نور الإسلام
10-01-2012, 06:19 PM
قالــوا: النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بالصرع، وهذا الذي يأتيه فيزعم أنه من الوحي إنما هو بعض آثار هذا المرض، واحتجوا لذلك بما كان يرافق النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال غير معتادة ، وقعت له صلى الله عليه وسلم بسبب ثقل الوحي عليه.
والجـواب: لكم يعجب المرء لهذه الأُبطولة، فلئن أنكر القوم نبوته ? أفتراهم ينكرون أنه غيَّر واقع العرب من قبائل متناحرة ؛ لاحظ لها بالعلم والمعرفة والمدنية فأقام منهم أمة قادت الحضارة الإنسانية ثمانية قرون!؟ أم تراهم ينكرون ما قدمه ? من إصلاح اجتماعي وأخلاقي جعل المسلمين أفضل الأمم أخلاقاً وأحسنهم أوضاعاً من الناحية الاجتماعية! أفيصنع هذا مريض بالصرع يحتاج من يعينه على تدبر أمره وإصلاح حاجاته الشخصية!؟ ? فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? (النساء: 78).
لقد صدق المستشرق نورمان في شهادته التي تنبئ عن عقل ودراية بأحوال الأمم وتطور الشعوب، حيث يقول: "لو كان محمد يعاني منذ طفولته من مرض عضال حقاً، لما تخلى عن تلك الذريعة أبداً، بل من غير المعقول أن ينجز رجل مريض ما أنجز محمد، فقد كان تاجراً موهوباً هادئ الطبع، وقراراته عادة ما تصدر عن غريزة سياسية ذكية متبصرة .. وكان قائداً بعيد النظر للدولة ولمجتمع ديني نامٍ على حد سواء، وهذه كلها تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان سليماً معافى .. والذين يقولون بهذا الكلام لم يحلُّوا المشكلة بقدر ما زادوها تعقيداً، ويجب أن يساورنا الشك مستقبلاً في إمكانية أي ظاهرة خلل في سلوك محمد"[1].
ويقول المستشرق الألماني الطبيب ماكس مايرهوف: "أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبي أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول"[2].
ثم إن الصرع مرض معروفة أعراضه ، كاصفرار الوجه، وذهول العقل، وغياب الذاكرة، وارتعاش الجسد ، وفقدان السيطرة على الجسم، وغالباً ما يصحبه تقيؤ وإفرازات لعابية، وقد يصحبه تبول لا إرادي، وغير ذلك مما نعرفه من أحوال المصروعين، فهل كان شأنه ? حال الوحي كحال المصروعين؟
للوقوف على جواب السؤال ومعرفة حقيقة ما يرافق الوحي من أحوال؛ فإننا يمكننا رصد عدة مظاهر:
1- يُسمع صوت أزيز بجوار أذنه، ثم ينفصل عنه وقد وعى ما أوحي إليه، يقول صلى الله عليه وسلم : «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال»[3]، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (كان إذا نزل على رسول الله ? الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل)[4].
2- يصيبه تعرق شديد حتى في الليلة الباردة، تقول عائشة: (فلقد رأيت رسول الله ? ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه؛ وإن جبينه ليتفصد عرقاً) [5].
3- تغشاه السكينة ويطرِق برأسه إلى الأرض ، فأما غشيان السكينة عليه فيخبر به زيد بن ثابت بقوله: (إني قاعد إلى جنب النبي ? يوماً إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، ووقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة) [6].
وأما إطراقه إلى الأرض ففي قول ابن عباس: (كان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)[7]، أي وعده الله أن يمكنه في قلبه ((لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ` إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )) (القيامة: 16-17)، ويقول عبادة بن الصامت: (كان النبي ? إذا أنزل عليه الوحي؛ نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم)[8].
4- يحمر وجهه كأنه غضب، ففي حديث عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله ? إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربد وجهه)[9] أي تغير لونه، وفي حديث يعلى بن أمية: فإذا النبي ? محمر الوجه كذلك ساعة، ثم سري عنه) [10].
ولما ذكرت أم المؤمنين عائشة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: (فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي) [11].
5- يسمع له ? غطيط ، فإذا سري عنه أخبر بما أوحي إليه، يقول يعلى بن أمية: فنظرت إليه له غطيط .. فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»[12].
6- يثقل وزنه ، يقول زيد بن ثابت: (فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي) [13].
ويقول عبد الله بن عمرو : ( أنزلت على رسول الله ? سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها)[14].
وتقول أم المؤمنين عائشة : (إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها)[15].
وأما أسماء بنت يزيد فتقول: (إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله ? إذ أنزلت عليه المائدة كلها؛ فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة)[16].
وهذه الأحوال المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي على خلاف ما نعرفه من أحوال المصروعين ، وسببها ثقل الوحي النازل عليه صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)) (المزمل: 5)، فالوحي هو حالة فريدة لا يعرفها إلا الأنبياء، والموحى به هو كلام الرب الذي ذلت لعظمته الرقاب.
وهذه الحال لم يتفرد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل أصابت من سبقه من الأنبياء، يقول الأب متى المسكين: "الغيبوبة أو اختطاف العقل أو الجذب الروحي عند الأنبياء .. هكذا وصف آباء الكنيسة الأولون حالة الذهن عند الأنبياء .. حيث يكون الوعي بالنفس مغلقاً نوعاً ما، حيث يكون عقل النبي خارج الحدود الطبيعية، ومرتفعاً لمنطقة الإلهام والوعي الفائق للعقل .. والشخص يكون في حالة شبه غيبوبة؛ ليستطيع أن يطلع على ما هو فوق العقل"[17].
وضرب الأب المسكين أمثلة لهذه الغيبوبة من الكتاب المقدس، ونكتفي بذكر ثلاثة مواضع من الكتاب المقدس تتحدث عن أحوال الأنبياء عند الوحي؛ وإن كنا لا نسلم بنبوة بعضهم ، وأولها ما جاء عن بولس (الرسول)، حيث يقول: " وحدث لي بعد ما رجعت إلى أورشليم، وكنتُ أصلّي في الهيكل أني حصلت في غيبة، فرأيته قائلاً لي: أسرع واخرج عاجلاً من أورشليم، لأنهم لا يقبلون شهادتك عني" (أعمال 22/17-18)، فبولس يتحدث عن غيبة حصلت له وهو يوحى إليه حسب زعمه.
وفي سفر دانيال يحكي النبي دانيال عن الأثر الكبير الذي تركه الوحي عليه: "فبقيت أنا وحدي، ورأيت هذه الرؤيا العظيمة، ولم تبق فيّ قوة، ونضارتي تحولت فيّ إلى فساد، ولم أضبط قوة، وسمعت صوت كلامه، ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبّخاً على وجهي، ووجهي إلى الأرض، وإذ بيد لمستني وأقامتني مرتجفاً على ركبتيّ وعلى كفيّ يديّ" (دانيال 10/7-10).
ومثله في قوله: "أنا دانيال ضعفتُ ونحلت أياماً، ثم قمت وباشرت أعمال الملك، وكنت متحيّراً من الرؤيا ولا فاهم" (دانيال 8/27).
إن تهمة الإصابة بالصـرع لم تصدر عن واحد من معاصريه صلى الله عليه وسلم رغم استحكام العداء بينهم وبينه، ورغم حرصهم على تلفيق الكاذب من التُّهم كاتهامه ? بالسحر والجنون وقول الشعر، لكن لم يتهموه بالصرع أبداً، فدل ذلك على أن الأمر لا يعدو أن يكون أبطولة من نسج خيال المبطلين المتأخرين.
إن أحداً من العقلاء لن يقبل فكرة أن هذا الرجل الذي أنشأ الأمة التي قادت الحضارة الإنسانية كان مريضاً، ولسوف يصبح مضحكة للصغار قبل الكبار حين يقول: إن هذا القرآن العظيم ببيانه وإعجازه وأسلوبه كان نتيجة وأثراً لمرض عضال.
وهكذا تبين براءة شخص النبي صلى الله عليه وسلم مما يقوله الأفاكون عنه، وأن ما يقولونه لا يعدو ما قاله إخوانهم في الإفك من كفار قريش ، حين رموه بالجنون والكهانة والشعر، حسداً منهم لشخصه صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الدكتور منقذ السقار
للرجوع الى قسم د منقذ السقار للرد علي الشبهات تنزيه القرآن الكريم عن دعـاوى المبطلين
الهوامش
[1] انظر: المستشرقون والقرآن، عمر لطفي العالم، ص (50)، نقلاً عن رسالة دكتوراه "القرآن الكريم في مواقع الإنترنت العربية دراسة تحليلية نقدية"، عبد الرحيم الشريف [كتاب إلكتروني].
[2] انظر: الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، أحمد بوطامي، ص (62).
[3] أخرجه البخاري ح (2).
[4] أخرجه الترمذي ح (3173)، وأحمد ح (224).
[5] أخرجه البخاري ح (2).
[6] أخرجه أحمد ح(21165).
[7] أخرجه البخاري ح (4929)، ومسلم ح (448).
[8] أخرجه مسلم ح (2335).
[9] أخرجه مسلم ح (2334).
[10] أخرجه أحمد ح (17488).
[11] أخرجه أحمد ح (24645).
[12] أخرجه البخاري ح (1789)، ومسلم ح (1180).
[13] أخرجه البخاري ح (2832).
[14] أخرجه أحمد ح (6605).
[15] أخرجه أحمد ح (24347).
[16] أخرجه أحمد ح (27028).
[17] النبوة والأنبياء، الأب متى المسكين، ص (15-17).a
والجـواب: لكم يعجب المرء لهذه الأُبطولة، فلئن أنكر القوم نبوته ? أفتراهم ينكرون أنه غيَّر واقع العرب من قبائل متناحرة ؛ لاحظ لها بالعلم والمعرفة والمدنية فأقام منهم أمة قادت الحضارة الإنسانية ثمانية قرون!؟ أم تراهم ينكرون ما قدمه ? من إصلاح اجتماعي وأخلاقي جعل المسلمين أفضل الأمم أخلاقاً وأحسنهم أوضاعاً من الناحية الاجتماعية! أفيصنع هذا مريض بالصرع يحتاج من يعينه على تدبر أمره وإصلاح حاجاته الشخصية!؟ ? فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? (النساء: 78).
لقد صدق المستشرق نورمان في شهادته التي تنبئ عن عقل ودراية بأحوال الأمم وتطور الشعوب، حيث يقول: "لو كان محمد يعاني منذ طفولته من مرض عضال حقاً، لما تخلى عن تلك الذريعة أبداً، بل من غير المعقول أن ينجز رجل مريض ما أنجز محمد، فقد كان تاجراً موهوباً هادئ الطبع، وقراراته عادة ما تصدر عن غريزة سياسية ذكية متبصرة .. وكان قائداً بعيد النظر للدولة ولمجتمع ديني نامٍ على حد سواء، وهذه كلها تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان سليماً معافى .. والذين يقولون بهذا الكلام لم يحلُّوا المشكلة بقدر ما زادوها تعقيداً، ويجب أن يساورنا الشك مستقبلاً في إمكانية أي ظاهرة خلل في سلوك محمد"[1].
ويقول المستشرق الألماني الطبيب ماكس مايرهوف: "أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبي أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول"[2].
ثم إن الصرع مرض معروفة أعراضه ، كاصفرار الوجه، وذهول العقل، وغياب الذاكرة، وارتعاش الجسد ، وفقدان السيطرة على الجسم، وغالباً ما يصحبه تقيؤ وإفرازات لعابية، وقد يصحبه تبول لا إرادي، وغير ذلك مما نعرفه من أحوال المصروعين، فهل كان شأنه ? حال الوحي كحال المصروعين؟
للوقوف على جواب السؤال ومعرفة حقيقة ما يرافق الوحي من أحوال؛ فإننا يمكننا رصد عدة مظاهر:
1- يُسمع صوت أزيز بجوار أذنه، ثم ينفصل عنه وقد وعى ما أوحي إليه، يقول صلى الله عليه وسلم : «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال»[3]، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (كان إذا نزل على رسول الله ? الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل)[4].
2- يصيبه تعرق شديد حتى في الليلة الباردة، تقول عائشة: (فلقد رأيت رسول الله ? ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه؛ وإن جبينه ليتفصد عرقاً) [5].
3- تغشاه السكينة ويطرِق برأسه إلى الأرض ، فأما غشيان السكينة عليه فيخبر به زيد بن ثابت بقوله: (إني قاعد إلى جنب النبي ? يوماً إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، ووقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة) [6].
وأما إطراقه إلى الأرض ففي قول ابن عباس: (كان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)[7]، أي وعده الله أن يمكنه في قلبه ((لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ` إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )) (القيامة: 16-17)، ويقول عبادة بن الصامت: (كان النبي ? إذا أنزل عليه الوحي؛ نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم)[8].
4- يحمر وجهه كأنه غضب، ففي حديث عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله ? إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربد وجهه)[9] أي تغير لونه، وفي حديث يعلى بن أمية: فإذا النبي ? محمر الوجه كذلك ساعة، ثم سري عنه) [10].
ولما ذكرت أم المؤمنين عائشة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: (فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي) [11].
5- يسمع له ? غطيط ، فإذا سري عنه أخبر بما أوحي إليه، يقول يعلى بن أمية: فنظرت إليه له غطيط .. فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»[12].
6- يثقل وزنه ، يقول زيد بن ثابت: (فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي) [13].
ويقول عبد الله بن عمرو : ( أنزلت على رسول الله ? سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها)[14].
وتقول أم المؤمنين عائشة : (إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها)[15].
وأما أسماء بنت يزيد فتقول: (إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله ? إذ أنزلت عليه المائدة كلها؛ فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة)[16].
وهذه الأحوال المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي على خلاف ما نعرفه من أحوال المصروعين ، وسببها ثقل الوحي النازل عليه صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)) (المزمل: 5)، فالوحي هو حالة فريدة لا يعرفها إلا الأنبياء، والموحى به هو كلام الرب الذي ذلت لعظمته الرقاب.
وهذه الحال لم يتفرد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل أصابت من سبقه من الأنبياء، يقول الأب متى المسكين: "الغيبوبة أو اختطاف العقل أو الجذب الروحي عند الأنبياء .. هكذا وصف آباء الكنيسة الأولون حالة الذهن عند الأنبياء .. حيث يكون الوعي بالنفس مغلقاً نوعاً ما، حيث يكون عقل النبي خارج الحدود الطبيعية، ومرتفعاً لمنطقة الإلهام والوعي الفائق للعقل .. والشخص يكون في حالة شبه غيبوبة؛ ليستطيع أن يطلع على ما هو فوق العقل"[17].
وضرب الأب المسكين أمثلة لهذه الغيبوبة من الكتاب المقدس، ونكتفي بذكر ثلاثة مواضع من الكتاب المقدس تتحدث عن أحوال الأنبياء عند الوحي؛ وإن كنا لا نسلم بنبوة بعضهم ، وأولها ما جاء عن بولس (الرسول)، حيث يقول: " وحدث لي بعد ما رجعت إلى أورشليم، وكنتُ أصلّي في الهيكل أني حصلت في غيبة، فرأيته قائلاً لي: أسرع واخرج عاجلاً من أورشليم، لأنهم لا يقبلون شهادتك عني" (أعمال 22/17-18)، فبولس يتحدث عن غيبة حصلت له وهو يوحى إليه حسب زعمه.
وفي سفر دانيال يحكي النبي دانيال عن الأثر الكبير الذي تركه الوحي عليه: "فبقيت أنا وحدي، ورأيت هذه الرؤيا العظيمة، ولم تبق فيّ قوة، ونضارتي تحولت فيّ إلى فساد، ولم أضبط قوة، وسمعت صوت كلامه، ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبّخاً على وجهي، ووجهي إلى الأرض، وإذ بيد لمستني وأقامتني مرتجفاً على ركبتيّ وعلى كفيّ يديّ" (دانيال 10/7-10).
ومثله في قوله: "أنا دانيال ضعفتُ ونحلت أياماً، ثم قمت وباشرت أعمال الملك، وكنت متحيّراً من الرؤيا ولا فاهم" (دانيال 8/27).
إن تهمة الإصابة بالصـرع لم تصدر عن واحد من معاصريه صلى الله عليه وسلم رغم استحكام العداء بينهم وبينه، ورغم حرصهم على تلفيق الكاذب من التُّهم كاتهامه ? بالسحر والجنون وقول الشعر، لكن لم يتهموه بالصرع أبداً، فدل ذلك على أن الأمر لا يعدو أن يكون أبطولة من نسج خيال المبطلين المتأخرين.
إن أحداً من العقلاء لن يقبل فكرة أن هذا الرجل الذي أنشأ الأمة التي قادت الحضارة الإنسانية كان مريضاً، ولسوف يصبح مضحكة للصغار قبل الكبار حين يقول: إن هذا القرآن العظيم ببيانه وإعجازه وأسلوبه كان نتيجة وأثراً لمرض عضال.
وهكذا تبين براءة شخص النبي صلى الله عليه وسلم مما يقوله الأفاكون عنه، وأن ما يقولونه لا يعدو ما قاله إخوانهم في الإفك من كفار قريش ، حين رموه بالجنون والكهانة والشعر، حسداً منهم لشخصه صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الدكتور منقذ السقار
للرجوع الى قسم د منقذ السقار للرد علي الشبهات تنزيه القرآن الكريم عن دعـاوى المبطلين
الهوامش
[1] انظر: المستشرقون والقرآن، عمر لطفي العالم، ص (50)، نقلاً عن رسالة دكتوراه "القرآن الكريم في مواقع الإنترنت العربية دراسة تحليلية نقدية"، عبد الرحيم الشريف [كتاب إلكتروني].
[2] انظر: الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، أحمد بوطامي، ص (62).
[3] أخرجه البخاري ح (2).
[4] أخرجه الترمذي ح (3173)، وأحمد ح (224).
[5] أخرجه البخاري ح (2).
[6] أخرجه أحمد ح(21165).
[7] أخرجه البخاري ح (4929)، ومسلم ح (448).
[8] أخرجه مسلم ح (2335).
[9] أخرجه مسلم ح (2334).
[10] أخرجه أحمد ح (17488).
[11] أخرجه أحمد ح (24645).
[12] أخرجه البخاري ح (1789)، ومسلم ح (1180).
[13] أخرجه البخاري ح (2832).
[14] أخرجه أحمد ح (6605).
[15] أخرجه أحمد ح (24347).
[16] أخرجه أحمد ح (27028).
[17] النبوة والأنبياء، الأب متى المسكين، ص (15-17).a