نور الإسلام
10-01-2012, 05:28 PM
لمحمد صلى الله عليه وسلم الفضل الأعظم في نشر السلام في ربوع الجزيرة العربية، التي عاشت عدة قرون في حروب طاحنة ومعارك على أتفه الأسباب، وكثرت حروب "الفجار" التي انتهك أصحابها حرمة البلد الحرام.
وفي هذا المبحث نبين من خلال شهادات علماء الغرب والمواقف والأحداث؛ هذا المظهر من مظاهر الرحمة في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم:
: محمد صلى الله عليه وسلم رجل السلام[1]:
يقول المفكر هنري ماسيه :
" إذا بحثنا عن محمد صلى الله عليه وسلم إجمالياً نجده ذا مزاج عصبي[2]، و فكر، دائم التفكير، ونفس باطنها حزن ، وأما مداركه فهي تمثل شخصاً يعتقد بإله واحد ، وبوجود حياة أخرى ، ويتصف بالرحمة الخالصة ، والحزم في الرأي والاعتقاد ، ويضاف إليه أنه رجل حكومة ، وأحياناً رجل سياسة وحرب ، ولكنه لم يكن ثائراً بل كان مسالماً "[3] .
ووصف جورج بروك[4] الإسلام بأنه : " دين السلام والمحبة بين البشر "[5].
وقال عنه المفكر الأيرلندي برناردشو: " إنه دين التعاون والسلام والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراً من أمور الدنيا إلا رسمته ووزنته بميزان لا يخطئ أبداً"[6] .
إن إقرار السلام في منطة الجزيرة العربية الذي حققه محمد صلى الله عليه وسلم يعد بحق مظهراً مهماً من مظاهر الرحمة، فقد شهدت الجزيرة العربية في عهد محمد صلى الله عليه وسلم عدة معاهدات سلمية، مما يبين فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر ثقافة السلام بين العرب بعد قرون طويلة من الجاهلية والحروب الأهلية، وفضله في حقن الدماء وحفظ الأعراض والمقدسات، التي كانت منتهكة في عصور الجاهلية .. ولم تحدث أي حروب أهلية – في الجزيرة العربية - بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وتسلمه زمام قيادة العرب .
نموذج في حادث بناء الكعبة
لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم من عمره الخامسة والثلاثين – أي قبل بعثتة بخمس سنين -، تعرضت الكعبة للهدم ، بسبب سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، فعمدت قريش إلى بنائها، فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه ، واختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكَّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد[7]، فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا هذا الأمين[8]، قد رضينا به هذا محمد[9]، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه[10]..وهذا حل حكيم من رجل حكيم تراضت قريش بحكمه.
ولقد راح المفكرون والعلماء، يعلقون على هذا الحادث بتعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشعلة العبقرية التي تحاول في حرص شديد دائم على تحقيق الأمن والسلم بين الناس ، وعن نجاح محمد صلى الله عليه وسلم من تفهم الموقف بسرعة عظيمة، والتوسل بهذه الحيلة البريئة وإرضاء زعماء قريش جميعاً..
فقد استرعت هذه الحادثة انتباه الباحث الألماني أغسطينوس موللر ( 1148- 1894)، فتوقف عندها ملياً ، في كتابه "الإسلام "، وتعرض لسياسة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام وأنه "أدهش قريشاً بسياسته الرشيدة "[11].
كما توقف الأب هنري لامنس عند هذه الحادثة فقال
" لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ، وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليه بوضع الحجر الأسود في مكانه ، وكادوا يقتتلون ، فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الله الهاشمي[صلى الله عليه وسلم]، قائلين هذا هو الأمين ! "[12] .
ولقد ربط المستشرق "أرثر جيلمان" بين هذه الحادثة التي منعت اقتتال القبائل العربية، وبين المرحلة التالية لبدء البعثة والوحي ، والتي تشكل مقدمة الدعوة الإسلامية، بقوله
" لا بد أن يكون محمد [صلى الله عليه وسلم]قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم بهذه الفكرة التي بسطت السلام بين مختلف القبائل ، ولايستبعد أن يكون محمد[صلى الله عليه وسلم] قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية ، وأن الله قد اختاره لأمر عظيم .. !"[13] .
نماذج المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة
فلقد عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – في العام الثاني من الهجرة- المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة لا سيما تلك القبائل التي كانت على الطريق التجاري المؤدي إلى الشام، وذلك من أجل أربعة أهداف
الهدف الأول تحييد هذه القبائل في قضية الصراع بين المسلمين والمشركين، وألا يكونوا يدًا مع المشركين على المسلمين .
الهدف الثاني تأمين الحدود الخارجية للدولة .
الهدف الثالث اعتراف هذه القبائل بدولة المسلمين
الهدف الرابع تهيئة هذه القبائل لقبول الإسلام، والدخول فيه .
نماذج لهذه المعاهدات
أولاً مُوَادَعَةُ بَنِي ضَمْرَةَ
وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانَ نص وثيقة الْمُوَادَعَةِ على النحو التالي
"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِبَنِي ضَمْرَةَ ، فَإِنّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ لَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ رَامَهُمْ -إلا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللّهِ - مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً[14] وَإِنّ النّبِيّ إذَا دَعَاهُمْ لِنَصْرِهِ أَجَابُوهُ، عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ، وَلَهُمْ النّصْرُ عَلَى مَنْ بَرّ مِنْهُمْ وَاتّقَى ."[15] . وكانت هذه المعاهدة عقب أول غزوة للنبي وهي الأبواء أو ودان (في صفر 2هـ - أغسطس 623 هـ )
كما عقد النبي معاهدة مع بَنِي مُدْلِجٍ[16] في ( جمادي الأولى 2هـ- نوفمبر 623 م) ، وكانت على نفس النحو من وثيقة بني ضمرة .
ثانيًا مُوَادَعَةُ جهينة
وهذه القبيلة تسكن منطقة العيص على ساحل البحر الأحمر، وكان نص هذه المعاهدة
"إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرتهم"[17].
وقد دلت هذه الوثائق على مقتضيات أخلاقية سامية، فنرى فيها الرسول القائد السمح – صلى الله عليه وسلم - يوادع هذه القبائل على النصرة المتبادلة في المعروف، ويضمن لهم النبي الأمن والأمان على الأموال والأنفس، ويظهر لهم النبي أخلاق الإحسان والصلة ..
نموذج في معركة الأحزاب
ومن المواقف التي تدل على حرص محمد صلى الله عليه وسلم على السلام، ما حدث في معركة الأحزاب (في شوال 5 هـ مارس627م) ، حيث حاصر المشركون المدينة المنورة، فلما اشتد على المسلمين الحصار و البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المرى، وهما قائدا غطفان ـ في جيش الأحزاب ـ وعرض عليهما النبي صلى الله عليه وسلم ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، مقنع في الحديد.. ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة.فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه[18] .فرفضا هذه الفكرة..ونزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي الجماعة، فلم يتم هذا الصلح! ولكن الشهاد في هذا الموقف، هو حرص النبي الدائم في تجنب الحل العسكري، قدر الإمكان.. وميله الدائم نحو الحل السلمي .
نموذج معاهدة الحديبية
لأول مرة تشهد الجزيرة العربية تلك المعاهدة المحمدية التي نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبرمها في ذي القعدة سنة ست من الهجرة (مارس628 م) ، وهي معاهدة صلح الحديبية.
رغم ما كان من بنود مجحفة بالمسلمين في هذا الصلح ..
وإن المتأمل لأحداث صلح الحديبية يتبين له إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على تحقيق السلام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في أي وقت..
فعندما قصد رسول صلى الله عليه وسلم العمرة مع أصحابه، في العام السادس من الهجرة، أبت قريش أن تسمح للنبي وأصحابه بإداء عبادة العمرة، وهذا الفعل من القريشيين يعد جريمة كبرى في عرف العرب، إذ كيف يُصد عن البيت الحرام من جاء معظماً له !!
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو – متحدثًا رسميًا لها - للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم حول عقد الصلح، وأكدت له أن يكون في شروط الصلح أن يرجع عن مكة عامه هذا دون عمرة، ففي ذلك – كما يرى القرشيون - جرح لمشاعر المشركين بعدما انتصر عليهم المسلمون في معركة بدر انتصارًا ساحقًا ، وحتى لا تتحدث العرب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم دخل مكة وأدى العمرة رغمًا عن المشركين -.
فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال "قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل"[19]، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه[20]
البند الأول الرسول صلى الله عليه وسلميرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
البند الثاني وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
البند الثالث من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
البند الرابع من أتي محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمدصلى الله عليه وسلم ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه!ّ
ثم ُدعي علي بن أبي طالب ليكتب مسودة المعاهدة، وكره سهيل بن عمرو ـ مبعوث القريشيين ـ أن يكتب في صدر الوثيقة " محمد رسول الله " وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الوثيقة ، أن يمحو بيده " رسول الله " ، فمحا النبي- صلى الله عليه وسلم -هذه الصفة بيده الكريمة، وأمر الكاتب أن يكتب " محمد بن عبد الله "[21] .وهذا الموقف يدل على سماحته في التفاوض.. ثم تمت كتابة الوثيقة ، ولما تم الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت قبيلة بنو بكر في عهد قريش[22] .
نموذج الصلح مع أهل خيبر
لما استسلم يهود خيبر ( في المحرم 7 هـ / مايو 628)، في نهاية معركة رسول الله معهم صالحهم صلى الله عليه وسلم - ، وأعطاهم الأرض ، يَعْمَلُوا فيها وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا[23] .
وفي هذه المصالحة - بهذا الشكل - رحمة وعفو كبيرين بأهل خيبر ..
فهم في الحقيقة يستحقون الإعدام ! فهم قد خانوا النبي صلى الله عليه وسلم وغدروا وتحالفوا مع مشركي قريش سرًا، وأصبحت قيادات خيبر والفصائل اليهودية الأخرى عملاء وجواسيس لمشركي مكة وغطفان ..كل هذا إلى جانب أنهم السبب الرئيسي في تحزيب جيوش الأحزب، من كل حدب وصوب..
ولما أقدمت امرأة منهم على محاولة اغتيال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث أهدت لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ[24].. وتُوفي اثر هذه المحاولة الفاشلة أحد الصحابة .. لم ينقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أهل خيبر ولم يعمل فيهم القتل – كما يفعل بعض الزعماء في مثل هذه المواقف – إنما أثبت الصلح وأقر العهد .
محمد مسعد ياقوت
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أرجو ألا نفهم من ذلك أن رسول الله رجل سلام وفقط، بل كان رجل حرب أيضًا، فكان رائدا في ميدان القتال والبأس ورائدا في ميدان الصلح والسلام .
[2] هذه الجملة نرفضها، بل كان سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -هادىء الطبع، لين العريكة .
[3] هنري ماسيه الإسلام ، ص 11
[4] عضو البرلمان البريطاني
[5]مجلة العالم الإسلامي العدد 7 ، السنة الخامسة .
[6] مجلة الذكرى عدد 7 ، دورة 1 ص 22
[7] ابن سيد الناس عيون الأثر 1 75
[8] الحاكم المستدرك، 1 628 من حديث عبد الله بن السائب، برقم 1683
[9] الطبري تاريخ الأمم والملوك1526، وابن كثير البداية والنهاية، 2303
[10] انظر في هذه الحادثة أيضاً محمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد، 2 171، وابن الجوزي صفة الصفوة،1 77
[11] انظر محمد شريف الشيباني الرسول في الدراسات الإستشراقية المنصفة، ص 22، 23.
[12] هنري لامنس عهد الإسلام ، ص65
[13] ارثر جيلمان الشرق ، ص 117
[14] دلالة على تأبيد هذا العقد، وفيه جواز تأبيد المعاهدات بين المسلمين وغير المسلمين مالم يكن في هذه المعاهدات ما يخالف الشرع .
[15] السهيلي الروض الأنف 3/ 38
[16] ابن سيد الناس عيون الأثر 1 / 300
[17] انظر محمد حميد الله مجموعة الوثائق السياسية، ص62. وانظر إلى المزيد والمزيد من هذه المعاهدات في هذا الكتاب الفريد.
[18] انظر ابن كثير السيرة النبوية 3 / 201، ومحمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد 4 / 376
[19] صحيح ـ رواه البيهقي في السنن الكبرى ( 9 220)، وهو في الإرواء(1 57).
[20] انظر السهيلي الروض الأنف 4 48،وابن هشام 316، وابن كثير السيرة النبوية 3 320.
[21] انظر ابن حزم جوامع السيرة 1 / 209 .
[22] انظر محمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد 5 52.
[23] صحيح البخاري - (3917)
[24] صحيح البخاري - (3918)
[25] رالف لنتون شجرة الحضارة، 1/341.
وفي هذا المبحث نبين من خلال شهادات علماء الغرب والمواقف والأحداث؛ هذا المظهر من مظاهر الرحمة في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم:
: محمد صلى الله عليه وسلم رجل السلام[1]:
يقول المفكر هنري ماسيه :
" إذا بحثنا عن محمد صلى الله عليه وسلم إجمالياً نجده ذا مزاج عصبي[2]، و فكر، دائم التفكير، ونفس باطنها حزن ، وأما مداركه فهي تمثل شخصاً يعتقد بإله واحد ، وبوجود حياة أخرى ، ويتصف بالرحمة الخالصة ، والحزم في الرأي والاعتقاد ، ويضاف إليه أنه رجل حكومة ، وأحياناً رجل سياسة وحرب ، ولكنه لم يكن ثائراً بل كان مسالماً "[3] .
ووصف جورج بروك[4] الإسلام بأنه : " دين السلام والمحبة بين البشر "[5].
وقال عنه المفكر الأيرلندي برناردشو: " إنه دين التعاون والسلام والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراً من أمور الدنيا إلا رسمته ووزنته بميزان لا يخطئ أبداً"[6] .
إن إقرار السلام في منطة الجزيرة العربية الذي حققه محمد صلى الله عليه وسلم يعد بحق مظهراً مهماً من مظاهر الرحمة، فقد شهدت الجزيرة العربية في عهد محمد صلى الله عليه وسلم عدة معاهدات سلمية، مما يبين فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر ثقافة السلام بين العرب بعد قرون طويلة من الجاهلية والحروب الأهلية، وفضله في حقن الدماء وحفظ الأعراض والمقدسات، التي كانت منتهكة في عصور الجاهلية .. ولم تحدث أي حروب أهلية – في الجزيرة العربية - بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وتسلمه زمام قيادة العرب .
نموذج في حادث بناء الكعبة
لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم من عمره الخامسة والثلاثين – أي قبل بعثتة بخمس سنين -، تعرضت الكعبة للهدم ، بسبب سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، فعمدت قريش إلى بنائها، فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه ، واختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكَّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد[7]، فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا هذا الأمين[8]، قد رضينا به هذا محمد[9]، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه[10]..وهذا حل حكيم من رجل حكيم تراضت قريش بحكمه.
ولقد راح المفكرون والعلماء، يعلقون على هذا الحادث بتعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشعلة العبقرية التي تحاول في حرص شديد دائم على تحقيق الأمن والسلم بين الناس ، وعن نجاح محمد صلى الله عليه وسلم من تفهم الموقف بسرعة عظيمة، والتوسل بهذه الحيلة البريئة وإرضاء زعماء قريش جميعاً..
فقد استرعت هذه الحادثة انتباه الباحث الألماني أغسطينوس موللر ( 1148- 1894)، فتوقف عندها ملياً ، في كتابه "الإسلام "، وتعرض لسياسة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام وأنه "أدهش قريشاً بسياسته الرشيدة "[11].
كما توقف الأب هنري لامنس عند هذه الحادثة فقال
" لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ، وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليه بوضع الحجر الأسود في مكانه ، وكادوا يقتتلون ، فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الله الهاشمي[صلى الله عليه وسلم]، قائلين هذا هو الأمين ! "[12] .
ولقد ربط المستشرق "أرثر جيلمان" بين هذه الحادثة التي منعت اقتتال القبائل العربية، وبين المرحلة التالية لبدء البعثة والوحي ، والتي تشكل مقدمة الدعوة الإسلامية، بقوله
" لا بد أن يكون محمد [صلى الله عليه وسلم]قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم بهذه الفكرة التي بسطت السلام بين مختلف القبائل ، ولايستبعد أن يكون محمد[صلى الله عليه وسلم] قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية ، وأن الله قد اختاره لأمر عظيم .. !"[13] .
نماذج المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة
فلقد عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – في العام الثاني من الهجرة- المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة لا سيما تلك القبائل التي كانت على الطريق التجاري المؤدي إلى الشام، وذلك من أجل أربعة أهداف
الهدف الأول تحييد هذه القبائل في قضية الصراع بين المسلمين والمشركين، وألا يكونوا يدًا مع المشركين على المسلمين .
الهدف الثاني تأمين الحدود الخارجية للدولة .
الهدف الثالث اعتراف هذه القبائل بدولة المسلمين
الهدف الرابع تهيئة هذه القبائل لقبول الإسلام، والدخول فيه .
نماذج لهذه المعاهدات
أولاً مُوَادَعَةُ بَنِي ضَمْرَةَ
وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانَ نص وثيقة الْمُوَادَعَةِ على النحو التالي
"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِبَنِي ضَمْرَةَ ، فَإِنّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ لَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ رَامَهُمْ -إلا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللّهِ - مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً[14] وَإِنّ النّبِيّ إذَا دَعَاهُمْ لِنَصْرِهِ أَجَابُوهُ، عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ، وَلَهُمْ النّصْرُ عَلَى مَنْ بَرّ مِنْهُمْ وَاتّقَى ."[15] . وكانت هذه المعاهدة عقب أول غزوة للنبي وهي الأبواء أو ودان (في صفر 2هـ - أغسطس 623 هـ )
كما عقد النبي معاهدة مع بَنِي مُدْلِجٍ[16] في ( جمادي الأولى 2هـ- نوفمبر 623 م) ، وكانت على نفس النحو من وثيقة بني ضمرة .
ثانيًا مُوَادَعَةُ جهينة
وهذه القبيلة تسكن منطقة العيص على ساحل البحر الأحمر، وكان نص هذه المعاهدة
"إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرتهم"[17].
وقد دلت هذه الوثائق على مقتضيات أخلاقية سامية، فنرى فيها الرسول القائد السمح – صلى الله عليه وسلم - يوادع هذه القبائل على النصرة المتبادلة في المعروف، ويضمن لهم النبي الأمن والأمان على الأموال والأنفس، ويظهر لهم النبي أخلاق الإحسان والصلة ..
نموذج في معركة الأحزاب
ومن المواقف التي تدل على حرص محمد صلى الله عليه وسلم على السلام، ما حدث في معركة الأحزاب (في شوال 5 هـ مارس627م) ، حيث حاصر المشركون المدينة المنورة، فلما اشتد على المسلمين الحصار و البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المرى، وهما قائدا غطفان ـ في جيش الأحزاب ـ وعرض عليهما النبي صلى الله عليه وسلم ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، مقنع في الحديد.. ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة.فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه[18] .فرفضا هذه الفكرة..ونزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي الجماعة، فلم يتم هذا الصلح! ولكن الشهاد في هذا الموقف، هو حرص النبي الدائم في تجنب الحل العسكري، قدر الإمكان.. وميله الدائم نحو الحل السلمي .
نموذج معاهدة الحديبية
لأول مرة تشهد الجزيرة العربية تلك المعاهدة المحمدية التي نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبرمها في ذي القعدة سنة ست من الهجرة (مارس628 م) ، وهي معاهدة صلح الحديبية.
رغم ما كان من بنود مجحفة بالمسلمين في هذا الصلح ..
وإن المتأمل لأحداث صلح الحديبية يتبين له إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على تحقيق السلام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في أي وقت..
فعندما قصد رسول صلى الله عليه وسلم العمرة مع أصحابه، في العام السادس من الهجرة، أبت قريش أن تسمح للنبي وأصحابه بإداء عبادة العمرة، وهذا الفعل من القريشيين يعد جريمة كبرى في عرف العرب، إذ كيف يُصد عن البيت الحرام من جاء معظماً له !!
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو – متحدثًا رسميًا لها - للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم حول عقد الصلح، وأكدت له أن يكون في شروط الصلح أن يرجع عن مكة عامه هذا دون عمرة، ففي ذلك – كما يرى القرشيون - جرح لمشاعر المشركين بعدما انتصر عليهم المسلمون في معركة بدر انتصارًا ساحقًا ، وحتى لا تتحدث العرب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم دخل مكة وأدى العمرة رغمًا عن المشركين -.
فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال "قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل"[19]، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه[20]
البند الأول الرسول صلى الله عليه وسلميرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
البند الثاني وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
البند الثالث من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
البند الرابع من أتي محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمدصلى الله عليه وسلم ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه!ّ
ثم ُدعي علي بن أبي طالب ليكتب مسودة المعاهدة، وكره سهيل بن عمرو ـ مبعوث القريشيين ـ أن يكتب في صدر الوثيقة " محمد رسول الله " وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الوثيقة ، أن يمحو بيده " رسول الله " ، فمحا النبي- صلى الله عليه وسلم -هذه الصفة بيده الكريمة، وأمر الكاتب أن يكتب " محمد بن عبد الله "[21] .وهذا الموقف يدل على سماحته في التفاوض.. ثم تمت كتابة الوثيقة ، ولما تم الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت قبيلة بنو بكر في عهد قريش[22] .
نموذج الصلح مع أهل خيبر
لما استسلم يهود خيبر ( في المحرم 7 هـ / مايو 628)، في نهاية معركة رسول الله معهم صالحهم صلى الله عليه وسلم - ، وأعطاهم الأرض ، يَعْمَلُوا فيها وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا[23] .
وفي هذه المصالحة - بهذا الشكل - رحمة وعفو كبيرين بأهل خيبر ..
فهم في الحقيقة يستحقون الإعدام ! فهم قد خانوا النبي صلى الله عليه وسلم وغدروا وتحالفوا مع مشركي قريش سرًا، وأصبحت قيادات خيبر والفصائل اليهودية الأخرى عملاء وجواسيس لمشركي مكة وغطفان ..كل هذا إلى جانب أنهم السبب الرئيسي في تحزيب جيوش الأحزب، من كل حدب وصوب..
ولما أقدمت امرأة منهم على محاولة اغتيال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث أهدت لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ[24].. وتُوفي اثر هذه المحاولة الفاشلة أحد الصحابة .. لم ينقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أهل خيبر ولم يعمل فيهم القتل – كما يفعل بعض الزعماء في مثل هذه المواقف – إنما أثبت الصلح وأقر العهد .
محمد مسعد ياقوت
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أرجو ألا نفهم من ذلك أن رسول الله رجل سلام وفقط، بل كان رجل حرب أيضًا، فكان رائدا في ميدان القتال والبأس ورائدا في ميدان الصلح والسلام .
[2] هذه الجملة نرفضها، بل كان سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -هادىء الطبع، لين العريكة .
[3] هنري ماسيه الإسلام ، ص 11
[4] عضو البرلمان البريطاني
[5]مجلة العالم الإسلامي العدد 7 ، السنة الخامسة .
[6] مجلة الذكرى عدد 7 ، دورة 1 ص 22
[7] ابن سيد الناس عيون الأثر 1 75
[8] الحاكم المستدرك، 1 628 من حديث عبد الله بن السائب، برقم 1683
[9] الطبري تاريخ الأمم والملوك1526، وابن كثير البداية والنهاية، 2303
[10] انظر في هذه الحادثة أيضاً محمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد، 2 171، وابن الجوزي صفة الصفوة،1 77
[11] انظر محمد شريف الشيباني الرسول في الدراسات الإستشراقية المنصفة، ص 22، 23.
[12] هنري لامنس عهد الإسلام ، ص65
[13] ارثر جيلمان الشرق ، ص 117
[14] دلالة على تأبيد هذا العقد، وفيه جواز تأبيد المعاهدات بين المسلمين وغير المسلمين مالم يكن في هذه المعاهدات ما يخالف الشرع .
[15] السهيلي الروض الأنف 3/ 38
[16] ابن سيد الناس عيون الأثر 1 / 300
[17] انظر محمد حميد الله مجموعة الوثائق السياسية، ص62. وانظر إلى المزيد والمزيد من هذه المعاهدات في هذا الكتاب الفريد.
[18] انظر ابن كثير السيرة النبوية 3 / 201، ومحمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد 4 / 376
[19] صحيح ـ رواه البيهقي في السنن الكبرى ( 9 220)، وهو في الإرواء(1 57).
[20] انظر السهيلي الروض الأنف 4 48،وابن هشام 316، وابن كثير السيرة النبوية 3 320.
[21] انظر ابن حزم جوامع السيرة 1 / 209 .
[22] انظر محمد بن يوسف الصالحي سبل الهدى والرشاد 5 52.
[23] صحيح البخاري - (3917)
[24] صحيح البخاري - (3918)
[25] رالف لنتون شجرة الحضارة، 1/341.