نور الإسلام
10-01-2012, 06:43 PM
التناسق الداخلي للنص شرط لا غنى عنه في الكتاب حين ينسب إلى كاتب حصيف، وهو من باب أولى شرط في الكتاب حين ينسب إلى الله عز وجل؛ لذا يستحيل أن يوجد التناقض في كلام الله (( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً )) (النساء: 82 ).
وما ذكره البعض عن تناقضات مزعومة في القرآن لا يعدو أن يكون سوء فهم منهم لآياته أو جهلاً بلغة العرب ومساقات كلامها، وهذا بيِّن لمن تبصـر هذه المواضع التي استشكلوها:
هل أقسم الله بمكة أم لم يقسم؟
قالــوا: تناقض القرآن في مسألة قسم الله بمكة، فهو أقسم بها في قوله: (( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ )) (التين: 3)، وفي موضع آخر ينكر هذا القسم بمكة، فيقول: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ )) (البلد: 1).
والجــواب: لقد أقسم الله بالبلد الأمين (مكة) كما في آية سورة التين.
وما فهمه المعترضون من آية سورة البلد خطأ قادهم إليه جهلهم بلغة العرب وطرائقها في البيان، ففي قوله: ( لَا أُقْسِمُ )(لا) ليست (لا) النافية التي تعني نفي القسم، بل هي (لا) الصلة، ويسميها بعض النحويين (لا) الزائدة، فهي زائدة نحوياً، وإن كانت غير زائدة بلاغياً، لأنها تفيد التأكيد[1].
قال الزجاج : "لا اختلاف بين الناس أن معنى قوله تعالى : (( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )) وأشكاله في القرآن معناه: أقسم"[2].
والعرب ما زالت تستخدمها في كلامها من القديم، فهي كقولنا: لا أوصيك بفلان، أي لا أحتاج إلى وصاتك به، فهي نوع من التأكيد على الوصاة، وليست طلباً للإهمال.
ومن طريف الأخبار أن رجلاً سأل أبا العباس بن سريج عن هاتين الآيتين، فقال ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؟ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال الرجل: بل اقطعني ثم أجبني.
فقال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى اللله عليه وسلم بحضـرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً وعليه مطعناً ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ، فلم ينكروا منه ما أنكرت [3].
إن العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها، وأنشد فيه أبياتاً[4].
ومثله كثير في أشعار العرب[5]، ومنه قول النابغة:
فَلاَ وَحقِّ الَّذِي مَسَّحْت كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيق عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
أي: فوحق الذي...
وقول الآخر:
تذكرت ليلى فاعـترتني صبابـة وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي: يتصدع .
ومثله قول الشاعر:
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِ بـي وَلاَ لِما ِبهــمْ أبَــداً دَواءُ
أي: فوالله .
ومثله قول طرفة:
فَلاَ وَأَبِيكِ ابنة العامري لا يدعـي القـوم أني أفر
أي : وأبيكِ .
وهذا الأسلوب في القسم يفيد تعظيم المقسم به ، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ` وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ` إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )) (الواقعة: 75-77)، وكقوله : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ `وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ))(القيامة: 1-2).
وقد وردت (لا ) الصلة في مواضع كثيرة في القرآن الذي نزل بلغة العرب، ومنه قوله: (( لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ )) (آل عمران: 153)، أي (لتحزنوا)، وقوله: (( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ` أَلَّا تَتَّبِعَنِ )) (طه:92-93)، أي (أن تتبعن)، وقوله: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ))(النساء: 65)، أي: (فوربك)، وقوله: (( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ )) (الحديد: 29)، أي : (ليعلمأهل الكتاب).
وقد ورد في سياق قصة آدم إثبات (لا) الصلة في موضع، وحذفها في آخر، لجواز الوجهين وتكامل معنييهما، فأما إثباتها ففي قوله تعالى: (( مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )) (الأعراف: 12)، وقد حذفت في قوله: ( مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ))(ص: 75 )، والمعنى فيهما واحد، وهو: ما الذي منعك أن تسجد لآدم؟.
كتبه / الدكتور منقذ السقار
[1] انظر: كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (8/349)، والأصول في النحو، ابن السـراج البغدادي (2/259).
[2] تاج العروس، المرتضى الزبيدي (40/470)، وانظر: لسان العرب ، ابن منظور (15/364).
[3] وهذا الكلام النفيس ينطبق على الكثير مما يخطه أصحاب الأباطيل – اليوم - عن القرآن الكريم.
[4] البرهان في علوم القرآن، الزركشي (2/54)، وانظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، ص (329).
[5] انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (244-246)، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي (20/59)، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، الشنقيطي، ص (269-271).
وما ذكره البعض عن تناقضات مزعومة في القرآن لا يعدو أن يكون سوء فهم منهم لآياته أو جهلاً بلغة العرب ومساقات كلامها، وهذا بيِّن لمن تبصـر هذه المواضع التي استشكلوها:
هل أقسم الله بمكة أم لم يقسم؟
قالــوا: تناقض القرآن في مسألة قسم الله بمكة، فهو أقسم بها في قوله: (( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ )) (التين: 3)، وفي موضع آخر ينكر هذا القسم بمكة، فيقول: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ )) (البلد: 1).
والجــواب: لقد أقسم الله بالبلد الأمين (مكة) كما في آية سورة التين.
وما فهمه المعترضون من آية سورة البلد خطأ قادهم إليه جهلهم بلغة العرب وطرائقها في البيان، ففي قوله: ( لَا أُقْسِمُ )(لا) ليست (لا) النافية التي تعني نفي القسم، بل هي (لا) الصلة، ويسميها بعض النحويين (لا) الزائدة، فهي زائدة نحوياً، وإن كانت غير زائدة بلاغياً، لأنها تفيد التأكيد[1].
قال الزجاج : "لا اختلاف بين الناس أن معنى قوله تعالى : (( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )) وأشكاله في القرآن معناه: أقسم"[2].
والعرب ما زالت تستخدمها في كلامها من القديم، فهي كقولنا: لا أوصيك بفلان، أي لا أحتاج إلى وصاتك به، فهي نوع من التأكيد على الوصاة، وليست طلباً للإهمال.
ومن طريف الأخبار أن رجلاً سأل أبا العباس بن سريج عن هاتين الآيتين، فقال ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؟ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال الرجل: بل اقطعني ثم أجبني.
فقال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى اللله عليه وسلم بحضـرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً وعليه مطعناً ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ، فلم ينكروا منه ما أنكرت [3].
إن العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها، وأنشد فيه أبياتاً[4].
ومثله كثير في أشعار العرب[5]، ومنه قول النابغة:
فَلاَ وَحقِّ الَّذِي مَسَّحْت كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيق عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
أي: فوحق الذي...
وقول الآخر:
تذكرت ليلى فاعـترتني صبابـة وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي: يتصدع .
ومثله قول الشاعر:
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِ بـي وَلاَ لِما ِبهــمْ أبَــداً دَواءُ
أي: فوالله .
ومثله قول طرفة:
فَلاَ وَأَبِيكِ ابنة العامري لا يدعـي القـوم أني أفر
أي : وأبيكِ .
وهذا الأسلوب في القسم يفيد تعظيم المقسم به ، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ` وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ` إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )) (الواقعة: 75-77)، وكقوله : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ `وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ))(القيامة: 1-2).
وقد وردت (لا ) الصلة في مواضع كثيرة في القرآن الذي نزل بلغة العرب، ومنه قوله: (( لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ )) (آل عمران: 153)، أي (لتحزنوا)، وقوله: (( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ` أَلَّا تَتَّبِعَنِ )) (طه:92-93)، أي (أن تتبعن)، وقوله: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ))(النساء: 65)، أي: (فوربك)، وقوله: (( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ )) (الحديد: 29)، أي : (ليعلمأهل الكتاب).
وقد ورد في سياق قصة آدم إثبات (لا) الصلة في موضع، وحذفها في آخر، لجواز الوجهين وتكامل معنييهما، فأما إثباتها ففي قوله تعالى: (( مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )) (الأعراف: 12)، وقد حذفت في قوله: ( مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ))(ص: 75 )، والمعنى فيهما واحد، وهو: ما الذي منعك أن تسجد لآدم؟.
كتبه / الدكتور منقذ السقار
[1] انظر: كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (8/349)، والأصول في النحو، ابن السـراج البغدادي (2/259).
[2] تاج العروس، المرتضى الزبيدي (40/470)، وانظر: لسان العرب ، ابن منظور (15/364).
[3] وهذا الكلام النفيس ينطبق على الكثير مما يخطه أصحاب الأباطيل – اليوم - عن القرآن الكريم.
[4] البرهان في علوم القرآن، الزركشي (2/54)، وانظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، ص (329).
[5] انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (244-246)، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي (20/59)، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، الشنقيطي، ص (269-271).