشكلة هي أن بداية الاقتباس ليست من إشعياء على الإطلاق بل يمثل توليفة من فقرة مأخوذة من سفر الخروج 23 : 20 و آخر مأخوذ من ملاخي 3 : 1 . عرف النسّاخ أن هذا يمثل إشكالية ولذلك قاموا بتغيير النص حيث جعلوه يقول " كما هو مكتوب في الأنبياء..." الآن ليس هناك مشكلة عزو اقتباس إلى غير موضعه . رغم ذلك من الممكن ،في الحقيقة، أن يكون هناك القليل من الشكوك حول ما كتبه مرقس: فنسبة الاقتباس إلى إشعياء ثابتٌ في أقدم وأفضل المخطوطات الموجودة لدينا.
في بعض الأحيان يكون "الخطأ " الذي يحاول أحد النسّاخ تصحيحه ليس متعلقًا بحقائق ،وإنما تفسيريًّا. هناك مثال شهير مأخوذ من إنجيل متى 24 :36 ، وفيه يتنبأ يسوع بنهاية الزمان و يقول " وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ ولا حتى الابن إِلاَّ الآب وَحْدَهُ. "
وجد النسّاخ معضلة في هذه الفقرة: ابن الله ، يسوع ذاته ، لا يعلم متى ستأتي النهاية ؟ كيف ذلك ؟ أليس هو كلِّيّ المعرفة ؟ لحل هذه المشكلة قام بعض النساخ بكل بساطة بتعديل النص عبر حذف الكلمات " ولا حتَّى الابن." والآن ربما تجهل الملائكة هذا الأمر ،أما ابن الله فكلا (19).
في بعض الحالات الأخرى غيَّر النسّاخ نصًا لا بسبب أنهم ظنوا أنه يحوي خطئًا وإنما لأنهم أرادوا أن يتحاشوا أن يُفْهَمَ النصُّ على نحوٍ خاطئ . متى 17 : 12 – 13 هو المثال الذي يصرح فيه يسوع بأن يوحنا المعمدان هو ذاته إيليّا ، النبي المزمع أن يأتي قبل نهاية الأيام :
"أقول لكم إن إيليا قد جاء ، ولم يتعرفوا عليه ،بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون . هكذا أيضًا ابن الإنسان سوف يتألم منهم. حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان."
المشكلة الكامنة هي أن النصَّ : وفقًا لمنطوقه ، يمكن تفسيره لكي يصبح معناه لا أنَّ يوحنا المعمدان كان هو إيليّا ، بل على أنه هو ابن الإنسان . يعلم النسّاخ تمام المعرفة أن هذا ليس هو المعنى الصحيح ، ولذلك قام البعض منهم بتحوير النص " حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان" جاعلينه يقع قبل الكلام عن ابن الإنسان §.
في بعض الأحيان قام النسّاخ بتغيير النص الموجود بين أيديهم لأسباب لاهوتية واضحة وذلك حتَّى يتأكدوا من أن النص لن يُسْتَخْدَمَ من قِبَل "المهرطقين"، أو لكي يتأكدوا من أنها تقول ما يفترِضُ (النسَّاخ )أنها تعنيه بالفعل.
هناك العديد من الحالات توضح هذا النوع من التحريف ، سنبحثها بشكل أكثر تفصيلا في فصل من الفصول القادمة. أما الآن فسأشير فقط إلى مثالين اثنين من الأمثلة المختصرة .
في القرن الثاني كان هناك مسيحيون يؤمنون بشدة بأنَّ الخلاص الذي أتى به المسيح كان شيئًا جديدًا تمامًا ،و أرفع شأنًا من أي شئ شهده العالم على الإطلاق بل وحتى أرفع شأنا بالطبع من الديانة اليهودية التي كانت المسيحية قد انبثقت منها . بعض المسيحيين ذهبوا أبعد من ذلك إلى الإصرار على أن اليهودية ،ديانة اليهود القديمة ، قد أُبْطِلَتْ تمامًا بظهور المسيح.
بالنسبة لبعض النسَّاخ الذين كانوا يعتنقون هذه العقيدة ،بدى المثل الذي حكاه المسيح عن الخمر الجديدة والزقاق العتيقة ربما أنه ينطوي على مشكلات.
بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً.
وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ الْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الْجَدِيدَ لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ».
(لوقا 5 : 38-39 )
كيف يمكن ليسوع أن يشير إلى أن العتيقة أفضل من الجديدة ؟ أليس الخلاص الذي أتى به أسمى قدرًا من أي شئ قدمته اليهودية ( أو أي ديانة أخرى )؟ النسّاخ الذين وجدوا في هذه المقولة أمرًا مربِكًا تخلصوا من الجملة الأخيرة بكل بساطة ، لكي لا يقول يسوع الآن أي شئ بخصوص تلك العتيقة التي هي أفضل من الجديدة.
في بعض الأحيان قام النسّاخ بتحريف النصوص التي بين أيديهم لكي يطمئنوا على أن إحدى العقائد المفضلة لديهم قد تمَّ تعزيزُها على نحوٍ واف.
على سبيل المثال ، نجد هذا في فقرة الخاصة بسلسلة نسب يسوع في إنجيل متى ، التي تبدأ بأب اليهود ،إبراهيم ، وتتعقب سلسلة نسب يسوع من الأب إلى الابن عبر السلسلة وصولا إلى "يعقوب، الذي كان أبًا ليوسف ،رجل مريم ، التي ولد منها يسوع ، المدعو مسيحًا" (متى 1 : 16 ). كما هو واضح ، سلسلة النسب تتعامل بالفعل مع المسيح كحالة استثنائية حيث لم تدعُه "ابنا" ليوسف . إلا أنَّ هذا لم يكن كافيًا ،مع ذلك ، من وجهة نظر بعض النُّسَّاخ الذين غيروا النص لكي يُقرأ كالتالي: " يعقوب ، الذي كان أبًا ليوسف ، الذي كانت العذراء مريم مخطوبة له ،أنجبت يسوع ،المسمى المسيح ." الآن يوسف لا يدعى حتى زوجًا لمريم ، بل خطيبها فحسب وتمَّ بوضوح التصريح بكونها عذراء - الأمر الذي يمثل مسألة ذات أهمية بالنسبة للكثيرين من النسّاخ الأوائل!
في بعض الأحيان كان النسَّاخ يقومون بتعديل نصوصهم ،لا لأسباب لاهوتية، وإنما لأسباب طقسية (liturgical) . فبما أن التقاليد الزهدية في المسيحية الأولى كانت تنمو في في المراحل المبكرة من المسيحية ، فاكتشاف التأثير الكبير لهذا الأمر على التغييرات التي أحدثها النسّاخ داخل النصوص ليس أمرًا مفاجئًا . على سبيل المثال، في مرقس 9 ، حينما يقوم يسوع بطرد الروح الشريرة التي عجز تلامذته على طردها ،نجده يخبرهم «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ " (مرقس 9 : 29 ). فيما بعد أدخل النسّاخ الإضافة المناسبة بسبب طريقتهم الخاصة في العبادة ، لكي يصير يسوع يشير الآن إلى أن " هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ والصوم."
أحد أفضل التغييرات التي حدثت للنص لأسباب طقوسيّة نجده في رواية لوقا الخاصة لصلاة الرب . فالصلاة موجودة أيضًا في إنجيل متّى ،بطبيعة الحال. وشكل الصلاة المتَّوي الأكثر طولا كان ولا يزال الأكثر شهرة عند المسيحيين(20) .عند المقارنة ، تبدو الرواية الخاصة بلوقا مبتورة بشكل غير مرغوب به.
" أيها الآب ، ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك. إعطنا خبزنا اليومي كل يوم . واغفر لنا خطايانا ، لأننا نغفر لكل من يذنب إلينا . ولا تدخلنا في تجربة . (لوقا 11 : 2- 4)
قام النسّاخ بحل المشكلة الخاصة برواية لوقا المختصرة من خلال إضافة الاسترحامات المعروفة من الفقرة الموازية في متى 6 : 9- 13 ، لكي تصير قراءتها الآن كما في متى كالتالي:
أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ . وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ».
هذا الميل لدى النسّاخ إلى "التوفيق" بين الفقرات في الأناجيل موجود في كل مكان في الإنجيل. فمتى حكيت القصة ذاتها في الأناجيل المختلفة ، فعلى الأرجح قام هذا الناسخ أو ذاك بالتأكد من أن القصص متوافقة بشكل تام وذلك عبر حذف الفروقات بجرة قلم.
في بعض الأحيان لم يقع النُّسّاخ تحت تأثير الفقرات المتوازية داخل الكتاب المقدس، بل تحت تأثير التقاليد الشفوية المتداولة حينذاك حول يسوع والقصص المروية عنه . رأينا بالفعل مثل هذا بصورة مكبرة في قضية المرأة الزانية والاثنا عشر عددًا الأخيرة في إنجيل مرقس. في حالات أقل يمكننا أن نرى كيف ألقت التقاليد الشفوية بظلالها على نصوص الأناجيل المكتوبة . أحد الأمثلة الواضحة هي القصة المشهورة في يوحنا 5 عن شفاء يسوع لأحد المرضى في بركة بيت حسدا.
قيل لنا في أول القصة إن عددًا من الأشخاص ــ المرضى ،العمي ،العرج ،المشلولين ــ كانوا مضجعين بجانب هذه البركة ، وإن يسوع اختار أحدهم و كان يأتي إلى هذا المكان طلبًا للشفاء طوال ثمانية وثلاثين عامًا.
عندما سأل يسوعُ الرجلَ ما إذا كان يرغب في أن يشفى ، أجاب الرجل بأنه ليس هناك من يستطيع أن يضعه في البركة ،فعندما "يتحرك الماء" دائما ما يسبقه أحدهم إليها .
في أقدم وأفضل مخطوطاتنا ليس هناك تفسير يوضح السبب الذي من أجله يريد الرجل أن يدخل إلى الماء بمجرد اضطراب الماء، لكن التقليد الشفوي يسد النقص بإضافته للعددين 3-4 الموجودة في كثير من مخطوطاتنا الأحدث عمرًا.
ففي هذه المخطوطات يقال لنا إن " ملاكا كان ينزل أحيانًا إلى البركة و يحرك الماء ؛ وأول من ينزل بعد حركة المياه يشفى ." (21) وهي لمسة رائعة لقصة مسليّة بالفعل .


الخاتمة

يمكننا أن نواصل الحديث إلى الأبد تقريبًا حول مواضع معينة تم تغيير نصوص العهد الجديد فيها سواء أحدث ذلك بشكل عفويّ أو بصورة متعمدة .وكما أشرت من قبل ، الأمثلة ليست فقط بالمئات ولكن بالآلاف . والأمثلة التي قدمتها كافية لنقل الفكرة العامة التي مفادها: هناك الكثير من الاختلافات بين مخطوطاتنا ،وهذه الاختلافات اختلقها النسّاخ الذين أعادوا إنتاج نصوصهم المقدسة . في القرون الأولى للمسيحية ، كان النسّاخ من الهواة ومن كان على هذه الشاكلة فميله إلى تحريف النصوص التي ينسخها ـ أو لتحريفها عن طريق الخطأ –هو أكثر من ميل هؤلاء الذين صاروا هم النسّاخ في الفترات الزمنية الأحدث الذين أصبحوا من المحترفين بدءًا بداية من القرن الرابع .
من المهم أن نرى أنواع التغييرات ، سواء العرضية أو العمدية ،التي كانت قابلة للحدوث عبر النسّاخ لأنه حينذاك سيكون من السهل أن نحدِّدَ هذه التغييرات ،ومن ثمَّ يمكننا أن نتخلص من بعض الأعمال القائمة على التخمين المستخدمة في تحديد الشكل الذي يعتبر تحريفًا للنص والآخر الذي يعتبر الشكل الأقدم منه. من المهم أيضًا أن نرى كيف ابتكر العلماء المعاصرون المناهج اللازمة للقيام بهذا النوع من التحديد. في الفصل التالي سنتتبع بعضًا من خيوط هذه القصة التي تبدأ من عصر "جون مِلّ" وصولا إلى الوقت الحاضر ، لنرى المناهج التي تطورت بغية إعادة بناء نص العهد الجديد وللتعرف على الطرق التي استخدمت لتغييره خلال عملية النقل .



نهاية الفصل الثالث والحمد لله رب العالمين


هوامش الفصل الثالث


[1] للاطلاع على تعريفي للناسخ المحترف انظر الهامش رقم في الفصل 2 .

[2] للاطلاع على وجهة النظر التي تقول بعدم وجود دليل على وجود الإسكريبتوريات في القرون المبكرة ، انظر كتاب "حراس الحروف" لهاينز أيتسن ،83 -91 .



[3] يعرف يوسابيوس على نطاق واسع اليوم بأنه أبو التأريخ الكنسي ،بناءا على روايته للثلاثمائة عامًا الأولى من تاريخ الكنيسة.

[4] للاطلاع على المزيد عن هذه " النسخ " (أي الترجمات) المبكرة للعهد الجديد ، انظر "نص العهد الجديد" لكل من ميتزجر و إرمان ،الفصل الثاني ، القسم 2.

[5] حول النسخ اللاتينية من العهد الجديد ، بما في ذلك مؤلف جيروم ، انظر "نص العهد الجديد" لميتزجر وإرمان،الفصل ال2 ،القسم 2 ،رقم 2.



[6] للاطلاع على المعلومات حول ذلك بشكل أكثر تفصيلا ، وحول الطبعات التي نوقشت في الصفحات التالية ، انظر ميتزجر و إرمان "نص العهد الجديد" ، الفصل 3.

[7] انظر،بشكل خاص ، الوصف المعرفي في كتاب " قصة النص المطبوع للعهد الجديد اليوناني " لصمويل ب. تريجيلز(London: Samuel Bagster & Sons, 1854)، 3- 11.



(8) النص اللاتيني يُقرأ كالتالي :

"textum ergo habes, nunc ab omnibus receptum: in quo nihil immutatum aut corruptum damus."



(9) انظر كتاب ميتزجر و إرمان ، نص العهد الجديد، الفصل 3 ، القسم 2.



(10) تأكيد ويتبي. اقتبس في كتاب آدم فوكس ، جون مل وآدم بنتلي :دراسة النقد النصي للعهد الجديد، 1675 – 1729 (أكسفورد :بلاكويل،1954) ، 106 .

(11) فوكس ، مل وبنتلي ، 106 .



***** يؤمن بوجود إله لا يتدخل في تسير الكون كما لا يؤمن بوجود ظاهرة الوحي .(المترجم)

(12) كتاب "ملاحظات حول حوار التفكير الحر الأخير، الطبعة ال7 (لندن :و.ثوربورن ، 1737)، 93 – 94.

(13) صديقي مايكل هولمز أشار على بأنه من بين الآلاف السبع من نسخ الكتاب المقدس اليوناني (العهد الجديد اليوناني والعهد القديم اليوناني)، أقل من عشر ، حسب معرفتنا ،كانت تحوي الكتاب المقدس بالكامل ، العهدين الجديد والقديم كليهما . هذه العشر هي الآن نافصة (فاقدة صفحات هناك أو هناك )؛ وأربع منهم فقط يرجع تاريخه إلى القرن العاشر .



(14) المخطوطات – التي هي نسخ مكتوبة بخط اليد – استمرت كتابتها بعد اختراع الطباعة ، تماما مثلما يواصل بعض الناس إلى الآن استخدام الآلة الكاتبة ، على الرغم من وجود معالجات الكلمات .

(15) سوف نرى أن الأنواع الأربعة للمخطوطات لام يتم تقسيمهم في مجموعات وفقًا للمبادئ ذاتها . فأوراق البردي مكتوبة بالأحرف الكبيرة ، تماما مثلما هو الحال مع المخطوطات الموجيسكول ، ولكن على سطح صالح للكتابة مختلف ؛ فالمينوسكول يكتب على النوع ذاته من السطح الصالح للكتابة الذي يكتب عليه الماجوسكول (البرشمان) ولكن بنوع مختلف من الخطوط .





(16) للاطلاع على أمثلة إضافية للتغييرات العرضية غير المقصودة ،انظر كتاب ميتزجر وإرمان ،نص العهد الجديد، الفصل 7 ،القسم 1 .

(17) هؤلاء الذين لديهم الاهتمام بمشاهدة كيف يتناقش العلماء جيئة وذهابا بخصوص أفضلية إحدى القراءات عن الأخرى ينبغي عليهم الرجوع إلى ميتزجر وكتابه ، التفسير النصي .



(18) استعرت هذا المثال ، مع العديد من الأمثلة السابقة ، من بروس م. ميتزجر . انظر كتاب "نص العهد الجديد" لميتزجر و إرمان ، ص 259 .



(19) للاطلاع على المزيد من النقاش حول هذه القراءة المتباينة ، انظر الصفحتين 203 ، 204 .



§ أي أصبح الكلام في النص كالتالي "أقول لكم إن إيليا قد جاء ، ولم يتعرفوا عليه ،بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون . ." حينئذ أدرك تلامذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا المعمدان. هكذا أيضًا ابن الإنسان سوف يتألم منهم"

(20) للاطلاع على تفاصيل أكبر حول القراءات المتباينة لصلاة السيد ، انظر باركر ، النص الحي للكتابات المقدسة (Living Text of the Gospels) ، 49 – 74 .



(21) هناك عدد من القراءات النصية المتباينة بين الشواهد التي تؤكد هذا الشكل المطول من الفقرة

نور الإسلام
05-02-2012, 11:30 AM
الفصل الرابع
البحث عن الأصول
مناهج واكتشافات

كما رأينا ، بعض العلماء (عددهم قليل)، قبل قيام "مِل" بنشر نسخته من العهد الجديد باليونانية بفترة طويلة مصحوبة بإشاراته إلى الثلاثين ألف موضع من القراءات المتباينة في شواهدنا الناجية من الضياع ، كانوا قد اعترفوا بوجود مشكلة في نص العهد الجديد . وقبل ذلك خلال القرن الثاني ، كان الناقد الوثني سيلزس يزعم أن المسيحيين غيَّروا النص على هواهم ،كما لو كانوا مخمورين في جلسة شراب ؛ أما خَصْمُه أوريجانوس فيتحدث عن عددٍ "كبيرٍ" من الاختلافات بين مخطوطات الكتاب المقدس ؛ بعد ذلك بما يزيد عن قرن كان البابا داماسوس يساوره قلق شديد جرَّاء الاختلافات الموجودة بين المخطوطات اللاتينية إلى درجة أنه كلَّف القديس جيروم بإنتاج ترجمة معيارية ؛ بل وحتى جيروم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ، سواء اللاتينية أو اليونانية ، لكي يختار النص الذي كان يعتقد أنه النص الأصلي الذي خطته أيدي مؤلفيه .ثم خمدت المشكلة طوال القرون الوسطى وصولا إلى القرن السابع عشر ، عندما بدأ "مِلّ" وآخرون في معالجتها بصورة جديَّة (1) . وبينما كان "مِلّ" في غمرة عملية تجميع البيانات اللازمة لنسخته التي صدرت 1707 و التي تمثل علامة فارقة ، كان هناك عالم آخر يعمل بجد أيضًا على قضية نص العهد الجديد؛ هذا العالم لم يكن من أصل إنجليزيّ بل كان فرنسيّا ، و لم يكن بروتستانتيا بل كاثوليكيا. فوق ذلك ، كانت وجهة نظره هي على وجه الدقة هي ما كان كثير من البروتستانت الإنجليز يخشون أن يكون محصلة التحليل الدقيق لنص العهد الجديد ،وجهة النظر هذه تتلخص تحديدا في أن الاختلافات واسعة النطاق في المخطوطات أوضحت أن الإيمان المسيحي لا يمكن أن يبنى فحسب على الكتاب المقدس ( أو ما يعرف بمبدأ "الكتاب المقدس فحسب " أو الـ(sola scriptura) عند البروتستانت الإصلاحيين)، حيث إن النص كان متغيرا و لا يعول عليه (unstable and unreliable) . بدلا من ذلك ، ووفقا لهذه الرؤية ، لابد أن الكاثوليك على حق في قولهم إن الإيمان في حاجة إلى التقليد الآبائي المحفوظ في الكنيسة (الكاثوليكية). المؤلف الفرنسي الذي واصل نشر هذه الأفكار في سلسلة من الإصدارات الهامة كان هو "ريتشارد سيمون" (1638- 1712 ).

ريتشارد سيمون
على الرغم من أن "سيمون" كان في الأصل عالمًا في اللغة العبرية ، إلا أنه كان مهتمًّا بالتقليد النصي للعهدين القديم والحديث كليهما. دراسته التي نال عنها درجة الماجيستير ،"تاريخ نقدي لنص العهد الجديد" ،ظهرت في 1689 بينما كان "ملّ" ما يزال يعمل على كشف النقاب عن القراءات المتباينة في التقليد النصي ؛ وقد كان لدى"ملّ" إمكانية الاطلاع على هذا العمل و هو يعترف، خلال النقاش المفتوح لنسخته التي صدرت 1707 ، بسعة العلم الموجود المتوفرة في هذا العمل وبأهميته لأبحاثه الشخصية رغم اختلافه مع الاستنتاجات اللاهوتية الموجودة فيه . لم يكن كتاب "سيمون" مخصَّصا لكشف كل قراءة متباينة موجودة وإنما لمناقشة الاختلافات النصية في التقليد ،وذلك بهدف إظهار عدم موثوقية النص في هذه المواضع ولكي يدافع أحيانًا عن أفضلية الكتاب المقدس اللاتيني الذي ما يزال اللاهوتيون الكاثوليك يعتقدون في كونه النص المعتمد. و"سيمون" أيضا على معرفة تامة بالمشكلات النصيِّة شديدة الأهمية . فعلى سبيل المثال ،يعقد مناقشة مطولة لعدد من القضايا التي قمنا نحن أنفسنا ببحثها في هذا الكتاب : مثل المرأة الزانية ، الأعداد الاثني عشر الأخيرة في مرقس ، والفاصلة اليوحناوية (التي تؤكد مبدأ التثليث على نحوٍ لا لبس فيه). طوال نقاشه كان"سيمون"يجتهد في إظهار أن جيروم هو من أمدّ الكنيسة بالنص الذي يمكنها أن تستخدمه كأساس للفكر اللاهوتي . أو كما يقول هو في مقدمة الجزء 1 من كتابه :
لم يكن ما أسداه القديس جيروم للكنيسة من خدمات بالشئ القليل سواء في تصحيح أو في تنقيح النسخ اللاتينية القديمة وفقا للقواعد النقدية الصارمة . هذا ما نسعى إلى إظهاره في هذا العمل ، إلى جانب إظهار أن غالبية النسخ اليونانية القديمة من العهد الجديد ليست هي الأعلى قيمة ،حيث إنها متوافقة مع تلك النسخ اللاتينية التي وجد القديس جيروم أنها شديدة الفساد وأنها بحاجة إلى التعديل) (2).
هذا في جوهره دفاع بارع وسوف نصطدم به مرة أخرى: ويتلخص في أن المخطوطات اليونانية غير جديرة بالاعتماد عليها لأنها هي تحديدا تلك النسخ الفاسدة التي كان على القديس جيروم أن ينقحها لكي يبني النص الأفضل ؛ أو بطريقة أخرى هذه النسخ اليونانية المحفوظة أنتجت قبل عصر جيروم ، ومع أنها ربما تكون أقدم ما لدينا من نسخ ،إلا أنها لا يمكن الوثوق بها .
بقدر ما هو بارع هذا الدفاع إلا أنه لم ينل على الإطلاق دعمًا واسع النطاق بين نقاد النصوص . في حقيقة الأمر ، هي مجرد إعلان عن أن مخطوطاتنا الحية الأقدم عمرا لا يمكن الوثوق بها ، لكنَّ الممكن الوحيد أمامنا هو تنقيحها . على أي أساس ، مع ذلك ، قام جيروم بتنقيح ما لديه من نص ؟ بالطبع على أساس المخطوطات الأقدم . إذن فحتى جيروم نفسه قد وضع ثقته في أقدم تسجيل للنص . وإذا لم نفعل الشئ نفسه فهذه ستكون ردة إلى الوراء - حتى مع التسليم بتنوع التقليد النصي في القرون الأولى . على أية حال ، يجادل "سيمون" أثناء مواصلته لمهمته في أن كل المخطوطات تجسد التحريفات التي تعرضت لها النصوص و النصوص اليونانية منها على وجه الخصوص ( ها هنا ربما يكون لدينا هجوم أكبر على "المنشقين اليونانيين " عن الكنيسة "الجامعة ").
لن يكون ثمة في هذا اليوم أي نسخة من العهد الجديد ، سواء أكانت باليونانية أو باللاتينية أو السوريانية أو العربية ، يمكننا أن نطلق عليها بالحق لقب "نسخة أصلية" ،لأنه ليس هناك واحدة على الإطلاق ، أيّا كانت اللغة التي كتبت بها ، قد نجت من الإضافات . ربما أؤكد أيضا أن الناسخين اليونانيين كانوا يتمتعون بحرية واسعة في كتابة نسخهم ، كما سنثبته في موضع آخر (3) .
أجندة "سيمون" لمثل هذه الملاحظات تتسم بالوضوح طوال مقاله المطول . في إحدى النقاط يتسائل بطريقة بليغة :
أتراه ممكنا..أن يكون الله قد أعطى كتبا لكنيسته يخدمها كدستور ، وأن يسمح في الوقت ذاته أن تضيع الأصول الأولى لهذه الكتب إلى الأبد منذ بداية الدين المسيحي ؟ (4)
وإجابته ،بطبيعة الحال ، هي النفي . لقد قدمت الكتابات المقدسة بالفعل أساسًا للإيمان ، لكنَّ الكتب ذاتها لم تكن في النهاية هي العامل الأهم (حيث تعرضت للتحريف في النهاية مع مرور الزمان )، بل تفسير هذه الكتب كما وجد في التقليد الرسولي المستلم عبر الكنيسة (الكاثوليكية).
"مع أن الكتابات المقدسة هي أساس لا ريب فيه عليه بُنيَ الإيمان ، إلا أن هذا الأساس ليس كافيا تماما بحد ذاته ؛ بل من الضروري التعرف ، إلى جانب ذلك ، على التقاليد الرسولية ؛ وتلك لا يسعنا تعلمها إلا عبر الكنائس الرسوليّة ، التي حافظت على المعنى الحقيقي للكتب المقدسة (5) ."
استنتاجات "سيمون" المضادة للبروتستانتية تصير أكثر وضوحا في بعض كتاباته الأخرى . على سبيل المثال ،في كتاب له يتناول " المفسرين الرئيسيين للعهد الجديد " ،يصرح بغير تردد :" التغييرات العظيمة التي وقعت في مخطوطات الكتاب المقدس . . . منذ أن فُقِدَت الأصول الأولى ، تهدم مبدأ البروتستانتيين من أساسه . . . الذين يلجأون فحسب إلى هذه المخطوطات ذاتها الخاصة بالكتاب المقدس في شكلها الموجود اليوم . لو أن حقيقة الدين لم تعش طويلا في ظل الكنيسة ، فإن البحث عنها في الكتب التي كانت عرضة لكثير جدا من التغييرات والتي كانت أيضا خاضعة لإرادة النساخ لن يكون بالأمر المأمون (6).
هذا النوع من الهجوم القاسي من الناحية الفكرية على المفهوم البروتستانتي للكتاب المقدس بشكل جدُّ خطير حدث بين جدران المعاهد العلمية . لكنَّ علماء الكتاب المقدس من البروتستانت ،بمجرد صدور نسخة "ملّ" في 1707 ، اضطروا بدافع من طبيعة ما لديهم من معارف إلى أن يراجعوا أنفسهم وأن يبدأوا في الدفاع عن مفهومهم حول الإيمان . فهم ليس بوسعهم ،بطبيعة الحال ، أن يتخلوا ببساطة عن عقيدة "الكتاب المقدس وحده " (sola scriptura). بالنسبة إليهم ، كلمات الكتاب المقدس ما تزال تحمل سلطان كلمة الله . لكن كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع حقيقة أننا في كثير من المواقف لا نعلم الأصل الذي كانت عليه هذه الكلمات ؟ كان هناك حلٌّ وحيد وهو تطوير مناهج النقد النصي التي ستمكن العلماء المعاصرين على إعادة بناء الكلمات الأصلية ، حتى يتسنى مرة أخرى لأساس الإيمان أن يبرهن موثوقيته . إنه جدول الأعمال الذي يقف وراء كثير من الجهود ،في إنجلترا وألمانيا أساسا،التي بذلت من أجل ابتكار مناهج ذات كفاءة و يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء الكلمات الأصلية للعهد الجديد من نسخها العديدة المشتملة على الأخطاء والتي نجت من الضياع .

ريتشارد بنتلي
كما رأينا ، وظف "ريتشارد بنتلي" ،العالم المتخصص في فقه اللغات القديمة وعميد كلية ترينيتي بجامعة كامبردج قدرته الفكرية الفذة في دراسة مشكلات التقليد النصي للعهد الجديد ردا على التفاعلات السلبية التي نتجت عن نشر "مِلّ" للعهد الجديد اليوناني مصحوبًا بكمٍّ هائل من التناقضات النصية الموجودة بين المخطوطات (7). ردُّ "بنتلي" على "كولينز الديسطيقي " ،وهو ردٌّ على "مقالة حول التفكير الحر"، اكتسب انتشارًا واسعًا الانتشار وصلت طبعاته إلى ثمان طبعات . رؤيته الجامعة كانت تتلخص في أن التناقضات الثلاثين ألفا في العهد الجديد اليوناني لم تكن بالكثرة المتوقعة من تقليد نصي يحتوي مثل تلك الثروة من النصوص ، و أن "ملّ" تقريبًا لا يمكن لأحد أن يتهمه بتقويض صحة الديانة المسيحية حيث إنه لم يبتكر هذه المواضع المتباينة بل ببساطة قام برصدها . في النهاية أصبح بنتلي نفسه مهتما بدراسة التقليد النصي للعهد الجديد ، وبمجرد أن حَوَّل اهتمامه إليه ،استنتج أنه يستطيع في الحقيقة إنجاز تقدم ملحوظ في تكوين النص الأصلي في غالبية المواضع التي يتوافر فيها تباين نصي . في رسالة أرسلها إلى أحد داعميه وهو كبير الأساقفة "ويك" في عام 1716 ، كتب في مقدمة نسخة جديدة مفترضة من العهد الجديد اليوناني يقول إنه سيكون بمقدرته ،عبر التحليل الدقيق ، أن يعيد نص العهد الجديد إلى حالته التي كان عليها في عصر مجمع نيقية (أوائل القرن الرابع )،وهي الحال التي كان سيكون عليها شكل النص الذي نشره في القرون السابقة عالم النصوص القديمة العظيم "أوريجانوس"، قبل قرون عديدة من تسرب الفساد إلى التقليد النصي (للكتاب المقدس)بسبب الغالبية الساحقة من القراءات النصية المتباينة(كما كان ظنُّ " بنتلي" ).
لم يكن "بنتلي" على الإطلاق بالشخص الذي ينشغل بالتواضع الزائف . فها هو كما يزعم في رسالته :
أجد أنني قادر على إنتاج نسخة من العهد الجديد اليوناني بالدقة ذاتها التي كان عليها في أفضل النسخ في عصر مجمع نيقية (وهو الأمر الذي يظنه البعض في حكم المستحيل) ؛ لكي لا يكون ثمة لا عشرون كلمة ،ولا حتى حروف جر ،بها أي اختلاف . . . ولكي يصير لهذا الكتاب،الذي تعتقد الإدارة الحالية أنه مشكوك فيه إلى أبعد الحدود ،حجية فوق جميع الكتب الأخرى مهما كانت، ولكي توضع نهاية فورية لكل القراءات المتباينة الآن وفي المستقبل (8).
منهج العمل لدى بنتلي كان نزيها للغاية . فهو كان قد قرر أن يقارن (على نحوٍ مفصَّل) نص أهم مخطوطة من مخطوطات العهد الجديد اليونانية في إنجلترا ،ألا وهي المخطوطة السكندرية التي تؤرخ ببواكير القرن الخامس ،بأقدم النسخ المتاحة للفولجاتا اللاتينية . ما وجده كان حجما كبيرة من القراءات المتوافقة على نحوٍ ملحوظ . اتفقت فيها هذه المخطوطات مرات كثيرة بعضها مع بعض ولكن مع اختلافها مع الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية التي تمت نسخها في العصور الوسطى . لقد امتدت الموافقات لتشمل حتى أمورا مثل ترتيب الكلمات في المواضع التي تختلف فيه المخطوطات المختلفة. لقد كان بنتلي على قناعة تامة ،إذن، من قدرته على تنقيح (edit) الفولجاتا اللاتينية و العهد الجديد اليوناني كليهما ليصل إلى الأشكال الأقدم من هذه النصوص وذلك لكي لا يكون ثمة ولو أدنى ذرة من الشك فيما يتعلق بقراءتهما الأقدم . مواضع التباين الثلاثين ألفا التي ذكرها مِلّ ستكون شيئا أخرقا غير ذي صلة بتلك التي سنحصل عليها تحت سلطان النص. فلسفة هذا المنهج بسيطة : لو كان جيروم ،في الواقع، قد استخدم أفضل المخطوطات اليونانية المتاحة له لتنقيح ما بين يديه من نصوص ،إذن فبمقارنة المخطوطات الأقدم من الفولجاتا ( بهدف التثبت من نص جيروم الأصلي) بالمخطوطات الأقدم من العهد الجديد اليوناني ( لمعرفة أيها استخدمه جيروم )، فسيكون بوسع أحدنا تحديد ما كانت عليه أفضل النصوص في عصر جيروم ـ وتخطي أكثر من ألف عام من نقل النصوص التي تغير النص خلالها مرارًا وتكرارًا. فوق ذلك ،وحيث إن نص جيروم كان هو النص ذاته الذي كان لدى سابقه أوريجانوس ، فإن المرء سيكون بوسعه أن يطمئن تماما أن هذا كان أفضل نص موجود في القرون الأولى للمسيحية على الإطلاق . وهكذا ، استشف "بنتلي" ما كان استنتاجا لا مفر منه حسب وجهة نظره:
من خلال أخذ ألفي خطأ من الفولجاتا الباباويّة ،و نفس المقدار من نسخة البابا البروتستانتي ستيفانس (أي نسخة ستيفانوس أو النص المستلم )،يمكنني أن أصدر منهما نسخة في عمودين ،من غير استخدام أيّ كتاب يرجع تاريخه إلى ما هو أدنى من تسعة قرون ،وهو ما سيتوافق تماما كلمة بكلمة ،و نسق بنسق ،وهو الأمر الذي أصابني بالدهشة في أول الأمر ، إلى درجة أن لن يكون ثمة وثيقتان أو سجلان متوافقان على نحو أفضل منهما (9).
ومن خلال إنفاقه المزيد من الوقت في مقارنة المخطوطات وفي فحص المقارنات التي قام بها الآخرون ،زادت ثقة بنتلي في قدرته على القيام بالمهمة ، وعلى القيام بها على وجهها الصحيح ، وعلى القيام بها مرة واحدة وللأبد . في 1720 نشر بنتلي بحثا موجزا (pamphlet) تحت عنوان مقترحات للطباعة (Proposals for Printing) صممه لحشد الدعم لمشروعه عبر الحصول على عددٍ من الداعمين الماليين. في هذا الكتيب يضع منهجه المقترح الذي يهدف إلى إعادة بناء النص و يجادل حول صحته منقطعة النظير .
يؤمن المؤلف أنه استعاد الأعداد الصحيحة (باستثناءا القليل جدا من المواضع) التي كانت في نسخة أوريجانوس . . . وهو على يقين من أنه بواسطة المخطوطات اليونانية واللاتينية ،عبر الاعتماد على مساعدتهما معًا،سيقوم بإعادة النص الأصلي إلى دقَّته الأولى ،بشكل لا يمكن أن يقوم بمثله الآن أي مؤلف كلاسيكي مهما كان: وأنه من متاهةالقراءات الثلاثين ألفا المتباينة التي تزدحم بها صفحات أفضل نسخنا الموجودة في الوقت الحاضر ،الجميع يضعون رهانهم بشكل متساوٍ على أخطاء كثير من الأشخاص الصالحين؛ مفتاح اللغز هذا سيكون قائدا و منقذا لنا إلى درجة أنه من بين هذه الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة لن يكون مستحقا للاهتمام سوى مائتي قراءة على الأكثر (10).
تخفيض القراءات المتباينة الكثيرة من آلاف "مِل" الثلاثين إلى مائتين قراءة فحسب من الواضح أنه تقدم ملحوظ . لم يكن الجميع ،مع ذلك ،على يقين من أن بنتلي كان بوسعه أن ينتج بضاعته .في مقال مجهول المؤلف كتب ردا على الاقتراحات( لقد كان عصرا ذهبيا للمجادلين ومؤلفوا الأبحاث الموجزة (pamphleteers))،ناقش مؤلِّفُه بحث بنتلي فقرة بفقرة. لقد تعرض بنتلي للهجوم من أجل منهجه وقيل عنه ،على لسان خصمه المجهول ،إنه لا يملك "لا الموهبة ولا المادة الصالحة لعمله الذي كان قد آل على نفسه القيام به (11)."
اعتبر بنتلي هذا الهجوم ،كما قد يتصور المرء،وصمة على جبين مواهبه العظيمة التي يفتخر بها وأجاب بالطريقة ذاتها . لكنه وللأسف ،أخطأ في تحديد شخصية خصمه ،الذي كان في الواقع عالم من كمبريدج يدعى "كانيارز ميدلتون" ، حيث ظنه "جون كولباتش" ، فكتب ردًا حادًّا ، ذكر فيه اسم "كولباتش" و ،كما كان الأسلوب في هذه الأزمنة ،وجه إليه بعض الإهانات . مثل هذه الأبحاث الجدالية الموجزة يندر أن يكون لها وجود في عصرنا الحالي الذي يتميز بمؤلفاته الجدلية رقيقة الأسلوب؛أما تلك الأيام البعيدة ،فلم يكن هناك شئ من الرقة خاصة فيما يتعلق بالشعور الشخصي بالظلم . يعلق بنتلي قائلا:" لسنا بحاجة للذهاب إلى أبعد من هذه الفقرة كنموذج لسوء القصد و الوقاحة العظيمين ،الذان سادا ما خطه مؤلف تافه من خفافيش الظلام على الورق (12) . وفي كل موضع من رده يقدم بنتلي عددًا من الإهانات شديدة القسوة ،داعيًا "كولباتش"(الذي لم يكن له علاقة في حقيقة الأمر بالبحث المعنيّ) بالمغفل ،الحشرة،الدودة ،النغفة ،الشخص المؤذي ،الفأر القارض ،الكلب النابح ،السارق الجاهل ،الدجال (13). آه ، يالها من أيام .
وعندما أحيط بنتلي علمًا بالهوية الحقيقية لخصمه ،شعر بالطبع بالقليل من الإحراج لمهاجمته الشخص الخطأ ،إلا أنه واصل دفاعه عن نفسه ، والجانبان كلاهما كانا ما يزال في جعبتهما الكثير من السهام . هذا الدفاع أعاق العمل ذاته ،بطبيعة الحال ، كما فعلت عوامل أخرى بما فيها التزامات بنتلي الشاقة كونه عميدًا لكليته في جامعة كامبردج و مشاريعه الكتابية الأخرى ،وعوائق أخرى مثبطة تشمل فشله في الحصول على إعفاء من تكاليف استيراد الورق الذي أراد استخدامه في إصدار النسخة . في النهاية ، اقتراحاته لطباعة العهد الجديد اليوناني ، بأقدم النصوص التي يمكن الوصول إليها وليس بتلك الخاصة بالمخطوطات اليونانية التالفة المتأخرة (مثل تلك المبني عليها النص المستلم Textus Receptus )لم تسفر عن شئ . بعد موته ، اضطر ابن أخيه إلى إعادة الأموال التي كان قد جمعها بالاكتتاب ،مسدلا الستار على المسألة برمتها .

يتبـــــــــع بإذن اللـــــــه

نور الإسلام
05-02-2012, 11:31 AM
يوهان ألبريخت بينجيل
من (سيمون) في فرنسا إلى (مِلّ و بنتلي) في إنجلترا ،والآن إلى ألمانيا . كانت المشكلات النصية للعهد الجديد تشغل بال علماء الكتاب المقدس البارزين في ذلك العصر في مناطق رئيسية من العالم المسيحي الأوروبي .كان يوهان ألبريخت بينجل (1687- 1752 ) قسيسا لوثريّا ورِعًا وأستاذًا أصبح في بواكير حياته منزعجًا بشدة من وجود مثل هذا الكمِّ الكبير من القراءات النصية المتباينة في التقليد المكتوب للعهد الجديد ،و كان على وجه الخصوص قد تأثر سلبًا كشاب في العشرين من عمره نتيجة لنشر نسخة "مِلّ" بمواضعها الثلاثين ألفًا المتباينة. هذه القراءات المتباينة كان يوهان ينظر إليه باعتبارها تحديًّا رئيسيا أمام إيمانه الشخصي الذي كان إيمانا متجذرا بكلمات الكتاب المقدس نفسها . فإذا كانت هذه الكلمات غيرَ موثوق بها ،فعلاما ينبني الإيمان إذن ؟
أنفق بينجيل كثيرا من عمل وظيفته العلمية في البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة ، وكما سنرى ،فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا في التوصل إلى حلول لها. في البداية ، نحن بحاجة إلى أن ننظر قليلا في منهج بينجيل في التعامل مع الكتاب المقدس (14) . استحوذ الالتزام الديني الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكيره . يمكن للمرء أن يفهم شعور الجدية التي تعامل بها بها مع إيمانه بدءًا من عنوان المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها عندما عين كمدرس مبتدئ في المعهد اللاهوتي الجديد في دينكيندورف :" De certissima ad veram eruditonem perveniendi ratione per studium pietatis" وترجمتها: (السعي الدؤوب عن التقوى هو المنهج الآكد للحصول على تعليمٍ مرموق ).
كان بينجيل عالمًا شديد الحذر في تفسيره لنص الكتاب المقدس و كان خبيرًا بالأعمال الكلاسيكية . وهو على الأرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب المقدس : فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد الجديد ،مستقصيًا القضايا النحْوية ،والتاريخية و التفسيرية بالتفصيل المُمِل ،في تفسيرات اتسمت بالوضوح و الإقناع- وماتزال تستحق القراءة إلى اليوم . كانت الثقة في كلمات الكتاب المقدس هي أساس هذا العمل التفسيري . لقد وصلت هذه الثقة إلى درجة أنها أخذت بينجيل إلى اتجاهات ربما تبدو اليوم غريبة قليلا .
ونظرا لاعتقاده بأن كلمات الكتاب المقدس كلها موحى بها – بما في ذلك كلمات الأنبياء وسفر الرؤيا – ،وبأن تدخل الله في شئون البشر كانت تقترب من نهايتها ، وأن النبؤة الكتابية أشارت إلى أن جيله الحالي يعيش قريبا من نهاية الآيام . آمن ،في واقع الأمر ، بأنه يعرف موعد مجئ النهاية : فالقيامة ستأتي بعد قرن ، أي في عام 1836 .
لم يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى 24 : 36 ، التي تقول إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ،لا الملائكة في السماء ، ولا حتى الابن ،إلا الآب." ولأنه كان مفسِّرًا حذرًا ، يوضح بنجيل هنا أن يسوع يتكلم في الزمن المضارع : أي في عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " لا أحد يعلم ،" لكنَّ هذا لا يعني أنه لا أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة الموعد . فبعض المسيحيين ،في حقيقة الأمر ، سيتمكنون من الوصول لمعرفة الموعد من خلال دراستهم للنبؤات الواردة في الكتاب المقدس . فالكرسي الباباوي كان هو المسيح الدجال و الماسونيون (البناؤون الأحرار ) ربما كانوا يمثلون " النبي الكاذب" الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا ، و نهاية الأيام ستحل في غضون ما يقل عن قرن (كان يكتب في ثلاثينات القرن ال17 ). المحنة العظيمة ،التي كانت الكنيسة الأولى تتوقع أن يتسبب فيها " المسيح الدجال" المزمع أن يأتي في المستقبل ،لم تقع ، لكنها قريبة الوقوع ؛ لأن النبؤات التي وردت في سفر الرؤيا ، بدءا من الفصل العاشر ووصولا إلى الرابع عشر ، كان تحققها يتواصل لقرون كثيرة ؛ والقضية المحورية التي تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر هي أنه في غضون مائة سنة أخرى ربما يقع التغيير العظيم المنتظر للأمور...أما الآن ، فدعوا باقي الرؤى تتضح هي الأخرى ،خاصة النهاية العظيمة التي أتوقع أن تحل في العام 1836 (15).
من الواضح أن المتنبئين بحلول القيامة في عصرنا الحالي – من أمثال هال ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب الأرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي لاهاي (مؤلف كتاب " سلسلة المتروكون خلفا " بالاشتراك مع آخرين)- لم يكونوا بِدعا من المتنبئين فقد كان لهم سلف ،مثلما سيكون لهم خلف،لأن العالم لا ينتهي .
بالنسبة لما يهمنا هنا ، كانت تفسيرات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا لأنها كانت أساسًا لمعرفة كلمات الكتاب المقدس على وجه الدقة . فلو لم يكن العدد الذي يرمز إلى ضد المسيح هو 666 وإنما 616 ، فإن هذا سيكون له تأثير عظيم . حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية، فإن معرفة هذه الكلمات لابد و أنه أيضًا ذو أهمية.
وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبيرًا من وقت أبحاثه في سبر أغوار الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة التي تزخر بها مخطوطاتنا .وفي أثناء محاولته الخروج من ربقة التحريفات التي أحدثها النسَّاخ المتأخرون والعودة إلى نصوص المؤلفين الأصليين، حقق العديد من صور التقدم في المنهج .
أول تقدم حققه هو المقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ،إن قليلا أو كثيرا، منهجه في بناء النص الأصلي وذلك متى تطرق الشك إلى الصياغة . العلماء،مثل سيمون و بنتلي ، قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا مقاييسًا لتقييم القراءات المتباينة . البعض الآخر ،الذين لم نذكرهم هاهنا ، ابتكروا قوائم طويلة من المقاييس التي ربما أثبتت نفعها . بعد الدراسة المكثفة للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )، وجد بينجيل أنه استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من المقاييس المقترحة في جملة بسيطة تتألف من أربع كلمات: (Proclivi scriptioni praestat ardua) - أي القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة إذا قورنت بالقراءة الأسهل. وكانت حجته كالتالي : عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص التي بين أيديهم ، كان الأكثر احتمالا أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها تحسينات. وإذا رأوا ما اعتبروه خطئًا ، كانوا يصححونه ؛ ولو رأوا روايتين مختلفتين للقصة ذاتها ، فإنهم كانوا يوفقون بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم اللاهوتية الخاصة ، كانوا يحرفونه . في كل موقفٍ ، لكي نعرف ما قاله النص الأقدم ( أو حتى " الأصلي") ، فالأفضلية لا تمنح للقراءة التي صححت خطئًا ، أو أدخلت توافقا على حكاية ،أو حسَّنت رأيا لاهوتيًّا ، ولكن للأخرى التي تناقضها تماما ، أي للقراءة التي من " الصعب" شرحها. إذن ، القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة (16) .
التقدم الآخر الذي حققه بينجيل لا يتعلق بغالبية القراءات التي نملكها تحت تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق التي تحتوي هذه القراءات . فقد لاحظ أن الوثائق التي تُنْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة الحال تحمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ التي نقلت عنها وبالنسخ الأخرى المكتوبة من هذه النسخ ذاتها . بعض المخطوطات تشبه كثيرًا بعض المخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض الآخر. كل الوثائق المحفوظة، إذن ، يمكن ترتيبها من خلال نوع من العلاقة النَسَبيَّة (genealogical relationship) ،في هذه العلاقة توجد مجموعات من الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض الوثائق الأخرى . من المفيد معرفة ذلك ، لأنه من الناحية النظرية يمكن للمرء أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر سلالة الوثائق ليعود إلى مصدرها. هذا يشبه إلى حدٍ ما أن تجد جَدًّا مشتركًا بينك وبين شخص ٍ ما في دولة أخرى عبر تعقبك للاسم الأخير .
فيما بعد ، سنرى بشكل أكثر تفصيلا كيف أن تصنيف الشواهد إلى عائلات ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد النصِّيّ في بناء النص الأصلي .
في الوقت الراهن ، يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه الفكرة. في 1734 قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد الجديد اليوناني ، التي طبع فيها في الغالب النص المستلم (Textus Receptus) مع الإشارة إلى المواضع التي اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك التي في النص المستلم.
يوهان ج.فيتشتاين

كان يوهان ج.ج. فيتشتاين(1693-1754 ) واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في أوساط علماء الكتاب المقدس في القرن الثامن عشر . في سنٍ صغيرة أصبح "فيتشتاين" أسيرًا لقضية نص العهد الجديد و قراءاته المتباينة وعمل على هذا الموضوع خلال دراسته المبكرة .بعد بلوغه العشرين بيوم واحد ، في ال17 من مارس 1713 تقدم إلى "جامعة بازل" بفرضية عنوانها " تنوع القراءات في نص العهد الجديد." ومن بين أشياء أخرى ، بنى "فيتشتاين" البروتستانتيُّ المذهب دفوعه على أن القراءات المتباينة "يمكن أن يكون لها تأثيرات موهِنَة لمسألة صحة وسلامة الكتاب المقدس." والسبب هو أن الله " أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و للأبد إلى العالم كوسيلة لتحقيق كمال الشخصية الإنسانية. فهو يشتمل على كل ما هو ضروريٍّ للخلاص سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك." لذلك ، ربما يكون للقراءات المتباينة تأثير على نقاط ثانوية في الكتاب المقدس ، لكن الرسالة الأساسية تبقى سليمة بغض النظر عن القراءت المتباينة التي قد يلاحظها المرء (17).
في عام 1715 ذهب "فيتشتاين" إلى إنجلترا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح إذنًا يخوِّلُه القدرة على الاطلاع على المخطوطة السكندرية التي تكلمنا عنها من قبل عند الحديث عن "بنتلي". جزءٌ واحدٌ فحسب من المخطوطة هو ما لفت انتباه "فيتشتاين" :إنها واحدة من هذه الأشياء بالغة الصغر التي يكون لها توابع بالغة الضخامة . هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبيرة في الرسالة الأولى إلى تيموثي. الفقرة موضع البحث ، 1 تيمو 3 : 16 ،كثيرًا ما استخدمها المدافعون عن اللاهوت الأرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر التي تنص على أن العهد الجديد ذاته يطلق على يسوع اسم الإله. وذلك لأن النص ، في معظم المخطوطات،يشير إلى المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد، وتبرَّر في الروح." وكما شرحت في الفصل الثالث ،معظم المخطوطات تختصر الأسماء المقدسة (التي تعرف في اللاتينية بالـ nomina sacra) ، وهذا هو الحال ها هنا أيضًا ، فالكلمة اليونانية الله (God) يتم اختصارها إلى حرفين اثنين ، هما "الثيتا" و"السيجما" ، مع وضع خط فوق رأسيهما . ما لاحظه "فيتشتاين" عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن الخط الموضوع فوق الرأس كان قد رسم بحبر مختلف عن الحبر المستخدم في كتابة الكلمات المحيطة ولذا فقد بدى الأمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ في وقت متأخِّرٍ a later hand . أضف إلى ذلك أنَّ الخط الأفقي في وسط الحرف الأول لم يكن في الحقيقة جزءًا من الحرف ولكنه خطٌ كان قد تسرَّبَ من الجانب الآخر لهذا الرَّق القديم. بطريقة أخرى ، هذه الكلمة ، بدلا من كونها اختصار لكلمة "الله" (ثيتا- سيجما )، هي في الواقع الحرفان "أوميكرون" و "سيجما" ، أي أنها كلمة أخرى مختلفة تمامًا ، وهي ببساطة تعني "الذي" . وهكذا لا تتحدث القراءة الأصلية التي وردت في المخطوطة عن المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد" وإنما عن المسيح " الذي ظهر في الجسد." وفقًا لهذه الشهادة القديمة الصادرة من المخطوطة السكندرية،لم يعد المسيح بوضوح يدعى الله في هذه الفقرة .
وحينما واصل "فيتشتاين" أبحاثه ، وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية المسيح التي هي في الواقع فقرات تمثل مشكلات نصيَّة ؛ وعندما تمَّ حلُّ هذه المشكلات على أرضية علم النقد النصي ، تمَّ حذف الإشارات إلى ألوهية يسوع في معظم المواضع. هذا حدث ،على سبيل المثال ، عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا الأولى 5 : 7 -8 )من نص العهد الجديد. وحدث في فقرة موجودة في سفر أعمال الرسل 20 : 28 ، التي تتحدث في كثيرٍ من المخطوطات عن " كنيسة الله ، التي اقتناها بدمه ." ها هنا مرة أخرى ،يبدو يسوع في صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إلهًا . لكنَّ النص في المخطوطة السكندريّة وبعض المخطوطات الأخرى يتحدث بدلا من ذلك عن " كنيسة السيد (Lord) ، التي اقتناها بدمه ." الآن يسمى يسوع سيدًا ، لكنه لم يطلق عليه اسم الله .
ولكونه واعيًا بمثل هذه المشكلات ، بدأ "فيتشتاين" في التفكير بجدية في قناعاته الشخصية اللاهوتية، وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد الجديد الذي نادرًا،إن حدث أصلا ، ما يدعو المسيح إلهًا . وبدأ يشعر بالانزعاج من زملائه من القساوسة و المعلمين في مدينته الأم "بازل" الذين يخلطون أحيانًا بين الله و بين المسيح وذلك على سبيل المثال عندما يتحدثون عن ابن الله كما لو كان هو نفسه الآب،أو عند التوجه إلى الله الآب في الصلاة بالحديث عن " جروحك المقدسة ". اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثير من الدقة هو أمر مطلوب عند الحديث عن الأب و عن الابن لأنهما ليسا الشخص ذاته. تأكيد "فيتشتاين" لهذه القضايا بدأ يثير الشكوك بين زملائه ،وهي الشكوك التي تأكدت لهم عندما قام "فيتشتاين" في 1730 بنشر كتاب يناقش مشكلات العهد الجديد اليوناني كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغلا بالإعداد لها . بعض النصوص المتنازع عليها ،والتي كان اللاهوتيون يستعملونها في تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة تأليه المسيح، كانت من بين الفقرات التي سيقت كنماذج في هذا الكتاب . هذه النصوص ،حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد، كانت في حقيقة الأمر قد أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة التي ما كان يمكن أن تستخدم النصوص الأصلية في دعمها ؛.
هذه الأفكار سببت هياجًا شديدًا بين زملاء "فيتشتاين" وأصبح كثيرون منهم خصومًا له. وقد أَلَحُوا على مجلس مدينة "بازل" أن يمنع "فيتشتاين" من نشر نسخته من العهد الجديد باليونانية والتي وسموها بالـ" العمل عديم الفائدة وغير الملائم ،بل و حتى الخطير"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس "فيتشتاين" ينشر عقائدًا غير أرثوذكسية ، ويصرح في أثناء محاضراته بتعاليم مضادة لتعاليم الكنيسة الإصلاحية ،كما أنه لديه طبعة من العهد الجديد اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع الخطيرة يشتبه في كونها ذات علاقة بالسوسيانية (عقيدة أنكرت لاهوت المسيح )." (18) وعندما أُخْضِع لمجلس تأديبيٍّ بسبب وجهات نظره أمام المجلس الأعلى للجامعة ،تمت أدانته لاعتناقه رؤىً "عقلانية " تنكر الوحي المطلق للكتاب المقدس وتنكر وجود إبليس والشياطين و تركز الانتباه على القضايا الغامضة في الكتاب المقدس. تم طرده من عضوية مجلس الشمامسة المسيحي و أُجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام بالحصول على مسكن في "أمستردام" ، حيث استمر في العمل على إنجاز كتابه . ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجبره على تأخير موعد إصدار طبعته من العهد الجديد اليوناني (1751 -1752 ) لعشرين عامًا. على الرغم من ذلك هذه النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء في عصرنا هذا أكثر مما كانت عليه طوال ال250 عامًا السابقة . طبع "فيتشتاين" فيها النص المستلم كما جمع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة التي تتشابه مع الأقوال الموجودة في العهد الجديد و التي يمكن أن تساعد على توضيح معناها. كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة المتباينة ،حيث ساق حوالي 25 مخطوطة من ذوات الحروف الكبيرة و نحو 250 مخطوطة من ذوات الحروف الصغيرة (تقريبًا ثلاث أضعاف العدد الذي كان متاحًا لـ "مِلّ ") كدليل ، وقد رتبهم بطريقة واضحة من خلال الإشارة إلى كل حرف كبير (majuscule) بحرف كبير آخر مغاير و عبر استخدامه الأرقام العربية لكي يرمز إلى المخطوطات المكتوبة بحروف كبيرة – وهي طريقة الإشارة التي أصبحت هي المعيار طوال قرون وما تزال ،بصورة جوهرية ، تستخدم على نطاق واسع إلى اليوم .
وعلى الرغم من القيمة الكبيرة للنسخة التي ألَّفها "فيتشتاين" ، إلا أن النظرية النصيَّة التي كانت أساسًا لها عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة تمامًا . لم يلق "فيتشتاين" بالا للانجازات المتعلقة بالمنهج التي أحدثها "بنتلي" (الذي عَمِلَ في خدمته ذات يوم في وظيفة جامع مخطوطات ) وتلك التي أحدثها "بنجلي" (والذي اعتبره عدوًّا)،وأصرَّ على أن مخطوطات العهد الجديد اليونانية لا يمكن الوثوق بها لأنها جميعا، من وجهة نظره ،تعرضت للتحريف لتتوافق مع الشواهد اللاتينيَّة . ليس ثمة دليلٌ على حدوث ذلك والمحصلة النهائية لاستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه عندما يحاكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن الأجراء الأمثل الذي ينبغي أن يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه التي،وفقا لهذه النظرية ،هي بعيدة كل البعد عن الأصول!)، وإنما أن يبحث عما تقوله الشواهد الأحدث(ألا وهي مخطوطات العصور الوسطى المكتوبة باليونانية).هذه النظرية الشاذة لم يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين.


كارل لاخمانّ


بعد "فيتشتاين"، ظهر عددٌ من علماء النقد النصي ، مثل "ج.سيملر" و "ج.ج. جريسباخ" ، الذين قام كل منهم بإسهامات أكبر أو أقل من إسهاماته في مجال تأسيس منهجية لتحديد الشكل الأقدم لنص الكتاب المقدس في مواجهة عددٍ متزايدٍ من المخطوطات ( مثل التي تظهر عن طريق الاكتشافات ) التي تؤكِّد قضية التنوع. بطريقة أو بأخرى ، مع ذلك ، لم تتحقق أي خطوات ناجحة رئيسية في هذا الميدان لمدة ثمانين عامًا أخرى ، من خلال نشرٍ ذي حظ عاثر لكنه يمثل ثورة في هذا المجال لنسخة تبدو صغيرة الحجم نسبيًا من العهد الجديد اليوناني قام بتأليفها أحد علماء فقه اللغة وهو الألماني "كارل لاخمانّ" (1793 – 1851 ) (19).
قرر "لاخمانّ " ، في الصفحات الأولى من كتابه ، أنَّ الدليل المستمد من النص ليس كافيًا لتحديد ما كتبه المؤلفون الأصليون . المخطوطات الأصلية التي كان له قدرة على الاطلاع عليها كانت هي تلك التي تنتمي للقرنين الرابع والخامس - أي بعد مئات السنين من الوقت التي أنتجت فيه المخطوطات الأصلية. من كان باستطاعته أن يتنبأ بالتغيرات المفاجئة التي حدثت أثناء عملية النقل التي حدثت في الفترة التي تفصل ما بين وقت كتابة المخطوطات الأصلية وبين إنتاج الشواهد المبكرة الباقية بعد ذلك بعدة قرون ؟
لذلك حدد "لاخمانّ " لنفسه مهمة أكثر بساطة . كان لاخمان يعلم أنَّ النص المستلم مبنيٌّ على تقليد مخطوط (manuscript tradition) يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر . فرأى أنه بإمكانه أن يُنْتِجَ ما هو أفضل منه – باعتباره أقدم منه بثمانية قرون – عبر إنتاج نسخة من العهد الجديد تشبه تلك التي كان من المفترض أن يبدو عليها العهد الجديد عند نهاية القرن الرابع تقريبًا.
فالمخطوطات المكتوبة باليونانية والتي نجت من الضياع جنبًا إلى جنب مع المخطوطات التي استخدمها "جيروم" في الفولجاتا و النصوص التي اقتبس منها هؤلاء الكتاب من أمثال "إيريناوس" ، و"أوريجانوس" و "كيبريانوس"، ستسمح بذلك على أسوأ الفروض . وهذا ما فعله . فعن طريق اعتماده على كل ما تصل إليه يداه من المخطوطات القديمة المكتوبة بالحرف الكبير مضافًا إليها أقدم المخطوطات اللاتينية و الاقتباسات الآبائية من النص ، لم يختر تنقيح النص المستلم عند اللزوم فحسب(و هو السبيل الذي سار فيه سابقوه ممن لم يكونوا راضين عن النص المستلم )لكنه ترك النص المستلم بالكليَّة و بنى النص من جديد ، وفقًا لمبادئه الخاصة .
وهكذا ، في عام 1831 انتهى من تأليف نسخة جديدة من النص لم يعتمد فيه على النص المستلم . هذه كانت المرة الأولى التي يتجرأ فيها أي إنسان على فعل هذا الأمر. لقد استغرق الأمر ما يزيد عن ثلاثة قرون ،لكنَّ نسخة من العهد الجديد اليوناني اعتمدت كليَّةً على الشواهد القديمة ظهرت أخيرًا إلى الوجود .
غاية "لاخمانّ " من إنتاج نصٍ على الحال التي كان عليها في أواخر القرن الرابع لم يكن مفهومًا دائمًا ، وحتى عندما صار الغرض مفهومًا لم يحصل صاحب الكتاب دائمًا على التقدير المناسب. اعتقد كثيرٌ من القُرَّاء أن "لاخمانّ" كان يدعي أنه جاء بالنص "الأصلي" وعارضوا قيامه ، من ناحية المبدأ ، بإبطال كل الشواهد تقريبًا (أي التقليد النصي المتأخر الذي يتضمن عددًا وافرًا من المخطوطات ). البعضُ الآخرُ لاحظوا التشابه في المنهج بينه وبين "بنتلي" الذي كانت لديه أيضًا فكرة مقارنة المخطوطات اليونانية الأقدم مع المخطوطات اللاتينية للوصول إلى النص الذي كان مستخدمًا في القرن الرابع (الذي كان بنتلي يعتقد أنه النص الذي كان معروفًا لدى "أوريجانوس" في بداية القرن الثالث)؛نتيجة لذلك ،سُمِّيَ "لاخمان" أحيانًا "مُقَلِّد بنتلي". إلا أن "لاخمان" كان في الحقيقة قد اخترق العرف غير النافع الذي استقر بين أصحاب المطابع وبين العلماء على حد سواء من إسباغ منزلة خاصة على النص المستلم ، وهي المنزلة التي لا يستحقها النص المستلم بالتأكيد وذلك لأنه قد طبع و أعيد طبعه لا لأن أحدًا يشعر أنه اعتمد على قاعدة نصوصية سليمة وإنما فقط لأن نصه كان معتادًا ومألوفًا .



لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف

بينما كان العلماء من أمثال "بنتلي" و"بينجيل" و "لاخمان" يقومون بتصفية المناهج التي كانت لتستخدم في فحص القراءات المتباينة داخل مخطوطات العهد الجديد، كان ثمة اكتشافات جديدة في طور الحدوث على نحوٍ منتظم داخل المكتبات القديمة و الأديرة الشرقية منها و الغربية. أكثر علماء القرن التاسع عشر اجتهادًا في مجال اكتشاف مخطوطات الكتاب المقدس ونشر نصوصها كان يحمل اسمًا طريفًا وهو "لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف" (1815 – 1874 ).كان يسمى لوبيجوت (التي تعني بالألمانية " سبحوا الله ") لأنَّ أمَّه ، قبل ولادته ،كانت قد رأت رجلا ضريرًا ،وخضوعًا منها للمعتقدات الخرافية اعتقدت أن ابنها سيولد ضريرًا . وعندما وُلِد سليمًا تماما نذرته أمُّه لله من خلال إطلاق هذا الاسم غير المعتاد عليه .
كان "تشيندورف" عالمًا متحمِّسا بشكل غير عادي رأى في اشتغاله بنص العهد الجديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف سماويّ. فقد كتب ذات مرة لخطيبته ،حينما كان في أوائل العشرينات من عمره :" لقد حملتُ على كاهلي مَهَمَّة مقدسة ألا وهي النضال من أجل استعادة الشكل الأصلي للعهد الجديد.(20)"
هذه المهمة المقدسة سعى لإنجازها عبر البحث عن كل مخطوطة مختفية في كل مكتبة وديرٍ يمكنه الوصول إليه . فقام بعدد من الرحلات حول أوربا و إلى "الشرق" ( يقصد ما نسميه الآن الشرق الأوسط )،ليعثر على،ولينقل،وليقوم بنشر المخطوطات أينما حلَّ أو ارتحل . واحدة من أقدم نجاحاته و أكثرها شهرة هي المتعلقة بمخطوطة كانت معروفة بالفعل إلا أنَّ أحدًا لم يكن بمقدوره الاطِّلاع عليها . إنها المخطوطة الإفرايمية(Codex Ephraemi Rescriptus) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس. هذه المخطوطة هي في الأصل مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد تنتمي للقرن الخامس الميلادي ،لكنَّ نصها كان قد مُحِيَ في القرن الثاني عشر حتى يتسنى لمن فعلوا ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها الجلدية لتدوين بعض المواعظ التي ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية. وحيث إن الصفحات لم تكن قد مُحِيَتْ بشكل جذري،فقد ظلَّ بالإمكان مشاهدة بعض الكلام المكتوب تحت هذه المواعظ وإن لم يكن بالوضوح الكافي لفك شفرات معظم كلماته – على الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم في هذا الاتجاه . قريبًا من العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض المواد الكيميائية التي قد تساعد على إظهار الكلام السفلي قد اكتُشِفَت . ومن خلال استعمال هذه المواد بحذر وعبر التأنِّي في سبر أغوار النص ،كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا على تمييز هذه الكلمات، وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة لهذا النص القديم ما أكسبه سمعة طيبة بين المهتمين بهذه الأمور. بعض هؤلاء قاموا بتقديم دعمٍ ماليٍّ لرحلات "تشيندورف" إلى المناطق الأخرى في أوروبا و الشرق الأوسط للبحث عن المخطوطات . بكل المقاييس ، كانت أشهر اكتشافاته هي تلك التي تتعلق بواحدة من أعظم مخطوطات الكتاب المقدس بحق والتي ما تزال باقية ، ألا وهي المخطوطة السينائية . قصة اكتشافها هي درب من الخيال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية المباشرة لتشيندورف نفسه مكتوبةً بخط يده . كان تشيندورف قد قام برحلة إلى مصر في عام 1844 ،في وقت لم يكن قد بلغ عامه الثلاثين ليصل في النهاية على ظهر جمل إلى دير سانت كاثرين الواقع في الصحراء . ما حدث هناك في ال24 من مايو عام 1844 ليس ثمة إلى الآن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول :
لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ،عند دير سانت كاثرين ،حيث اكتشفت واسطة عقد أبحاثي جميعها . فعند زيارتي للدير في شهر مايو من العام 1844 ،لاحظت في منتصف الرواق الكبير سلة كبيرة وواسعة ملئى بالرقوق ؛ وعامل المكتبة الذي كان رجلا واسع الاطلاع أخبرني أن كومتين من مثل هذه الأوراق المهترئة ،بسبب عامل الزمن، كانتا قد أضرمت فيهما النيران بالفعل .
ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنني وجدت وسط كومة الأوراق هذه عدد لا بأس به من الصحف التي تحوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية والتي بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ التي رأيتها من قبل على الإطلاق . سمحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ، أي ما مقداره ثلاثة و أربعون صحيفة تقريبًا ،كان من المقرر أن يتم التخلص منها بالحرق. لكنني لم أستطع أن أقنعهم بالحصول على الباقي. ما ظهر على ملامحي من السعادة الغامرة أصابهم بالارتياب فيما يتعلق بقيمة المخطوطة .قمت بنسخ صفحة من نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه أيديهم من مثل هذه البقايا بما يمليه عليهم ضميرُهم الديني (21).
حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه المخطوطات لكنه لم يستطع أن يقنع الرهبان أن يتنازلوا له عنها . بعد ذلك بحوالي 9 سنوات عاد في رحلة أخرى ولكنه لم يجد لهذه البقايا أيَّ أثر .ثم عاود الكرَّة مرة أخرى في عام 1859، ولكن هذه المرة تحت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف بكل ما يتعلق بالديانة المسيحية وخاصة الآثار المسيحية القديمة . هذه المرة لم يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم الأخير من زيارته . فحينما دُعِيَ إلى حجرة القائم على أمر الدير، دخل معه في نقاش فيما يتعلق بالترجمة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)، فقال له القائم على الدير :"أنا أيضًا قرأت السبعينية." واتجه إلى ركن في غرفته وسحب منه مجلدًا مغلَّفًا بقماشٍ أحمر اللون . يقول تشيندورف: فقمت بإزالة الغطاء عنه ، فاكتشفت ،وياللمفاجأة ،ليس فقط هذه الكِسَر نفسها التي كنت قد تناولتها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا من السلة ، وإنما أيضًا أجزاءً أخرى من العهد القديم ، و العهد الجديد كاملا ،وبالإضافة إلى ذلك ، رسالة برنابا و جزءًا من رسالة الراعي لهرماس . ولشد ما غمرني من سعادة ،أحسست بالتزام داخلي يأمرني بأن أخفي المخطوطة هذه المرة من القائم على الدير ومن الدير كله ،فطلبت ، كما لو كنت غير مهتمٍ كثيرا بها ، إذنًا بأن آخذ المخطوطة إلى غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل في أوقات فراغي (22).
في وقت قصير تعرَّف تشيندورف على المخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم شاهدٍ حيٍّّ على نص العهد الجديد :" أغلى ثروة تتعلق بالكتاب المقدس في الوجود – إنها الوثيقة التي يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل المخطوطات التي قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية." بعد مفاوضات شاقة ومطوَّلة ، ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ، القيصر الروسي ، الذي ستذهله هدية مثل هذه المخطوطة النادرة وسيردُّ بلا شك تحيتكم بأفضل منها عبر منح الدير تبرعات مالية . في النهاية سُمِحَ لتشيندورف أن يعود بالمخطوطة إلى مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع مجلدات على نفقة القيصر. وقد ظهرت هذه النسخة في عام 1862 في الاحتفال بمرور الألفية الأولى على تأسيس الإمبراطورية الروسيَّة (23) .
بعد قيام الثورة الروسيّة ، أدى احتياج الحكومة الجديدة إلى المال و عدم اهتمامها بمخطوطات الكتاب المقدس إلى قيامها ببيع المخطوطة السينائية إلى المُتْحف البريطاني نظير مائة ألف جنيه استرليني؛وهي الآن جزء من المجموعة القيمة التي تمتلكها المكتبة البريطانية وهي معروضة في مكان بارز في غرفة المخطوطات بالمكتبة البريطانية .هذه كانت ،بطبيعة الحال ،واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثيرة في ميدان الدراسات النصيَّة (24) . في الجملة ، قام تشيندورف بنشر اثنين وعشرين نسخة من النصوص المسيحية المبكرة بالتوازي مع ثمان طبعات منفصلة من العهد الجديد اليوناني ، الطبعة الثامنة منهم ما تزال إلى الآن تمثل كنزًا دفينًا من المعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية والمترجمة لهذه القراءة المتباينة أو تلك .إن إنتاجه كعالم يمكن تقييمه من خلال أحد المقالات الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب والمخطوطات)التي كتبها تأييدًا له أحد العلماء يدعى "كاسبر رين جريجوري": "إن قائمة منشورات تشيندروف تملأ أسماؤها أحد عشر صفحة، كل صفحة منها مقسمة إلى ثلاث أعمدة" (25) .



يتبع............

نور الإسلام
05-02-2012, 11:32 AM
بروك فوس "ويستكوت" و فينتون جون أنتوني هورت
يدين علماء النقد النصي المعاصرون بفضل كبير إلى عالمين من جامعة كمريدج هما "بروك فوس ويستكوت" (1825 -1901 ) و "فينتون جون أنتوني هورت" (1828-1892 ) أكثر من أي شخص آخر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،وذلك نظير قيامهما بتطوير مناهج التحليل التي ساعدتنا على التعامل مع التقليد المخطوط للعهد الجديد . فمنذ ظهور كتابهما الشهير في عام 1881 ،العهد الجديد باللغة اليونانية الأصلية،أصبح التعامل مع هذين الاسمين أمرًا لازمًا– سواء أكان هذا التعامل لتأكيد مفاهيمهم الأساسية أو إصلاحًا للتفاصيل التي وردت في فرضياتهم أو في إعداد مناهج بديلة لنظام التحليل المقنع والرائع الذي قدمه كلا من "ويستكوت" و "هورت" .
إن القوة التي يتسم بها هذا التحليل يرجع الفضل الأكبر قليلا فيها للعبقري "هورت" على وجه الخصوص .
ظهر مؤلَّف "ويستكوت" و "هورت" في مجلدين ، أحدهما كان طبعة حقيقية من العهد الجديد مبنية على جهدهما المشترك الذي استمر لـ 28 عامًا بغية تحديد أيِّ النصين هو النص الأصلي وذلك في أي موضع تظهر فيه قراءات متباينة داخل التقليد؛ أما المجلد الآخر فكان عرضًا لمبادئهما النقديَّة التي ساروا على نهجها في تأليف هذا الكتاب .
هذا المجلد الأخير كتبه "هورت" وهو يمثل مسحًا عامًّا شديد الإقناع و العقلانية للمواد و المناهج المتاحة أمام العلماء الراغبين في أن يأخذوا على عاتقهم القيام بمهمة النقد النصيِّ . أسلوبُ الكتابة فيه كان شديد التكثيف فلا توجد فيه كلمة ليس لها أهميتها . منطق الكتاب مقنع فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وتكلم عنها. إنه كتاب عظيم وهو بطريقة أو بأخرى كتاب لكل العصور في هذا المجال. حتى إني لا أسمح لأحد من طلابي المتخرجين أن ينتهي من دراسته إلا بعد أن يصبح خبيرًا فيه.
لقد شغلت مشكلات نص العهد الجديد ،على نحوٍ ما ،اهتمامات "ويستكوت" و "هورت" طوال حياتهما التأليفية. "هورت" الذي كان قد حصل على قسط من دراسة الأعمال الكلاسيكية والذي لم يكن في البداية على وعي بالحالة النصيَّة للعهد الجديد ،، كتب وهو في الثالثة والعشرين من عمره خطابًا إلى صديقه "جون إليرتون" جاء فيه :
لم يكن لدي أيّ فكرة حتى الأسابيع القليلة الماضية عن أهمية النصوص، فقد قرأت قليلا للغاية من العهد الجديد اليوناني واستغرقت وقتا طويلا في قراءة النص المستلم الحقير.... لذلك فكثير من التغييرات في مرجعٍ مخطوطٍ جيِّد تجعل الأمور تتضح ليس بطريقة عامّية ونظرية ،وإنِّما عبر إدخال معنى أعمق وأكثر اكتمالا ... تأمَّلْ هذا النص المستلم الحقير الذي يعتمد بالكامل على مخطوطات متأخرة ؛ إنها لنعمة أن يكون لدينا مخطوطات أقدم (26).
بعد ذلك بعامين فقط ،كان "ويستكوت" و"هورت" قد قررا أن يحرروا طبعة جديدة من العهد الجديد. في رسالة أخرى إلى إليرتون مؤرخة بتاريخ 19 أبريل ،1853 ، يحكي "هورت" قائلا :
لم أرَ أي شخص أعرفه باستثناء "ويستكوت" الذي قمت بزيارته لعدة ساعات قليلة. نتيجة واحدة من نتائج حديثنا ربما أقصها عليك أيضًا .أنا وهو سنقوم بتأليف نص يونانيٍّ للعهد الجديد بعد سنتين أو ثلاث سنوات من الآن إذا وسعنا ذلك . "لاخمان" و"تشيندورف" سيقدمان لنا مادة غنية ، لكن تقريبًا ليس بما فيه الكفاية. . . هدفنا هو أن نزوِّد القساوسة بوجه عام ، والمدارس ...إلخ بعهدٍ جديدٍ يونانيٍّ يمكن حمله بسهولة ،عهد جديد لا يشوهه وجود التحريفات البيزنطية (أي التي تنتمي للقرون الوسطى) فيه (27) .

توقعات "هورت" شديدة التفاؤل بأن هذه الطبعة لن يستغرق إخراجها إلى النور وقتًا طويلا كانت ما تزال قائمة في نوفمبر من ذلك العام حينما يشير إلى أنه يأمل أن يتمكن هو و "ويستكوت" من إخراج طبعتهما إلى النور " في مدة أكثر قليلا من العام."(28) وبمجرد أن بدأ العمل في المشروع تلاشت الآمال في حدوث نجاح سريع . بعد ذلك بتسع سنوات نجد أن "هورت" ،في خطاب كتبه رفعًا لمعنويات "ويستكوت" ،الذي كانت معنوياته تضمحل بسبب فرص ما بين يديه من عمل ، وليستحثه قائلا:"
هذه المهمة يجب أن تكتمل ، ولن تكتمل على الوجه الأكمل...من غير بذل مجهودٍ ضخم ،وهي الحقيقة التي لا يبدو أن أحدًا غيرنا في أوروبا على وعيٍ بها . بالنسبة للحجم الأكبر من القراءات ، لو ركزنا تفكيرنا عليها دون الباقين ،فسيكون جهدنا غير متكافئ بالمرة . لكنَّنا إذا اعتقدنا بأنه من المستحيل تماما أن نفصل بين القراءات المهمة والأخرى غير ذات أهمية ، فينبغي أن أتردد في القول إن عملنا كله هو جهد لا يكافئ قيمة إصلاح النص كله إلى أقصى حدٍ يمكن الوصول إليه. أعتقد أنه ليس لكلينا على الإطلاق أي عذر في التخلي عن هذه المهمة. (29)
ما كان لهم أن يتخلوا عن هذه المهمة ،لكنها بمرور الوقت أصبحت أكثر صعوبة ووجوبًا. في النهاية ، استغرق الأمر من هذين العالمين القادمين من جامعة كامبردج 28 عامًا في عمل متواصل تقريبًا لكي ينتهوا من تأليف نصهم مرفقًا بمقدمة كتبها "هورت" .
لقد كان عملهم ذا قيمة عالية . فالنص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و "هورت" شديد الشبه بشكل ملحوظ بالنص المستخدم الآن على نطاق واسع بين العلماء ،أي بعد إنتاجهما له بما يزيد عن قرن . لا يعني هذا أنه ليس هناك جديد في ميدان اكتشاف المخطوطات أو أنَّه ليس هناك تقدم تم إنجازه في ميدان النظريات أو أنه ليس ثمة أي اختلافات في الآراء قد اندلعت منذ ذلك الوقت الذي عاش فيه "ويستكوت" و "هورت" . إلى الآن ، حتى مع ما حققناه من تقدم في الميدان التقني و المنهجي ، وحتى مع وجود مصادر للمخطوطات بين أيدينا هي أكبر حجمًا إذا ما قورنت بما كان لديهما ،فإن نصوصنا اليونانية اليوم تحمل تشابهًا غير العادي مع النص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و "هورت" . لن يخدم غرضي من عمل هذا الكتاب أن أدخل في نقاش موسع عن الإنجازات المنهجيَّة التي حققها كلا من "ويستكورت" و"هورت" في بناء نصٍ العهد الجديد اليوناني (30) .الميدان الذي ربما ثبتت فيه القيمة العالية لعملهما هي تجميع المخطوط . حيث إن "بنجيل" كان قد اعترف في البداية أن المخطوطات يمكن جمعها معًا في مجموعات مصنفة على أساس "عائلي" (شئ مثل أن يكتب شخص ما سلاسل نسب أفراد عائلة )، كما حاول العلماء أن يقسموا مجموعات عديدة من الشواهد إلى عائلات . كان ويستكورت و "هورت" معنيين بشدة بهذه المحاولة كذلك. وجهة نظرهم بخصوص هذه الأمر كانت مبنية على مبدأ وهو أن المخطوطات تنتمي إلى العائلة ذاتها ماداموا يتفقون في أسلوب صياغتهم . بكلمات أخرى ، لو أن مخطوطتين اشتملتا على الصياغة ذاتها لعدد ما ، ينبغي أن تكونا في النهاية منحدرتين من المصدر ذاته – إما للمخطوطة الأصلية أو إلى نسخة منها . لأن المبدأ كان أحيانًا ينصُّ على أن " التطابق في القراءة يتضمن التطابق في الأصل."
بإمكان المرء حينئذٍ أن يكوِّن مجموعات عائلية مبنيةً على التوافقات النصيَّة بين المخطوطات العديدة المحفوظة . حسب وجهة نظر "ويستكوت" و"هورت" كان ثمة أربع عائلات رئيسية من الشواهد :
(1)النص السورياني (أو ما سماه البعض الآخر من العلماء النص البيزنطي)،والتي تضم معظم المخطوطات التي ترجع إلى القرون الوسطى المتأخرة؛هناك العديد من هذا النوع لكنَّ تشابهها في الصياغة مع النص الأصلي ليس واضحًا ؛(2) النص الغربي ، يتشكل من المخطوطات التي يمكن إرجاع تاريخها إلى عصر قديم جدا- النموذج الأصلي لابد أن تاريخه كان قريبًا من وقت ما في القرن الثاني على الأقل ؛ هذه المخطوطات ،مع ذلك ، هي تجسيد لممارسات النسخ الشاذة التي كان يقترفها النُسَّاخ في هذه الفترة قبل أن يصير نسخ النصوص حرفة يشتغل بها المحترفون ؛(3) النص السكندري ، نسبة إلى الإسكندرية ،حيث تميز النساخ هناك بالخبرة و الحذر لكنهم قاموا في بعض الأحيان بتحريف النصوص من خلال تغيير صياغة الأصول ليجعلوها أكثر قبولا من الناحية النَّحْويَّة والأسلوبية ؛(4) النص المحايد ، الذي كان يتشكل من المخطوطات التي لم تكن قد مرَّت بأيِّ تغيير أو مراجعة جديَّتين أثناء نسخها بل مثَّلت نصوص المخطوطات الأصلية على وجه أدق .
النموذجان الرئيسان لهذا النص المحايد ، حسب رأي "ويستكوت" وهورت،هما المخطوطة السينائية (التي اكتشفها تشيندورف) و المخطوطة الفاتيكانية، المكتشفة داخل المكتبة الفاتيكانية.
هاتان كانتا هما المخطوطتان الأكثر قدمًا اللتان كانتا بين أيدي "ويستكوت" و"هورت" ومن وجهة نظرهما كانتا أعلى مقامًا من أي مخطوطات أخرى لأنهما يمثلان ما يعرف بالنص المحايد.
كثير من الأشياء تغيرت مصطلحاتها منذ عصر "ويستكوت" و"هورت" : لم يعُد العلماء يتحدثون عن النص المحايد ،و أدركت الغالبية أن النصَّ الغربيَّ هو تسمية خاطئة لأنَّ الممارسات النسخية الشاذة وُجِدَت في الغرب و في الشرق على حدٍ سواء.
أضف إلى ذلك أن النظام الذي وضعه "ويستكوت" و"هورت" خضع لتدقيقات قام بها العلماء اللاحقون. معظم العلماء ،على سبيل المثال ، يعتقدون أن النصين المحايد والسكندري هما شئ واحد : لكنَّ المسألة هي أن بعض المخطوطات تمثِّل هذا النص على نحوٍ أفضل من البعض الآخر .ثمَّ هناك أيضًا الاكتشافات الهامة للمخطوطات ،خاصة البرديات، التي وقعت منذ عصرهم (31). مع كل ذلك ،مايزال المنهج الأساسي لويستكورت وهورت يضطلع بدورٍ بالنسبة للعلماء الذين يحاولون أن يقرروا الموضع الذي وقعت فيه تحريفات متأخرة و الموضع الذي يمكننا أن نجد فيه المرحلة المبكرة من النص.
كما سنرى في الفصل التالي ، هذا المنهج الأساسي هو منهج فهمه يسير نسبيًاوذلك لأنَّه قد صِيغَ بشكل واضح. تطبيقه على المشكلات النصيَّة يمكن أن يكون ممتعًا بل وحتى مسليًّا حينما نعمل على تحديد أي القراءات المتباينة في مخطوطاتنا يمثِّل كلمات النص كما كتبته أيادي مؤلفيه وأيها يمثِّل التغييرات التي اقترفها النساخ المتأخرون .




نهايـــة الفصل الرابع ولله الحمد والمنة

هوامـــش الفصل الرابع


(1) للاطلاع على دراسة كلاسيكية ترصد الطريقة التي فُهِمَ بها الكتاب المقدس وتم التعامل معه من خلالها في القرون الوسطى ، انظر كتاب بيرللي سمالي (Beryl Smalley) " دراسة الكتاب المقدس في العصور الوسطى" (The Study of the Bible in the Middle Ages) (من مطبوعات دار كلارندون ،أكسفورد،1941 ).
(2) ريتشارد سيمون ( Richard Simon) ،"تاريخ نقدي لنص العهد الجديد" (A Critical History of the Text of the New Testament) (لندن : ر.تايلور ،1689 ) ، في المقدمة .
(3) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 65 .
(4) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 30-31 .
(5) سيمون "تاريخ نقدي" جزء 1 ، ص 31 .
(6) قام جورج وارنر كومل باقتباس هذه الفقرة في كتابه " العهد الجديد : تاريخ بحث مشكلاته " (he New Testament: The History of the Investigation of Its Problems) (ناشفيل :مطبعة أبينجدون ،1972 )، ص 41 .
(7) السيرة الذاتية الكاملة التي نعتمد عليها ما تزال هي تلك التي كتبها حيمس هنري مونك في كتابه ،حياة ريتشارد بنتلي، الصادر في مجلدين (لندن: ريفنجتون، 1833 ).
(8) هذه الفقرة مقتبسة من كتاب مونك ،حياة بنتلي ، 1 : 398 .
(9) مونك ، حياة بنتلي، 399 .
(10) مقترحات لطباعة طبعة جديدة من العهد الجديد اليوناني و نسخة القديس هيرومز اللاتينية (لندن، عام 1721 )، ص 3.
(11) انظر ،حياة بنتلي ، لمونك المجلد 2 : 130 – 133 .
(12) مونك ،حياة بنتلي ،ص 136 .
(13) مونك ،حياة بنتلي ،ص 135 – 137 .
(14) للاطلاع على سيرته كاملة ، انظر كتاب جون سي .إف.بروك ،سيرة حياة و كتابات جون ألبرت بينجيل،(لندن : ر.جلادينج ،1842 ).
(15) المرجع السابق ،ص 316 .
(16) رأينا هذا المبدأ موضع البحث بالفعل ، انظر الأمثلة في مرقس 1 : 2 ، و متى 24 : 36 التي نوقشت في الفصل ال3 .
(17) سي.إل.هالبرت باول ، جون جيمس فيتشتاين،1693 -1754 :قصة حياته ، عمله ، وبعض معاصريه (لندن:سباك،1938 )،ص 15 ، و 17 .
º هذه هي ترجمتي لهذه الجملة حسب فهمي لها والله أعلى وأعلم :
For Wettstein, these texts in fact had been altered precisely in order to incorporate that perspective: the original texts could not be used in support of it.
(18) هالبرت باول ، جون جيمس فيتشتاين،ص 43 .
(19) لاخمان معروف في الحوليات الثقافية بأنه الشخص الذي ، أكثر من أي أحد سواه ،ابتكر منهجًا لأجل تكوين العلاقة النَسَبيَّة بين المخطوطات في التقليد النصي للمؤلفين الكلاسيكيين. اهتمامات الأولية في مجال عمله لم يكن ، في حقيقة الأمر، لها علاقة بكتابات العهد الجديد، لكنه رأى بالفعل أن هذه الكتابات تفرض عليه تحدِّيًا فريدًا وممتعًا لعلماء النصوص.
(20) هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "نص العهد الجديد" لميتزجر و إرمان ،ص 172 .
(21) قنسطنطين فون تشيندورف ،متى كتبت أناجيلنا؟( When Were Our Gospels Written?)(لندن :ذا ريليجيوس تراكت سوسايتي، 1866 )ص 23 .
(22) المصدر السابق ، ص 29 .
(23) حتى يومنا هذا ما يزال رهبان دير سانت كاترين يصرُّون على أن تشيندورف لم "يعطَ" المخطوطة وإنما فرَّ بها .
(24) منذ عصر تشيندورف ،اكتشفت مخطوطات أكثر أهمية . على وجه الخصوص ، طوال القرن العشرين كشف الأثريون عن عدد من المخطوطات المكتوبة على ورق البردي ، التي يرجع تاريخها إلى ما هو أقدم من المخطوطة السينائية بـ 150 عامًا. معظم هذه البرديات هي على شكل كِسَر ، لكنَّ بعضها كامل . حتى الآن ،حوالي 116 بردية تم الكشف عنها ووضعت في فهارس ؛ هذه ال116 بردية تضم أجزاء من غالبية كتب العهد الجديد.
(25) من كتاب "تشيندورف" (طبع عام 1876 في مكتبة " Bibliotheca Sacra 33 " )لكاسبر ر.جريجوري ، ص153 -193 .
(26) حياة ورسائل فينتون جون أنتوني "هورت" ، من تأليف أرثر فينتون هورت(لندن:مطبعة ماكميلان ،1896 )،ص 211 .
(27) المرجع السابق ،ص 250 .
(28) المرجع السابق ،ص 264 .
(29) المرجع السابق ،ص 455 .
(30) للاطلاع على موجز لهذه المبادئ في نقد النصوص التي استخدمها "ويستكوت" و "هورت" في تأليف نصهم من العهد الجديد ، انظر كتاب، "نص العهد الجديد"،لميتزجر و إرمان ،ص 174- 181 .
(31) انظر الهامش رقم 24 في الأعلى .

نور الإسلام
05-02-2012, 11:32 AM
الأصول هي الأهم

في هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على المناهج التي أنتجها العلماء لكي يصلوا إلى الشكل " الأصليّ" من النص (أو على الأقل "أقدم ما يمكن الحصول عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إلى شكل النص الذي يجسد التحريف الذي أحدثه النسَّاخ في العصور التالية. بعد توضيح هذه المناهج ،سأشرح ،عبر التركيز على ثلاث قراءات نصيَّة متباينة موجودة في التقليد المخطوط لعهدنا الجديد ، كيف يمكننا استخدام هذه المناهج. لقد اخترت هذه الأمثلة الثلاثة لأنَّ كل واحدٍ منها له أهميته البالغة في تفسير السفر الذي يحتويه؛ فوق ذلك ، ليس هناك وجود لأيٍّ من هذه القراءات في الغالبية الساحقة من ترجماتنا الإنجليزية المعاصرة للعهد الجديد. أي أنَّ هذه الترجمات التي يستخدمها غالبية القارئين بالإنجليزية بمعنى آخر ،وحسب وجهة نظري، هي تعتمد على النص الخطأ ،واعتمادها على النص الخطأ يشكل فارقًا كبيرًا عند تفسير الأسفار .
في البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج التي طوَّرها العلماء لتساعدهم على تحديد أيِّ القراءات النصيَّة تمثِّل القراءة الأصلية وأيُّها يمثل التغييرات التي أحدثها النسَّاخ في عصور متأخرة. كما سنرى ، ليس بناء شكل أقدم من النص بالأمر اليسير دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة .


المناهج المعاصرة للنقد النصيّ

أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إلى مرحلة اتخاذ القرارات بخصوص الشكل الأقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم الانتقائيين العقلانيين(rational eclecticists) . هذا يعني أنهم "ينتقون" ( وهو معنى كلمة " eclectic ") القراءة النصيَّة التي تعبر أفضل تعبير عن الشكل الأقدم من النص وذلك من بين العديد من القراءات النصيَّة مستخدمين لفعل ذلك مجموعة من الحجج النصيَّة (العقلانية). هذه الحجج تعتمد على دليل يتم تقسيمه عادةً إما إلى دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته .

الدليل الخارجيّ

البراهين المبنية على أدلة خارجية تعني تأييد إحدى المخطوطات الموجودة لهذه القراءة أو لتلك .ما هي المخطوطات التي يمكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة ؟هل هذه المخطوطات يمكن الاعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُني هذا التقسيم..أي إلى مخطوطة يمكن الاعتماد عليها وأخرى لا يمكن الاعتماد عليها ؟
عند التفكير في المخطوطات التي تدعم قراءة ما على حساب القراءة الأخرى ، ربما دُفِع المرء منا ببساطة إلى أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة المتباينة لها وجود في غالبية الشواهد (أي المخطوطات)الموجودة . معظم العلماء اليوم ،رغم ذلك ، ليسوا مقتنعين تمامًا بأن غالبية المخطوطات هي بالضرورة ما يمنحنا أفضل نصِّ متاح . من اليسير تفسير السبب وراء ذلك من خلال بعض التوضيحات . فلنفترض أنه بعد أنَّ كُتِبَت المخطوطة الأصلية التي تحوي نصًا ما، نسخت منها نسختان ،ربما نطلق عليهما الاسمين ( أ) و (ب). هاتان النسختان ،بطبيعة الحال ،سيكون بينهما اختلافات بطريقة أو بأخرى – ربما هي اختلافات هامة و على الأرجح هي اختلافات يسيرة . الآن لنفترض أنَّ النسخة (أ) قد نسخت من خلال ناسخ واحد آخر فقط ، لكنّ النسخة (ب) نسخت من خلال خمسين ناسخ .ثم حدث أنَّ فقدت المخطوطة الأصلية ،وكذلك النسختان (أ) و (ب)،ليصبح ما تبقى لدينا في شكل تقليد نصيّ هما الواحد والخمسون نسخة التي تمثل الجيل الثاني ،واحدة منهم نسخت من النسخة (أ) و الخمسون الباقية تم نسخهم من النسخة (ب). لو أنَّ إحدى القراءات موجودة في المخطوطات الخمسين تختلف عن قراءة موجودة في المخطوطة الوحيدة (المنسوخة من (أ))، فهل القراءة الأولى منهما (أي الموجودة في الخمسين نسخة) بالضرورة هي الأكثر احتمالا أنَّ تكون القراءة الأصلية ؟لا ، على الإطلاق – حتى لو ثبت أنها متكررة في الشواهد الخمسين خمسين مرة . في الواقع ، الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة خمسين إلى واحد . بل الفارق هو بنسبة واحد إلى واحد (أ في مقابل ب ). قضية عدد المخطوطات التي تدعم قراءة على أخرى في حد ذاتها ،لهذه الأسباب، ليست وثيقة الصلة تحديدًا بمسألة تحديد أيِّ القراءات الموجودة في مخطوطاتنا المحفوظة هي التي تمثِّل الشكل الأصلي (أو الأقدم) من النص .
العلماء على وجه العموم مقتنعون ،لهذه الأسباب، أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي الأكثر أهمية عند تحديد أيِّ القراءات هي الأَوْلَى بأن تعتبر الشكل الأقدم من النص .
إحدى هذه الاعتبارت الأخرى هي عُمْرُ المخطوطة التي تدعم قراءة ما . أنَّ العثور على الشكل الأقدم من النص في المخطوطات الأقدم هو أمر كبير الاحتمال- بالوضع في الاعتبار أنه من المألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن حجم التغييرات التي تتعرض لها المخطوطة . هذا بطبيعة الحال لا يعني أننا نقول أنَّ المخطوطات الأقدم يجب اتباعها بلا أي نقاش في كل الحالات . وهذا لسببين اثنين ، أولهما سبب منطقي والثاني سبب تاريخيّ. أمَّا عن السبب المنطقي ،فلنفترض أنَّ مخطوطة من القرن الخامس تشتمل على قراءة واحدة ،بينما تحتوي مخطوطة من القرن الثامن على قراءة مختلفة . فهل يلزم أنَّ تكون القراءة الموجودة في مخطوطة القرن الخامس هي التي تمثِّل الشكل الأقدم من النص ؟ لا ، ذلك غير لازم . ماذا لو أنَّ مخطوطة القرن الخامس قد تمَّ نسخُها من نسخة أخرى يرجع تاريخها إلى القرن الخامس ، بينما الأخرى التي تنتمي إلى القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إلى القرن الثالث ؟ في تلك الحالة ، مخطوطة القرن الثامن هي التي ستحتوي على القراءة الأقدم .
السبب الثاني ،أي ذو البعد التاريخي ، في أنَّ المرء لا يمكن ببساطة أنَّ ينظر إلى ما تقوله المخطوطة الأقدم، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، هو أنَّ المرحلة المبكرة من مراحل نسخ النصوص ،كما رأينا من قبل ، كانت أيضًا أقل المراحل انضباطًا . ففي تلك المرحلة كان النسَّاخ غير المحترفين في أغلب الأحيان هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثير من الأخطاء . لذلك ، فعمر المخطوطة له أهميته ،لكنه ليس المعيار المطلق . هذا ما يجعل غالبية نقاد النصوص "انتقائيين عقلانيين". فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبير من الحجج تدعيمًا لهذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ، وليس الاعتماد ببساطة على عدد المخطوطات أو أقدمها فحسب . مع ذلك ،وبعد أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار،لو أنَّ غالبية مخطوطاتنا الأقدم تدعم قراءة ما ضد الأخرى فمن المؤكد أنَّ هذه العوامل مجتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها تمثل أهمية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالنص .
ملمح آخر يتميز به الدليل الخارجي وهو النطاق الجغرافي للمخطوطات الذي يدعم قراءة ما أكثر من القراءة الأخرى . فلنفترض أنَّ قراءة ما وجدت في عددٍ من المخطوطات ، لكنَّ هذه المخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها يرجع ،فلنقل ،إلى روما ، بينما عددٌ كبيرٌ من المخطوطات الأخرى يرجع أصلها إلى مصر وفلسطين و آسيا الصغرى وبلاد الغال يعطي قراءة أخرى . ففي هذه الحالة ،لابد أنَّ يرتاب الناقد في أنَّ القراءة الأولى هي اختلاف يعود إلى أسباب " محلِّيَّة" (أي أنَّ النسخ التي أنتجت في روما كلها تحمل الخطأ ذاته ) وأنَّ القراءة الأخرى هي القراءة الأقدم ومن المحتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ الأصليّ.
من الراجح أنَّ المعيار الخارجي الأكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي :
لكي يُنْظَر إلى قراءة ما باعتبارها القراءة "الأصلية"، فلابد أنَّ يعثر عليها في أفضل المخطوطات وفي أفضل مجموعات المخطوطات . لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ آخرُ ، لكنه يستخدم على النحو التالي : بعض المخطوطات يمكن ،لأسباب عديدة،إثبات أنها أعلى قيمةً من المخطوطات الأخرى . فعلى سبيل المثال ،متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حاسمًا في تدعيمه لقراءة ما، فإن هذه المخطوطات(أي الأعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما تحتوي هذه القراءة ، بينما المخطوطات الأخرى ،والتي عادةً ما تكون ،كما سنوضِّح، مخطوطات أحدث عمرًا، تتضمن القراءة المغايرة . المبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو عُرِفَ عن بعض المخطوطات أنها الأعلى قيمة من ناحية ما تحويه من قراءات عندما يكون الشكل الأقدم واضحًا ، فمن المحتمل أكثر أنَّ تكون هذه المخطوطات هي الأعلى مقامًا أيضًا في القراءات التي يكون دعم الدليل الداخلي لها ليس بالقدر ذاته من الوضوح . هذا يشبه ،إلى حدٍ ما ،أن يكون لديك شهودٌ في محكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق في وعودهم . عندما تعرف أنَّ شخصًا ما يميل إلى الكذب ، فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه يمكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به تمامًا ، فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه حتى عندما يخبرك بشئ ما لا يمكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى .
هذا الأمر ذاته ينطبق على مجموعات الشواهد. فقد رأينا في الفصل الرابع أنَّ "ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة التي توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ المخطوطات يمكن تقسيمها إلى مجموعات من العائلات النصيَّة . بعض هذه المجموعات النصيَّة ، كما سيتضح ، يمكن الوثوق بكونها تحتفظ بأفضل و أقدم شواهدنا المحفوظة أكثر مما تفعله بعض المجموعات الأخرى ،و أنَّ الدليل قد قام ، عند اختبارها ،على أنها تقدم القراءات الأفضل قيمة .
غالبية الانتقائيين العقلانيين،على وجه الخصوص ،يعتقدون أنَّ النص السكندري المزعوم (يشمل ما سمَّاه "هورت" النص " المحايد")،الذي كان في الأساس مقترنًا بالممارسات النسخيَّة المنضبطة التي مارسها النساخ المسيحيون في الإسكندرية في مصر ، هو الشكل الأعلى مقامًا بين النصوص المتاحة لنا ، وهو في أغلب الحالات يزوِّدُنا بالنص الأقدم أو "الأصلي" في أي موضع يوجد فيه قراءات متباينة . النصان "البيزنطي" و "الغربي" ، من ناحية أخرى ، من المحتمل بصورة أقل أنَّ يحتفظا بأفضل القراءات عندما لا يكونان مدعومين بالمخطوطات السكندرية .
الدليل الداخلي

يعتبر علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيين عقلانيين وذلك لأنهم يقومون بالاختيار من بين عدد كبير من القراءات التي تعتمد على عددٍ من أجزاء الدليل(a number of pieces of evidence).فبالإضافة إلى الدليل الخارجي الذي تقدمه لنا المخطوطات ،هناك نوعان من الأدلة الداخلية يستخدمان بصورة نمطية . النوع الأول يتعلق بما يعرف باسم الاحتمالات الداخلية (intrinsic probabilities)- أي الاحتمالات المبنية على ما تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه المؤلف نفسه . بالطبع يمكننا أنَّ ندرس أسلوب الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة اللاهوتية التي يستخدمها مؤلف ما . وعندما تحتفظ المخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتين متباينتين وإحداها تستخدم الكلمات و الخواص الأسلوبية التي لا توجد في عمل ذلك المؤلف ،أو لو أنها تمثل وجهة نظر تختلف تماما مع تلك التي يعتنقها هذا المؤلف ، فمن غير المحتمل في هذه الحالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه المؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت تمامًا مع كتابات المؤلف في مكان آخر.
النوع الآخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى الاحتمال النسخي (transcriptional probability) . هذا الدليل لا يبحث عن القراءة التي ربما كتبها المؤلف فحسب، بل أيضًا عن تحديد القراءة التي من المحتمل أنَّ يكون الناسخ قد أدخلها.
أخيرًا ، هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ القراءة "الأكثر صعوبة" هي على الأرجح القراءة الأصلية. هذه النظرية مبنية على فكرة أنَّ النسَّاخ على الأرجح يحاولون تصحيح ما يرون أنه يمثل أخطاءً ويحاولون التوفيق بين الفقرات التي يرونها متناقضة ، وليِّ عنق العقيدة اللاهوتية التي يحتويها النص لتتوافق مع العقائد اللاهوتيَّة التي يؤمنون بها . أما القراءات التي ربما بدت ظاهريًّا وكأنها تحتوي على "خطأ " أو يعوزها الانسجام أو كانت تشتمل على عقيدة لاهوتية غريبة ،فإنها أكثر عرضة لأن يغيرها أحد النسّاخ من تلك القراءات " الأسهل". هذا المعيار ربما يتمُّ التعبير في بعض الأحيان كالتالي:
القراءة التي تفسر وجود القراءات الأخرى بأفضل ما يكون هي الأولى باعتبارها القراءة الأصليَّة .
لقد عرضت أشكالا عديدة للدليل الداخلي و الخارجي المعتبرة لدى النقاد النصِّيين ليس لأنني أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه المبادئ وأنَّ يبدأ في تطبيقها على تقليد العهد الجديد المخطوط ،بل لأنه من المهم،عندما نحاول أنَّ نحدِّد الماهية التي كان عليها النص الأصليّ ، أنَّ نعترف بأن عددًا كبيرًا من هذه الاعتبارات لابد من وضعها في الحسبان وأنَّ كثيرًا من القرارات المبنيَّة على التقديرات الشخصية لابد من اتخاذها . فهناك أوقات يحدث فيها تناقض بين أجزاء الدليل أحدها مع الآخر ،على سبيل المثال ،حينما لا تكون القراءة الأكثر صعوبة (حسب نظرية احتمالات الناسخ)مدعومة جيدًا داخل المخطوطات (التي تمثل الدليل الخارجي )،أو عندما تكون القراءات الأكثر صعوبة غير متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي يتميز بها الكاتب أيضًا (الاحتمالات الداخلية).
باختصار، تحديد النص الأصلي ليس بالأمر اليسير ولا بالأمر الصريح ! بل يتطلب كثيرًا من التأمل في الدليل و التمحيص الحَذِرِ له، والعلماء المختلفون دائمًا ما يصلون إلى استنتاجات مختلفة –ليس فقط فيما يتعلق بالأمور الثانويَّة التي لا تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيير ترتيب الكلمات المكتوبة باليونانية والتي لا يمكن حتى أنَّ يكون لها أي تأثيرٍ على الترجمة الإنجليزية)، و إنما فيما يتعلق بالأمور ذات الأهمية القصوى ، التي تؤثر على تفسير سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد الجديد .
ولتوضيح الأهمية التي تتسم بها بعض القرارت التي تتعلق بالنصوص ، سأنتقل الآن إلى ثلاث قراءات نصيَّة متباينة من النوع الأخير ،حين يكون لتحديد النص الأصلي تأثيرٌ بالغٌ على الكيفية التي تُفهم بها الرسالة التي يريد إيصالها بعض مؤلفي العهد الجديد . أعتقد أنَّ غالبية المترجمين إلى الإنجليزية في هذه الحالات الثلاث ،كما سيتضح ،قد اختاروا القراءة غير السليمة ولم يقدموا لنا ترجمة النص الأصلي وإنما ترجمة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما حرَّفوا النصَّ الأصليّ. أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو علاقة بغضب يسوع حينما استعطفه فقير مصاب بالبرص ليعالجه .

قصة مرقس مع يسوع الغاضب

مشكلة النص في مرقس 1 : 41 نجدها في قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من مرضٍ جلديّ . المخطوطات الموجودة تحتفظ بشكلين مختلفين للعدد 41 ؛ القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بين قوسين :
فجاء ليكرِّز في مجامعهم في كل الجليل و يخرج الشياطين.فأتى إليه أبرص يتضرع إليه ويقول له :"إن ترِدْ ، تقدر أنَّ تطهرني." ،فشعر بالشفقة عليه (المقابل اليوناني هو : SPLANGNISTHEIS) أو فشعر بالغضب ( والمقابل اليوناني لها هو: ORGISTHEIS)،ومدَّ يده إليه ولمسه وقال :" أريد ، فاطهر ." فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أنَّ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
معظم الترجمات الإنجليزية تترجم بداية العدد 41 بطريقة تؤكِّد على محبة يسوع لهذا الأبرص الفقير المنبوذ : "الشعور بالشفقة"( أو يمكن ترجمة الكلمة بأنه " تحرك بدافع الشفقة") عليه . وفي سبيل قيامهم بهذا ،سارت هذه الترجمات وراء النص اليوناني الموجود في معظم المخطوطات التي لدينا .بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة في هذا الموقف . لا نعرف طبيعة المرض الذي ألمَّ بالرجل على سبيل الدقة – يفضل بعض المفسرين أنَّ يعتبروه برصًا ( اختلال في الجلد يظهر على شكل قشور )بدلا من اعتباره نوعًا من الإصابة باهتراء في لحم جسم الإنسان نسميه في العادة جذامًا . على أية حال ، من المحتمل جدًا أنَّ يكون هذا المريض قد خضع لأوامر الشريعة التوراتية التي تحظر على" المجذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش المنبوذين ، معزولين عن المجتمع ،فقد اعتبروا أنجاسًا( سفر اللاويين 13 – 14 ). ولشعوره بالشفقة تجاه شخص على هذه الحال ،يمدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس لحمه المصاب وليشفيه .
الشفقة الطبيعية و الشعور الخالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا المشهد ربما يفسر ،في الغالب ، سبب عدم اعتداد المفسرين والمترجمين بالنص الآخر الذي وجد في بعض مخطوطاتنا. هناك تعبير ورد في أحد أقدم شواهدنا ،المسمى مخطوطة بيزا، ويدعمه ثلاث مخطوطات لاتينية يمثِّل في البداية صياغة محيِّرة و مشوَّهَة . فهنا ،بدلا من القول أنَّ يسوع شعر تجاه الرجل بالشفقة ،يشير النص إلى أنه استشاط غضبًا . في اليونانية هنا فارق بين كلمتي (SPLANGNISTHEIS) و (ORGISTHEIS) . فبسبب وجودها في الشواهد اليونانية واللاتينية ، يسلم المتخصصون في النصوص بأن تاريخ هذه القراءة الثانية يرجع إلى القرن الثاني على الأقل . فهل من الممكن ، مع ذلك ، أنَّ تكون هذه هي القراءة التي كتبها مرقس نفسه ؟
كما رأينا بالفعل ، ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما تحتوي الغالبية الساحقة من المخطوطات قراءة ما بينما تحتوي مخطوطتان فحسب القراءة الأخرى ، فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة .في بعض الأحيان يكون العدد القليل من المخطوطات هو الذي يحتوي القراءة الصحيحة حتى عندما لا تتفق معه المخطوطات الأخرى جميعًا . إلى حدٍ ما ،هذا يكون سببه أنَّ الغالبية الساحقة من مخطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة الأصول بالمئات والمئات من السنوات، وأنها قد تم نسخها من نسخ أخرى أحدث كثيرًا وليس من الأصول. بمجرد أنَّ يجد أحد التحريفات طريقه إلى التقليد المخطوط ، ربما يستقر فيه إلى الأبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبير الأصلي . في حالة كهذه ، القراءتان كلتاهما نعتبرهما تبدوان قديمتين للغاية . فأيُّ القراءتين هي القراءة الأصلية ؟
لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بين هاتين القراءتين ، لا شك أنَّ كل شخص في الغالب سيختار القراءة الأكثر وجودًا في مخطوطاتنا : شعر يسوع بالشفقة تجاه هذا الرجل ، و شفاه .أما القراءة الأخرى فمن الصعب تصورُّها :فما معنى أنَّ يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا للافتراض أنَّ مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟
على العكس ، فحقيقة أنَّ إحدى القراءتين تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون في كونها قراءة غير أصلية ، لأن النساخ ،كما رأينا ،كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهلا وغير معقد . إلا أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي:ما هو الأمر المنطقي بدرجة أكبر ،أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ، أم أنَّ يغير النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتين تفسر وجود الآخر بصورة أفضل ؟ عندما ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية ،نجد القراءة الأخيرة هي الأكثر احتمالا . القراءة التي تشير إلى أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " الأكثر صعوبة " ولذلك هي الأكثر احتمالا لأن تكون النص " الأصلي " . هناك دليل آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتين من المحتمل أنَّ يكون النساخ قد لفَّقوها . كما سيتضح ،ليس لدينا أي مخطوطة يونانية لمرقس تحتوي هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ،أي بعد ثلاثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف هذا السفر .لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة في العشرين عاما التي تلت تاريخ تأليفها الأول.
اعترف العلماء لفترة طويلة أنَّ مرقس هو أول الأناجيل تأليفًا ، وأنَّ متى و لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص التي حكياها عن يسوع . من الممكن ، إذن ، أنَّ نتفحص إنجيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيير نص مرقس في المواضع التي حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة مختلفة (إن بدرجة أكبر أو أقل). حينما نفعل هذا ، نجد أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة الواردة في مرقس . من اللافت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس حول طلب الأبرص و رد يسوع في العددين 40 – 41 تقريبا كلمة بالكلمة . فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ المثير للدهشة أنَّ متى ولوقا قاما كلاهما بحذف الكلمة تمامًا . إذا كان النص المرقسيُّ الذي كان بين يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ، فلماذا يحذف الرجلان كلاهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع في مكان آخر بأنه شفوق ، وكلما وجدت في إنجيل مرقس قصة يُذْكَرُ فيها بوضوح الشفقة التي كان يتصف بها يسوع ، فهذا الرجل أو الآخر يحتفظ بالوصف كما هو في روايته . لكن ماذا عن الاحتمال الآخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا في إنجيل مرقس أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيْن إلى التخلص من هذا الشعور ؟ هناك مناسبات أخرى ،في الواقع ،وردت في إنجيل مرقس يصبح فيها يسوع غاضبًا . في كل مناسبة من هذه المناسبات ، قام متى و لوقا بتعديل الروايات . ففي مرقس 3 : 5 ينظر يسوع حوله " بغضب" إلى الموجودين في المجمع الذين كانوا يراقبونه ليروا ما إذا كان سيعالج الرجل ذا اليد اليابسة . هذا العدد في إنجيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد الموازي في مرقس ، لكنَّ لوقا يحذف الإشارة إلى غضب يسوع .أما متَّى ، فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ولم يذكر أيَّ شئ عن يسوع الغاضب . وعلى نحو مماثل ،في مرقس 10 – 14 يشتدُّ يسوع على تلاميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية مختلفة) لمنعهم الناس من إدخال أطفالهم إليه لكي يباركهم . متى و لوقا كلاهما يرويان القصة ،بالحرف الواحد في الغالب، لكنهما يحذفان الإشارة إلى غضب يسوع (متى 19 – 14 ؛ لوقا 18 : 16 ). في المحصلة ، لا يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ في الضمير حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ، لكنهما أبدًا لم يصفاه باعتباره غاضبًا . فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ، كلما أعاد كلا الرجلين كلٌ على حدى حذف التعبير من روايتهما . لذلك ، في حين أنه من الصعب إيجاد مبرر يجعلهما يحذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما لحادثة علاج يسوع للمجذوم ، فإنه من السهولة بمكان تفهُّم أسباب رغبتهم في حذف " الشعور بالغضب ." فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ التعبير الأخير (أي الشعور بالغضب) هو الذي ورد في سلسلة قديمة جدا من المخطوطات وأنه من غير المحتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبير كبديل عن التعبير الآخر الذي يمكن فهمه بسهولة أكبر (أي الشعور بالشفقة) ، يصبح من الواضح بشكل أكبر أنَّ مرقس ،في واقع الأمر ،وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقترب منه المجذوم طلبًا للشفاء .
قبل أنَّ نغادر هذه المسألة هناك أمر آخر يجب التأكيد عليه . أشرت إلى أنَّه في حين أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة في وصف يسوع بالغضب ،لم يكن لدى مرقس أي مشكلة في ذلك . حتى في القصة موضع الدراسة ، وبعيدًا عن المشكلة النصيَّة المتعلقة بالعدد 41 ، لم يعالج يسوع هذا المجذوم الفقير بطريقة إنسانية . فبعد أنَّ شفاه ، "وبَّخه بشدة " "وطرده ". وهاتان القراءتان هما الترجمة الحرفية للكلمات اليونانية والتي عادةً ما تخضع لعملية " تلطيف" في الترجمات . إنها تعبيرات قاسية ، استخدمت على الدوام في كل موضعٍ آخر في مرقس في سياقات صراع و عدوان عنيفين ( على سبيل المثال عندما يطرد يسوع الشياطين).
من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي يجعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و بطرده لو كان يشعر تجاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ، فلربما كان الأمر أكثر منطقيًّة .
فعلامَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العلاقة بين النص والتفسير. بعض العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشير إلى أنَّ يسوع "أحس بالغضب" في هذه الفقرة توصلوا إلى تفسيرات بعيدة الاحتمال إلى حدٍ بعيد . يبدو أنَّ هدفهم من وراء ذلك هو أنَّ يبرروا هذا الشعور من خلال إظهار يسوع في مظهر الشفوق حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب . أحد المفسرين ، على سبيل المثال ،يجادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العالم الملئ بالمرض ؛ بكلمات أخرى ، هو يحب المريض لكنه يكره المرض .ليس هناك أساس نصِّيٌّ لهذا التفسير ، لكنه يملك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو في صورة جيدة .مفسرٌ آخرُ يجادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ لأن هذا المجذوم كان منبوذًا من المجتمع ، متجاهلا حقيقة أنَّ النص لا يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى إذا افترضنا أنَّ النص يقول ذلك ،فإن ذلك ليس ذنب المجتمع الذي يعيش فيه يسوع وإنما سبب ذلك هو شريعة الله (خاصة سفر اللاويين ). آخر يجادل في أنَّ سبب غضب يسوع هو،في حقيقة الأمر،أن شريعة موسى تجبر هذا النوع من الناس على الانعزال . هذا التفسير يتجاهل حقيقة أنه في خاتمة الفقرة (عدد 44 ) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و يحثُّ المجذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها .
كل هذه التفسيرات لديها رغبة عامة في التلطيف من غضب يسوع و لديها العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إلى هذه الغاية . فإذا فعلنا عكسهم ، فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ ثمَّة خيارين اثنين ، أولهما يركِّزُ على السياق الحرفيّ المباشر للفقرة والآخر يركز على السياق الأوسع للفقرة. أولا ، فيما يتعلق بالسياق المباشر ،كيف تؤثِّر الصورة التي رسمتها افتتاحية إنجيل مرقس على الخيار الأوَّل ؟ لو نحَّيْنا أفكارَنا المسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا و لو قرأنا هذا النص الهام على نحو بسيط، سيتوجب علينا أنَّ نعترف بأن يسوع لا يبدو وديعًا لطيفًا دمث الأخلاق ولا يبدو كراعٍ صالحٍ مثلما تصوِّرُه لوحات الكنائس . يبدأ مرقس إنجيله برسم صورة ليسوع من الناحية الجسميّة ومن ناحية المواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي لا ينبغي أنَّ تعبث معه . ويصفه بأنه نبيٌّ يعيش في البرية قدَّمَه للخدمة نبيٌّ آخر يعيش في البرية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن المجتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش في البرَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إلى التوبة السريعة لمواجهة القدوم الوشيك لدينونة الله ؛ وهو يدعو أتباعه للانفصال عن عائلاتهم ، و يربك جمهوره بسلطانه ؛ ويوبِّخ ويُخْضِع قوى الشيطان التي بإمكانها هزيمة البشر الفانين ؛ وهو يرفض التجاوب مع حاجات الجماهير ويتجاهل هؤلاء الذين يتوسلون للقائه . القصة الوحيدة في هذا الفصل الافتتاحيّ من إنجيل مرقس التي تشير إلى عطفه الشخصي هي قصة شفاء حماة سمعان بطرس التي كانت مريضة ملازمة للفراش . لكنَّ هذا التفسير الشفوق حتَّى يمكن أنَّ يخضع للتساؤلات. بعض الماكرين ممن يتَّسِمون بقوة الملاحظة لاحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من الحمى التي أصابتها قامت لتخدمهم ،ومن المحتمل أنها أحضرت لهم وجبة العشاء.
هل من المحتمل أنَّ يسوع قد جرى تصْويرُه في المشاهد الافتتاحيَّة لإنجيل مرقس باعتباره شخصية قوية تتمتع بالإرادة القوية و لديها أجندتها الخاصة و أنه شخص ذو سلطان له كاريزما ولا يروقه أن يقاطعه أحد؟
من المؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به المجذوم حيث قام بتوبيخه و بطرده.
هناك تفسير آخر ، رغم ذلك .كما أشرت من قبل ،يشعر يسوع بالغضب فعلا في مكان آخر داخل إنجيل مرقس . يحدث هذا للمرة الثانية في الإصحاح 3 ،الذي يتناول ، وياللمفاجأة ،قصة شفاء أخرى. هنا قال مرقس بوضوح إنَّ يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد اليابسة في السبت .
هناك حكاية مشابهة إلى حدٍّ بعيدٍ تصادفنا في إحدى القصص التي لم يذكر فيها أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك . ففي مرقس 9 ، عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ، يجد تجمهرًا حول تلامذته ورجلا يائسا في المنتصف . ابن هذا الرجل تملكته روح شيطانية، وهو يشرح الموقف ليسوع ثم يناشده :" إن كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". فردَّ يسوع عليه غاضبًا ،"لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده،" أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي." فعندها طرد يسوع الروح الشريرة.
الأمر المثير للدهشة في هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك أحد الأشخاص في نيَّته ، أو في قدرته أو في سلطانه الإلهي على الشفاء .ربما هذا هو سبب غضبه في قصة المجذوم أيضًا .ففي القصة الواردة في مرقس 9 ،يقترب أحدهم من يسوع بحذر ليسأله :" لو لديك الرغبة ، تقدر على شفائه." فيشعر يسوع بالغضب. يسوع بطبيعة الحال لديه الرغبة في فعل ذلك ، باعتباره قادرًا ومخولا بهذا . يشفي يسوع الرجل و ،لكونه ما يزال في نفسه استياء من تشكك الرجل،يقوم بتوبيخه ثم طرده بحدة .
هنا نجد شعورًا مختلفًا تماما تجاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسيرها،وهو تفسير مبنيٌّ على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه. فمرقس ، في بعض المواضع ، يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا .


يتبع..

نور الإسلام
05-02-2012, 11:32 AM
لوقا ويسوع الهادئ

على النقيض من مرقس ، لم يقل إنجيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع شعر بالغضب. بل لا يبدو يسوع في هذا الإنجيل منزعجًا على الإطلاق،أو بأية حال.
فبدلا من يسوع الغاضب ، يرسم لوقا صورة ليسوع الهادئ . هناك فقرة يتيمة في هذا الإنجيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه . وهي فقرة أصالتها موضع جدال ساخن بين نقاد النصوص .
نجد هذه الفقرة في سياق صلاة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصير من تعرضه للخيانة و للوقوع في الأسر (لوقا 22 : 39 -46 ). فبعد أن يوجِّه تلامذته بقوله :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ"، يتركهم يسوع ،و يجثو على ركبتيه،ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" . في عددٍ كبيرٍ من المخطوطات تلي هذه الصلاة هذه القصة التي لا نجدها في أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ، والتي تتعلق بقلقه الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية :" وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. " (العددان 43 ، 44 ).
ينتهي المشهد بقيام يسوع من الصلاة وعودته إلى تلامذته ليجدهم نيامًا. فيكرر توجيهه لهم :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع الجموع ويلقون القبض على يسوع .
إحدى الخصائص المثيرة لهذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه الحجج وتلك حول ما إذا كان العددان المتنازع عليهما (43 ، 44 ) قد كتبهما لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ . المخطوطات الأقدم والتي يسلم العلماء بكونها الأفضل ( النص "السكندري") لا تحتوي هذين العددين في الغالب.لذلك من المحتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ . من ناحية أخرى ، هاتان الفقرتان موجودتان في عدد قليل من الشواهد الأخرى المبكرة وهما غالبًا منتشرتان في كل مكان من التقليد المخطوط . لذا فهل هما قد أضيفتا بيد ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب المقدس أم حذفتا بيد آخر أراد العكس ؟ من الصعوبة بمكان أنَّ نجيب على هذاالسؤال اعتمادًا على المخطوطات .بعض العلماء اقترحوا أنَّ نستعين بالخصائص الأخرى التي يتصف بها العددان لكي نقرر هذا الأمر. أحد العلماء ، على سبيل المثال ، ادَّعى أنَّ الكلمات و الأسلوب في العددين يشبهان إلى حدٍ كبير ما نجده في لوقا في موضع آخر ( هذه الحجة مبنية على "الاحتمالات الداخلية "): على سبيل المثال ، ظهورات الملائكة هي سمة شائعة في لوقا ، وكلمات عديدة و جمل موجودة في الفقرة نجدها في مواضع أخرى في لوقا ولكن ليس في أي موضع آخر في العهد الجديد ( مثل الفعل " يقوِّيه").
لم تقنع هذه الحجة أحدًا ،مع ذلك، لأن معظم هذه الأفكار والتراكيب و الجمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق لا تنتمي إلى الأسلوب اللوقاوي (على سبيل المثال ، الملائكة لا تظهر في أيِّ مكان آخر من لوقا من غير أن تتكلم ) أو شائعة في النصوص اليهودية والمسيحية بخلاف العهد الجديد . زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غير طبيعي بالمرة لكلمات وجمل غير عادية في هذين العددين : على سبيل المثال (كرب ،عَرَق، قطرات) ليس لها وجود في موضع آخر في لوقا ولا في سفر الأعمال (الذي هو الجزء الثاني للإنجيل الذي كتبه المؤلف عينُه ). نظرا لذلك كله، من الصعب بمكان أنَّ نقرر أي شئ بخصوص هذين العددين على أساس الكلمات والأسلوب.
حجة أخرى استعملها العلماء لها علاقة بالبنية الأدبيّة(literary structure) لهذه الفقرة . بإيجاز ، هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة بتأنٍّ من خلال ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لترتيب الكلمات في جملتين متشابهتين (chiasmus) . حينما تبنى فقرة على هذا النحو ، الكلمة الأولى في هذه الفقرة تتطابق مع الكلمة الأخيرة منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل الأخيرة ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة التي تسبق الكلمة قبل الأخيرة ، وهكذا . أو دعونا نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول : صياغة هذه الفقرة هي صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز الانتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح الجملة . و الأمر نفسه نجده هنا :
فيسوع (أ) يطلب من تلاميذه أنَّ "يصلوا كي لا يدخلوا في تجربة" (العدد 40 ) ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد 41 أ) و (ج)يجثو على ركبتيه للصلاة (العدد 41 ب). مركز هذه الفقرة هو (د) صلاة يسوع ذاتها ،الصلاة التي ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده الله (العدد 42 ). بعد ذلك يسوع (ج) يقوم من صلاته (عدد 45 أ )، (ب)يعود إلى تلاميذه (عدد 45 ب)، و (أ) يجدهم نيامًا،ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ، فيقول لهم أنَّ " صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة "(العددان 45 ج ، 46 ).وجود هذا البناء الأدبي الواضح بحد ذاته ليس هو القضية في الواقع . بل القضية هي كيف أنَّ هذا العكس لترتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة . تبدأ القصة و تنتهي بوصيته لتلاميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول في تجربة. ظلت الصلاة لوقت طويل في نظر الكثيرين هي الموضع المحوريّ لإنجيل لوقا ( أكثر حتى من أي إنجيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها الخاصة . لأن صلاة يسوع هي في قلب الفقرة ذاتها ، الصلاة التي تعبر عن رغباته ، والتي تتضمن رغبته الأعظم بأن تتمَّ مشيئة الله (العددان 41 ج، 42 ). وباعتبارها مركزًا لهذا التركيب المنعكس (chiastic structure)، تقدم هذه الصلاة قضية الفقرة المحوريَّة و،على نحوٍ متوازٍ، مفتاح تفسيرها . هذا درس عن أهمية الصلاة في مواجهة الشهوات . التلاميذ ، على الرغم من طلب يسوع المتكرِّر لهم بأن يصلُّوا ،كانوا ينامون بدلا من ذلك . وعلى الفور تأتي الجموع للقبض على يسوع . وماذا يحدث ؟ التلاميذ ، الذين فشلوا في القيام بالصلاة ، دخلوا " في التجربة "؛وهربوا من مسرح الأحداث ،تاركين يسوع ليواجه مصيره وحيدًا . وماذا عن يسوع ، الإنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن يخضع للمحاكمة ؟ حينما تصل الجموع ، نجد أنه يخضع بهدوء لمشيئة الآب ويسلم نفسه للشهادة التي أعِدَّتْ له .
رواية لوقا عن الآلام ، كما هو معروف ، هي قصة استشهاد يسوع ، الاستشهاد التي كان الهدف منه ،كما هو الحال مع مقتل الكثيرين من الشهداء،أن تقدم نموذجًا للمؤمن و الكيفية التي يحافظ بها على رباطة جأشه في مجابهة الموت . فلسفة الاستشهاد في إنجيل لوقا تظهر أنَّ الصلاة وحدها هي التي يمكن أن تجعل المرء على استعدادٍ للموت .
ماذا يحدث ، مع ذلك ، حينما يتمُّ إقحام العددين المتنازع عليهما (العددان 43 ، 44 ) في الفقرة ؟ على المستوى الأدبي ، الترتيب الانعكاسي للكلمات(chiasmus) الذي يركِّز الفقرة على صلاة يسوع يتمُّ تدميرُه نهائيًا .
الآن مركز الفقرة ، و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ، يتحول إلى شدة الكرب الذي واجهه يسوع ، شدة الكرب الفظيعة التي كانت تتطلب ظهور مُعِينٍ خارقٍ للطبيعة ليقوِّيَ يسوعَ على تحملها. من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذه النسخة المطوَّلة من القصة أنَّ الصلاة لم ينتج عنها الثقة بالنفس والهدوء الذين تحلَّى بهما يسوع في بقية الحكاية ؛ نعم ، حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد لجاجة " أنَّ عرقه أخذ في الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء المتساقطة على الأرض . ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ، و إنما أنَّ بؤرة الاهتمام كلها تتحول إلى يسوع الواقع في حالة كرب مفجعة و سحيقة و الذي هو في أشد الحاجة إلى تدخل خارق للطبيعة .
هذا في حدِّ ذاته لا يبدو كمشكلة مستعصية على الحل ، إلى أنَّ يدرك المرء أنه ليس هناك موضع في إنجيل لوقا صُوِّرَ يسوع فيه على هذا النحو . على العكس من ذلك تمامًا ، قطع لوقا شوطً طويلا لكي يقدم رؤيةً مناقضةً تماما للرؤية التي يتبنَّاها هذان العددان . فبدلا من دخوله في آلامه مجللا بالخوف و الارتجاف، مكروبًا من مصيره المحتوم القريب ، نجد أنَّ يسوع حسب تصوير لوقا له يمضي إلى حتفه هادئا ورابط الجأش واثقًا في مشيئة أباه حتى النهاية . من الحقائق الصادمة التي لها ارتباط وثيق بمشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا كان بمقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عبر التخلص من التقاليد التي كانت تتناقض معها في مصادره ( الإنجيل وفقًا لمرقس على سبيل المثال ). فقط الشكل المطوَّل من النص الوارد في لوقا 22 : 43 – 44 يبدو مخالفا لهذه القاعدة.
مقارنة بسيطة بين نسخة مرقس من القصة محل الدراسة من شأنها جلاء هذه الأمر ( مع الوضع في الاعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام بتعديله لكي يخرج بتأكيداته الفريدة ). لأن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع " ابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ "(مرقس 14 : 33 )، وكذلك تعليق يسوع أمام تلاميذه ،" نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! ". وبدلا من نزوله إلى الأرض في كربٍ(مرقس 14 : 35 )،يسوع حسب لوقا يجثو على ركبتيه (لوقا 22 : 41 ). في لوقا ، لم يطلب يسوع أن تعبر عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس 14 : 35 )؛وبدلا من صلاته لمراتٍ ثلاث أن تُنْزَع عنه هذه الكأس (مرقس 14 : 36 ، 39 ، 41 )، نجده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا 22 : 42 )،مستهلا صلاته ،في إنجيل لوقا وحده،بشرطٍ شديد الأهميَّة :"إن شئت ".
وهكذا ، في الوقت الذي يصوِّرُ فيه مصدر لوقا ،أي إنجيل مرقس، يسوع باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي في الحديقة ،يعيد لوقا صياغة هذا المشهد كاملا لهدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا في مواجهة الموت . الاستثناء الوحيد هو قصة "عرق يسوع الدموي"، وهي الحكاية التي تخلو منها أقدم وأفضل الشواهد التي لدينا . لماذا يتعب لوقا نفسه في التخلص من الصورة التي رسمها مرقس عن يسوع المكروب لو أنَّ كُرْبَة يسوع كانت هي الغرض الأساسي من القصة ؟
من الواضح أنَّ لوقا لم يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع المكروب اليائس . ليس ثمَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا الأمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من رواياتهما المتتالية عن صلب يسوع . يصوِّرُ مرقسُ يسوعَ وهو في طريقه إلى جلجثة كإنسان صامت . تلاميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة المؤمنات كنَّ يراقبنه فحسب "من بعيد" . الحاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – المارَّة وزعماء اليهود و السارقان . يسوع المرقسيّ ضُرِبَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ وهُجِرَ ،لا من قبل أتباعه فحسب،بل وحتى من قبل الله نفسه . كلماته الوحيدة التي تفوَّه بها في هذا الموقف من أوله لآخره تأتي عند نهاية المشهد ، حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ، إلوي ، لما شبقتني "(إلهي ،إلهي ، لما تركتني ؟). ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و يموت .
هذه الصورة ،مرة أخرى ، تتناقض تماما مع ما نجده في إنجيل لوقا . ففي رواية لوقا ، نجد يسوع بعيدًا تماما عن أنَّ يكون صامتًا . وعندما يتكلم ، يظهر أنه ما يزال رابط الجأش واثقًا في الله أبيه ،راضٍ عن قدره ،مهتمًّا أكثر بمصير الآخرين . ففي طريقه إلى الصلب ، وفقا لما جاء في إنجيل لوقا ،عندما يرى يسوع مجموعة من النسوة يندبن سوء حظه ، يخبرهنَّ أنَّ لا يبكين عليه بل بالأحرى على أنفسهنَّ و على أطفالهن بسبب الكارثة التي ستحل بهم قريبًا (23 : 27 – 31 ).وبينما يجري تثبيتُه على الصليب بالمسامير ، نجده يصلِّي إلى الله :" يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " بدلا من أن يحافظ على صمته.
على الصليب ، في وسط آلامه ، يدخل يسوع في حوارٍ شيِّقٍ مع أحد السارِقَيْن المصلوبَيْن إلى جواره ، مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا في هذا اليوم في الجنة (23 : 43 ). أكثر الأمور تعبيرًا عما نقول هو أنه بدلا من أن يطلق يسوع في النهاية صرخته الحزينة بسبب هجر الله له،حسبما يصوره لوقا، يستودع روحه عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة في منزلته عند الله ،:" يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي "(23 : 46 ).
سيكون من العسير أن نغالي في تقدير أهمية هذه التغييرات التي أحدثها لوقا في مصدره (إنجيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص محل دراستنا . ليس هناك موضع في رواية لوقا للآلام يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ولم يحدث على الإطلاق أنَّ كان يسوع في حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما سيؤول إليه مصيره . فهو هنا مسيطر تماما على قدره ، يعرف ما يجب عليه فعله وما سيحدث له بمجرد أن يحدث . إنه ذلك الرجل الذي يعيش في سلام مع نفسه و يواجه الموت بهدوء .
ماذا ، إذن ، سنقول عن عددينا المتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان في الإنجيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة . هنا فحسب يشعُرُ يسوع بالأسى على مصيره المحتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ،هنا نجده غير قادر على تحمل أعباء مصيره . لماذا حذف لوقا كل آثار الأسى الذي شعر به يسوع في كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟
لماذا يحذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ، التي ليس لها وجود في أقدم و أفضل مخطوطاتنا ،ليست أصيلة في إنجيل لوقا و إنما هي إضافة أحدثها أحد النساخ إلى الإنجيل (11).

الرسالة إلى العبرانيين و يسوع المتروك

الصورة التي رسمها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء في إنجيل مرقس ، و إنما أيضًا مع تلك الواردة في أسفار مؤلفي العهد الجديد الآخرين ،بما في ذلك المؤلف المجهول للرسالة إلى العبرانيين ، الذي يبدو أنه افترض مسبقا معرفة تقاليد الآلام التي يواجه يسوع الموت خلالها وهو مكروب و التي مات فيها بلا أيِّ عونٍ من الله أو دعم منه ، وذلك ما يمكننا رؤيته في حلِّ واحدة من أكثر مشكلات العهد الجديد إثارة .
هذه المشكلة النصية نجدها في سياق يتحدث عن خضوع كلِّ الأشياء النهائي ليسوع ، ابن الإنسان. لمرة أخرى ، سأضعُ القراءات المتباينة محل الدراسة بين الأقواس .
" لأنه عندما يخضع (الله) كلَّ شئٍ له ، لم يترك شيئا غير خاضع له ، لكننا للآن لم نرَ كلَّ الأشياء خاضعة له . لكننا رأينا يسوع بالفعل ، الذي ،كونه جُعِلَ أقل شأنا من الملائكة لوقت قليل ، كُلِّلَ بالمجد والكرامة بسبب معاناته الموت ، لكي يذوق الموت عن كل واحدٍ (بنعمة الله / بعيدا عن الله )."(عبرانيين 2 : 8-9 )
على الرغم من أنَّ غالبية المخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن جميع البشر (بنعمة الله ) CHARITI THEOU)) ، توجد مخطوطتان أخريان تقولان ، بدلا من ذلك ،إنه مات " بمعزلٍ عن الله " (CHORIS THEOU). هناك أسباب جيدة تجعلنا نعتقد أنَّ القراءة الأخيرة ، مع كل ذلك ، كانت هي القراءة الأصلية في الرسالة إلى العبرانيين .
لست بحاجة إلى الدخول في التعقيدات الخاصة بدعم المخطوطات للقراءة التي تقول " بعيدًا عن الله " إلا لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة في وثيقتين فقط يرجع تاريخ كتابتهما إلى القرن العاشر ، فإن أحدها (وهي المخطوطة رقم 1739 ) من المعروف أنها قد نقلت عن نسخة على الأقل لا تقل قِدَمًا عن أقدم مخطوطاتنا.
الأمر الأكثر إثارة هو أنَّ أوريجانوس أحد علماء بواكير القرن الثالث يخبرنا أنَّ هذه القراءة (بمعزلٍ عن الله ) كانت هي القراءة الواردة في أغلب المخطوطات في عصره . هناك دليل آخر كذلك يشير إلى ذيوع هذه القراءة في العصور القديمة: فقد وُجِدَتْ في مخطوطات كانت معروفة للقديسَيْن "أمبروز" و"جيروم" في الغرب اللاتيني واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن الحادي عشر. وهكذا ،على الرغم من أنها لم تكن ثابتة فيما لدينا من مخطوطات على نطاق واسع،إلا أنها في الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية .
وحينما يتحول المرء من الاعتماد على دليل خارجي إلى الاعتماد على دليل داخلي،فلا ريب في أفضليَّة هذه القراءة المتباينة الثابتة في المخطوطات ولو على نحوٍ ضعيف .
رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من المرجَّح إلى حدٍّ كبيرٍ أنَّ يغيِّروا القراءة التي يكون من الصعب فهمها إلى أخرى أكثر سهولة ، و العكس غير صحيح . قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة نموذجية لهذه الظاهرة . كان المسيحيون في العادة في القرون الأولى ينظرون إلى موت يسوع باعتباره إظهارًا أسمى لنعمة الله . القول إنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " يمكن اعتبار أنه يعني عددًا من الأشياء غالبها غير مستساغ . وحيث إنَّ النساخ لابد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتين القراءاتين بالاعتماد على القراءة الأخرى ،فهناك تساؤلٌ صغيرٌ عن أيِّ هاتين القراءتين من المرجح أكثر أنه التحريف .
لكن...هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ المدافعون عن النص الأكثر ورودا في المخطوطات " بنعمة الله " كان من المتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيير لم يطرأ بشكل متعمَّد (وإلا فسيكون نصهم المفضل هو الذي يمثِّل التحريف). تحت وطأة الاضطرار ،إذن ، قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسير الأصل (غير المقصود) للقراءة الأكثر صعوبة . في الغالب ،سيفترضون ببساطة أنَّ التشابه بين الكلمتين محل الدراسة (XARITI/ XWRIS) في الشكل هو الذي جعل النساخ يخطئون عن غير قصد فيضعون حرف الجر(بمعزلٍ عن) بدلا من كلمة(نعمة) .
وجهة النظر هذه ،مع ذلك ، تبدو بعيدة الاحتمال قليلا. فأيُّ الحالتين التاليتين هي الأكثر احتمالا: أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيير نصه من خلال كتابة كلمة " أقل " تكرارا في العهد الجديد (بمعزلٍ عن الله ) ،أم أن يستخدم أحدهم كلمة كثيرة التكرار في العهد الجديد ("نعمة" شائعة أربع أضعاف "بمعزل عن الله")؟ هل من المحتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق جملة ليس لها أي وجود في أي مكان آخر في العهد الجديد ("بمعزلٍ عن الله) أم أنه اختلق جملة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة الله")؟ ما هو الأكثر احتمالا :أن يختلق قولا غريبا و مثيرا للصعوبات ، ولو بغير قصد،أم أن يختلق الآخر الذي يعتبر قولا مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ، الخيار الأخير هو الأكثر احتمالا . فالقُرَّاء يخطئون في الكلمات الغريبة لصالح الكلمات الشائعة و يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا. لذلك ،حتى نظرية الإهمال تدعم كون القراءة الأقل ورودًا في المخطوطات (بمعزلٍ عن الله) هي القراءة الأصلية.
النظرية الأكثر شيوعًا في أوساط من يعتقدون أنَّ جملة " بمعزلٍ عن الله" ليست الجملة الأصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كملاحظة هامشية : فقد قرأ أحد النساخ في العدد 2 : 8 من سفر العبرانيين أنَّ " كل الأشياء" أُخْضِعَتْ لسلطان المسيح ، وعلى الفور ذهب فكره إلى العدد 15 : 27 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس:
" لأن كل الأشياء أُخْضِعَتْ تحت قدمه (أي المسيح)." لكن حينما يقال أنَّ " كل الأشياء ستخضع،" من الواضح أنها تعني كل الأشياء باستثناء من أخضعها له (أي أنَّ الله نفسه ليس من بين الأشياء التي أُخْضِعَت للمسيح في النهاية).
وفقا لهذه النظرية ،الناسخ الذي كان يقوم بنسخ الإصحاح 2 من العبرانيين أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشير إلى أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ، وأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على الله الآب. ولحماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه ،أدخل الناسخ ملاحظة تفسيريَّة في هامش العدد 2 : 8 من العبرانيين (كنوع من الإحالة إلى اكورونثوس 15 : 27) ليشير إلى أنه لا شئ نجا من الخضوع للمسيح،" باستثناء الله". هذه الملاحظة انتقلت في وقت تالٍ بمعرفة ناسخ مهمل في العصور التالية إلى نصِّ العدد التالي ، العبرانيين 2 : 9 ، حيث ظنَّ أنَّها تنتمي إليه .
على الرغم من ذيوع هذا الحل ، إلا أنه ربما أذكى من أن يعتمد ويتطلب حدوث كثير من الخطوات المشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه.
ليس هناك أي مخطوطة تضم بين ثناياها القراءتين معًا (أي التصحيح الذي وقع للهامش أو لنص العدد 8 ،حيث ينتمي الهامش ،ومعهما النص الأصلي للعدد 9 ). أضف إلى ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ الملاحظة كانت تصحيحا ورد في الهامش ،فلماذا وجده في الهامش بعد العدد 8 وليس العدد 9 ؟ أخيرًا ، لو أنَّ الناسخ الذي اختلق الهامش كان قد فعل ذلك ليشير إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ألم يكن سيكتب " باستثناء الله "( EKTOS THEOU)- وهي الجملة الموجودة بالفعل في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) بدلا من أنَّ يكتب " بمعزلٍ عن الله "( CHORIS THEOU)- التي ليس لها وجود في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس؟
بالجملة ، من الصعب جدا تفسير جملة (بمعزل عن الله ) لو أنَّ جملة ( بنعمة الله) كانت هي القراءة الأصلية في العبرانيين 2 : 9 .
في الوقت نفسه ، بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ المسيح مات "بمعزلٍ عن الله " ،نجد أنَّ ثمة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه القراءة تحديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إلى العبرانيين . لأن هذه القراءة الأكثر ورودًا في المخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة اللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين(" وهذا المنهج هو ما يعرف بالاحتمالات الداخلية"). فهذه الكلمة "نعمة" (CHARIS) لم ترد مطلقا في الرسالة كلها في معرض الإشارة إلى موت يسوع أو إلى فوائد الخلاص التي جاءت كنتيجة لموته.
بدلا من ذلك ، دائما ما نجدها تتعلق بهبة الخلاص المكفولة للمؤمن برحمة الله (انظر على وجه الخصوص الأعداد 4 : 16 ؛ و 10 : 29 ؛ و12 : 15 ؛13 : 25 من سفر الرسالة إلى العبرانيين).
وللتأكيد على ذلك ، من المعروف تاريخيًّا أنَّ المسيحيين كانوا أكثر تأثُّرًا بالمؤلفين الآخرين للعهد الجديد ،بولس على وجه الخصوص،الذي كان يرى في تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد الأسمى لنعمة الله . لكنَّ العبرانيين لا تستخدم هذا المصطلح (نعمة الله) على هذا النحو على الرغم من أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس ربما لم يدركوا هذا.
من ناحية أخرى ،القول إنَّ يسوع قد مات " بمعزل عن الله"- وهو القول الغامض إذا فهمناه بمعزل عن السياق- يعطي معنى مقنعًا في سياقه الأدبي الواسع في ثنايا الرسالة إلى العبرانيين. وفي حين أنَّ هذا المؤلف لم يشِر على الإطلاق إلى موت يسوع باعتباره تجسيدا لل"نعمة" الإلهية ، فهو يؤكد على نحو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة ومخزية تمامًا ، وأنَّه أُبْعِدَ تماما عن المملكة التي جاء منها ، مملكة الله؛ وأنَّ تضحيته ، نتيجة لذلك، قبلها الله ككفارة صحيحة عن الخطية. فوق ذلك ، لم يتدخل الله في مسألة آلام يسوع ولم يفعل شيئا ليخفف من آلامه . لذلك ، على سبيل المثال ،يتحدث سفر الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع وهو يتضرع في مواجهة الموت إلى الله بصرخات مدوية وبدموع . في العدد 12 : 2 يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته،ليس لأن الله قد أعانه على ذلك ،بل لأنه كان يأمل في التبرُّر .وفي أنحاء الرسالة ،يقال إنَّ يسوع اختبر الألم و الموت الإنسانيَّ ، مثل الكائنات البشرية الأخرى " من كل وجه ". لكنَّ آلامه لم تكن كربة خففتها تدابير إلهية خاصة .
الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد 2 : 9 ، الذي يؤكِّد أنَّ المسيح اتخذ لنفسه وضعًا أقل من الملائكة لكي يشاركنا بالدم و اللحم ولكي يختبر الآلام الإنسانيَّة ولكي يموت ميتة إنسانية. وللتأكيد على ذلك،من المعروف أنَّ موت يسوع قد جلب الخلاص،لكنَّ الفقرة لا تقول أيَّ كلمة عن نعمة الله كأمر واضح في عمل المسيح الكفَّاري،بل تركز بدلا من ذلك على طبيعة المسيح وعن نزول المسيح إلى مملكة الموت والآلام العابرة . لقد اختبر يسوع الآلام كإنسانٍ كاملٍ بمعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره كائنًا علويًّا. العمل الذي بدأه عند نزوله يكَمِّلُه بموته، الموت الذي كان من المتحتم أنَّ يحدث " بمعزلٍ عن الله".
كيف يمكن أن تكون القراءة "بمعزلٍ عن الله"، التي يمكن تفسيرها بصعوبة كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع الاختيارات اللغوية والأسلوبية واللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين، بينما القراءة البديلة "بنعمة الله"،التي لا تمثل للنساخ أي صعوبة على الإطلاق ، تبدو متناقضة مع ما تخبرنا به الرسالة إلى العبرانيين عن موت يسوع و مع الطريقة التي استعملتها في إخبارنا عن هذا الموت ؟ العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه في الأصل كان يقول أنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " ، متروكًا ، على نحو مشابه كثيرا للصورة التي رسمها إنجيل مرقس في روايته عن آلام المسيح .


الخاتمــــــة
في كل حالة من هذه الحالات الثلاث التي ألقينا عليها الضوء ، هناك تباين نصيّ هام يضطلع بدور هام في الكيفية التي يتم بها تفسير هذه الفقرة المستهدفة بالدراسة . من المهم على نحوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه شعر بالشفقة أم بالغضب في مرقس 1 : 41 ؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط الجأش أم شاعر بقلق عميق في العدد لوقا 22 : 43 -44 ؛ وما إذا كان قد قيل عنه إنه مات بنعمة الله أو " بمعزلٍ عن الله "في العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين.يمكننا أنَّ ننظر في فقرات أخرى بسهولة كذلك ،لكي ندرك معنى أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته .
بالنسبة للتقليد المخطوط للعهد الجديد ، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد التوصل إلى ما قاله مؤلفها بالفعل. هناك أيضًا قضية (الأسباب) التي من أجلها تعرضت هذه الكلمات للتغيير وكيف تؤثر هذه التغييرات على معاني كتاباتهم .هذه القضية المتعلقة بتعديل الكتاب المقدس في الكنيسة المسيحية الأولى ستكون موضوع الفصلين التاليين حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ ،الذين لم يكونوا راضين تماما عن ما قالته أسفار العهد الجديد ،عدَّلوا كلماتها ليجعلوها تدعم المسيحية الأرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض الهراطقة والنساء واليهود والوثنيين بصورة أكبر.

نور الإسلام
05-02-2012, 11:33 AM
هوامش الفصـــــــل الخامـــس

[1] للاطلاع على شرح أكثر تفصيلا لهذه المناهج ، انظر كتاب " نص الكتاب المقدس" (text of the new testament) ، لبروس ميتزجر و بارت إرمان ، ص 300 – 315 .
[2] من بين أمور أخرى ،هذا يعني أن القراءات في نص الأغلبية " البيزنطي" ليست بالضرورة هي القراءات الأفضل . فهذه القراءات تتمتع ببساطة بدعم المخطوطات على قاعدة عددها مجردًا. وكما يقول القول المأثور المعروف في أوساط نقاد النصوص :" المخطوطات تُقَيَّم ولا تعَدُّ."
[3] بعض العلماء يعتبرون هذه القاعدة هي أهم و أكثر مبادئ علم النقد النصي جميعا مصداقية.
[4] كثير مما سيأتي مأخوذ من مقالتي " النص والتقليد :دور مخطوطات العهد الجديد في الدراسات المسيحية المبكرة ،"وتجدونه في جريدة النقد النصي على الرابط التالي:
http://rosetta.reltech.org/TC/vol05/Ehrman2000a.html
[5] لمناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، وأهميتها بالنسبة للتفسير ، انظر مقالتي" خاطئ بين يدي يسوع الغاضب "( A Sinner in the Hands of an Angry Jesus)، في كتاب " العهد الجديد اليوناني والتفاسير: مقالات تكريما لجيرالد.ف.هاوثورن،بتحرير تيموثي . ب. سيلورز( مطبعة: جراند رابيدز:إيردمانز،2003 ). اعتمدت على هذا المقال في كثير من المناقشة التالية .
[6] انظر كتاب"العهد الجديد"،لبارت إرمان ، الفصل ال6 .
[7] في موضعين آخرين فقط في إنجيل مرقس يوصف يسوع بوضوح أنه شفوق :في مرقس 6 : 34 ، عند إطعام الآلاف الخمسة ، وفي مرقس 8 : 2 ، عند إطعام الأربعة آلاف .أما لوقا فيحكي القصة الأولى على نحو مغاير كليًّا، ولا يذكر الثانية . متَّى ، رغم ذلك ،يذكر القصتين كلتيهما و يحتفظ بالوصف الذي ذكره مرقس عن شفقة يسوعفي الموضعين كليهما (متَّى 14 : 14 و 9 : 30 )؛ وكذلك في 15 : 32 ). في ثلاثة مواقف أخرى في متَّى ، وكذلك في مناسبة أخرى في لوقا يوصف يسوع باعتباره شفوقا ،باستخدام هذا التعبير (SPLANGNIZO). من الصعب ،إذن ، تخيُّل السبب الذي يجعلهما ، كل منهما على نحو مستقل ، يحذفان التعبير من روايتهما التي نناقشهما الآن لو كانا قد وجداها في مرقس .
[8] للاطلاع على هذه التفسيرات المتنوعة ، انظر مقال بارت إرمان " خاطئ بين يديّ يسوع الغاضب."(a sinner in the Hands of an angry Jesus)
[9] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للأسباب التي جعلت النساخ يغيرون الرواية الأصلية ، انظر الصفحتين (200 – 201 ) .
(مقصود المؤلف هو الصفحتان في النص الإنجليزي...المترجم).
[10] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ،انظر كتاب إرمان " الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس "( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 187 – 194 . معالجتي الأولى لهذه الفقرة كتبته بالتعاون مع مارك بلانكيت.
[11] للطلاع على مناقشة للأسباب التي حدت بالنساخ إلى إضافة العددين إلى رواية لوقا انظر الصفحتين 164 – 165 فيما يلي.
ملحوظة:
يقصد المؤلف هاتين الصفحتين حسب الترقيم في النسخة الإنجليزية....المترجم
[12] للاطلاع على دراسة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، انظر كتاب" الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس " لبارت إرمان ، ص 146 – 150 .


نهاية الفصـــل الخامس ولله الحمد

نور الإسلام
05-02-2012, 11:34 AM
"تحريف النصوص لدوافع لاهوتية"

يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من مجرد تحديد النص الأصلي . فهو يعمل أيضًا على رصد الكيفية التي تمَّ من خلالها تعديل النص عبر الزمن سواء بسبب هفوات النساخ أو تحريفهم المقصود لها .هذا النوع الأخير،أي التغييرات العمدية، مهمٌّ للغاية، لا لأنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان المؤلِّفون الأصليون يحاولون قوله ،بل أيضًا لأنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا عن الكيفية التي كان النساخ ،الذين أعادوا إنتاج النصوص، يفسِّرون بها النصوص التي كتبها المؤلفون. ومن خلال رصد الكيفية التي حرَّفوا من خلالها النصوص التي بين أيديهم ،يمكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤلاء النساخ يظنونه مُهِمَّا في النص،وهكذا يمكننا أن نتعلم الكثير فيما يتعلق بتاريخ النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عبر القرون .
الفرضية التي ينبني عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد الجديد في بعض الأحيان كانت تتعرض للتحوير لأسباب لاهوتية . هذا كان يحدث كلَّما كان النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيين بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات لاهوتية اشتعلت في العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ . ولكي نفهم هذا النوع من التغيير،يلزمنا أن نستوعب بعض المفاهيم عن النزاعات اللاهوتية في القرون المبكرة للمسيحية قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "المحترفين " ـ وهي القرون التي حدثت فيها غالبية تحريفات الكتاب المقدس.



السياق اللاهوتي لتحريف النصوص

نملك معلومات كثيرة عن المسيحية خلال القرنين الثاني والثالث - وهو العصر الذي يقع ، فلنقُلْ ،بين اكتمال كتابة أسفار العهد الجديد و تحوُّل الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى الإيمان، الذي،كما رأينا،غيَّر كل شئ (1) . هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيين بالتنوُّع اللاهوتيِّ بين المسيحيين الأوائل. في الواقع ، كان التنوُّع اللاهوتيُّ واسعًا جدًا إلى الدرجة التي جعلت مجموعات أطلقت على نفسها اسم المسيحيين يعتنقون المعتقدات والممارسات التي يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (2) . في القرنين الثاني والثالث كان ثمَّة مسيحيون يؤمنون بأنه لا إله إلا إلهٌ واحدٌ خلق كلَّ شئ. أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم المسيحيين أصرُّوا على أن للكون إلهين اثنين متمايزين - إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد الجديد ( إله المحبة و الرحمة). هاذان لم يكونا وجهين مختلفين للإله نفسه: بل كانا في الواقع إلهين مختلفين تمامًا. من المدهش أن المجموعات التي تفوهت بهذه المزاعم - بما في ذلك أتباع مرقيون ، الذين تعرفنا عليهم من قبل،أصرَّت على أن رؤاها كانت هي التعاليم الحقة التي نادى بها يسوع وتلاميذه. مجموعات أخرى ، من المسيحيين الغنوصيين على سبيل المثال، أصرُّوا على أنه لم يكن ثمة إلهين اثنين فحسب، بل اثنا عشر إلها. وآخرون قالوا: بل ثلاثون إلهًا . و آخرون استمروا في القول أن الآلهة 365 إلهًا . كل هذه المجموعات زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى الحقة و أن يسوع وتلاميذه بشروا بها. لماذا بكل بساطة لم تقرأ هذه المجموعات الأخرى عهدها الجديد ليروا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا لأنه لم يكن ثمة عهدٌ جديدٌ. وللتدليل على ذلك ، كلُّ كتب العهد الجديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا الوقت ، ولكن كان ثمة كثيرٌ من الكتب الأخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُتِبَتْ بأقلام تلاميذ يسوع نفسه - منها الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى أخرى كانت تحوي وجهات نظر أخرى تختلف أشدُّ الاختلاف عن تلك الموجودة في الكتب التي حدث في النهاية وأن أصبحت تُعْرَفُ بالعهد الجديد. العهد الجديد نفسه ظهر نتيجة لهذه الصراعات حول العقيدة في الله ( أو الآلهة) حيث اكتسبت مجموعة من مجموعات المؤمنين متحوِّلين إلى الإيمان أكثرَ مما اكتسبته المجموعاتُ الأخرى وحدَّدت الكتب التي ينبغي أن تتضمنها القائمة الرسمية للكتاب المقدس. في القرنين الثاني والثالث ،رغم ذلك،لم يكن ثمة قائمة رسمية ولا عقيدة لاهوتية متفق عليهما . بدلا من ذلك ، كان هناك تنوعٌ كبيرٌ :مجموعات متنوعة تؤكد على عقائد لاهوتية متنوعة مبنية على نصوص مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُتِبَ بأقلام تلاميذ يسوع .
بعض من هذه المجموعات المسيحية أصرَّت على أن الله قد خلق هذا العالم ؛ آخرون رأوا أن الإله الحق لم يخلق العالم (الذي هو،في النهاية،مكان شرير)، لكنَّ العالم نتج عن كارثة كونية . بعضٌ من هذه المجموعات أصرَّ على أن الكتب المقدسة اليهودية أوحاها الإلهُ الواحدُ الحقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب المقدسة اليهودية تنتمي إلى إلهِ اليهودِ الأقلِّ شأنًا الذي لم يكن هو نفسه الإله الواحد الحق. بعض هذه المجموعات أصرَّت على أن يسوع المسيح كان الابن الوحيد للإله و أنَّه كان إنسانًا كاملا وإلهًا كاملا ؛ مجموعات أخرى أصرَّت على أن المسيح كان إنسانًا تامًّا ولم يكن إلهًا على الإطلاق ؛ آخرون ادعوا أنه كان إلهًا كاملا ولم يكن إنسانًا على الإطلاق؛ وأكد البعض الآخر أن يسوع المسيح كان الشيئين كليهما : كائنًا إلهيًّا ( المسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع). بعض هذه المجموعات آمنت بأن موت المسيح حدث لأجل خلاص العالم؛ بينما أكد الآخرون أن موت المسيح لم يكن له أيَّ علاقة بخلاص العالم؛ في حين أصرَّت مجموعات أخرى على أن المسيح لم يَمُتْ أبدًا في الحقيقة .كل واحدة من وجهات النظر هذه - ووجهات نظر أخرى بالإضافة إليها - كانت محلًّا لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون الأولى من عمر الكنيسة حيث كان المسيحيون من مختلف المعتقدات يحاولون إقناع الآخرين بصحة مزاعمهم . مجموعةٌ واحدةٌ في النهاية "خرجت منتصرة" من هذه المناظرات. إنها تلك المجموعة التي قررت ما ستكون عليه العقائد المسيحية : الاعتقادات التي ستؤكد أنه ليس ثمة إلا إله واحد ، هو الخالق ، ويسوع ابنه هو الإنسان و الإله كلاهما ؛ وأنَّ الخلاص تمَّ بالموت والقيامة . وهي أيضًا تلك المجموعة التي قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرسميَّة للكتاب المقدس. لقد اتفق معظمُ المسيحيِّين ،قريبًا من نهاية القرن الرابع،على أن الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال ورسائل بولس وكذلك مجموعة أخرى من الرسائل مثل رسالتي يوحنا الأولى وبطرس الأولى ،إلى جانب رؤيا يوحنا، هم جزء من القائمة الرسمية . ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم المسيحيون من أعضاء الرعويات نفسها ،أي المسيحيون الذين كانوا على وعي تامٍّ بـالمناظرات التي دارت حول شخص الإله وحول منزلة الكتب المقدسة اليهودية وطبيعة المسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركين فيها. إنها المجموعة التي نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( التي تعني أنهم يؤمنون بما يعتبرونه هم " الاعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به الأجيال المسيحية التالية وما ستقرأه على اعتبار أنَّه الكتاب المقدس . إذن ما الاسم الذي ينبغي أن نطلقه على وجهات النظر "الأرثوذكسية" في الفترة التي سبقت تحولها إلى الرأي الغالب عند كل المسيحيين ؟ ربما من الأفضل أن نسميها "ماقبل الأرثوذكسية" (proto-orthodox). ما يعني أنها تمثل وجهات نظر المسيحيين " الأرثوذكس" قبل أن ينتصروا في النزاعات التي وقعت في وقتٍ قريبٍ من بواكير القرن الرابع الميلاديّ.
هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم المقدسة ؟ في هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت. ولبيان هذه المسألة،سأقتصر على قضية طبيعة المسيح التي تمثِّلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات اللاهوتية المتواصلة خلال القرنين الثاني والثالث. هل كان المسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إلهًا ؟ أم كان الاثنين كليهما ؟ ولو كان هو الاثنين كليهما، فهل كان كائنين منفصلين أحدهما بشريٌّ والآخر إلهيٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإلهيًّا في الوقت ذاته ؟
هذه هي الأسئلة التي تمَّت الإجابة عنها في نهاية الأمر عبر العقائد التي صيغت ثمَّ استمر تناقلها إلى أن وصلتنا في عصرنا الحالي،إنها العقائد التي تنصُّ على أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ المسيح " الذي كان إلهًا كاملا وإنسانًا كاملا. قبل أن تصدر هذه القرارات ،كان ثمَّة اختلافات واسعة وكان لهذه الاختلافات تأثيرها على نصوص كتابنا المقدس (3) .ولتوضيح هذا الأمر سأدرس ثلاثة مواضع للنزاع حول طبيعة المسيح وسأرصد الطرق التي غيَّر من خلالها نسَّاخٌ حسني النية(لا شك في ذلك) نصوص الكتب التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد. لقد حرَّفوا النصوص التي لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم اللاهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر اللاهوتية التي يعتنقها خصومهم . أول المواضع التي سأتناولها بالبحث تتعلق بزعم بعض المسيحيين أن يسوعَ كان إنسانًا كاملا لدرجة لا يمكن معها أن يكون إلهًا . و تلك كانت وجهة نظر مجموعة من المسيحيين يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويين (adoptionists). وجهة نظري التي أجادل لإثباتها هي أن النسَّاخ المسيحيين الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل نصوصهم في بعض المواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع لم يكن إنسانًا فحسب وإنما كان إلهًا أيضًا. يمكننا أن نسمي هذه التعديلات تحريفات الكتاب المقدس المضادة للتبنَّويين.


تحريفات النص المضادة للتبنَّويين
المسيحيون التبنِّيّون الأوائل

عددٌ من المجموعات المسيحية في القرنين الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان لها وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق بالمسيح . وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية لأنَّ المؤمنين بها أكدُّوا أن يسوع لم يكن من جوهرٍإلهيٍّ وإنما هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ من لحمٍ ودمٍ " تبنّاه" الله لكي يصير ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء لحظة عماده (4) . أحدًُ أشهرِ المجموعات المسيحية المبكرة التي اعتنقت عقائد تبنَّوية حول المسيح كانت طائفة من اليهود المتنصرين عرفت باسم الأبيونيين .
لسنا على يقين من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا الاسم . فمن المحتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من الاسم العبري إبيون (Ebyon)الذي يعني " فقير". أتباع يسوع هؤلاء من المحتمل أنَّهم تأسَّوا بتلاميذ يسوع الأوائل في التخلِّي عن كلِّ شئٍ يملكونه في سبيل إيمانهم وهكذا فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل الآخرين .
مهما يكن مصدر الاسم الذي حملوه فقد ذُكِرَت آراء هذه المجموعة بوضوح في سجلاتنا المبكرة،خاصة تلك التي كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم هراطقة. أتباع يسوع هؤلاء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن الإنسان "لكي يصير تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان يميِّزُهم عن المسيحيين الآخرين. فكون الإنسان يهوديًّا يعني بالنسبة للرجال أن يختتنوا. وبالنسبة للرجال والنساء،كان ذلك يعني اتِّباع الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى بما في ذلك أحكام الطعام الكوشير (الحلال) وحفظ السبت و الأعياد اليهوديَّة .
لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو،على وجه الخصوص، ما فرَّق بين هؤلاء المسيحيين وبين الآخرين. لأنَّه وحيث إنهم كانوا موحِّدين شديديِّ الالتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو المستحق لأن يكون إلهًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع لم يكن إلهًا،بل كائنًا بشريًّا لا يختلف في "الطبيعة" عن بقيتنا. فهو قد وُلِِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بين أبويه يوسف ومريم ووُلِد مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه لم تكن عذراءً) وتربّى ،من ثمَّ، في بيت يهوديٍّ. أمَّا ما جعل يسوع مختلفًا عن الآخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا في اتِّباعه للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه الله لكي يصير ابنه في لحظة العماد حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ الله . من تلك اللحظة فصاعدًا ،شعر يسوع أنه مدعوٌّ لإكمال المهمة التي كان الله قد أوكلها إليه ـ الموتُ على الصليب كأضحيةٍ كريمة من أجل خطايا الآخرين .
فعل ذلك بطاعة مخلصة تجاه ما دُعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته يسوع من بين الأموات ورفعه إلى السماء حيث ينتظر إلى الآن قبل عودته لدينونة الأرض .
وبحسب الأبيونيين،لم يكن ليسوع،إذن،وجود قبل الزمان؛ وهو لم يُولَد من عذراء ؛ولم يكن إلهًا. كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره الله وأولاه علاقة خاصة معه .
ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ،مسيحيو ما قبل الأرثوذوكسية أصرّوا على أن يسوع لم يكن إنسانًا " فحسب" ، وإنما كان بالفعل من جوهرٍ إلهيّ، بل كان هو الله نفسه من بعض الوجوه. فلقد وُلِدَ من عذراء،وكان أكثرَ برًّا من أيِّ إنسانٍ آخرَ بحكم جوهره المختلف، وفي لحظة عماده لم يعلنه الله ابنا ( عبر التبنّي ) وإنما أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ الأزل .
كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب المقدَّس التي كانت منتشرة خلال القرنين الثاني والثالث ، التي هي تلك النصوص كانت في طور النّسْخ من خلال نُسَّاخٍ غير محترفين كانوا هم أنفسهم متورطين إن بصورة أكبر أو أقل في تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ،بل تكاد تكون منعدمة،من القراءات المتباينة التي يبدو أنها كتبت عبر نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية . سبب هذه الندرة في الأدلة لا ينبغي أن يصيبنا بالدهشة . فلو حدث أن أحد المسيحيين التبنَّويين كان قد أدخل وجهات نظره إلى نصوص الكتاب المقدس ،فبالتأكيد سيجد من يصحِّحُها من بين النسَّاخِ المتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر أرثوذكسية. ما وجدناه بالفعل،مع ذلك،هي نماذج تعرَّضت فيها النصوص للتحريف على نحوٍ يبدو وكأنه قد حدث لمواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق بطبيعة المسيح . هذه التغييرات تؤكِّد أن المسيح مولودٌ من عذراء وأنه لم يُتَبَنَّ أثناء العماد بل هو نفسه كان إلهًا .

تحريفات النص المضادة للتبنَّويين

لقد رأينا بالفعل من قبل تغييرا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة المسيح وذلك عند نقاشنا في الفصل الرابع للأبحاث النصّية الخاصة بـ ( ج.ج فيتشتاين ). قام فيتشتاين بفحص المخطوطة السكندرية ، المحفوظة الآن في المكتبة البريطانية وتوصل إلى أنَّه في 1 تيموثي 3 : 16 ،بينما تتحدث معظم المخطوطات المتأخرة عن المسيح على اعتبار أنَّه " الله ظهر في الجسد "، تتحدث هذه المخطوطة الأكثر قِِدَمًا في الأصل ،بدلا من ذلك، عن المسيح "الذي أُظْهِرَ في الجسد " (who was made manifest in the flesh) .الاختلاف دقيق جدا في اللغة اليونانية ـ فهي فرق بين حرف "ثيتا" وحرف "أوميكرون" المتشابهين كثيرًا. أحد النسَّاخُ المتأخرين أدخل تغييرًا إلى القراءة الأصلية حتى لا تعود تُقرأ " الذي" وإنما لتقرأ " الله " ( ظهر في الجسد ). أو فلنقلها بكلمات أخرى،هذا المصحّح المتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي يؤكِّد على ألوهية المسيح. من المدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع في أربعٍ من مخطوطاتنا الأخرى الأكثر قدمًا التي تخص 1 تيموثي ، في جميع هذه المخطوطات كان ثمة مصحِّحُون يغيرون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى المسيح الآن " إلها" على نحوٍ واضحٍ. هذا النص أصبح هو النص المفضل لدى الأغلبية الساحقة من المخطوطات البيزنطية (أي المنتمية للعصور الوسطى ) - وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الترجمات المسيحيَّة القديمة . مخطوطاتنا الأقدم والأفضل،مع ذلك،تتحدث عن المسيح "الذي" أُظْهِرَ في الجسد بدون أن تدعو يسوع إلهًا وذلك بشكل شديد الوضوح. هذا التغيير الذي حدث وأن تسيَّد المخطوطات المكتوبة في العصور الوسطى،إذن، صُنِعَ صُنْعًا لكي يؤكِّد ألوهية يسوع في نصٍّ كان يتَّسم بالغموض،في أحسن الظروف، بشأنها. هذا سيصبح مثالا على التحريف المضاد للآراء التبنوية وتحريفًا نصيّا أُحدِثَ لكي يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كاملا و لم يكن من جوهرٍ إلهيّ.
تغييراتٌ أخرى مضادة للآراء التبنويّة وقعت في المخطوطات التي تؤرِّخُ لحياة يسوع المبكرة في إنجيل لوقا. ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم اصطحبا يسوع إلى الهيكل وباركه رجل الله سمعان ، " وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا 2 : 33 ). أبوه ؟!! كيف يجرؤ النص أن يدعو يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن يغيِّر عددٌ كبيرٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا الإشكالية المحتملة وذلك عبر قولهم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ ..." فالآن لا يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل .
ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من الأعداد في قصة يسوع ذي الاثنى عشر ربيعًا في الهيكل . للقصة خطٌّ مألوف: يوسف ومريم ويسوع يحضرون احتفالا في أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إلى بيتهم مع القافلة يتخلَّف يسوع بغير علمهم . كما يقول النص ،" أبواه لم يكونا يعلمان عن ذلك ." لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه في الوقت الذي لم يكن يوسف أبًا ليسوع في الحقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" المشكلة عبر جعلها النص يُقرأ كالتالي،" وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا". مثالٌ آخرُ نستقيه من بعض الأعداد التالية، فبعد أن عادوا إلى أورشليم للبحث عن يسوع في كلِّ مكانٍ، تجده مريم بعد ثلاثة أيام في الهيكل. فإذا بها توبخه قائلة :" أنا وأبوك كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى،قام بعض النسّاخ بحل المشكلة - هذه المرة عبر تحريف النص ببساطة لكي يُقرأ :"كنا نبحث عنك !"
أحدُ أكثرِ القراءات المتباينة المضادة للآراء التبنّوية طرافة بين مخطوطاتنا تحدث تمامًا حيث يتوقع المرء وجودها، ففي الرواية الخاصة بعماد يسوع على يدي يوحنا،أي في اللحظة ذاتها التي أصرَّ كثيرٌ من التبنَّويين على أن يسوع اختير فيها من قِبَل الله لكي يصبح ابنَه المتبنَّى. ففي إنجيل لوقا ،كما في مرقس،عندما كان يسوع يتمُّ تعميدُه ،انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع في شكل حمامة وجاء صوت من السماء . لكنّ مخطوطاتِ إنجيلِ لوقا منقسمة بشأن ما قاله الصوت على وجه التحديد. وفقًا لمعظم مخطوطاتنا، نجدها تنطق الكلمات نفسها التي يجدها المرء في إنجيل مرقس :" أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ! " (مرقس 1 : 11 ؛ لوقا 3:23).
في مخطوطة يونانية مُمْعنةٌ في القِدَمِ وفي العديد من المخطوطات اللاتينية يقول الصوت شيئًا مختلفًَا بصورة صادمة :" أنت ابني ،أنا اليوم ولدتُك."
اليوم! ولدتُك! ألا يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه يسوع ابنًا لله ؟ ألا يمكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية صيرورة المسيح ابنا لله في هذا اليوم ؟
وبما أن هذه القراءة المتباينة تتسم بمثل هذه الطرافة،ربما من المستحسن أن نعيرَها بعض الانتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة المشكلات التي يواجهها النقاد النصِّيون.
القضية الأولى التي ينبغي حلها هي : أيُّ هذين الشكلين من النص هو الشكل الأصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من المخطوطات اليونانية تدعم القراءة الأولى "أنت ابني الحبيب الذي به سررت"؛ وهكذا ربما تغوي هذه الحقيقة المرء لكي ينظر إلى القراءة الأخرى باعتبارها تحريفًا . المشكلة في هذه الحالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثير من آباء الكنيسة الأوَّلون في وقت لم تكن فيه معظم مخطوطاتنا قد كتبت بعد . فالنص يتمُّ اقتباسه في القرنين الثاني والثالث في كل مكان من روما إلى الإسكندرية ومن شمال أفريقيا وفلسطين إلى بلاد الغال (فرنسا)وأسبانيا. وفي كل الحالات تقريبًا ، كان الشكل الثاني من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك ").
أضف إلى ذلك أن هذا هو شكل النص الذي لا يشبه كثيرًا ما هو موجود في الفقرة الموازية في مرقس. يحاول النساخ بصورة نمطيّة ،كما رأينا ،أن يوفِّقوا بين النصوص بدلا من أن يتركوها متنافرة . لذا فشكل النص الذي يختلف عن مرقس هو الذي من المحتمل أكثر أن يكون النص الأصليَّ في لوقا. هذه الافتراضات ترجح أن القراءة الأقل ورودا في المخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ هي بالفعل القراءة الأصلية وأنها تعرضت للتحريف عبر نسَّاخٍ خشوا من صداها التبنَّويّ . بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر المخالفة عبر التذرُّع بأنَّ الصوت أثناء العماد لدى لوقا لا يمكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " لأنه من الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن الله . فها هو الملاك جبريل يعلن قبل ميلاد يسوع ،في لوقا 1 : 35،لأمِّ يسوع أن " اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. "
حسب وجهة نظر لوقا نفسه،بكلماتٍ أخرى،كان يسوع بالفعل ابنًا لله عند ولادته. فلا يمكن أن يقال عن يسوع ،وفقًا لهذه الحُجة، إنَّه أصبح ابنًا لله في أثناء عماده- ولذلك فالقراءة الأكثر ذكرا في المخطوطات ،" أنت ابني الحبيب الذي به سررت،" من المحتمل أن تكون هي القراءة الأصلية. الصعوبة التي يواجهها هذا النمط من التفكير ـ برغم مظهره المقنع للوهلة الأولى ـ أنَّه يتجاهل الكيفية التي يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام في ثنايا كتابه ( بما في ذلك كتابه الثاني سفر الأعمال وليس فقط الإنجيل ). تأمَّل،على سبيل المثال، ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " المسيح"( التي هي الكلمة العبرية المقابلة للمصطلح اليوناني كرايست). فوفقًًا للوقا 2 : 11،ولد يسوع كمسيح، لكنَّه في واحدة من العبارات الواردة في سفر الأعمال، يقال عنه إنَّه صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال 10 : 37 – 38 )؛ وفي فقرة أخرى يصرح لوقا بأنَّ يسوع أصبح المسيح عند قيامته من الأموات ( أعمال 2 : 38 ). كيف يمكن أن تكون كل هذه الأمور صحيحة مجتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على اللحظات الهامة في حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو الأمر الأهم والذي ينبغي التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره المسيح على سبيل المثال). الأمر ذاته ينطبق على المفهوم اللوقاوي عن المسيح باعتباره " الرب" (Lord). فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد في لوقا 2 : 11 ؛وأطلق عليه لقب"الرب" أثناء حياته في لوقا 10 : 1 ؛ لكنَّ سفر الأعمال 2 : 38 يشير إلى أنه أصبح ربًّا عند قيامته . من وجهة نظر لوقا، شخصية يسوع باعتباره الرب وابن الله هي الأمر ذو الأهمية . لكنَّ وقت حدوث ذلك،من الواضح،أنه ليس كذلك. فيسوع هو كل هذه الأشياء عند لحظات حياته الحاسمة ـ الميلاد ، العماد ، القيامة ، مثلا.
يبدو ، من ثمّ، أنه في رواية لوقا عن عماد يسوع في الأصل،أتى الصوت من السماء ليعلن" أنت ابني ، أنا اليوم ولدتُك ". من المحتمل أن لوقا لم يكن يقصد أن يتم تفسير هذا العدد بما يخدم وجهة النظر التبنَّويّة،حيث إنه،في النهاية، كان بالفعل قد حكى قصة ميلاد يسوع من عذراء ( في الفصلين 1 – 2 ). لكنَّ المسيحيين المتأخِّرين عند قراءتهم للعدد 3 : 22 من إنجيل لوقا ربما قد أدهشهم مضمونها المحتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسير التبنّوي.
ولكي يمنعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو، بعضُ نسَّاخ ما قبل الأرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي يجعلوه متطابقًا تمامًا مع النص 1 : 1 من إنجيل مرقس. الآن، وبدلا من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من الله، قيل عنه ما يؤكِّد أنَّه:"أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ". وهذا ، بكلمات أخرى، تغييرٌ آخر للنص وقع لدوافع مضادة للأفكار التبنّويّة .
سوف نختم هذا الجزء من نقاشنا بالنظر إلى تحريف آخر على الشاكلة ذاتها . هذا التغيير،مثلما هو الحال مع 1 تيموثي 3 : 16،يتعلق بنص قام فيه الناسخ بإحداث تحريف لكي يؤكِّدَ بعبارات قوية للغاية أن إيماننا بيسوع ينبغي أن يكون باعتباره الله بكل ما في الكلمة من معنى . يقع هذا النص في إنجيل يوحنا الذي هو الإنجيل الذي يتميز عن غيره من الأسفار التي نجحت في أن تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد الجديد في أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبيرًا تجاه تحديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إلهيًّا( انظر على سبيل المثال ، يوحنا 8 : 58 ؛ 10 :30 ؛ 20 : 28 ). تحديد الهويّة هذا قد حدث على نحوٍ مدهشٍ للغاية في فقرة كان نصُّها الأصليّ مَحِلا لنزاع ساخن . الأعداد الثمانية الأولى من إنجيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة الإنجيل (Prologue). يوحنا هنا يتحدث عن" كلمة الله "الذي كان" في البدء عند الله" والذي "كان هو الله " ( الأعداد 1- 3 ).كلمة الله هذه خلقت كلَّ شئٍ موجود. فوق ذلك، هي وسيلة الله في الاتصال بالعالم ؛ فالكلمة هي الطريقة التي بها أظهر الله نفسه للآخرين . ويقال لنا إنَّه في لحظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ." بطريقة أخرى، كلمة الله أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد 14 ). هذا الكائن البشريُّ كان هو" يسوع المسيح "(عدد 17 ). وفقًا لهذا الفهم للأمور ،فإن يسوع المسيح يمثّل " تجسُّد " كلمة الله ، الذي كان مع الله في البدء وكان هو نفسه الله،والذي من خلاله خلق الله كلَّ الأشياء . ثمَّ تنتهي المقدمة ببعض الكلمات المفاجئة ، التي تأتي في أشكال متنوعة :" اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. "
المشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد". هل ينبغي تحديده باعتباره "الإله الوحيد الذي هو في حضن الآب " أم باعتباره " الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب "
يجب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة الأولى هي القراءة التي وجدت في أقدم المخطوطات والأفضل بوجه عام - وهي التي تنتمي إلى العائلة النصّيّة السكندرية. إلا أن الأمر المدهش هو أنه نادرًا ما نجدها في مخطوطات ليست لها صلة بالإسكندريّة . هل من الممكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة أحدثها ناسخٌ في الإسكندرية ثمّ تمَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك،فهذا سيفسِّرُ السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من المخطوطات من كل الأماكن الأخرى القراءة الثانية التي جاء فيها أن يسوع لم يُدْعَ الإله الوحيد (unique God) ، وإنما الابن الوحيد .هناك أسبابٌ أخرى تجعلنا نعتقد أن القراءة الأخيرة هي،في حقيقة الأمر،القراءة الصحيحة. وذلك لأنَّ إنجيل يوحنا يستخدم عبارة "الابن الوحيد" ( أحيانا تترجم بطريقة خاطئة كـ" الابن الوحيد المولود only begotten Son " ) في مناسبات أخرى عديدة ( انظر يوحنا 3 : 16 ، 18 )؛ ولم يذكر في أيِّ مكان آخر أن المسيح هو " الإله الوحيد ". فوق ذلك ، ماهو المقصود من إطلاق (الإله الوحيد)على المسيح ؟ كلمة وحيد unique باليونانية تعني " الفريد من نوعه." من يكون وحيدًا من نوعه لابد أنه واحدٌ فقط. أمَّا مصطلح الإله الوحيد لابد وأنه يشير إلى الله الآب نفسه ـ وإلا فهو ليس فريدًا من نوعه. لكنَّ التعبير لو كان يشير إلى الآب ، فكيف يتم استخدامه للدلالة على الابن؟
لو سلمنا بأنَّ عبارة إنجيل يوحنا "الابن الوحيد" هي الأكثر شيوعًا (وقابلية للفهم )، فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي التي كان عليها النصُّ المكتوب في يوحنا 1 : 18 في شكله الأصليّ . هذا النص بحد ذاته ما يزال يمثل رؤية أكثر تمجيدًا للمسيح ـ فهو"الابن الوحيد الذي في حضن الآب." وهو الشخص الذي يجعل الله ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ .
يبدو ، مع ذلك ، أنَّ بعض النسّاخ - من المحتمل أنَّ الإسكندرية كانت موطنهم - لم يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية الممجِّدة للمسيح ،ولذلك جعلوها أكثر تمجيدًا عن ذي قبل وذلك عبر تحريف النص . الآن المسيح ليس ابن الله الوحيد فحسب،بل هو الإله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو،حينئذ، تغييرًا للنص لأسباب مضادة للآراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل الأرثوذكسية في القرن الثاني.


تحريفات النص المضادة للآراء الظهورية

*الظهوريون المسيحيون الأوائل

في الطرف المقابل للخط اللاهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة والمتمثل في الأبيونيين ومعتقداتهم التبنَّويَّة في المسيح،كانت تقف مجموعات من المسيحيين عرفوا باسم الظهوريين (5) .أصل هذا الاسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية (DOKEO) ،التي تعني " ظهور" أو "ترائي". كان الظهوريون يعتقدون أن يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا كاملا من لحمٍ ودمٍ . بل كان بدلا من ذلك إلهيا تمامًا ( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن بشريٍّ ،أو بدى وكأنه يشعر بالجوع والعطش و الألم ، وبدى وكأنه ينزف ويموت. وحيث أن يسوعَ كان هو الله ، فلا يسعه أن يكون إنسانًا على الحقيقة. وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إلى الأرض في "مظهر" بشريٍّ من لحمٍ ودم.
ربما كان الفيلسوف المُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون الأولى للمسيحية. لدينا كمٌّ كبير من المعلومات حول مرقيون لأن آباء الكنيسة في عصر ما قبل الأرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تيرتوليانوس اعتبروا آراءه تهديدًا حقيقيًّا ولذا كتبوا عنها بكثافة. وما يزال لدينا كتابٌ من خمس مجلدات كتبه "تيرتليانوس" يسمى ضد مرقيون تحدث فيه بالتفصيل عن مفهوم الإيمان عند مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه . ومن هذه المقالة الجدالية يمكننا أن نستقي الخصائص الرئيسية لأفكاره.
كما رأينا (6) ، يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان يعتبره التلميذ الحقيقيَّ الوحيد ليسوع . في بعض رسائله يفرِّق بولس بين الناموس (الشريعة) والإنجيل مؤكِّدًا أنَّ الإنسان سيتبرَّر أمام الله عبر الإيمان بالمسيح (أي الإنجيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي. بالنسبة لمرقيون هذا الاختلاف بين إنجيل المسيح وشريعة موسى كان اختلافًا جذريًّا إلى درجة أن الإله الذي أعطى الشريعة لا يمكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا الخلاص في المسيح .
لقد كانا،بطريقة أخرى ،إلهين اثنين مختلفين . فإله العهد القديم هو الذي خلق العالم واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته المتوحشة . وهو،عندما ينقضون شريعته ( كما فعلوا جميعا )،يعاقبهم بالموت . أما يسوع فقد جاء من قِبَل الإله الأعظم ،أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود . وحيث إنه لا ينتمي لهذا الإله الآخر الذي خلق العالم المادِّيّ، لم يكن يسوع نفسه جزءًا من هذا العالم المادي. هذا يعني،من ثمّ،أنه لا يمكن أن يكون قد وُلِد في الحقيقة ،وأنه لم يكن له جسدٌ ماديٌّ ،ولم يكن بوسعه النزيف حقيقةً وهذا يعني أنه في حقيقة الأمر لم يمت . كل هذه الأشياء كانت أمرًا ظهوريًّا. لكنَّ يسوع حين "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة في الظاهر- قَبِِل ربُّ اليهود هذا الموت كثمن لمغفرة الخطايا. وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا الإله.
مؤلفوا ماقبل الأرثوذكسيّة مثل ترتليانوس حملوا بشدة على هذه العقيدة اللاهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو لم يكن المسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ،فلن يكون بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية الأخرى،وأنَّه لو لم ينزف دماءًا على الحقيقة ، فإنَّ دمه لا يمكن أن يجلبَ الخلاصَ وأنَّه لو لم يمت حقيقةً ،فموته " الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص . لقد اتخذ ترتليانوس والآخرون، إذن، موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ في حين أنه ما يزال كائنًا إلهيًّا (على الرغم ممَّا قاله الأبيونيون و التبنَّويون الآخرون ) - كان مع ذلك إنسانًا كاملا. كان إنسانًا من لحم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور بالآلام والنزف حقيقةً ، وقد أُقيم حقًا ببدنه من بين الأموات ؛ وارتفع بالبدن على الحقيقة إلى السماء حيث ما يزال في انتظار العودة بالبدن مكلَّلا بالمجد .
تحريفات النص المضادة للدوسيطيين(الظهوريين)
الصراع حول العقائد الظهورية المتعلقة بالمسيح كان له تأثيرٌ على النسَّاخ الذين كانوا يقومون بنسخ الكتب التي أصبحت في النهاية هي العهد الجديد. لكي أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة في الفصول الأخيرة من إنجيل لوقا الذي ،كما رأينا، كان الإنجيل الوحيد الذي قبله مرقيون باعتباره الكتاب المقدس الرسمي (7) .
أولى القراءت الأربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا في الفصل الخامس ـ ألا وهي الرواية الخاصة بـ"دماء يسوع التي على هيئة عَرَق ". وكما رأينا هناك ،من المحتمل أن الأعداد محل الدراسة لم تكن أصلية في إنجيل لوقا . وتذكَّرْ أن هذه الفقرة تصف الحوادث التي وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك تلاميذه ليختلي بنفسه للصلاة داعيا الله أن يجيز عنه كأس آلامه مع الدعاء بأن " تتم مشيئة الله ". ثمّ نقرأ، في بعض المخطوطات،الأعداد المتنازع عليها : " وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ." ( الأعداد 43 – 44 ).
أنا جادلت في الفصل 5 لإثبات أن الأعداد 43 -44 تمزق بناء هذه الفقرة الموجودة في إنجيل لوقا،التي هي بطريقة أخرى قلب لترتيب الكلمات في جملتين متوازيتين * chiasmus تشد الانتباه إلى صلاة يسوع بخصوص مشيئة الله التي ينبغي أن تتمَّ .
أفترض أيضًا أن هذه الأعداد تتضمن عقيدة لاهوتية تختلف تمامًا عن الأخرى الموجودة في رواية لوقا عن الآلام . في كل مكان آخر ، كان يسوع هادئًا ومحافظًا على رباطة جأشه. لقد خرج لوقا،في الحقيقة ،عن مساره في التخلص من أي إشارة إلى جزع يسوع في روايته . هذه الأعداد ، من ثمَّ ،ليس لها وجود في أهم وأقدم الشواهد فحسب ، بل إنها أيضًا تسير عكس تيار الصورة الأخرى الموجودة في إنجيل لوقا عن مواجهة يسوع لموته . رغم ذلك ،يبقى السؤال مطروحًا : لماذا أضاف النسَّاخ هذه الأعداد إلى الرواية ؟ نحن الآن في موقع يسمح لنا بالإجابة عن ذلك السؤال. من الجدير بالملاحظة أن هذه الأعداد أُشيرَ إليها لمرات ثلاث من خلال مؤلفي ماقبل الأرثوذكسية في منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بلاد الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إلى روما ) )؛ الأمر الذي لا يزال مثيرًا للكثير من التعجُّب هو أن هذه الأعداد كلما تُذكر في أيِّ موضعٍ،يحدث ذلك في معرض مقاومة وجهة النظر الخاصة بكون يسوع لم يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا. أو فلنقلها بكلمات أخرى،الجزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا لهذه الأعداد كان الهدف منها إظهار أنه كان في الحقيقة إنسانًا وأنه كان قابلا للمعاناة مثلنا جميعا. لذلك جوستينوس ،على سبيل المثال، الذي هو أحد علماء اللاهوت الدفاعي من المسيحيين الأوائل يزعم ،بعد ملاحظته أن " عَرَقُهُ َصَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَمَا ٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر" أن الآب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه الآلام من أجلنا ،" حتى" لا نقول إنه ،لأنه كان ابنا لله، لم يشعر بما كان يحدث له ولا بما تكبّده (8)."
لنقلها بطريقة أخرى،جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فهموا أن هذه الأعداد أظهرت في شكل نابض بالحياة أن يسوع لم "يظهر" فحسب أنه إنسان : بل لقد كان بالفعل إنسانًا في كل شئ . يبدو من المحتمل،إذن،وحيث أن هذه الأعداد ،كما رأينا،لم تكن جزءا أصليًّا في إنجيل لوقا، أنَّها أضيفت لأغراض مضادة للدوسيطيين(الظهوريين)،لأنها ترسم صورة واضحة تمامًا لبشرية يسوع الحقيقية.
من وجهة نظر مسيحيي ما قبل الأرثوذكسيّة ، كان من الأهمية بمكان تأكيد المسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من لحمٍ ودمٍ لأنَّ لحمه المذبوح و دمه المسفوك هما تحديدًا الذان جلبا لنا الخلاص - ليس في الظاهر وإنَّما في الحقيقة .
قراءة نصيّة متباينة أخرى في رواية لوقا للساعات الأخيرة من حياة يسوع تؤكد هذه الحقيقة . يحدث ذلك في رواية عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه . في واحدة من أقدم مخطوطاتنا اليونانية ، وكذلك في العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال لنا :
وبعد أن أخذ كأسًا ، وشكر ، قال ، " خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ، لأنني أقول لكم إنني لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من الآن فصاعدًا ، حتى يأتي ملكوتُ الله." ثم أخذ خبزا ، وشكر ،وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ، قائلا ," هذا جسدي . لكن انظروا، يد ذلك الشخص الذي سيخونني هي معي على هذه المنضدة . ( لوقا 22 : 17 -19 )
في غالبية مخطوطاتنا ، مع ذلك ، هناك إضافة إلى هذا النص ، وهي تلك الإضافة التي ستبدو مألوفة لكثير من قراء الكتاب المقدس الإنجليزي ، حيث وجدت طريقها إلى معظم الترجمات الحديثة . فبعد أن يقول يسوع " هذا جسدي ،" يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ."
هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا المعروفة أيضًا في شكل شديد الشبه في الرسالة الأولى إلى الكورينثيين (1 كور 11 : 23 – 25 ). على الرغم من حقيقة أن هذه الأعداد مألوفة،هناك أسباب مقنعة تدفعنا للاعتقاد بأنَِّ هذه الأعداد لم تكن في الأصل في إنجيل لوقا بل تمت إضافتها للتأكيد على أن جسد يسوع المكسور والدم المسفوك هما اللذان أتيا "لكم" بالخلاص.
أولا،من الصعب تفسير السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه الأعداد إذا كانت أصيلة في إنجيل لوقا (فليس ثمة نهايات متشابهة (homoeoteleuton) ،على سبيل المثال ،يمكنها أن تفسر هذا الحذف )وخاصة إذا مع ما تمنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها . في الواقع ، معظم الناس ،عندما تحذف هذه الأعداد، سيجدون أن النص سيبدو مبتورا بعض الشئ . غرابة هذه النسخة المبتورة ربما هي التي أدت بالنسَّاخ إلى إضافة هذه الأعداد . فوق ذلك ، ينبغي ملاحظة أن هذه الأعداد،بقدر ما هي مألوفة،لا تمثل مفهوم لوقا الخاص عن موت يسوع .لأنَّ إحدى الخصائص اللافتة للصورة التي يرسمها لوقا لموت يسوع - قد يبدو ذلك غريبا في البداية ـ هي أنه أبدًا لم يشِر ،في أيِّ موضعٍ آخر،أن الموت ذاته هو الذي يجلب الخلاص من الخطيئة . لا يوجد في أي مكان في كتاب لوقا كاملا بمجلديه ( إنجيل لوقا وسفر الأعمال )،أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم ". في الواقع ، في المناسبتين الوحيدتين التي يشير فيهما المصدر الذي استقى منه إنجيل لوقا ( إنجيل مرقس) إلى أنه بموت يسوع جاء الخلاص ( مرقس 10 : 45 ؛ 15 :39 )، غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها ). لوقا ، إذا قلناها بطريقة أخرى ،كان له مفهومه المختلف بخصوص الطريقة التي من خلالها يؤدي موت يسوع إلى الخلاص عن ما لدى مرقس ( وبولس ، والكتاب المسيحيون الأوائل الآخرون ). من اليسير أن نرى وجهة نظر لوقا المتميزة من خلال ما يتوجب أن يقوله في سفر الأعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من الأقوال بهدف تحويل الآخرين إلى الإيمان . ليس في أيٍّ من هذه العبارات،مع ذلك،أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إلى أن موت يسوع يجلب تكفير الخطايا ( على سبيل المثال ، في الفصول 3 ، 4 ، 13 ). هذا لا يعني أن موت يسوع لم يكن مهمّا . بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن الخطايا . عوضا عن ذلك ،موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام الله ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا ). وبمجرد أن يدرك الناس خطيئتهم،يعودون إلى الله بالتوبة ومن ثمّ تُغْفَر لهم خطاياهم . موت يسوع من وجهة نظر لوقا،بطريقة أخرى ،يقود الناس إلى التوبة وهذه التوبة هي التي تجلب الخلاص . ولكن ليس بناءًا على هذه الأعداد المتنازع عليها التي ليس لها وجود في بعض شواهدنا المبكرة :
هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم". في الأصل تبدو الأعداد وكأنها لم تكن جزءا من إنجيل لوقا . فلماذا،إذن،أضيفت ؟ في نزاع حدث بعد ذلك مع مرقيون ، أكد ترتليانوس التالي :
أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز،عندما سمَّى الخبز جسده الخاص. كما أكَّد على نحوٍ مشابهٍ،عند ذكره للكأس و صناعة العهد الجديد وخَتْمِه بدمه،حقيقة دمه .لأنه ليس هناك دمٌ يمكنه أن يكون في جسد ليس جسدًا من لحم. لذلك من دليل الجسد حصلنا على برهان الجسد،وبرهان الجسد من دليل الدم ( ضد مرقيون 4 ، 40 )

يبدو أن تلك الأعداد أضيفت للتأكيد على جسد المسيح الحقيقيِّ ودمه الذان ضحى بهما حقيقةً من أجل الآخرين. من المحتمل أن لا يكون هذا التأكيد وجهة نظر تخصُّ لوقا، لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل الأرثوذكسية الذين حرَّفوا نصوص لوقا التي بين أيديهم لكي يجابهوا عقائد الظهوريين المتعلقة بطبيعة المسيح مثل عقيدة مرقيون (9) .
عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إلى إنجيل لوقا من خلال نُسَّاخ ماقبل الأرثوذكسيّة هو العدد 24 : 12 من إنجيل لوقا ،الذي يقع بعد قيامة يسوع من الأموات تمامًا. بعض أتباع يسوع من النساء ذهبن إلى القبر، فلم يجدنه هناك،وقيل لهم إنه قد أُقيم . فعُدْنَ ليخبرن التلاميذ الذين رفضوا أن يصدقوهنَّ لأنَّ الحكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة".
ثمّ ، في كثير من المخطوطات تقع القصة المذكورة في 24 : 12 : " لكنَّ بطرس قَامَ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ المصنوعة من الكتان مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّبًا فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ.
هناك أسباب ممتازة تجعلنا نعتقد أن هذا العدد لم يكن في الأصل جزءًا من إنجيل لوقا. فهو يحتوي على عدد كبير من السمات الأسلوبية التي ليس لها مثيل في أي موضعٍ آخر من إنجيل لوقا. من بين ذلك غالبية الكلمات المفصلية في النص ،على سبيل المثال ، "انحنى " و " الأكفان المصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة أخرى كانت تستخدم للدلالة على ملابس القبر قبل ذلك في الرواية ).فوق ذلك ،من الصعب معرفة السبب الذي يجعل شخصًا ما يرغب في حذف هذا العدد لو كان في الحقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من الإنجيل ( مرة أخرى ، ليس هناك نهايات متشابهة أو ما إلى ذلك لكي نعتبرها حذفًا غير مقصود ). وكما لاحظ كثيرٌ من القرَّاء ، يبدو العدد وكأنه تلخيص لحكاية وردت في إنجيل يوحنا ( 20 : 3 -10 )حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ الحبيب" جريًا إلى القبر ويجدانه فارغًا. هل يمكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية مشابهة، بأسلوب مختصر،إلى إنجيل لوقا ؟
لو كان هذا صحيحًا ،فيالها من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا موقف مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية من يسوع وأنَّ لم يكن ببساطة شكلا ما من الأشباح وإنما كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ . أضف إلى ذلك أن هذا هو ما اعترف به كبير التلاميذ نفسه ،أعني بطرس . لذلك،وبدلا من ترك قصة القبر الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غير الجديرات بالثقة ،فإنَّ النصَّ في وضعه الحالي يظهر أن القصة لم تكن قابلة للتصديق فحسب بل حقيقية : على اعتبار أن صحتها لم تتأكد إلا من خلال بطرس ( الذي هو رجل مستحق للثقة كما قد يفترض الإنسان ). الأمر الأكثر أهمية هو أن العدد حتى يؤكِّد على الطبيعة الماديَّة لقيامة يسوع، لأنَّ الشئ الوحيد الذي ترك داخل القبر هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة : الكفن المصنوع من الكتان الذي غطَّى جسد يسوع . لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقيٍّ. أهمية هذه النقطة أشير إليها مرة أخرى من خلال ترتليانوس :
الآن لو أنكروا موت (المسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا، فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ لحدوث قيامته. فإذا لم يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي لم يمت من أجله،وحتى بسبب أنه لم يكن يمتلك حقيقة الجسد الذي كما عليه يقع الموت فله يمكن للقيامة أن تقع.على نحوٍ مماثل، لو أمكن دحض قيامة المسيح،فإن قيامتنا أيضًا تنمحي .(ضد مرقيون 3 ، 8 )
لابد أن المسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من الموت بالجسد.فليست الآلام و الموت فحسب هما اللذان تحملهما المسيح جسديًّا،بل وأقيم من الأموات جسديًّا: بالنسبة لمسيحيي ماقبل الأرثوذكسية فقد رفع إلى السماء أيضًا بجسده .
آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إنجيل لوقا ،بعد أن حدثت القيامة (ولكن في اليوم ذاته ). تحدَّث يسوع إلى أتباعه للمرة الأخيرة،وبعد ذلك انفصل عنهم :
وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ .(لوقا 24 : 51 -52 )
من الطريف أن نلاحظ،مع ذلك،أنَّ هناك زيادة في بعض مخطوطاتنا الأكثر قدمًا- ومن بينها المخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (10) . فبعد أن تشير إلى أنَّه "أُبعِدَ عنهم ،" تصرح في هذه المخطوطات بأنه " َأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ". إنَّها زيادةٌ هامَّة لأنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خلال ارتفاعه ( بدلا من التعبير الهادئ " نُُقِل "). فإلى حدٍّ ما،هذه قراءة متباينة مثيرة للانتباه لأن المؤلف ذاته،أي لوقا،في كتابه الثاني،سفر الأعمال،يحكي مرة أخرى عن ارتفاع يسوع إلى السماء،لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت بعد"أربعين يومًا" من وقت حدوث القيامة من بين الأموات ( أعمال 1 : 1-11 ).
هذا يجعل من الصعوبة بمكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع الدراسة في لوقا 24 : 51 ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إلى السماء في يوم قيامته لو أنه يشير في بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعين يوما. من الجدير بالملاحظة أيضًا أن الكلمة المفتاحية (key word) موضع الدراسة التي هي "رُفِع was taken up " لم تذكر في أيٍّ موضع آخر سواء في إنجيل لوقا أو في سفر الأعمال . فلماذا يضيف شخص ما هذه الكلمات ؟ نحن نعلم أن مسيحيي ماقبل الأرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على الطبيعة المادية الحقيقية لمغادرة يسوع للأرض:لقد غادر يسوع بشكل ماديٍّ وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه بالخلاص الماديِّ.وعلى هذا النحو قاموا بمجادلة الظهوريين الذين تمسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا . من المحتمل أن ناسخًا كان مشتركًا في هذه المناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه القضيَّة .


تحريفات النص المضادة للانقساميين
المسيحيون الانقساميون الأوائل

الاتجاه الثالث الذي كان محط اهتمام مسيحيي ماقبل الأرثوذكسية الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث له صلة بمجموعات مسيحيَّة كانت ترى المسيح لا باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو الحال مع التبنِّيِّين) أو إلهًا فحسب ( كما يقول الظهوريُّون ) وإنما ككائنين اثنين ، أحدهما إنسانٌ تمامًا والآخر إله تماما (11) . ربما بمقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة الانقسامية"حول طبيعة المسيح لأنَّها قسمت يسوع المسيح إلى اثنين : يسوع الإنسان ( الذي كان إنسانًا كاملا) و المسيح الإله (الذي كان إلهًا كاملا).
وفقا لغالبية القائلين بوجهة النظر هذه،يسوع الإنسان كان مسكونًا على نجوٍ غير دائمٍ بالكائن الإلهيِّ ،الذي هو المسيح ،وهذا مكَّنه من إنجاز أعماله الإعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ المسيح فارق يسوع قبل موته،مجبرًا إياه على مواجهة الصلب وحده .
هذه العقيدة الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح كان من الشائع الدفاع عنها غالبًا عبر مجموعة من المسيحيين يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيين" (12) .مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) التي تعني المعرفة.وهي تنطبق على مجموعات واسعة التنوع من المسيحيين الأوائل الذين شدَّدوا على أهمية المعرفة الباطنية في الوصول إلى الخلاص . وفقا لمعظم هذه المجموعات ، العالم المادي الذي نحيا فيه لم يكن من عمل يدي الإله الواحد الحقيقيِّ. فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت في المملكة السماويَّة (divine realm) التي طُرِد منها أحد الكائنات الإلهية (الكثيرة) لأسبابٍ غامضةٍ من نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العالم الماديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ أقل مقامًا بخلقه وذلك عبر سَبْيِه وسَجْنِه في أجسام الآدميين هنا على الأرض . بعض الكائنات البشرية لذلك في داخلهم ومضة إلهية وهم بحاجة إلى تعلُّم حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إلى هنا وكيف يمكنهم العودة . معرفة هذه الحقيقة ستقودهم إلى خلاصهم .
تتكون الحقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة لا يمكن الحصول عليها إلا عبر كائنٍ إلهيٍّ من المملكة السماوية .حسب المسيحيين الغنوصيين، المسيح هو الكاشف الإلهي لحقائق الخلاص؛ فقد دخل المسيح ،في كثير من الأفكار الغنوصية، إلى يسوع الإنسان أثناء العماد الأمر الذي أهَّلَه لمهمَّتِه التبشيرية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب في النهاية.وهذا السبب الذي جعل يسوع يصرخ،" إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟" فبالنسبة لهؤلاء الغنوصيين، كان المسيح قد غادر يسوع بالمعنى الحرفيِّ ( أو "تركه وراءه "). بعد موت يسوع أقامه من بين الأموات كمكافأة من أجل إخلاصه واستمر عبره في تعليم تلاميذه الحقائق الباطنيَّة التي بإمكانها أن تقودهم إلى الخلاص. لقد وجد مسيحيو ماقبل الأرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه. فبالنسبة إليهم ، العالم الماديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإنما هو خليقة صالحة للإله الواحد الحقيقيّ. والخلاص،عندهم، يأتي عبر الإيمان بموت المسيح و قيامته وليس من خلال تعلّم المعرفة الروحية الباطنيَّة التي بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع الإنساني . والأمر الأهم لأهدافنا في هذا الفصل هو أن يسوع المسيح ،بالنسبة إليهم، لم يكن كائنين اثنين وإنَّما كائنٌ واحدٌ إلهيٌّ وبشريٌّ معًا في وقت واحد وفي الوقت ذاته .

تغييرات النص لدوافع مضادة للانقساميين
لعبت النزاعات حول عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح دورًا في نسخ النصوص التي ستصبح فيما بعد العهد الجديد.
رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا لها بالبحث في الفصل الخامس وهي تلك الموجودة في سفر العبرانيين 2 : 9 والتي قيل فيها عن يسوع ،أي في نص الرسالة الأصلي، إنَّه مات "منفصلا عن الله ". في نقاشنا هناك، رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة الأخرى التي أشارت إلى أن المسيح مات "بنعمة الله " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه المؤلِّف الأصليُّ . لكننا لم نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي ربما جعل النساخ يرون أن النص في وضعه الأصلي ربما يمثِّل خطورة ولذلك ينبغي تعديله .الآن،في وجود هذه الخلفية الموجزة عن المفاهيم الغنوصية تجاه المسيح،يصبح التغيير منطقيًّا على نحوٍ أكبر.لأنه وفقًا للمعتقدات التي تبناها الانقساميون بخصوص طبيعة المسيح ،مات المسيح بالفعل "منفصلا عن الله" وذلك في أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر الإلهيُّ الذي كان قد سكنه في وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده . ولأنهم كانوا واعين إلى أن النص يمكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه، أحدث النسَّاخ المسيحيون تغييرًا عميقًًا رغم بساطته. الآن،بدلا من أن يشير النص إلى أن يسوع قد مات منفصلا عن الله، إذ به أكد أن وفاة المسيح تمَّت "بنعمة الله". هذا ،إذن،تحريفٌ موجَّه ضدَّ التعاليم الانقسامية . نموذجٌ آخرُ مثير للاهتمام يخص هذه الظاهرة يقع تمامًا في الموضع الذي ربما يتوقع المرء منَّا أن يجده فيه ، في رواية الإنجيل لحادثة صلب يسوع . كما أشرت من قبل،في إنجيل مرقس التزم يسوع الصمت في كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب . صلبه الجنود وسخر منه المارَّة و زعماء اليهود ، كما سخر منه أيضًا مجرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه لم ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقترب الموت ويصرخ يسوع بكلماتٍ مقتبسة من مزمور 22 :"إلوي ،إلوي ،لما شبقتني ؟" ،التي تترجم كالآتي:"إلهي ، إلهي ،لما تركتني ؟"(مرقس 15 :34 ). من الطريف أن نلاحظ أنَّه وفقًا لما ذكره إيريناوس،الكاتب الذي عاش في عصر ماقبل الأرثوذكسية ،كان إنجيل مرقس هو المفضَّل لدى هؤلاء "الذين فصلوا يسوع عن المسيح " – أي لدى الغنوصيين الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح(13).
لدينا من الأدلة القوية ما يجعلنا نفترض أن بعض الغنوصيين أخذوا هذه الجملة الأخيرة التي قالها يسوع على معناها الحرفيِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي التي انفصل فيها المسيح ذو الطبيعة الإلهية عن يسوع (حيث أن اللاهوت لا يمكن أن يذوق الفناء والموت ). الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية التي تعتقد في أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع . لذلك ،على سبيل المثال ، يقتبس إنجيل بطرس غير القانوني(apocryphal) ،الذي راودت البعضَ الشكوكُ في احتوائه على عقائد انقسامية بخصوص طبيعة المسيح ،هذه الكلمات بطريقة مغايرة نوعًا ما فيقول :" قوتي،قوتي،لقد غادرتني!" الأمر الأشد وقعًا هو أن النص الغنوصي المعروف باسم إنجيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسيرا انقساميًّا :"إلهي ، إلهي ، لماذا أيها السيد(Lord) تركتني ؟" ولأنَّه قال هذه الكلمات على الصليب،فلابد أنَّه في هذه اللحظة ذاتها قد انقسم . مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئين كليهما:الأناجيل وتفسيراتها لهذه اللحظة الحاسمة من مشهد صلب يسوع.ليس إذن من قبيل المفاجئة أن نص إنجيل مرقس تم التلاعب به عبر بعض النساخ بطريقة راوغت هذا التفسير الغنوصي. في إحدى المخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد اللاتينية ، يقال أن يسوع لم يطلق " صرخة الافتراق " التقليدية التي وردت في مزمور 22 ، لكنه بدلا من ذلك صرخ :" إلهي ،إلهي ، لماذا سخرت مني ؟" هذا التغيير الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة تماما مع سياقها الأدبي. لأنه كما أشرت من قبل ،كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا في القصة قد سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود والمارَّة والسارقان . والآن،وفي وجود هذه القراءة،انضم الله أيضًا حسب قول النص إلى قائمة الساخرين من يسوع . يسوع ، شاعرًا باليأس ،يطلق صرخة مدوية ويموت. إنه مشهد قوي ومثير للشفقة .هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة أصلية،وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا في كل شواهدنا الأقدم والأفضل (بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى النص السكندري) وكذلك لكونها لا تتوافق مع الكلمات الآرامية التي تفوه بها يسوع( لما شبقتني – التي تعني "لماذا تركتني،" وليس " لماذا سخرت منِّي").
لماذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا بمدى فائدتها لمن يدافعون عن العقائد التي تخصُّ طبيعة المسيح وذلك من وجهة نظر الإنقساميين ،فحينها سيظلُّ هناك سؤالٌ صغيرٌ عن سبب ذلك. لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل الأرثوذكسية معنيِّين بأن لا يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم فقاموا بإحداث تغيير هامٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا في ظله،وذلك لكي يقال من الآن فصاعدًا عن الله إنه سخر من يسوع بدلا من أن يقالَ عنه إنَّه تركه.
مثالنا الأخير على هذا النوع من القراءات المتباينة الذي كان سبب حدوثه الرغبة في الوقوف ضد التعاليم الانقسامية فيما يتعلق بطبيعة المسيح سنسوقه من فقرة تقع في الرسالة الأولى ليوحنا. ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد 4 : 23 ،يقال لنا :"بهذا تعرفون روح الله . كل روح تعترف بأن يسوع قد جاء في الجسد فهي من الله؛وكل روح لا تعترف بيسوع فهي ليست من الله.هذا هو روح ضد المسيح." إنها فقرة واضحة وصريحة : هؤلاء الذين اعترفوا بأن يسوع جاء حقًا في الجسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل المثال ) هم وحدهم من ينتمون إلى الله؛أما هؤلاء الذين رفضوا الاعتراف بهذا فهم مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد المسيح ). مع ذلك ،هناك قراءة مختلفة طريفة نجدها في النصف الثاني من هذه الفقرة . فبدلا من الإشارة إلى الشخص الذي " لم يعترف بيسوع "، هناك العديد من الشواهد تشير إلى الشخص الذي " يقسم يسوع " ماذا يعني هذا - يقسم يسوع – ولماذا نجحت هذه القراءة في أن تشق طريقها إلى بعض المخطوطات ؟ في البدء ، ينبغي أن أشدِّدَ على أن عدد المخطوطات التي تحوي هذه القراءة ليس بالكبير جدا .ففي الشواهد اليونانية لا توجد إلا في هامش مخطوطة واحدة يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر(وهي المخطوطة 1739 ). لكنَّ هذه المخطوطة،كما رأينا من قبل،هي مخطوطة مميزة لأنها فيما يبدو قد نسخت من مخطوطة ترجع إلى القرن الرابع وهوامشها تسجل أسماء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات مختلفة لأجزاء محددة من النص. في هذا الموضع تحديدًا ،يشير الهامش إلى أن القراءة " يقسم يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة في أواخر القرن الثاني و بواكير القرن الثالث،من أمثال إيريناوس وكليمنت وأوريجانوس. أضف إلى ذلك أنها تظهر في الفولجاتا اللاتينية. ومن بين أمور أخرى ، هذا يوضح أن هذه القراءة المختلفة كانت مشهورة خلال العصر الذي كان مسيحيو عصر ما قبل الأرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيين حول قضايا طبيعة المسيح. مع ذلك، هذه القراءة لا يمكن على الأرجح أن تقبل باعتبارها النص" الأصليّ " مع التسليم بقلة الأدلة التي تعضد موثوقيتها- فهي مفقودة،على سبيل المثال،في كل مخطوطاتنا التي تصنَّف باعتبارها الأقدم والأفضل بين المخطوطات ( في الواقع ليس لها أي وجود في أي مخطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود في الهامش). لماذا،رغم كل ذلك،أضافها أحد النسَّاخ المسيحيين ؟ يبدو أنها قد أضيفت من أجل اختلاق مطعن "كتابيٍّ" على عقائد الانقساميين التي تتعلق بطبيعة المسيح،التي تفرق فيها المسيح و يسوع بعضهما عن الآخر إلى كيانات منفصلة،أو بحسب تعبير هذه القراءة المختلفة التي جاء فيها أن يسوع قد " انفصل " عن المسيح. أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه، حسب ما تفترض القراءة النصية المختلفة، فهو ليس من الله ،بل بالأحرى هو ضد المسيح .
مرة أخرى ،إذن ، لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات المتعلقة بطبيعة المسيح التي اندلعت في القرنين الثاني و الثالث .

الخاتمة
أحد العوامل التي ساهمت في وقوع تحريفات النساخ لنصوصهم هو السياق التاريخي الذي عاشوا في ظلِّه . كان النسَّاخ المسيحيُّون في القرنين الثاني والثالث متورطين في النزاعات و المناظرات التي حدثت في زمنهم ، وقد أثَّرت هذه النزاعات أحيانًا في عملية إعادة إنتاج النصوص التي اندلعت بخصوصها هذه النزاعات. بكلمات أخرى ،قام النساخ في بعض الأحيان بتحريف نصوصهم لكي يدفعوها لأن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه .لم يكن هذا بالضرورة أمرًا سيئًا ، لأننا على الأرجح يمكننا أن نفترض أن معظم النساخ الذين أدخلوا تغييرات إلى نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم الانتباه أو بنيَّة حسنة . لكنَّ الحقيقة، مع ذلك،هي أنه بمجرد أن قام هؤلاء بتحريف نصوصهم، أصبحت كلمات النصوص مختلفة تمام الاختلاف وهذه الكلمات التي لحقها التغيير أثَّرت بالضرورة على تفسير القرَّاء المتأخِّرين لهذه الكلمات. كانت النزاعات اللاهوتية التي اندلعت في القرنين الثاني والثالث من بين أسباب هذه التحريفات لأنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم في ضوء العقائد التي اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون والانقساميون فيما يتعلق بالمسيح وطبيعته،وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز بموطء قدم تحت الشمس في هذه الفترة. هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تاريخيٍّ كانت مؤثرة أيضًا في هذا الصدد ، منها ما يتعلق على نحوٍ أقل بالنزاع اللاهوتي و على نحوٍ أكبر بصراعات هذا العصر الاجتماعية ، مثل الصراع حول دور النساء في الكنائس المسيحية الأولى و العداء المسيحيِّ لليهود والدفاع المسيحي عن الإيمان ضد مطاعن الخصوم الوثنيين. في الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات الأخرى ذات الطابع الاجتماعي تركت أثارها على النساخ المسيحييِّن الذين نسخوا نصوص الكتاب المقدس في القرون التي سبقت العصر الذي أصبح النساخ المحترفون هم من ينسخون النصوص فيه.



هوامش الفصل السادس

(1) للاطلاع على نصوص هامة من هذه الفترة ،انظر كتاب :" بعد العهد الجديد: قارئ في المسيحية المبكرة" (fter the New Testament: A Reader in Early Christianity) تأليف بارت د.إرمان (نيويورك :مطبعة جامعة أكسفورد،1999 ). مقدمة رائعة لهذه الفترة يمكن الحصول عليه من كتاب :"الكنيسة الأولى"( The Early Church)لهنري تشادويك (نيويورك: بنجوين،1967 ).

(2) للاطلاع على مناقشة أوسع للمادة التي تناقشها الفقرات التالية ،انظر على وجه الخصوص كتاب إرمان ،الديانات المسيحية المفقودة ،( Lost Christianities)،الفصل الأول.

(3) للاطلاع على مناقشة أوسع،انظر كتاب إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture).

(4) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للآراء التبنَّويَّة،والشخصيات التي اعتنقتها ،انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 47 – 54 .

(5) للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا عن الظهوريين والعقائد الظهورية بخصوص طبيعة المسيح، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 181 – 187 .

(6) انظر الصفحتين 14 ، 15 ، من الفصل الأول.

(7) اعترف أيضًا بقانونية عشر رسائل بولسية باعتبارها جزء من الكتاب المقدس(جميعها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسالة 1، 2 إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطوس)، رفض العهد القديم كله ، لأنها منسوبة إلى الإله الخالق ، وليس إله يسوع .

* معنى مصطلح chiasmus يتضح من الجملة التالية:

أنا ذهبت إلى المدرسة ،إلى المدرسة ذهبوا هم . أي هي عكس في الجملة الثانية لترتيب الكلمات في الجملة الأولى.

(8) هذه الاقتباسات مأخوذة من حوار جوستينوس مع تريفو ، ص 103 .

(9) لإثبات مطول لأن هذه الأعداد لم تكن أصلية في إنجيل لوقا بل أضيفت لدحض آراء ظهورية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 198 – 209 .

(10) للاطلاع على إضافة نصية أخرى ومناقشة أوسع لهذه الإضافة ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 227 -232 .

(11) للاطلاع على معلومات أكثر تفصيلا عن عقائد الانقساميين المتعلقة بطبيعة المسيح والجماعات الغنوصية التي اعتنقتها ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 119 – 124 .

(12) للمزيد من النقاشات عن الغنوصية ، انظر كتاب إرمان إرمان ،الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس،( Orthodox Corruption of Scripture)، الفصل ال6 .

(13) ضد الهراطقة 3، 2 ،7 .

نور الإسلام
05-02-2012, 11:35 AM
الفصل السابع
بيئات النص الاجتماعية
ربما من المأمون تمامًا أن نقول إن عملية نَسْخ النصوص المسيحية المبكرة كانت في العادة عملية «محافِظة». فقد كان النساخ -سواء أكانوا من هواة القرون الأولى أم كانوا من المحترفين في العصور الوسطى- عازمين على «المحافظة» على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه. لم يكن اهتمامهم الأول منصبًّا على تعديل التقليد، بل على الحفاظ عليه لمصلحتهم الخاصة ولمصلحة من سيأتون بعدهم. معظم النساخ، بلا شك، حاولوا أن يؤدُّوا عملهم في التأكد من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه بنزاهة.
رغم ذلك، حدث وأن وقعت التغييرات في النصوص المسيحية المبكرة. فالنساخ سيقعون أحيانًا ـ بل في كثيرٍ من الأحيان ـ في الأخطاء غير المقصودة، من خطاء في تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عبر إفساد الجُمَل التي كان من المفترض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيير النص عمدًا مع سبق الإصرار والترصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إلى النص اتضح في الواقع أنَّها تحريفٌ لما كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه في الأصل. قمنا في الفصل السابق بدراسة أحد أنواعٍ التغييرات العمدية ـ وهي تلك المتصلة ببعض الصراعات اللاهوتية التي اضطرم أوارها في القرنين الثاني والثالث، أي في الوقت الذي وقعت فيه معظم التغييرات التي شهدها تقليدنا المحفوظ في شكل نصيّ. لكني لا أريد أن أؤكد صحة الانطباع الخاطئ أنَّ هذا النوع من التغييرات اللاهوتية للنص كان يقع في كل مرة يجلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات. كان هذا يحدث أحيانا. وعندما كان يقع، كان له تأثيرٌ بعيدُ الغور على النص.
في هذا الفصل، سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف والملابسات التي أدَّت، في بعض الأحيان، إلى تحريف النص. هناك ثلاثة أنواع، على وجه الخصوص، من النزاعات التي كانت ملحوظة جدًا في المجتمعات المسيحية المبكرة سنقوم بدراستها: نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء في الكنيسة ونزاعين آخرين خارجيين، أحدهما مع اليهود من غير المسيحيين والآخر مع الخصوم الوثنيين. وسنرى في كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات، في أحايين متفرقة، لعبت أيضا دورًا في تحريف النصوص التي كان يقوم بإعادة إنتاجها لمصلحة المجتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطين في هذه النزاعات.

النساء ونصوص الكتاب المقدس

لم تلعب النزاعات التي ثارت حول دور المرأة في الكنيسة دورا كبيرًا في تحريف نصوص العهد الجديد، لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك في فقراتٍ طريفةٍ وهامَّة. نحتاج، لكي نفهم أنواع التغييرات التي وقعت للنص، أن نعرف بعض الخلفيات عن طبيعة هذه النزاعات(117).
النساء في الكنيسة الأولى
وصل العلماء المعاصرون إلى درجة الاعتراف بأنَّ النزاعات التي دارت حول دور المرأة في الكنيسة الأولى وقعت تحديدًا لأن النساء كان لهن دور، وكثيرا ما كان دورًا كبيرًا ومرموقًا لدى العامة.
فوق ذلك، كان هذا هو الوضع المألوف منذ بدايات المسيحية ذاتها، ابتداءً من خدمة يسوع. نعم كان التلاميذ الأكثر قربًا من يسوع ـ الحواريين الاثنى عشر ـ جميعهم من الرجال، وهو المتوقع من معلّم يهودي في فلسطين في القرن الأول. إلا أن أناجيلنا المبكرة تشير إلى أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء في أثناء رحلاته، وأن بعضًا من هؤلاء النسوة كنّ من الداعمات له ولتلاميذه من الناحية الماليَّة، حيث عملن كمساعدات له أثناء تجواله للقيام بعمله التبشيري (انظر مرقس 15: 40 -51، لوقا 8: 1-3). يقال لنا إن يسوع قد انخرط في حوار علني مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن علانية (مرقس 7: 24 – 30؛ يوحنا 4: 1- 42). ويقال لنا، على وجه الخصوص، إن النسوة رافقن يسوع أثناء رحلته الأخيرة إلى أورشليم، حيث كنَّ حاضرات عند صلبه وحيث بقين، وحدهنّ، على ولائهنَّ له حتى النهاية في الوقت الذي فرّ فيه التلاميذ الذكور (متى 27: 55؛ مرقس 15: 40- 41). الأهم من هذا كله هو أنَّ كل إنجيلٍ من أناجيلنا يشير إلى أنَّ النسوة ـ مريم المجدلية وحدها، أو مع رفيقاتها الأخريات ـ هن اللاتي اكتشفن قبره الفارغ وهكذا كنّ أولَ من عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بين الأموات (متى 28: 1-10؛ مرقس 16: 1- 8؛ لوقا 23: 55 – 24: 10؛ ويوحنا 20: 1-2).
وإنه لأمر مثير أن نسأل عن ماهية الرسالة التي قدمها يسوع فجذبت النسوة على وجه الخصوص. معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة الله المزمع أن تأتي، والتي لن يكون ثمة ظلم فيها ولا معاناة ولا شرّ، والتي فيها كل الناس، الأغنياء منهم والفقراء، العبيد والأحرار، الرجال والنساء، سيكونون متساويين. يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على نحو مخصوص كرسالة أمل للذين كانوا محرومين ـ مثل الفقراء، المرضى، المنبوذين.... والنساء(118) في هذا العصر.
على أية حال، من الواضح أنه حتى بعد موته، استمرت رسالة يسوع في جذبها للنساء. بعض الخصوم القدماء للمسيحية من بين الوثنيين، بمن فيهم سيلزس، على سبيل المثال، الناقد الذي عاش في أواخر القرن الثاني والذي ذكرناه من قبل، انتقد الديانة المسيحية على خلفية أن أتباعها في الغالب كانوا من الأطفال والعبيد والنساء (أي من هؤلاء الذين لم يكونوا في الغالب يتمتعون بمركز اجتماعي داخل المجتمع). الغريب أنَّ أوريجانوس، الذي كتب الرد المسيحي على سيلزس، لم ينكر التهمة لكنَّه حاول أن يحوَِّلها ضد سيلزس في محاولة لإظهار أن الله يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة.
لكننا لسنا بحاجة إلى الانتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ النساء لعبن دورًا رئيسًا في الكنائس المسيحية المبكرة. لدينا بالفعل معرفة واضحة بهذا الأمر من الكاتب المسيحي القديم الذي نجت أعماله من الضياع، بولس الرسول. الرسائل البولسية التي يتضمنها العهد الجديد تقدم دليلا ثريًّا على أنَّ النساء تبوَّأْن مكانة مميَّزة في المجتمعات المسيحية الناهضة وذلك منذ أقدم الأزمنة. ربما ننظر، على سبيل المثال، إلى رسالة بولس إلى أهل رومية، التي يرسل في نهايتها تحياته إلى أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل 16). على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أسماء عدد أكبر من الرجال في مقابل النساء، إلا أنه من الواضح أنَّ النساء لم يكن ينظر إليهن على الإطلاق باعتبراهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور في داخل الكنيسة. من بين من يذكرهن بولس، على سبيل المثال، «فيبي» التي كانت شماسة (deacon) (أو قسيسة) فِي كَنْخَرِيَا، والمساعدة الخاصة لبولس، والتي أولاها ثقته في القيام بمهمة حمل رسالته إلى رومية (الأعداد 1-2). وهناك أيضا فريسكا التي كانت، مع زوجها أكيلا، مسئولة عن العمل التبشيري بين الأمم وكانا يدعمان كنيسة مسيحية في بيتهما (رومية 16: 3-4: ولاحظوا أنها ذكرت أولا وقبل زوجها). ثم هناك مريم، زميلة بولس التي تعمل بين الرومانيين (العدد 6)؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»، و«برسيس»، اللاتي يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» في الإنجيل (العددين 6، 12). وهناك جوليا وأم روفس وأخت نيريوس، وكلهنَّ فيما يبدو كان لهنَّ مكانةً عالية داخل الجماعة (العددين 13، 15). الأكثر إثارة للدهشة، وجود يونياس، المرأة التي يدعوها بولس «قبلي بين الرسل» (العدد 7). جماعة الرسل كانت كما هو واضح أوسع من قائمة الاثني عشر رجلا المشهورين لدى معظم الناس.
النساء، باختصار، يبدو أنهنَّ لعبن دورًا هامًّا في الكنائس في عصر بولس. هذه المكانة العالية إلى حد ما لم تكن بالأمر المألوف في العالم اليوناني الروماني. وربما تكون هذه المكانة قد ترسخَّت، كما أعتقد، بإعلان يسوع أنَّ المملكة المزمع أن تأتي ستعتمد المساواة بين الرجال والنساء. كانت هذه، فيما يبدو، هي كذلك رسالة بولس كما يمكن أن نلحظ، على سبيل المثال، في إعلانه الشهير لأهل غلاطية:
لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (غلاطية 3: 27-28)
المساواة في المسيح ربما تجسدت في طقوس العبادة الفعلية للجماعات التي أقامها بولس. فبدلا من التزام الصمت كـ «سامعين للكلمة»، يبدو أن النساء شاركن بنشاط في اللقاءات الأسبوعية للجماعة، حيث شاركن، على سبيل المثال، بالصلاة والتنبؤ تمامًا كما كان الرجال يفعلون (1 كور 11-4 ,5).
في الوقت ذاته، بحسب المفسرين المعاصرين، يبدو أنَّ بولس لم يصل برؤيته للعلاقة بين الرجال والنساء في المسيح إلى الحد الذي يمكن أن نظنه كنتيجة منطقية لهذه العلاقة. فلقد أمر بالفعل، على سبيل المثال، أن تغطي النساء رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلين في الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان» (1كور 11: 3-16، خاصة العدد 10). بولس، بكلمات أخرى، لم يثر انقلابا اجتماعيًّا في العلاقة بين الرجال والنساء ـ مثلما لم يدع إلى إلغاء العبوديّة، على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ ولا حرٌّ «في المسيح. بل أصرّ بدلا من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل مجئ المملكة)، فإنَّ كل إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن الأوضاع المستقرة وأنه ينبغي أن لا يسعى أحدٌ ما إلى تغيير وضعه الاجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا، متزوجا أم أعذبا، ذكرًا أم أنثى (1كور 7: 17 – 24).
في أفضل الأحوال، إذن، يمكن النظر إلى هذا باعتباره موقفًا متضاربًا تجاه دور النساء: فلقد كنَّ متساويات في المسيح وكان مسموحًا لهنَّ أن يشاركن في حياة الجماعة، ولكن باعتبارهن نساءً، لا رجالا (فلم يكُنّ، على سبيل المثال، قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال، أي في أن رؤوس الرجال ليست خاضعة «لسلطان»). هذه الازدواجية من جانب بولس كان لها أثرٌ مثيرٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش فيه. ففي بعض الكنائس تمَّ التأكيد على المساواة في المسيح؛ في البعض الآخر كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال. وهكذا في بعض الكنائس، اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة الأهمية؛ وفي البعض الآخر، شحُبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ. إذا قرأنا الوثائق المتأخرة المرتبطة بالكنائس التي أقامها بولس، بعد موته، يمكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ في النهاية كان ثمة جهود تبذل لقمع دور النساء في الكنائس تمامًا.
يتضح هذا من إحدى الرسائل التي نسبت إلى بولس. أصبح العلماء اليوم بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة الأولى إلى تيموثاوس لم يكتبها بولس بل كتبها واحدٌ من أتباعه المتأخرين من الجيل الثاني من تلامذته (119). في هذه الرسالة، في فقرة من الفقرات غير المشهورة التي تتناول النساء في العهد الجديد، يقال لنا إنَّ النساء يجب أن لا يسمح لهنَّ أن يعلمن الرجال لأنهن خلقن أقل شأنا، كما أشار إلى ذلك الله ذاته في الشريعة، حيث خلق الله حواء الثانية في الترتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (في إشارة إلى حواء) يجب أن لا تتسلط على رجل (في إشارة إلى آدم) من خلال قيامها بالتعليم. علاوة على ذلك، وفقا لهذا المؤلف، كلُّ إنسانٍ يعرف ما يحدث عندما تتولى امرأة القيام بدور المعلم: يغويها (الشيطان) بلا شك وتقود الرجل إلى الضلال. لذلك فعلى النساء أن يبقين في المنزل وأن يحافظن على القيام بأعمال البر التي تناسب المرأة، من إنجاب الأطفال لأزواجهن والالتزام بالتعقل. أو كما يقول النص ذاته:
لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي، وَلَكِنَّهَا سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ (1تيموثاوس 2: 11 -15)
ياله من فرق شاسع بين هذا وبين رؤية بولس أنه «في المسيح... ليس ثمة ذكر أو أنثى» وكلما تحركنا باتجاه القرن الثاني، إذ بخطوط المعركة تبدو مرسومة على نحوٍ أوضح. فهناك بعض الجماعات المسيحية التي تؤكد على أهمية النساء وتسمح لهن بالاضطلاع بأدوار بارزة داخل الكنيسة، وهناك آخرون يؤمنون بأن النساء ينبغي أن يحافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال الجماعة.
النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص التي أصبحت فيما بعد الكتاب المقدس كانوا بصورة واضحة مشاركين في هذه الصراعات. وأحيانا كانت هذه الصراعات تترك أثرا على النص الذي ينسخ، حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها. تقريبا في كل موضع يحدث فيه تغير من هذا النوع، يتعرض النص للتغيير لكي يحد من دور المرأة ولتقليل أهميتها بالنسبة للحركة المسيحية.
في هذا الجزء يمكننا أن نرصد بعض الأمثلة القليلة.
التحريفات النصية المتعلقة بالنساء
واحدة من أهم الفقرات التي تتعلق بالنقاش الحالي حول دور النساء في الكنيسة نجده في 1 كورنثيوس الإصحاح 14. كما هو الحال في معظم ترجماتنا الإنجليزية الحديثة، تُقرأ الفقرة على النحو التالي:
لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلَهُ سَلاَمٍ كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ. لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ. أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ اللهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ انْتَهَتْ؟
تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن لا يتكلمن (فضلا عن أن يعلِّمن!) داخل الكنيسة، تماما مثلما هو الحال مع الفقرة الموجودة في 1تيموثي الإصحاح 2. معظم العلماء، كما رأينا، على قناعة بأن بولس لم يكتب هذه الفقرة الواردة في 1 تيموثي وذلك لأنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت بمعرفة أحد أتباع بولس من الجيل الثاني ثمَّ نسبت إلى بولس. ورغم أنَّ أحدًا لا يشك أنَّ بولس، مع ذلك، قد كتب الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. إلا أنَّ ثمة شكوكًا تحوم حول هذه الفقرة فحسب. لأنَّ العددين موضع البحث (أعني العددين 34، 35)، كما سيتضح، تغيَّر موضعهما في بعض من شواهدنا النصية الهامة. ففي مخطوطات يونانية ثلاث وشاهدين اثنين لاتينيين، نجدهما لا في هذا الموضع، بعد العدد 33، وإنما في موضع مـتأخر بعد العدد 40. هذا ما دعا بعض العلماء للافتراض بأنَّ هذه الأعداد لم يكتبها بولس وإنما كانت في الأصل نوعًا من الهوامش أضيفت بمعرفة أحد النساخ، ربما تحت تأثير الأعداد في 1 تيموثي الإصحاح 2. بعد ذلك أدخل هذا الهامش في مواضع مختلفة من النص عبر نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا الهامش بعد العدد 33 والآخرون بعد العدد 40.
هناك أسباب معقولة تجعلنا نعتقد أنَّ بولس لم يكتب هذه الأعداد أصلا. فأولا، هذه الأعداد غير منسجمة مع سياقها المباشر. ففي هذا الجزء من الإصحاح 14 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يشير بولس إلى قضية التنبُّوء في الكنيسة ويعطي تعليمات للأنبياء المسيحيين بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة المسيحية. هذا هو موضوع الأعداد من 26 إلى 33، وهو مرة أخرى موضوع الأعداد من 36 إلى 40. فلو أننا حذفنا العددين 34 و35 من سياقهما، فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا باعتباره حديثًا عن دور الأنبياء المسيحيين. وحينها يبدو الحديث عن النساء وكأنه حشر في سياق النص المباشر يقطع التعاليم التي يعطيها بولس بخصوص قضية أخرى مختلفة.
هذان العددان لا يبدو أنهما فقط محشوران في سياق الإصحاح 14، بل إنهما يبدوان أيضا غريبين عن ما يقوله بولس بوضوح في كل موضع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. فبولس في موضعٍ سابق خلال هذا السفر، كما ذكرنا بالفعل من قبل، يعطي تعليمات للنساء اللائي يتكلمن داخل الكنيسة: فوفقا للإصحاح 11، فإنهن عندما يصلين ويتنبأن ـ وهي الأعمال التي كانت دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خلال إقامة طقوس العبادة المسيحية ـ فإنه يتوجَب عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (11: 2-16). في هذه الفقرة، التي لا يرتاب أحدٌ في صحة نسبتها إلى بولس، من الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن، بل ويمارسن الكلام بالفعل داخل الكنيسة. في الفقرة المتنازع عليها في الإصحاح 14، مع ذلك، من الواضح أن «بولس» * يحرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا. من الصعب التوفيق بين وجهتيِّ النظر المختلفتين هاتين ـ فإما أن بولس يسمح للنساء بالكلام (مع تغطية رؤوسهن، كما في الإصحاح 11) أو لا يسمح بذلك (الإصحاح 14). وكما يبدو التفكير بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خلال مساحة قصيرة تتكون من ثلاث فصول أمرًا غير منطقي، فيبدو أنَّ بولس ليس هو مصدر هذه الأعداد محل البحث.
وهكذا على أساس جمع الأدلة، العديد من المخطوطات التي تختلف فيها مواضع الأعداد والسياق الأدبي القريب والسياق ضمن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ككل، يتضح أنَّ بولس لم يكتب الأعداد 1كورنثوس 14: 34-35. كان لزاما على المرء أن يفترض من ثمّ أنَّ هذه الأعداد التي هي تحريف للنص قام به أحد النساخ، كان تحريفها في الأصل في صورة، ربما، ملاحظة مكتوبة في الهامش ثم في النهاية وفي مرحلة مبكرة من مراحل نسخ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، ألحقت بالنص ذاته. التحريف تمَّ بلا شك بمعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه لا ينبغي أن يكون ثمة دور عامٌّ تضطلع به النساء داخل الكنيسة، وأنهن ينبغي أن يصمتن وأن يطِعْنَ أزواجهن. وجهة النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عبر تحريف النصوص (120).
يمكننا أن ندرس مثالا آخر للتغييرات التي لحقت بالنص من النوع ذاته ولكن بصورة مختصرة. أحد التغييرات يقع في فقرة ذكرتها من قبل بالفعل، ألا وهي الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح 16، حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى النسوة، جونيا، ورجل كان فيما يبدو زوجا لها، أندرونيكوس، وكلاهما قال بولس عنهما إنهما «مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ» (العدد 7). هذا العدد شديد الأهمية، لأنه هو الموضع الوحيد في العهد الجديد الذي يشار فيه إلى امرأة باعتبارها واحدة من الرسل. ولقد كان لهذه الفقرة تأثيرًا كبيرًا على المفسرين إلى درجة أنَّ عددًا كبيرًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها الحقيقي، لذلك ترجموا الفقرة باعتبارها تشير لا إلى امرأة تدعى جونيا وإنما إلى رجل يسمى جونياس، الذي أُثنِي عليه جنبا إلى جنب مع رفيقه أندرونيكوس باعتباره رسولا (apostle). العقبة التي تقف أمام هذه الترجمة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه جونيا اسما نسويًّا شائعًا، فإن «جونياس» لا دليل في العالم القديم على أنه كان اسمًا لرجل. إنَّ بولس يشير إلى امرأة تدعى جونيا، وذلك على الرغم من أنه في بعض الترجمات الحديثة الإنجليزية للكتاب المقدس (ربما تريدون أن ترجعوا إلى نسختكم الخاصة للتأكد!) يواصل المترجمون الإشارة إلى هذه المرأة التي كانت من بين الرسل كما لو أنها كانت رجلا يدعى جونياس (121).
بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة في وصف هذه المرأة المجهولة بالرسولة، ولذلك قاموا بإحداث تغيير بسيط للغاية في النص للتحايل على المشكلة. في بعض مخطوطاتنا، بدلا من أن تقول «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي، «نجد أن النص قد تغير لكي تسهل ترجمته أكثر: «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي». مع وجود هذا التغيير الذي تعرض له النص، لم يعد المرء في حاجة إلى أن يقلق بشأن المرأة التي ذكرت بين العصبة الرسولية المكونة من الذكور!
تغيير مشابه وقع بمعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر الأعمال. ففي الإصحاح رقم 17 نحاط علمًا بأن بولس ورفيقه في التبشير «سيلا» قضوا وقتا في تسالونيكي يدعون اليهود الموجودين في المعبد المحلي إلى الإيمان بإنجيل المسيح. يقال لنا في العدد 4 إن الاثنين لاقا بعضًا من النجاح الباهر في تحويل الناس إلى الإيمان: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
فكرة أن هؤلاء النسوة كن متقدمات، ناهيك عن التحولات الهامة إلى الإيمان التي حدثت على أيديهما، كانت أكثر مما يحتمل بالنسبة لبعض النساخ، ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيير في بعض المخطوطات، لكي يقال لنا الآن: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ زوجات الرجال الْمُتَقَدِّمين عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ» الآن أصبح الرجال هم المتقدمون، وليس النسوة اللاتي تحولن إلى الإيمان.
من بين رفاق بولس في سفر الأعمال كان ثمة زوج وامرأته يسميان «أكيلا» و«بريسكلا»؛ وهماعند ذكرهما في بعض الأحيان، يقدم المؤلف اسم الزوجة أولا، كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل المهمة التبشيريَّة المسيحية (كما يحدث في رومية 16: 3 كذلك، حيث يطلق عليها اسم بريسكا). ليس أمرًا مثيرًا للاستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا امتعاضهم بسبب هذا الترتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى يحصل الرجل على ما يستحقه من مكانة عبر ذكر اسمه أولا: أكيلا وبريسكلا بدلا من بريسكلا وأكيلا (122).
باختصار، كان ثمة نزاعات في القرون الأولى للكنيسة حول دور النساء، وعند اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إلى عملية نسخ نصوص العهد الجديد ذاته، حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكبر مع مفهومهم الخاص عن الدور (المحدود) للنساء داخل الكنيسة.

يتــــبع بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:35 AM
اليهود ونصوص الكتاب المقدس
إلى هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية التي نبعت من الداخل المسيحي في وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات التي دارت حول قضايا ذات علاقة بطبيعة المسيح وعن دور النساء في الكنيسة – ورأينا كيف كان تأثير هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم المقدسة.
مع ذلك، لم تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي انخرط فيه المسيحيون. فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة لمن أداروا رحاها، وذات أهمية بالنسبة لنقاشاتنا في هذا الكتاب، كذلك كانت الصراعات التي اندلعت مع هؤلاء الخارجين عن الإيمان، من يهودٍ ووثنيين، الذين وقفوا موقف المعارضة للمسيحيين واشتبكوا معهم في نزاعات جدليَّة. اضطلعت هذه النزاعات أيضًا بدورٍ ما في عملية نسخ نصوص الكتاب المقدس. يمكننا البدء بالتعرض للنزاعات التي كان مسيحيو القرون الأولى قد انخرطوا فيها مع اليهود غير المسيحيين.
اليهود والمسيحيون في حالة صراع
إحدى الأمور التي تبعث على السخرية فيما يتعلق بالمسيحية في عصورها المبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا، عَبَدَ إله اليهود وحافظ على العادات اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية، وكان له تلاميذ من اليهود الذين اتبعوه على اعتبار أنه المسيح اليهوديَّ. على الرغم من ذلك، وفي غضون عشرات قليلة من السنوات فحسب بعد موته، كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من اليهودية موقف النقيض. فكيف انتقلت المسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة يهودية إلى ديانة معادية لليهود؟
إنه سؤال صعب، والإجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كاملا (123). أما هنا، فبإمكاني على الأقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تاريخي موجز لظهور معاداة اليهودية في المسيحية الأولى كوسيلة لإعطاء وصف معقول للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ المسيحيون الذين في بعض الأحيان قاموا بتحريف نصوص كتابهم المقدس على نحوٍ معادٍ لليهودية.
شهدت العشرون عامًا الأخيرة زيادة كبيرة ومفاجأة في مجال البحث عن يسوع التاريخي. نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر الآن عددٌ هائلٌ من الآراء التي تبحث في الكيفية المثلى لفهم حقيقة المسيح- هل كان معلمًا يهوديًّا، أم كان مصلحًا اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا: تتزايد الخيارات إلى مالا نهاية. الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا، على الرغم من كل هذه الاختلافات، هو أنه بغض النظر عن الكيفية التي يمكن للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع، فإنه لابد أن يوضع في سياقه الحقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش في القرن الأول الميلاديّ. أيًّا ما تكن السمات الأخرى التي كان عليها يسوع، فإنه كان يهوديًّا بكل ما في الكلمة من معنى، لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو الحال بالنسبة لتلاميذه أيضًا. في بعض اللحظات – قبل موته على الأرجح، وبعده على وجه اليقين - أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره المسيح اليهوديَّ. ورغم أن اليهود الآخرون كانوا يفهمون مصطلح المسيح بطرق مغايرة خلال القرن الأول، إلا أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان محط إجماع كل اليهود عندما يفكرون في المسيح، وذلك أنه يجب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر، بطريقة ما - ربما على سبيل المثال من خلال تكوين جيش يهوديٍّ أو إنزال ملائكة السماء - أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة التي يحكمها الله نفسه (ربما من خلال وسيط بشريّ). المسيحيون الذين أطلقوا على المسيح لقب المسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا الآخرين بزعمهم هذا، لأن يسوع، بدلا من أن يكون محاربًا عظيمًا أو حاكم بأمر السماء، كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّلا هاجم الجانب السئ من الشريعة وصُلِب كمجرم أثيم.
إطلاق اسم المسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا يجلب لقائله السخرية. لم يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب الجانب. بل كان ضعيفًا وعاجزًا – فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذلالا وإيلامًا من بين الطرق التي ابتكرها الرومان الذين هم أصحاب السلطة الحقيقية. رغم ذلك، أصرَّ المسيحيون على أنَّ يسوع هو المسيح وعلى أنَّ موته لم يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب المقدس وأنَّه وقع بترتيبٍ من الله، حيث جلب عن طريقه الخلاص للعالم.
ماذا كان على المسيحيين أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا الأمرَّيْن لإقناع غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة الحال ليعترفوا أنهم كانوا هم المخطئون. وإذا لم يكونوا هم، فمن؟ لابد وأن اليهود كانوا هم المخطئين. في وقت مبكر من تاريخهم، بدأ المسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود الذين رفضوا رسالة المسيحيين كانوا متمردين وعميانا، لأنهم برفضهم لرسالة يسوع، يرفضون الخلاص الذي قدمه الإله ذاته الذي يعبده اليهود. بعضٌ من هذه المزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا المسيحي الأقدم، بولس الرسول. ففي رسالته الأولى التي كتبها لمسيحيي تسالونيكي، والمحفوظة حتى اليوم، يقول بولس:
فَإِنَّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ (1تسالونيكي 2: 14- 15)
أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع لأنهم فهموا أن مقامهم الخاص عند الله كان عائدًا إلى أمرين اثنين: أنَّ لديهم الشريعة التي أعطاها الله إياها وأنهم يتمسكون بها (رومية 10: 34). مع ذلك، كان الخلاص حسب مفهوم بولس قد جاء لليهود وللأمم كذلك، ولكن ليس عبر الشريعة وإنما بالإيمان بموت يسوع وقيامته (رومية 3: 21 -22). لذلك، ليس للالتزام بالشريعة أي دور في وقوع الخلاص؛ ولأجل هذا علَّم بولس الوثنيين (أو الأمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام الله لا يحدث باتباعهم للشريعة. لقد كان على الأمميين أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا إلى اليهودية (غلاطية 2: 15 – 16).
المسيحيون الأوائل الآخرون، بطبيعة الحال، كان لهم رأي آخرـ كما هو حالهم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى، على سبيل المثال، يبدو وكأنه يفترض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته هما اللذان جلبا الخلاص، فإن تلاميذه سيلتزمان بطبيعة الحال بأحكام الشريعة، كما فعل يسوع نفسه (انظر متى 5: 17-20). في النهاية، مع ذلك، أصبح من المسلم به على نطاق واسع أنَّ المسيحيين كانوا مختلفين مع اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية الخلاص، وحول أن الانضمام إلى الشعب اليهودي سيعني الارتباط بالشعب الذي رفض مسيحه، والذي، في حقيقة الأمر، رفض الإيمان بإلهه الخاص.
وعندما ننتقل إلى القرن الثاني نجد أنَّ المسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتين منفصلتين كليةً إلا أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها، رغم ذلك، الكثير لتقوله عن الأخرى. وجد المسيحيون أنفسهم، في الواقع، وقد شكلوا نوعا من الرابطة. لأنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو المسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية المقدسة؛ ولكي تحصل على المصداقية في عالمٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب في كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها، فقد صار لزامًا على المسيحيين أن يواصلوا الاستشهاد بالكتب المقدسة ـ باعتبارها أساسا لمعتقداتهم الخاصة. كان هذا يعني أنَّ المسيحيين ادَّعوا أنَّ الكتاب المقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا المقدس. ولكن أليس الكتاب المقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ المسيحيون يصرّون على أنَّ اليهود لم ينكروا فحسب مسيحهم، وإنما هم بذلك قد أنكروا إلههم، وأساؤوا فهم كتابهم المقدس أيضا. ولذلك نجد أنَّ الكتابات المسيحية مثل ما عرف باسم رسالة برنابا، وهو الكتاب الذي اعتبره بعض المسيحيين الأوائل جزءا من قائمة العهد الجديد الرسمية، قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا ولا تزال ديانة باطلة، وأنَّ ملاكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة التي أعطاها الله لموسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، في حين أنها كانت من المفترض أن تفسر في الحقيقة على نحوٍ رمزيٍّ(124).
في النهاية نجد المسيحيين يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات الممكنة لعدم قبولهم يسوع باعتباره المسيح. فمع وجود مؤلفين، جوستينوس الشهيد الذي عاش في القرن الثاني كمثال، يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا الله أن يفرض الختان على اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا مخصوصًا جديرًا بالاضطهاد. هناك أيضا مؤلفون، مثل ترتليانوس وأوريجانوس، يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها الجيش الروماني في عام 70 ميلاديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم، ومؤلفون مثل مليتو أسقف سرديس يجادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم المسيح، كانوا في الواقع مدانين بقتل الله.
«انتبهوا يا كل عائلات الأمم وترقبوا! جريمة قتل استثنائية حدثت في قلب أورشاليم، في المدينة المكرسة لشريعة الله، في مدينة العبرانيين، في مدينة الأنبياء، في المدينة المعروفة بالعادلة. ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر بالعار من إجابة هذا السؤال، لكنَّ الإجابة عليه واجبة.... الذي علّق السماء في الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي سمَّّر السموات في مكانها، دُقَّ بالمسامير؛ الذي ثبت كل الأشياء هو نفسه ثُبِّتَ إلى شجرة. السيد قد أُهِين، الرب قد قُتِل، ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح 94-96)(125).
من الواضح أننا قطعنا شوطا طويلا في الابتعاد عن نموذج يسوع، ذلك اليهودي الفلسطيني الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشير بين أبناء وطنه وعلَّم تلاميذه اليهود المعنى الحقيقي للشريعة اليهودية. باقتراب القرن الثاني وعندما كان النسَّاخ المسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص التي أصبحت في النهاية جزءًا من العهد الجديد، كان غالبية المسيحيين من الوثنيين السابقين، أي من غير اليهود ممن تحولوا إلى الإيمان بالمسيحية والذين فهموا أنه على الرغم من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا، في الأساس، على الإيمان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته في الكتاب المقدس اليهودي، إلا أنه كان ذا توجه معاد لليهود تماما.

تحريفات النص المناهضة لليهود
معاداة اليهودية التي كان يكنها بعض النساخ المسيحيين في القرنين الثاني والثالث كان لها دورٌ هام في الطريقة التي بها نسخت النصوص. واحد من أوضح الأمثلة نجده في رواية لوقا لحادثة الصلب، التي يقال فيها إن يسوع نطق بصلاة من أجل هؤلاء المسئولين عن صلبه:
وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا (لوقا 23: 33-34)
صلاة يسوع هذه كما سيتضح لا يمكن أن نجدها، مع ذلك، في كل ما لدينا من مخطوطات: فهي مفقودة في أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي البردية p75، التي يرجع تاريخها إلى وقت قريب من عام 200 ميلادية) وشواهد أخرى عديدة عالية القيمة من القرن الرابع والقرون التي تلته؛ في الوقت ذاته، هذه الصلاة موجودة في المخطوطة السينائية وفي عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك معظم المخطوطات التي تمت كتابتها في العصور الوسطى. ولذلك فالسؤال الملح الآن هو: هل قام ناسخ أو عدد من النساخ بحذف هذه الصلاة من مخطوطة كانت تحتوي عليها في الأصل؟ أم هل أضيفت من خلال أحد النساخ (أو عدد من النساخ) إلى مخطوطة هي في الأصل كانت خالية منها؟
انقسمت آراء العلماء لفترة طويلة عند الرد على هذا السؤال. فلأن الصلاة مفقودة في العديد من الشواهد المبكرة، ولأنها شديدة الأهمية، فلم يقصِّر كثيرٌ من العلماء في الادِّعاء بأنها غير أصلية داخل النصّ. أحيانا يميلون إلى حجة مبنية على دليل داخليّ. كما أوضحت من قبل، مؤلف إنجيل لوقا هو نفسه من كتب سفر أعمال الرسل. في سفر الأعمال نجد فقرة شبيهة بفقرتنا هذه في قصة ستيفانوس، شهيد المسيحية الأول والإنسان الوحيد الذي ذُكِرَ في سفر الأعمال أنَّ أمرًا قد صدر بقتله. ولأن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف، فقد نُفِّذَ في حقه الرجم حتى الموت عبر جمهور يهوديٍّ غاضب؛ وقبل أن يموت صلى قائلا: «يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال 7: 60).
بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ لم يرغب في أن يبدو يسوع أقلَّ تسامحًا بأيِّ حالٍ من شهيده الأول، إسطيفانوس، فأضاف الصلاة إلى إنجيل لوقا حتى يدعو يسوع أيضا بالمغفرة لقاتليه. إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا تمامًا لأسباب عدَّة. أشدُّ هذه الأسباب إقناعا هو الآتي: في كلِّ مرة يحاول النساخ أن يوفقوا بين النصوص بعضها البعض، كانوا يميلون إلى فعل ذلك عبر تكرار الكلمات ذاتها في الفقرتين كلتيهما. في حالتنا هذه، لا نجد الصياغة متطابقة بل جلُّ ما نجده مجرد صلاتين متشابهتين. ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان نمطًا يكرره النساخ.
الأمر المفاجئ أيضا بخصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا، أي المؤلف نفسه، في عددٍ من المناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بين ما حدث ليسوع في الإنجيل وما حدث لتلاميذه في سفر الأعمال: يسوع وتلاميذه يعمَّدون، كلا الجانبين يقبلان الروح القدس عند لحظة العماد، كلاهما يبشِّرُ بالأخبار السارة، وكلاهما يرفضان من قبل الناس بسببها، كلا الجانبين يتألمان بأيدي الزعماء اليهود... إلى آخره. ما يحدث ليسوع في الكتاب المقدس يحدث لتلاميذه في سفر الأعمال. ومن هنا فليس ثمة أي مفاجأة ـ بل الأمر بالأحرى متوقع ـ في أنَّ واحدا من تلاميذ يسوع الذين أعدموا مثله تماما بمعرفة السلطات الحانقة، سيصلِّي إلى الله ليغفر لقاتليه.
هناك أسباب أخرى تدفعنا للارتياب في كون صلاة يسوع من أجل الغفران هي جزء أصلي من الإصحاح 23 من إنجيل لوقا. ففي كل مكان إنجيل لوقا وسفر الأعمال يتم التأكيد، على سبيل المثال، على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو حال تلاميذه)، فإن هؤلاء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم بحقيقة ما يقومون به. فها هو بطرس في سفر الأعمال إصحاح 3 يقول: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ» (العدد 27)؛ أو كما يقول بولس في سفر الأعمال الإصحاح 17: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (العدد 30 *). وهذه هي تحديدا الملاحظة المتوافقة مع صلاة يسوع: «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون».
يبدو، إذن، أنَّ لوقا 23: 34 كانت جزءا من نص لوقا الأصلي. فلماذا، رغم ذلك، يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا الجزء؟ هنا يصير الوعي بالسياق التاريخي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حاسمًا. ربما يتساءل القرَّاء المعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان المسيح يصلي من أجله. فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا مسئولين عن تسليمه للرومان في المقام الأول؟ مهما تكن الطريقة التي يمكن أن نجيب بها على هذا التساؤل في محاولة لتفسير هذه الفقرة اليوم، يبدو أنَّ الكيفية التي كانوا في الكنيسة الأولى يفسرونها بها هي من الوضوح بمكان. تقريبا في كل حالة نوقشت فيه الصلاة في كتابات الآباء الأوائل للكنيسة، يبدو جليًّا أنهم كانوا يفسرونها بأن المقصود بها اليهود وليس الرومان(126). لقد كان يسوع يطلب من الله أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا مسئولين عن موته.
الآن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن يحذفوا العدد واضحًا. أيصلِّي يسوع من أجل المغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيين الأوائل كان ثمة مشكلتان تواجهان هذا العدد في حال النظر إليه على هذا النحو. أولا، تسائل المسيحيون: ما الذي يجعل يسوع يصلي لمغفرة ذنوب هذا الشعب المتمرد الذي رفض اللهََ نفسهَ عن عمد؟ هذا الأمر كان نادر التصور عند كثيرٍ من المسيحيين. بل أكثر من ذلك، نقول: إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثيرٌ من المسيحيين على قناعة تامة بأنَّ الله لم يغفر لليهود لأنهم، كما ذكرت من قبل، اعتقدوا أن الله سمح بتدمير أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع. يقول أوريجانوس أحد آباء الكنيسة: «صحيحٌ أنَّ المدينة التي مر فيها يسوع بمثل هذه الآلام ينبغي أن تدمر بالكامل، وأنَّ الأمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد سيلزس 4، 22)(127)
كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه، ومن الواضح أن الله لم يسامحهم. انطلاقًا من وجهة النظر هذه، ليس لدعاء يسوع بالمغفرة من أجلهم أيَّ معنى في وقت لم يكن ثمة غفران ممكن في حقهم. ماذا كان على النساخ أن يفعلوا، إذن، مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خلال اقتطاع النص لكي لا يواصل يسوع طلب المغفرة لهم.
هناك فقرات أخرى تركت فيها المشاعر المعادية لليهود التي كان النساخ الأوائل يكنونها في صدورهم أثرها على النصوص التي كانوا ينسخونها. واحدة من أبرز الفقرات التي تشير إلى الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي في مشهد محاكمة يسوع في إنجيل متَّى. فوفقًا لهذه الحادثة، يعلن بيلاطس براءة يسوع، حيث يغسل يده لكي يظهر أنه: «بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!»
ثم يطلق الحشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا لها أن تلعب هذا الدور الرهيب في اندلاع العنف ضد اليهود خلال القرون الوسطى، حيث يبدو أنهم يعلنون فيها مسئوليتهم عن موت يسوع: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا «(متى 27: 24 -25).
التباين النصّي موضع اهتمامنا يحدث في العدد التالي. يقال في هذا العدد إن بيلاطس جلد يسوع ثم «أَسْلَمَهُ لِيُصْلَبـ «. أي شخص يقرأ هذا النص سيفترض في البداية أنه سلم يسوع لجنوده (الرومان) لكي يصلبوه. ما يجعل الأمر أكثر إحداثا للصدمة هو أنه في بعض الشواهد المبكرة ـ بما في ذلك واحدة من التصحيحات التي أدخلها النساخ إلى المخطوطة السينائية ـ تم إدخال تغيير إلى النص لكي يقوِّي إلى مدى أبعد التورط اليهودي في موت يسوع. وفقا لهذه المخطوطات، قام بيلاطس «بتسليمه إليهم (أي إلى اليهود) لكي يقوموا هم بصلبه». الآن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة، وفي الوقت نفسه هذا تغيير كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بين المسيحيين الأوائل.
أحيانا تكون القراءات المتباينة المعادية لليهود دقيقة للغاية ولا تلفت انتباه الإنسان إليها إلى أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول المسألة. على سبيل المثال، في قصة الميلاد الواردة في إنجيل متى، يقال إنَّ يوسف دعى ابن مريم المولود حديثًا يسوع (التي تعني «الخلاص») «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم «(متى 1: 21). من العجيب أنه في واحدة من المخطوطات التي حفظتها لنا الترجمة السوريانية، يقول النص بدلا عن ذلك: «لأنه سيخلص العالم من خطاياه». هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود يمكنهم أن يحصلوا على الخلاص.
تغييرٌ مشابهٌ آخر يحدث في إنجيل يوحنا. ففي الإصحاح الرابع، يتحدث يسوع مع المرأة السامريّة ويقول لها، «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ». (العدد 22). في بعض المخطوطات السوريانية واللاتينية تغير النص فأصبح يقول الآن إنَّ: «الخلاص يأتي من أرض يهودا». بكلمات أخرى، ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب الخلاص إلى العالم؛ بل موت يسوع في أرض يهودا هو الذي فعل ذلك. مرة أخرى ربما نرتاب في أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف الذي قام به النساخ.
المثال الأخير الذي سأسوقه في هذا التعرض المختصر يأتي من مخطوطة بيزا التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وهي نفسها المخطوطة التي تحوي قراءات متباينة طريفة ومثيرة للدهشة عن أيِّ مخطوطة أخرى. في الإصحاح السادس من لوقا، حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتلاميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (6: 1-4)، نجد قصة إضافية في مخطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد: «في اليوم ذاته رأى رجلا يعمل في السبت، وقال له، «يا إنسان، لو كنت تعلم ما تفعله، فأنت مبارك، لكن لو لم يكن عندك علم، فأنت ملعون ومنتهك للشريعة». إن تفسيرا كاملا لهذه الفقرة غير المتوقعة وغير العادية يتطلب قدرا كبيرا من البحث(128). بالنسبة لأهدافنا في هذا الفصل يكفي أن نلاحظ أنَّ يسوعَ واضحٌ للغاية في هذه الفقرة على نحوٍ لم يحدث أبدا في أي مكان آخر في الأناجيل. في مواقف أخرى، عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت، يدافع عن أفعاله، لكنه أبدا لا يشير إلى أن أحكام الشريعة الواردة في حق يوم السبت يجب أن تُنْتَهَك. أمَّا في هذا العدد، يصرِّحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ لا غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛ هؤلاء الذين لا يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب المخطئون. مرة أخرى، هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات علاقة بظهور الروح المعادية لليهودية في الكنيسة المبكرة.

نور الإسلام
05-02-2012, 11:35 AM
الوثنيون ونصوص الكتاب المقدس
لقد رأينا حتى الآن كيف أثّرت النزاعات الداخلية حول كنه العقيدة الصحيحة أو إدارة الكنيسة (دور النساء) على النساخ المسيحيين الأوائل، وكذلك كان أيضًا للصراعات بين الكنيسة والكنيس اليهودي التأثير ذاته، فلقد لعبت مشاعر الكراهية لليهود دورا في الكيفية التي نقل هؤلاء النساخ النصوص التي أعلن في النهاية أنها العهد الجديد. لم يكن على المسيحيين في القرون الأولى أن يتجادلوا مع الهراطقة من داخل الكنيسة واليهود من خارجها فحسب، بل وجدوا أنفسهم في معركة مستعرة مع العالم أجمع، العالم الذي كان يتشكل في الغالب من الدخلاء الوثنيين. كلمة وثني في هذا السياق، أي حينما يستخدمها المؤرخون، لا تحمل أي مدلولات سلبيّة. فهي ببساطة تشير إلى أي شخص في العالم القديم يؤمن بأيٍّ من الديانات التعددية الكثيرة في هذا العصر. وبما أنَّ هذا كان يشمل أيَّ شخصٍ من غير المسيحيين أو اليهود، فإننا نتحدث عن قطاعٍ يشكل 90 – 93 في المائة من عدد سكان الإمبراطورية الرومانية. كان الوثنيون أحيانًا يقاومون المسيحيين بسبب شكل عباداتهم غير المعتاد وبسبب قبولهم يسوع باعتباره ابن الله الذي جلب موته على الصليب الخلاص؛ وأحيانا كانت هذه المقاومة تؤثر على النساخ المسيحيين الذين كانوا يعيدون كتابة نصوص الكتاب المقدس.
المقاومة الوثنية للمسيحية
تشير سجلاتنا المبكرة إلى أنَّ حشود الوثنيين وحدها أحيانًا، وهم إلى جانب السلطات في أحيان أخرى كانوا يقاومون المسيحيين بطرقٍ عنيفة (129). بولس الرسول، على سبيل المثال، في عدد من من العذابات التي تعرض لها من أجل المسيح، يحكي أنَه في ثلاث مناسبات «تعرَّض للضرب بالعصيّ» (2كور 11: 25)، الذي هو نوع من العقاب كانت السلطات المحلية الرومانية تستخدمه ضد المجرمين الذين حُكِم عليهم بأنهم خطرين على المجتمع. وكما رأينا، يكتب بولس في رسالته الأولى التي نجت من الضياع أنَّ كنيسة الأمم المسيحية التي تنتمي إليه في تسالونيكا قد «تَأَلَّمْوا هُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِهُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ (أي كنيسة اليهودية) أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ «(1 تسالونيكي 2: 14).
في الموقف الأخير، يبدو أن التعذيب الذي تعرض له لم يكن «رسميا» وإنما كان نتاجًا لنوع من العنف الجماهيري. في الحقيقة، معظم المعارضة الوثنية للمسيحيين أثناء القرنيين الأوليين من عمر الكنيسة حدثت على المستوى الجماهير أكثر من كونها جاءت نتيجة لاضطهاد روماني حكوميٍ منظَّم. فعلى خلاف ما يبدو أنَّ كثيرًا من الناس يعتقدونه، لم يكن ثمة في المسيحية ذاتها أي شيء «غير قانوني» في خلال هذه السنوات المبكرة. فالمسيحية ذاتها لم تكن محظورة، ولم يكن المسيحيون غالبا في حاجة إلى التخفِّي. وفكرة أنهم كان لزامًا عليهم أن يختفوا في المقابر الرومانية لتجنب الاضطهادات، وأن يحيِّي بعضهم البعض بإشارات سرية مثل رمز السمكة، ليست إلا مجموعة من الأساطير. لم يكن ثمة أيُّ خرقٍ للقانون في الإيمان بيسوع أو في عبادة إله اليهود، أو في تأليه يسوع، ولم يكن ثمة شيء غير شرعيٍّ (في معظم الأماكن) في إقامة الاجتماعات للصلاة أو الاجتماعات الأخوية، أو في إقناع الآخرين بأن يؤمنوا بأنَّ المسيح هو ابن الله.
وعلى الرغم من ذلك كان المسيحيون أحيانا يتعرضون للاضطهاد. فلماذا حدث ذلك؟
لمعرفة السبب وراء ما تعرض له المسيحيون من اضطهاد، من المهم أن نعرف شيئا عن الديانات الوثنية في داخل الإمبراطورية الرومانية. هذه الديانات جميعا ـ وكان تعدُّ بالمئات ـ كانت تؤمن بتعدد الآلهة، وتتوجه بالعبادة إلى آلهة كثيرة؛ وكلها كان يؤكِّد على ضرورة عبادة هذه الآلهة عبر أفعال الصلاة والقرابين. في أغلب الأحيان، لم تكن هذه الآلهة تُعْبد لكي تضمن لعبَّادها السعادة في الحياة الآخرة؛ لقد كان الناس، في العادة، أكثر قلقا بخصوص الحياة الدنيا التي كانت بالنسبة للغالبية العظمى من الناس قاسية ومحفوفة بالمخاطر في أفضل الأحوال. لقد كانت الآلهة توفِّر للبشر ما كان يستحيل عليهم أن يوفروه لأنفسهم ـ فالمحصول توفر له النماء، والماشية توفر لها الغذاء وما يكفي من الأمطار وتوفر كذلك الصحة الشخصية والحياة الرغدة والقدرة على الإنجاب، وتحقيق النصر في الحرب والرخاء في السلم. كانت الآلهة تحمي الدولة وترفع من شأنها؛ وكان بمقدور الآلهة أن تتدخل لكي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش ولتجعل العمر مديدا وسعيدا. وهي تفعل كل ذلك في مقابل حركات بسيطة تمثل نوعًا من العبادة ـ عبادة على مستوى الدولة أثناء الأعياد القومية تمجيدا للآلهة، وعبادة على مستوى الجماهير في المجتمعات والعائلات.
وعندما تسوء الأمور بظهور نذر الحروب أو الجفاف، أو المجاعات، أو الأمراض، فإن هذا ربما يكون علامة على سخط الآلهة على الطريقة التي يكرمونها بها. في مثل هذه الأوقات، من كان يقع عليه اللوم بسبب الفشل في تمجيد الآلهة؟ بالتأكيد هؤلاء الذين رفضوا أن يخضعوا لها بالعبادة. إنهم المسيحيون.
واليهود بطبيعة الحال كانوا هم أيضا لا يعبدون آلهة الوثنيين، لكنهم كانوا ينظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم مستثنين من عبادة آلهة الوثنيين التي كانت أمرا ملزمًا لجميع البشر، حيث كان اليهود شعبًا مميزا بتقاليده الآبائية التي كانوا يتبعونها بإخلاص(130). وعندما ظهر المسيحيون على مسرح التاريخ لم يُعْتَرَفْ بهم باعتبارهم شعبًا منفصلا مميزا عن غيره، فلقد كانوا إما مرتدين عن اليهودية أو ضمن النطاق الواسع من الديانات الوثنية التي كانت لا توجد بين أفرادها أي روابط دم أو من أي رابط آخر فيما عدا مجموعة الاعتقادات والممارسات الدينية الخاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، كان معروفًا عن المسيحيين أنهم غير اجتماعيين، فهم يجتمعون معًا في كنائسهم، ويهجرون عائلاتهم وأصدقائهم القدامى، ولا يشاركون في أعياد العبادة التي يحتفل بها عامة الشعب.
كان المسيحيون، من ثمَّ، عرضة للاضطهاد لأنهم كان ينظر إليهم يمثلون ضررًا لحياة المجتمع الصحية، لسببين أولهما أنهم يترفعون عن عبادة الآلهة التي تحمي المجتمع وثانيًا لأنهم يعيشون معًا بطرق بدت غير اجتماعية. وحينما تنزل بالناس الكوارث، أو حينما يخشى الناس أن تنزل بهم الكوارث، فمن يا ترى غير المسيحيين سيحمِّلونه إثم ما يقع؟
أما حكام الولايات المتعددة من الرومانيين، ناهيك عن الإمبراطور نفسه، فنادرًا ما يتدخلون في مثل هذه الشئون المحليّة. وعندما فعلوا، تعاملوا ببساطة مع المسيحيين كشريحة اجتماعية خطرة لابد من سحقها. كان المسيحيون في العادة يمنحون الفرصة لتخليص أنفسهم من خلال عبادة الآلهة بالطرق المطلوبة منهم (من خلال تقديم البخور إلى أحد الآلهة، على سبيل المثال)؛ فإذا رفضوا، كان ينظر إليهم باعتبارهم مثيري قلاقل ومتمردين وكانوا يعاملون على هذا الأساس.
باقتراب منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ المسيحيون يلفتون انتباه المفكرين الوثنيين الذين هاجموهم في مقالات كتبت خصيصًا للرد عليهم. هذه الأعمال لم ترسم صورة سلبية المسيحيين أنفسهم فحسب، وإنما أيضًا هاجمت المعتقدات المسيحية باعتبارها معتقدات مثيرة للسخرية (فهم على سبيل المثال يدعون عبادة إله اليهود في حين يرفضون الالتزام بالشريعة اليهودية!) وبدأوا في الغمز واللمز بالممارسات المسيحية باعتبارها ممارسات شائنة. بخصوص النقطة الأخيرة تلك، كان يلاحظ أحيانا أنَّ المسيحيين يجتمعون تحت حجب الظلام، وينادي أحدهم الآخر بالـ «أخ» و«الأخت» ويحيِّي أحدهم الآخر بتبادل القبلات؛ وكان يقال عنهم إنهم يعبدون إلههم من خلال أكلهم جسد ابنه وشربهم دمه. ماذا كان على المرء أن يفعل حيال مثل هذه الممارسات؟ لو أنَّه بإمكانك أن تتصور الاحتمال الأسوأ، فلن تكون قد أبعدت النجعة. خصوم المسيحيين من الوثنيين ادعوا أنَّ المسيحيين مارسوا زنا المحارم (أي علاقات جنسية بين الأخوة وأخواتهن)، ومارسوا قتل الأطفال (من الأبناء)، وأكل لحوم البشر (أكل الجسد وشرب دمه) في شكل طقوسيٍّ تعبُّدي. هذه الاتهامات ربما تبدو غير قابلة للتصديق في أيامنا هذه، لكنها في مجتمع كان يحترم الحشمة والصراحة، كانت مقبولة على نطاق واسع. لقد كان المسيحيون ينظر إليهم على أنهم صنف شرير.
في ميدان الهجمات الفكرية على المسيحيين، كان ثمّة اهتمام ملحوظ بيسوع(131). كمؤسس لهذا الإيمان الجديد سئ السمعة مجتمعيًّا. حيث أشار الكتاب الوثنيون إلى أصله الوضيع وانتمائه إلى الطبقة الدنيا تقريعًا للمسيحيين وسخرية بهم من أجل اعتقادهم بأنه كان مستحقا للعبادة ككائن إلهي. كان يقال إنَّ المسيحيين يعبدون مجرمًا مصلوبًا، ثم بغباء يؤكدون أنه كان بطريقة ما كائنا إلهيا.
بعض هؤلاء الكتَّاب، بدءًا من قرابة نهاية القرن الثاني، قرأ بالفعل كتابات الأدب المسيحيّ لكي يفهمهم على نحوٍ أفضل. فكما قال سيلزس الناقد الوثني ذات يوم، بخصوص أساس هجومه على المعتقدات المسيحية:
هذه الاعتراضات تأتي من داخل كتاباتكم، ولسنا في حاجة إلى شهود أخرين: فأنتم بأنفسكم تمنحوننا ما به نبطل إيمانكم (ضد سيلزس 2، 74)
هذه الكتابات كانت أحيانا شديدة التهكم والسخرية، مثل ما نجده في كلمات الوثني «بورفراي»: لقد كان كتبة الأناجيل كتَّابٌ مزيفون ـ لم يكونوا معاينين ولا شهود عيان لحياة يسوع. فكلُّ واحدٍ من المؤلفين الأربعة يناقض الآخر في روايته لأحداث معاناة يسوع وصلبه (ضد المسيحيين 2، 12-15)(132).
ردا على هذا النوع من الهجمات، وادعاءات الوثني سيلزس، حرَّف النُسَّاخ المسيحيون نصوصهم لكي يتخلصوا من المشكلات التي ينتبه إليها المتمرسون من الخصوم الخارجيين:
«بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب، يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيرون النص الأصلي للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو عدد أكبر من ذلك من المرات، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم «(ضد سيلزس 2. 27)
كما هو واضح، لسنا بحاجة للاستشهاد بخصوم المسيحية من الوثنيين لكي نجد دليلا على أن النساخ كانوا أحيانا يغيرون النصوص على ضوء المعارضة الوثنية للإيمان. فهناك مواضع داخل مخطوطات العهد الجديد المحفوظة إلى الآن تظهر هذا النوع من ميل النساخ إلى عمل ذلك(133).
قبل أن نبدأ في التعرض لبعض الفقرات المتعلقة بهذا الأمر، ينبغي أن أشير إلى أنَّ تلك الاتهامات الوثنية الموجهة للديانة المسيحية ومؤسسها لم تمر بلا رد من الجانب المسيحي. على العكس، فمع بداية تحول أصحاب الفكر للإيمان بالمسيحية، بداية من منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ عددٌ كبيرٌ من الدفاعات المنطقية، التي عرفت تحت اسم الدفاعيات، في الظهور من خلال أقلام المسيحيين. بعض هؤلاء الكتاب المسيحيين معروفون جيدًا لدارسي المسيحية الأولى، مثل جستينوس الشهيد، وترتليانوس، وأوريجانوس؛ والبعض الآخر أقل شهرة ولكنهم ليسوا أقل تميزا في دفاعهم عن العقيدة. من هؤلاء «أثيناجوراس، وأريستيدس، والمؤلف المجهول الذي كتب الخطاب الموجه إلى «ديوجنتس» (134). عمل هؤلاء العلماء كمجموعة على إظهار الضلال في حجج خصومهم الوثنيين، دافعين بأنه على خلاف الزعم القائل بخطورة المسيحية على المجتمع، فإنها هي الصمغ الذي يبقي المجتمع متماسكًا؛ مصرِّين ليس فقط على أن الديانة المسيحية هي ديانة عقلانية، بل أيضًا على أنها الديانة الحقة الوحيدة التي شهدها العالم؛ زاعمين أنَّ المسيح كان بالفعل الابن الحقيقي لله، الذي جلب موته الخلاص؛ مجتهدين في الدفاع عن طبيعة الكتابات المسيحية الأولى على أنها حقيقية وموحى بها.
كيف أثَّرت هذه الحركة الدفاعية(عن الإيمان) خلال العصور الأولى للمسيحية على نسّاخ القرنين الثاني والثالث الذين كانوا ينسخون نصوص العقيدة؟
التحريفات التي تعرض لها النص لأسباب دفاعيّة
رغم أنني لم أذكر ذلك في حينه، إلا أننا رأينا بالفعل نصًّا يبدو أنه قد تعرض للتعديل على أيدي النسّاخ لأسباب دفاعيّة. فكما رأينا في الفصل الخامس، كان العدد 1: 41 من إنجيل مرقس يشير في الأصل إلى أنه عندما اقترب مجزومٌ من يسوع طلبا للشفاء، غضب يسوع ومد يده ليلمسه، وقال «فلتطهر». وجد النسَّاخ صعوبة في نسبة شعور الغضب ليسوع في هذا السياق، فعدَّلوا النص ليقول، بدلا من ذلك، إن يسوع تحنن على الرجل.
من الممكن أن يكون ما دفع النسّاخ لتغيير النص شيء أكثر من مجرد رغبة بسيطة في تسهيل فهم مقطع صعب. أحد نقاط الخلاف الدائمة بين منتقدي المسيحية من الوثنيين وبين مفكريها المدافعين عنها تتعلق بسلوك المسيح، وما إذا كان قد تصرف على نحوٍ يليق بشخص ادَّعى أنه ابن الله. يجب أن أؤكد أنَّ ذلك لم يكن خلافًا حول إمكانية تصور أنَّ كائنًا بشريًّا يمكن أيضًا أن تكون له طبيعة إلهية بشكل ما. فتلك نقطة كانت محل اتفاق بين الوثنيين والمسيحيين بشكل تام، حيث يعرف الوثنيون أيضًا قصصًا تحول فيها كائنٌّ إلهيٌّ إلى بشريِّ وتعامل مع الآخرين هنا على الأرض. القضية كانت هل تصرف يسوع بهذا الشكل الذي يبرر الاعتقاد بأنَّه واحد من هذا النوع، أم، على العكس من ذلك، كان لمواقفه وتصرفاته دورًا في استبعاد إمكانية أن يكون بالفعل ابنا لله (135).
في تلك الفترة كان الاعتقاد السائد بين الوثنيين هو أن الآلهة لا تعتريها المشاعر التافهة والنزوات التي تعتري الإنسان الفاني، وأنهم في الحقيقة أسمى من تلك الأشياء(136). كيف يمكن للمرء، إذن، أن يحدد ما إذا كان شخصٌ ما له طبيعة إلهية أم لا؟ من البديهي أن هذا الشخص سيكون عليه إظهار قدرات (مادية أو فكرية) فوق طاقة البشر؛ ولكنه يحتاج أيضًا لأن يتصرف بشكل يتواءم مع الزعم بأنه قد نشأ في العالم الإلهي.
لدينا عددٌ من الكُتَّاب من تلك الفترة يصرون على أن الآلهة لا «تغضب» لأن الغضب عاطفة إنسانية تنشأ عن الإحباط من الآخرين أو عن الإحساس بالخطأ، أو عن سبب وضيع آخر. يستطيع المسيحيون بالطبع أن يدفعوا بأن الإله قد غضب على خلقه بسبب سوء تصرفهم. إلا أن الإله المسيحي هو الآخر منزه عن أي سلوك ينم عن سرعة الغضب. ففي تلك القصة عن يسوع والمجذوم لا يوجد سبب بيِّن لأن يغضب يسوع. فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ النص تم تعديله خلال الفترة التي كان الوثنيون والمسيحيون يتجادلون فيها حول ما إذا كان يسوع قد حرص على التصرف بطريقة تتسق مع طبيعته الإلهية، فمن المحتمل بقوة أن يكون أحد النساخ قد غيَّر النص على ضوء ذلك الخلاف. هذا، بعبارة أخرى، من الممكن أن يكون قراءة متباينة وقعت لأسباب دفاعية.
تحريفٌ آخر مشابه يأتي بعد ذلك بعدة إصحاحات في إنجيل مرقس، ففي حادثة مشهورة يتعجب فيها سكان المدينة التي يعيش فيها يسوع أنفسهم من قدرته على التفوُّه بتلك التعاليم العجيبة، والقيام بتلك المعجزات. أو كما يعبرون عن دهشتهم, «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَهُنَا عِنْدَنَا؟ (مرقس 6: 3). كيف يمكن، يتساءلون هم، لشخص تربى كواحد منهم وأسرته معروفة لديهم، أن يكون قادرًا على القيام بمثل هذه الأشياء؟
هذه هي الفقرة الأولى والوحيدة في العهد الجديد التي يطلق فيها على يسوع أنه نجار. اللفظة المستخدمة (tekton) تنطبق في النصوص اليونانية الأخرى بصورة نمطية على أيِّ شخصٍ يعمل بيديه؛ أمَّا في الكتابات المسيحية المتأخرة، على سبيل المثال، يقال عن يسوع إنه صنع «محاريث وبوابات»(137). فلا ينبغي أن نفكر فيه على أنه كان شخصا يصنع أثاثًا فاخرًا. يحتمل أن تكون الطريقة الفضلى لكي «نشعر» بما تعنيه تلك الكلمة هو أن نشبهها بشيء لدينا خبرة كبيرة به؛ فالأمر أشبه بأن نقول على يسوع أنه عامل بناء. فكيف يمكن لشخص هذه خلفيته أن يكون ابنا لله؟
لقد كان هذا سؤالًا يأخذه خصوم المسيحية من الوثنيين مأخذ الجد؛ فهم، في الحقيقة، فهموا المسألة على نحوٍ منطقيٍّ: يسوع لا يمكن أن يكون ابنا لله إن كان مجرد نجار. الناقد الوثني «سيلزس» سخر من المسيحيين من أجل هذه النقطة تحديدًا، حيث ربط بين الزعم بأن المسيح كان «نجارًا» وبين كونه قد صلب (على وتد من الخشب) وبين الإيمان المسيحي بـ «شجرة» الحياة.
وكلما تحدثوا في كتاباتهم عن شجرة الحياة.. أتخيل أن سبب ذلك هو أن سيدهم قد تم تثبيته على الصليب بالمسامير، وأنه كان يعمل نجارًا. فلو تصادف أنه ألقي به من على منحدر أو إلى حفرة أو تعرض للشنق، أو لو كان إسكافيًا أو بناءًا أو حدادًا، لكان ثمة منحدر للحياة فوق السماوات، أو حفرة للقيامة، أو حبل للخلود، أو حجر مبارك، أو حديد للمحبة، أو جِلد مقدس. لو كان ثمة امرأة عجوز تغني حكاية قبل النوم لطفلها، أما كانت لتخجل من الهمس بمثل هذه القصص؟ (ضد سيلزس 6، 34).
أوريجانوس، الخصم المسيحي لسيلزس، كان ينبغي عليه أن يأخذ تلك التهمة - أن يسوع كان مجرد «نجار» – على محمل الجدِّ، لكنَّ العجيب أنه لم يتعامل معها من خلال بيان خطئها (وهو الإجراء المعتاد منه)، بل أنكرها تمامًا:
«عجز سيلزس عن إدراك أنه لا يوجد في أي من الأناجيل الموجودة في الكنائس الآن وصف ليسوع نفسه على أنه نجار». (ضد سيلزس 6، 36).
ماذا يمكننا أن نستنتج من هذا الإنكار؟ إما أن أوريجانوس نسي كل ما يتعلق بالعدد مرقس 6: 3 أو أنه كانت لديه نسخة من النص لا تشير إلى يسوع باعتباره نجارًا. وكما سيتضح، يوجد لدينا مخطوطات تحتوي على هذا القراءة البديلة تحديدًا. ففي أقدم مخطوطاتنا لإنجيل مرقس، المسماة p45، والتي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الثالث (أي العصر الذي عاش فيه أوريجانوس)، وفي شواهد لاحقة كثيرة، نجد أنَّ هذا النص له قراءة مختلفة. ففيه يسأل مواطنو البلد الذي يعيش فيه يسوع: «أليس هذا هو ابن النجار»؟ الآن، بدلًا من كون يسوع نفسه نجارًا، فإنه ابن النجار فحسب(138).
ومثلما كما كان لدى أوريجانوس أسبابًا دفاعية دفعته إلى إنكار أن يكون يسوع قد وصف بأنه نجار في أيِّ موضعٍ من الكتاب المقدس، فمن المحتمل أن يكون أحد النسّاخ قد عدَّل النص -جاعلًا إياه أكثر اتفاقًا مع النص الموازي له في متى 13: 55 - بهدف إبطال تهمة الوثني القائلة إن يسوع لا يمكن أن يكون ابنا لله لأنه كان، أولا وأخيرًا، مجرد حرفي (tekton) من الطبقة الدنيا.
فقرة أخرى تناقش صلب يسوع يبدو أنها قد تعرضت للتغيير لأسباب دفاعيّة هي لوقا 23: 32. الترجمة الإنجليزية للفقرة في النسخة القياسية المنقحة الجديدة من العهد الجديد تـُقرأ كالتالي: «شخصان آخران أيضًا، وقد كانا مجرمَين، تم اقتيادهما ليعدما معه» ولكن الطريقة التي صيغت بها الفقرة في اليونانية يمكن ترجمتها أيضا كالتالي: «شخصان آخران، كانا مجرمين أيضا، تم اقتيادهما ليعدما معه». وإذا أخذنا الالتباس الموجود في النص اليوناني في الاعتبار، فليس من المفاجئ أن يكون بعض النساخ قد وجدوا أنه من الضروري، لأسباب دفاعيّة، إعادة ترتيب الكلمات لتقرر بدون التباس أن الآخرّيْن فحسب، وليس يسوع أيضًا، هما المجرمان.
توجد تغييرات أخرى في التقليد المكتوب يبدو أنَّ الدافع إلى وقوعها هو الرغبة في إظهار أنَّ يسوع، باعتباره ابنا حقيقيًّا لله، لا يمكن أن يكون مخطئًا في أيٍّ من أقواله، خاصة ما كان منها متعلقًا بالمستقبل (حيث إن ابن الله، أولًا وأخيرًا، ينبغي له أن يعرف ما هو مزمع أن يحدث). ربما كان ذلك هو ما أدَّى إلى وقوع التغيير الذي تعرضنا له بالفعل في متَّى 24: 36، حيث يقرر يسوع صراحةً أنه لا أحد يعرف اليوم ولا الساعة التي تأتي فيها النهاية، «ولا حتى ملائكة السماء، ولا الابن، إلا الأب». عدد لا بأس به من مخطوطاتنا يقوم بإسقاط «ولا حتى الابن». وليس من الصعب تخمين السبب؛ فإن كان يسوع لا يعرف الغيب، فإنَّ الزعم المسيحي بألوهيَّته يتعرض إلى قدر لا يستهان به من التشكيك.
مثال آخر أقل وضوحًا نجده بعد ذلك بثلاثة فصول في مشهد الصلب عند متى. يقال لنا في متَّى 27: 34 إنَّ يسوع عندما كان معلقا على الصليب، أُعْطِيَ نبيذًا ممزوجا بالمُر ليشربه. إلا أنَّ عددًا كبيرًا من المخطوطات يشير، مع ذلك، إلى أنه أعطي خَلا لا نبيذًا. من الممكن أن يكون التغيير قد أدخل بهدف جعل النص متفقا على نحوٍ أفضل مع العبارة الموجودة في العهد القديم والتي تم اقتباسها لشرح الحدث. لكنَّ المرء بإمكانه أن يتساءل ما إذا كان شيء آخر قد مثَّل حافزًا للنسَّاخ أيضا. من الطريف أن نلاحظ أنَّه في العشاء الأخير، في متى 26: 29، بعد أن يوزع يسوع كأس الخمر على أتباعه، يقرر بوضوح أنه لن يشرب النبيذ مرة أخرى إلا حينما يشربها في مملكة أبيه. فهل كان المقصود من التغيير في 27: 34 من النبيذ إلى الخل هو حماية تلك النبوءة، بحيث تكون الحقيقة الثابتة أنه لم يذق النبيذ بعد أن ادعى أنه لن يفعل؟
أو ربما نلقي الضوء على التحريف الذي وقع لنبوءة يسوع أمام كبير الكهنة اليهودي أثناء محاكمته في مرقس 14: 62. عندما سُئِل عما إذا كان هو المسيح، ابن المبارك، أجاب يسوع: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ» والتي يرى العلماء المعاصرون على نطاق واسع أنها تعتبر تجسيدا، أو تكاد، لقول نسبته ليسوع صحيحة، هذه الكلمات شكلت مصدرًا لعدم الارتياح لدى الكثيرين من المسيحيين منذ وقت قريب من نهاية القرن الأول. لأن ابن الإنسان لم يأت أبدًا على سحب السماء. فلماذا إذن تنبأ يسوع أنَّ كبير الكهنة نفسه سيراه قادمًا؟ الجواب التاريخي ربما كان أن يسوع بالفعل ظن أن كبير الكهنة سيراه، أي أنَّ ذلك سيحدث في أثناء حياته. إلا أنَّه من الواضح، وذلك من سياق الكتابات الدفاعية من القرن الثاني، أن هذا الأمر كان من الممكن أن يؤخذ على أنه نبوءة كاذبة. ليس عجيبًا إذن أنَّ أقدم شاهد لدينا لإنجيل مرقس يتم فيه تعديل هذه الفقرة من خلال التخلص من الكلمات المزعجة، لكي يصير قول يسوع الآن إنَّ كبير الكهنة سوف يرى ابن الإنسان جالسًا على يمين القوة مع سحب السماء. وهكذا لم يبق أي ذكر للظهور الوشيك للشخص الذي، في واقع الأمر، لم يأت أبدًا.
في المجمل، يبدو أنَّ عددًا من فقرات المخطوطات المحفوظة لدينا تجسد المشكلات الدفاعية التي واجهها المسيحيون الأوائل، خاصة تلك التي تتعلق بيسوع نفسه مؤسس الإيمان. وكما هو الحال مع النزاعات اللاهوتية التي وقعت في الكنيسة الأولى، ومسألة دور المرأة، والنزاعات مع اليهود، فكذلك كان الحال فيما يخص النزاعات التي اشتعلت بين المسيحيين وبين شانئيهم من الوثنيين المثقفين: كل تلك الخلافات كان لها تأثير في النصوص التي كان مقدرًا لها أن تكون في النهاية جزءًا من الكتاب الذي نسميه الآن العهد الجديد وذلك لأنَّ هذا الكتاب – أو بالأحرى مجموعة الكتب تلك – تمَّ نسخه اعتمادًا على مجموعة من النسّاخ غير المحترفين في القرنين الثاني والثالث، وبين الفينة والفينة تعرض، في ضوء الظروف المحيطة بهم في هذا العصر، للتحريف.



نهاية الفصل السابع ويليه هوامش الفصل بإذن الله

نور الإسلام
05-02-2012, 11:36 AM
هوامش الفصل السابع


(117) انظر كتاب العهد الجديد لبارت إيرمان، الفصل 24، حيث اعتمدت على هذا الفصل في معظم الدراسة التالية. للاطلاع على دراسة لهذا الأمر ولتوثيق أكثر تفصيلا، انظر كتاب: «النساء والأصول المسيحية» لمؤلفيه روس كرايمر وماري روز دوأنجيلو، من إصدارات أكسفورد، نيويورك، عام 1999. وانظر أيضا كتاب: «شراكتها في النعمة: العقائد المتعلقة بالنساء عند اليهود، الوثنيين، والمسيحيين في العالم اليوناني الروماني» للمؤلف ر. كرايمر، إصدار أكسفورد 1992. وكذلك كتاب: «عندما كنَّ قساوسة: رئاسة المرأة في الكنيسة الأولى وفضيحة خضوعها عند صعود المسيحية» لمؤلفته كارن ج. تورجيسين من مطبوعات هاربر سان فرانسيسكو عام 1993.

(118) لمناقشة أكثر إسهابا، انظر كتاب «يسوع...النبي الرؤوي للألفية الجديدة» لـ بارت إيرمان، ص188-191.

(119) انظر كتاب «العهد الجديد»، لـ بارت إيرمان، الفصل 23.

يشير القوس إلى أن المؤلف يشكك في صحة نسبة هذا العدد إلى بولس الرسول.

(120) لمناقشة أكثر تفصيلا تظهر أن بولس لم يكتب العددين 34، 35، انظر على وجه الخصوص تفسير جوردن د. في المعنون بـ «الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس»، من مطبوعات إيدرمانس، جراندر رابيدز، عام 1987.

(121) أكثر المناقشات المعاصرة تفصيلا هي تلك التي قام بها إلدون جاي إبب في الجزء المعنون بـ «العوامل المتعلقة بالنقد النصي و التفسيري وتلك المتعلقة بالثقافة الاجتماعية المؤثرة في القراءة المتباينة يونيا / يونياس في رومية 16: 7» في كتاب أ. دينوكس «التفسير والنقد النصي للعهد الجديد»، من إصدارات ليوفين: عام 2002، ص227-292.

(122) للاطلاع على تغييرات أخرى من هذا النوع في سفر الأعمال، انظر كتاب «النزعات المعادية للمرأة في النص الغربي لسفر الأعمال» من تأليف: بن ويثرينجتون، في جريدة الأدب الكتابي، عدد 103 (1984) ص82-84.

(123) للاطلاع على دراستين معيارتين في هذا المجال، انظر كتاب: «الإيمان وقتل الأخوة: الجذور اللاهوتية لمعاداة الساميَّة»، (نيويورك: مطبعة سيبوري، 1974) تأليف روزماري رويثر، و كتاب «أصول اللاسامية: وجهات النظر تجاه اليهودية في العصور الوثنية و المسيحية القديمة» من تأليف جون جاجر (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، 1983). وهناك دراسة أحدث لميريام = = تايلور بعنوان: «معاداة اليهودية و الهوية المسيحية المبكرة: تحليل الإجماع الأكاديمي» (لايدن، بريل، 1995.

(124) انظر كتاب «الآباء الرسوليون»، لإيرمان، المجلد الثاني ص383.

(125) هذه ترجمة جيرالد هاوثورن؛ الترجمة الكاملة لهذه الموعظة يمكن الاطلاع عليها في كتاب «بعد العهد الجديد»، لبارت إيرمان، ص115-128. =

= أخطأ المؤلف في عزو النص حيث ذكر أن قول بولس هو في العدد 27 من الإصحاح 17 والصحيح أنه في العدد 30 من الإصحاح 17. (المترجم).

(126) انظر على وجه الخصوص كتاب ديفيد داوب «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون،» المجلد 4، بتحرير إف. إل. كروس (برلين: أكاديميافيرلاج، 1961) ص58-70، و كتاب هاينز أيتسن: «حراس الحروف»، ص119-123.

(127) ترجمة «ضد سيلزس» مأخوذة من طبعة هينري تشادويك «أوريجانوس: ضد سيلزس» (أكسفورد: كلاريندون، 1953).

(128) انظر إرنست بامل: «اقتباسات كامبردج: الإضافات إلى لوقا 6: 4 في مخطوطة بيزا»، دراسات العهد الجديد، العدد 32 (1986): ص404-426.

(129) أهم دراسة عن الاضطهادات المسيحية المبكرة هو كتاب و. هـ. سي فريند «الشهادة والاضطهاد في الكنيسة الأولى» (أكسفورد، بلاكويل، 1965). انظر أيضًا روبرت ويلكن «المسيحيون بعيون رومانية» (نيوهافن: مطبعة جامعة يال، 1984).

(130) فوق ذلك، قبل عام 70 ميلاديًا (عندما تم تدمير الهيكل)، عُرف اليهود بقيامهم بتقديم القرابين بالنيابة عن الإمبراطور، كعلامة على ولائهم للدولة.

(131) للاطلاع على مناقشة مطولة، انظر الكتاب الذي صدر حديثًا من تأليف واين كاناداي «مقالة دفاعية عن التقاليد النسخية» (أتلانتا: مطبعة جمعية الأدب الكتابي، 2004)، خاصة في الفصل الثاني.

(132) ترجمة ر. جوزيف هوفمان (أمهريست، نيويورك: بروميثيوس، 1994).

(133) الدراسة الكاملة هي لواين كاناداي، المذكورة في هامش رقم 131 بالأعلى.

(134) انظر روبرت م. جرانت، «المدافعون اليونانيون عن الإيمان في القرن الثاني» (فيلادلفيا: مطبعة ويستمنستر، 1988).

(135) انظر، على وجه الخصوص، جيوجين جالاجر: «إله أم ساحر: سيلزس و أوريجانوس عن يسوع» (تشيكو، كاليفورنيا: سكولارز برس، 1982.

(136) انظر كتاب دال ب. مارتين: «اختراع الخرافة» (كامبردج: مطبعة جامعة هارفارد، 2005).

(137) جوستينوس الشهيد «حوار مع تريفو»، 88.

(138) هناك فجوة في المخطوطة (p45) عند هذه النقطة، لكن عبر حساب عدد الحروف التي يمكن أن تملأ هذه الفجوة يتضح أن هذه هي القراءة الأصلي