المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيدي تحفة


عبدالناصر محمود
28-05-2013, 02:55 PM
سِـيـدي تُـحْـفَـة
قصة إسلام أكبر علماء النصارى
في القرن الثامن الهجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ـ اختصرها : مُحمَّد بن أحمد إسماعيل المُقدّم ـ حفظه الله ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ـ قصة إسلام أبي محمد عبد الله بن عبد الله التَّرْجُمان الميورقي
(756ـ832هـ)((القَس إنسلم تورميدا)) سابقاً
أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري
ومؤلف كتاب : (( تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ))(1)
[(1) وهذه القصة مختصرة بتصرف من مقدمة الميورقي لكتابة ((تحفة الأريب)) ص (53ـ91)بتحقيق الأستاذ عمر وفيق الداعوق].
*ـ في الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم في نشر النصرانية المحرفة في ربوع الأندلس بعد نفي المسلمين منها ، شرح الله صدر رجل من أكبر علمائها للإسلام ، فأسلم وجهه لله ، واستقام على طاعة الله ، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ذلكم هو الشيخ ((أبو محمد عبد الله بن عبد الله الميورقي))، الذي كان قسيساً يُدعى (( إنسلم تورميدا ))، والذي اشتهر بالترجمان ؛ لأنه لما مضى خمسة أشهر على إسلامه ، قدَّمه السلطان في الديوان لقيادة البحر ، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية ؛ لتكرر عمل الترجمة هناك بين المسلمين والنصارى ، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة ، وعَيَّنَه الأمير رئيساً لشئون الترجمة .
*ـ ومن ألقابه عند العوام ))سِيدي تحفة)) وذلك نسبة إلى كتابه الشهير: ((تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)) ذلك الكتاب الذي كان بمثابة ضربة قوية على بنيان النصرانية ، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم ، والذي افتتحه بذكر قصة إسلامه التي نختصرها فيما يلي ، فَلْنُصْغِ إليه الآن وهو يحكي لنا بداية هدايته ، وكيف حَرَّرَ الله قلبه من رق الشرك والكفران ، وشرح صدره للإسلام ، فكان على نورٍ من ربه :
{ اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أصلي من مدينة ((مَيُورْقَة))(2) ـ أعادها الله للإسلام ـ ، وهي مدينة كبيرة على البحر بين جبلين ، يشقها وادٍ صغير ، وهي مدينة متجر ، ولها مرساتان ـ اثنتان ـ عجيبتان ، ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة ، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة ((ميورقة))،وأكثر غاباتها زيتون وتين، ... }
[(2) مَيُورقة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط ، جنوب شرقي أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة(290هـ)، إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني ، وخربها سنة (508هـ).]
*ـ كان والدي محسوباً من أهل حاضرة ((مَيورقة))، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري؛ أسلمني إلى معلم من القسيسين ، قرأت عليه الإنجيل ، حتى حفِظتُ أكثر من شَطْره في مدة سنتين ، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل ، وعلم المنطق ، في ست سنين .
ـ ثم ارتحلت من بلدي ((ميورقة)) إلى مدينة ((لاردة)) من أرض ((القسطلان))(3)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر .
[(3) وهي تدعى اليوم : ((كاستيلون)) و((قسطلة)) مدينة بالأندلس]
ـ وبهذه المدينة تجتمع طلبة العلم من النصارى ، وينتهون إلى ألف رجل أو ألف وخسمائة ، ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه ، فقرأت فيها علم الطبيعيات ، والنجامة مدة ست سنين ، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازماً لذلك مدة أربع سنين ، ثم ارتحلت إلى مدينة ((بلونية)) من أرض ((الأنبردية))، وهي مدينة كبيرة جداً ، وهي مدينة علمٍ عند جميع أهل ذلك القطر ، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيدُ مِن ألفي رجل يطلبون العلوم ، ولا يلبسون إلا المِلف(4) (الذي هو صباغ الله)(5)،ولو يكون طالب العلم منهم سلطاناً أو ابن سلطان فلا يلبس إلا ذلك ؛ ليمتاز الطلبة عن غيرهم ، ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه .
[(4) الملف: كمِقص، لحاف يُلتحف به ]
[(5) لعله ـ والله أعلم ـ زي مصبوغ بصباغ له قداسة عندهم ]
ـ فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم ، كبير القدر اسمه : ((نقلاو مرتيل)) ، وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جداً ، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية ، فكانت الأسئلة في دينهم تَرِدُ عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم ، وصَحِبَ الأسئلةَ من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه ، ويرغبون في التبرك به ، وفي قبوله لهداياهم ، ويتشرفون بذلك .
ـ فقرأتُ على هذا القسيس علمَ أصول النصرانية وأحكامه ، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه ؛ حتى صيرني من أخص خواصه ، وانتهيتُ في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إليَّ مفاتيح مسكنه ، وخزائن مأكله ومشربه ، وَصَيَّر جميع ذلك كله عَلَى يدي ، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير يداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه ، الظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تُهْدَى إليه والله أعلم .
ـ فلازمتُه على ما ذكرتُ من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين ، ثم أصابه مرضٌ يومًا من الدهر ، فتخلَّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس ، وهم يتذاكرون مسائلَ من العلوم ، إلى أن أفضى بهم الكلامُ إلى قول الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ على لسان نبيه عيسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ في الإنجيل : ( إنه يأتي مِن بعده نبي اسمه ((البارَقليط))(6) )،
[ وردت هذه الكلمة في الأناجيل مرة بلفظ:(المعزي) ومرة بلفظ أخر هو: (بارقليط)، و(بارقليط) تعريب لكلمة (بيريكلتوس) ، وقد حصل نقاش بين الأستاذ ((عبد الوهاب النجار)) و د. ((كارلو نلينو)) حول هذه الكلمة ، فقال : (( ... ثم قلت له ـ وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة ـ: ((ما معنى (بيريكلتوس)؟ )) فأجابني بقوله : ((إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها: (المعزي)، فقلت : ((إني أسأل الدكتور (كارلو نلينو) الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة ، ولست أسأل قسيساً))، فقال : إن معناها : (الذي له حمد كثير) ، فقلت : هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد ؟ فقال : نعم ، فقلت : إن رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ من أسمائه ((أحمد)) ، فقال : يا أخي أنت تحفظ كثيراً ...)) انظر: ((قصص الأنبياء)) عبد الوهاب النجار ص (397 ، 398 ) . ]
ـ فبحثوا في تعيين هذا النبي مَن هو مِن الأنبياء ؟ ، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه ، فعظم بينهم في ذلك مقالُهم ، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة ، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور ، فقال لي : (( ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم ؟ )) ، فأخبرته باختلاف القوم في اسم ((البارقليط))، وأن فلاناً قد أجاب بكذا ، وأجاب فلان بكذا ، وسردتُ له أجوبتَهم ، فقال لي : (( وبماذا أجبتَ أنت ؟ )) ، فقلت : ((بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل)) ، فقال لي : ((ماقَصَّرْتَ ، وقَرُبْتَ ، وفلان أخطأ ، وكاد فلان أن يقارب ، ولكن الحق خلافُ هذا كله ؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل))، فبادرتُ إلى قدميه أقبلهما ، وقلت له : ((يا سيدي ! قد علمتَ أني ارتحلتُ إليك من بلدٍ بعيد ، ولي خدمتك عشرُ سنين، حَصَّلْتُ عنك فيها من العلوم جملةً لا أحصيها ، فلعلَّ من جميل إحسانكم أن تمنوا عَلَيَّ بمعرفة هذا الاسم )) ... فبكى الشيخ ، وقال لي : ((يا ولدي! ... والله أنت لَتَعُزُّ عليَّ كثيراً من أجل خدمتك لي ، وانقطاعك إليَّ ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة ، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك ؛ فتقتلك عامة النصارى في الحين))، فقلت له ((ياسيدي ! والله العظيم ، وحقِّ الإنجيل ومَن جاء به لا أتكلم بشيء مما تُسِرُّهُ إليَّ إلا عن أمرك ))، فقال لي : ((يا ولدي إني سألتك في أول قدومك عَلَيَّ عن بلدك ، وهل هو قريب من المسلمين ؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام ، فاعلم يا ولدي أن ((البارقليط)) هو اسم من أسماء نبيهم محمد(7) ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال(8) ـ عليه السلام ـ وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه ، وأن دينه هو دين الحق ، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل )) ،
[ (7) من الواضح أن هذا القسيس كان يصدِّق برسالة النبي ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ؛ إذ إنه يعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل ، وقد تحدث العلماء المسلمون عن معرفة علماء أهل الكتاب للنبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وقد نقل الإمام الجويني ـ رحمه اللهُ ـ ما تناولته الآية الكريمة من قوله ـ تعالى ـ : {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقرَءُونَ الكِتَابَ مِّن قَبلِكَ}ـ يونس:94ـ وما يتعلق بها من معانٍ ، وأشار إلى قول صاحب ((الكشاف)) :((والمعنى أن الله ـ تعالى ـ قدم ذكر بني إسرائيل ، وهم قراء الكتاب ، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ؛ لأن أمر رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ..)) وخلص أن قال : ((فالغرض : وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله)) انظر(( شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل)) للإمام عبد الملك بن عبد الله الجويني ، و (( الدر المنثور )) للسيوطي (1/47).] .
[(8) نقل الشيخ رحمة الله الهندي (في البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال حال الرؤيا التي رآها ((بختنصر)) ملك بابل ونسي، وهي رؤيا طويلة. انظر: دانيال (2:1 ـ 46) ، وخلص إلى أن تلك الأوصاف تنطبق على الرسول ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ انظر ((إظهار الحق)) لرحمة الله الهندي ، ترجمة عمر الدسوقي (2/267 ) ، ومحمد ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ في الكتاب المقدس )) للبروفسير عبد الأحد داود ص (86 ـ 94 )،وص(133ـ 144 ) . ] .
ـ قلت له : (( يا سيدي ! وما تقول في دين هؤلاء النصارى ؟ )) ، فقال لي : (( يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول؛ لكانوا على دين الله ؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينُهم دين الله ، ولكن بَدَّلوا وكفروا )) .
*ـ فقلت له : ((يا سيدي ! وكيف الخلاص من هذا الأمر ؟ )) ، فقال:
((يا ولدي بالدخول في دين الإسلام )) ، قلت له : ((وهل ينجو الداخل فيه ؟))، قال لي : ((نعم ينجو في الدنيا والآخرة )) ، فقلت :
((يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم ، فإذا علمتَ فضلَ دين الإسلام فما يمنعك منه ؟ )) ، فقال لي : (( يا ولدي ! إن الله ـ تعالى ـ لم يُطْلِعْني على حقيقة ما أخبرتُك به من فضل الإسلام، وشَرَفِ نبي أهل الإيلام إلا بعد كبر سني ، ووهن جسمي ، ولا عذر لنا فيه ، بل هو حجة الله علينا قائمة ، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك ؛ لتركتُ كلَّ شيء ، ودخلت في دين الحق ، وحبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئة ، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف ، وكثرة عَرَضِ الدنيا ، ولو أني ظهر عَلَيَّ شيء من الميل إلى دين الإسلام ؛ لقتلتني العامة في أسرع وقت ، وَهَبْ أني نجوتُ منهم ، وخَلُصْتُ إلى المسلمين ، فأقول لهم : إني جئتكم مسلماً، فيقولون لي : قد نفعتَ نفسَك بنفسِك بدخولك في دينٍ خلَّصْتَ به نفسك من عذاب اللهِ ، فأبقى بينهم شيخًا كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم ، ولا يعرفون حقي ؛ فأموت بينهم جوعاً(9) ،
[(9) هذا خيال فاسد وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس ، وجهل بسماحة الإسلام ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق ، وحفظ حقوقهم ، ورعاية قدرهم ، هذا إذا كانوا باقين على دينهم ، فكيف بمن انضم إليهم مسلماً لله ـ عز وجلَّ ـ شاهداً شهادة الحق ؟! وتأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر ابن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وهو يكتب إلى عدي بن أرطأة بالبصرة قائلاً له :
(( ... وانظر مَن قِبلكَ من أهل الذمة قد كبر سنه ، وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب ، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه ، وضعفت قوته ، وولَّت عنه المكاسب ، كان من الحق عليه أن يقوته ، حتى يفرق بينهما موت أو عتق ، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مَرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس ، فقال : ( ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك في كبرك)، قال : ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه )) اهـ من كتاب ((الأموال)) للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ، وأقوى رَدٍّ على هذا الخيال الفاسد هو ما حظي به تلميذه الترجمان لما آوى إلى المسلمين من الاحترام ، والتقدير ، والتكريم ] .

ـ وأنا ـ والحمد لله ـ على دين عيسى ، وعلى ما جاء به ، يعلم الله ذلك مني(10) ،
[(10) لكن شريعة عيسى ـ عليه السلام ـ نُسخت ببعثة أخيه محمد ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ، وعيسى بَشَّر ببعثته الشريفة ، فمن اتباع المسيح ـ عليهِ السَّلام ـ : الإيمانُ بمحمد ـ صّلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ إذا بُعث ، والانقياد لشريعته ، فمن كفر بمحمد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ؛ فقد كفر بجميع الأنبياء ، ومنهم عيسى ـ عليهِ السَّلام ـ.

ـ فقلت له : (( يا سيدي ! أفتدلني أن أمشيَ إلى بلاد المسلمين ، وأدخلَ في دينهم ؟ )) ، فقال لي : (( إن كنت عاقلاً طالبًا للنجاة ؛ فبادر إلى ذلك ؛ تحصل لك الدنيا والآخرة ، ولكن يا ولدي ! هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن ، فاكتمه بغاية جهدك ، وإن ظهر عليك شيء منه ؛ قتلتك العامة لحينك ، ولا أقدر على نفعك ، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني ، فإني أجحده ، وقولي مُصَدَّقٌ عليك ، وقولُك غير مُصَدَّقٍ عَلَيَّ ، وأنا بريء من ذلك ـ إن فُهْتَ بشيء من هذا ـ )) ، فقلت : (( يا سيدي ! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا )) ، وعاهدتُه بما يرضيه .

*ـ ثم أخذت في أسباب الرحلة وودَّعتُه ، فدعا لي عند الوداع بخير ، وزودني بخمسين دينارٍ ذهبًا ، وركبتُ البحر منصرفًا إلى بلدي
(( ميورقة )) ، فأقمتُ بها مع والدي ستة أشهر ، ثم سافرتُ منها إلى جزيرة صقلية ، وأقمتُ بها خمسة أشهر ، وأنا أنتظر مركبًا يتوجه لأرض المسلمين .

*ـ فحضر مركب يسافر إلى مدينة (( تونس )) ، فسافرت فيه من ((صقلية)) ، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق ، فوردنا مرسى (( تونس )) قرب الزوال .
ـ فلما نزلت بديوان ((تونس)) ،وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى ؛ أتوا بمركب ، وحملوني معهم إلى ديارهم ، وصَحِبَتْهُم بعضُ التجار الساكنين ـ أيضاً ـ بتونس ، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر ، وبعد ذلك سألتهم : (( هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى ؟ )) وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خُدَّامه اسمه (( يوسف الطبيب )) ، وكان طبيبه ، ومن خواصه ، ففرحت بذلك فرحًا شديداً .. وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب ؛ فدُلِلْتُ عليهِ ، واجتمعتُ به ، وذكرت له شرح حالي ، وسبب قدومي للدخول في الإسلام ، فَسُرَّ الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه ، ثم ركب فرسه ، وحملني معه لدار السلطان ، ودخل عليه فأخبره بحديثي ، واستأذنه لي ؛ فأذن لي .

*ـ فمثلت بين يديه ، فأول ما سألني السلطان عن عمري ، فقلت له : (( خمسة وثلاثون عامًا )) ، ثم سألني عما قرأت من العلوم ، فأخبرته ، فقال لي : (( قدمتَ قدومَ خير ، فَأسْلِمْ على بركة الله )) ، فقلت للترجمان ـ وهو الطبيب المذكور ـ :
(( قل لمولانا السلطان : إنه لا يخرج أحد من دينٍ إلاَّ ويُكْثِرُ أهلُه القول فيه ، والطعنَ فيه ، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم ، وتسألوهم عني ، وتسمعوا ما يقولون في جنابي ، وحينئذٍ أُسْلِمُ إن شاء الله ـ تعالى ـ )) فقال لي بواسطة الترجمان : (( أنت طلبتَ ما طلب عبدُ اللهِ بنُ سلام من النبي ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ حين أسلم )) (11) .
[(11) تشابهت قصة إسلام ((الترجمان)) بقصة إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام ـ رضي اللهُ عنه ـ وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب نبي الله ـ عليهما السَّلام ـ وقد روى أنس بن مالك ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ قال : أقبل نبي اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ إلى المدينة ، فقالوا : جاء نبي الله ، فاستشرفوا ينظرون ، إذ سمع به عبد الله بن سلام ، وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه ، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها ، فجاء وهي معه ، فسمع من نبي الله ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ، ثم رجع إلى أهله ، قال : فلما خلى نبي الله ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ جاء عبد الله بن سلام ، فقال : (( أشهد أنك رسول الله حقًّا ، وأنك جئت بحق ، ولقد علمت اليهود أني سيدهم ، وأعلمهم ، وابن أعلمهم ، فادعهم ، فسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت ؛ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ )).
فأرسل نبي الله ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ إليهم ، فدخلوا عليه ، فقال لهم نبي الله ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ : (( يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ! وَيْلَكُمُ ، اتَّقُوا اللهَ ، فَوَاللهِ الَّذِي لا إِلهَ إلا هُوَ ، إنَّكُمْ لَتعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ الله حَقًّا ، وَأنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ : أسْلِمُوا )) ، قالوا : (( ما نعلمه )) ، فأعادها عليهم ثلاثاً ، وهم يجيبون كذلك . قال : (( فَأيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ؟ )) قالوا : (( ذاك سيدنا ، وابن سيدنا ، وأعلمنا ، وابن أعلمنا )) . قالَ : (( أفَرَأيْتُمْ إنْ أسْلَمَ ؟ )) ، قالوا : (( حاشا لله! ما كان ليسلم )) ، فقال : (( يَا بْنَ سَلامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ )) ، فخرج إليهم ، فقال : (( يا معشر اليهود ! ويلكم ، اتقوا الله ، والله الذي لا إله إلا هو ، إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقًّا ، وأنه جاء بالحق )) فقالوا : (( كذبت )) ، فأخرجهم النبي ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ) أ .هـ
من (( عيون الأثر )) لابن سيد الناس (1/250) ، وانظر : (( فتح الباري )) (7/272) .

*ـ ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم ، وأدخلني في بيت قريب من مجلسه ، فلما دخل النصارى عليه ؛ قال لهم : (( ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب ؟ )) ، قالوا له : (( يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا ، وقالت شيوخنا : إنهم ما رأوْا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا )) ، فقال لهم :
(( وما تقولون فيه إذا أسلم ؟ )) ، قالوا : (( نعوذ بالله من ذلك ، هو ما يفعل هذا أبداً ))، فلما سمع ما عند النصارى بعث إليَّ ؛ فحضرتُ بين يديه ، وشَهِدْتُ شهادَتَيْ الحق بمحضر النصارى ؛ فَصَلَّبوا(12) على وجوههم ،
[(12) صَلَّبوا : وهذا أمر ثابت عند النصارى ؛ لأنهم إذا أرادوا التعوذُ من شيء رفعوا أصابعهم مضمومة على جبهتهم ، ثم أشاروا بعلامة الصليب مرورًا بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط ، وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى البركة ، حيث إن البابا يرسم هذه الإشارة حينما يظهر لعامة الناس ] .

ـ وقالوا : (( ما حمله على هذا إلا حُبُّ التزويج ، فإن القسيس عندنا لا يتزوج ))(13) ، وخرجوا مكروبين محزونين .
[(13) حرَّمت الكنيسة الكاثوليكية على القسس والرهبان والراهبات الزواج ؛ فأدى ذلك التحريم إلى انتشار الفسق والفجور بين رجالها ونسائها ، حتى لقد كان القسس والرهبان يتصلون بالراهبات أنفسهن، ويبررون ذلك بأنه ضرب من المساكنة الروحية (( الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام )) د. على عبد الواحد وافي ، ص (122) .
ولهذا السبب قام مارتن لوثر البروتستانتي في القرن السادس عشر بثورة على الكنيسة ، وكان من ضمن آرائه في الإصلاح : ( أن جزءاً من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج ، ورأى المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى ، فقرر حقهم في الزواج ، وتزوج هو فعلاً مع أنه من رجال الدين ، وكان زواجه من راهبة ) (( محاضرات في النصرانية )) لأبي زهرة ، ص (216) .

*ـ فرتَّب لي السلطان ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ ربع دينار كل يوم في دار المختص ، وزوَّجني ابنةَ الحاج محمد الصفَّار .
فلما عزمت على البناء بها ؛ أعطاني ماية دينار ذهبًا ، وكسوة جيدة كاملة ، فبنيت بها ، ووُلِد لي منها ولدٌ سميته (( محمدًا )) على وجه التبرك باسم نبينا ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ـ ... ] أ . هـ .

ـ * * * * ـ * * * * ـ * * * * ـ

**ـ ثم شرع الشيخ عبد الله الترجمان في ذكر طرف من أخبار الدولة الحفصية التي خدم ديوانها ، ثم أردفه بأبواب تسعة كشف فيها هوية كُتَّاب الأناجيل الأربعة (( متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا ))، وأكَّد أنهم ليسوا من حواريي المسيح ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ بأدلة علمية دقيقة ، ثم ناقش قضايا التعميد (( التغطيس )) ، والتثليث ، والأقانيم، والخطيئة الأولى ، والعشاء الرباني ، وصك الغفران ، وقانون الإيمان ، وفَنَّدَها كلَّها بنصوص الأناجيل ، وبأدلة العقل الصريح . ثم أثبت بشرية المسيح ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ ونفي ألوهيته المزعومة ، ثم عرض التناقضات في نصوص الأناجيل المحرفة ، ثم تعرض لما يعيبه النصارى على المسلمين ؛ كزواج العلماء والصالحين ، والختان ، والنعيم الحسي في الجنة ، ثم ختم كتابه بإثبات نبوة رسول الله محمد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ، وبيان فضله ومنزلته بنصوص من التوراة والإنجيل(14) .
[(14) وقد طبع الكتابَ (( دارُ البشائر الإسلامية )) بيروت ـ لبنان ـ ص . ب : ( 5955ـ 14 ) بتحقيق وتعليق الأستاذ عمر وفيق الداعوق ـ الطبعة الأولى 1408 هـ ـ 1988 م . ] .

*ـ وبعد : فهذا طرف من سيرة الشيخ الميورقي وجهاده بقلمه ولسانه في سبيل الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أما جهاده بيده فقد اشترك ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في جهاد بني جلدته من الكافرين ، وفي حملة الأسطول الحفصي على جزيرة صقلية (سنة 796هـ تقريبًا) كان يتولى منصب القائد البحري.

*ـ فإن صَحَّتْ روايةُ استشهاد الترجمان أثناء الغارة الصليبية على تونس ، فهذا شرف عظيم يضاف إلى سجله الناصع في خدمة دين الحق والجهاد في سبيله .

**ـ إن سيرة الشيخ الترجمان منار ينير الدرب للتائهين في لجج الظلام ، ودياجير الجهل ، ويحرر عقولهم من أسر التقليد الأعمى لمن لا يملكون لهم رزقاً ولا أجلاً ، ويهدي الحائرين الباحثين عن الحقيقة التي هي أقرب لأحدهم من حبل الوريد ، إنها حجة على الجاحدين المعاندين الذين غلَّقوا أعينهم ، وجعلوا أصابعهم عليها ؛ ليقنعوا أنفسهم أن الشمس غائبة ، وأن الدنيا ظلام ...
{ وَيَأبىَ اللهُ إِلآ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [32: التوبة ].

*ـ رحم الله الشيخ الترجُمان ، وأعلى درجته في المهديين ، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحَسُن أولئك رفيقًا والحمد لله رب العالمين .

ــــــــــــــــــــــــــ