المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أساليب الإقناع في سورة الإسراء


نور الإسلام
05-06-2013, 06:45 AM
العدد السادس و الأربعون
شـــــــوال 1426هـ
تشرين ثان 2005م
بقلم: محمد الحسناوي
كاتب وباحث
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

على مائدة القرآن الكريم





السور المكية موضوعها الرئيسي هو عقيدة التوحيد ، وسورة الإسراء إحدى السور التي حفلت بعدد من أساليب الإقناع بهذه العقيدة ، تثبيتاً للمؤمنين ، وتوضيحاً للمترددين ، وقمعاً للمعاندين .
ومما زاد من أهمية الإقناع ووسائله هو صرف النظر عن منهج (الخوارق) طريقاً للإقناع ، تلك الخوارق التي كانت إحدى معجزات الأنبياء السابقين عليهم السلام ، على حين أُعطيت الأولوية للقرآن الكريم للإقناع والإعجاز في هذه المعركة . وقد تضمنت السورة توضيحاً لذلك ، فقال تعالى : (إنَّ هذا القرآنَ يَهدي للتي هي أقوم) (الآية 9) كما قال : (ولقد صرَّفنا في هذا القرآن ليذّكّروا ، وما يَزيدُهم إلا نفوراً) (الآية 41) وقال : (ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) (الآية 89) .
وعن تجاوز منهج (الخوارق) في الإقناع جاء في السورة قوله تعالى : (وما مَنَعَنا أن نُرسلَ بالآيات إلا أن كذّبَ بها الأوَّلونَ ، وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها ، وما نُرسلُ بالآياتِ إلا تخويفاً) (الآية 59) ، وهذا لم يمنع من الإشارة إلى الآيات الخوارق التي كانت لبعض الأنبياء السابقين ، مثل معجزة الطوفان للنبي نوح (ذرّيَةَ مَنْ حَملنا معَ نوحٍ إنه كانً عبداً شَكوراً) (الآية 3) أو ما أُوتيه النبي موسى من معجزات : (ولقد آتينا موسى تسعَ آيات بيّناتٍ فاسأل بني إسرائيلَ إذ جاءَهم ، فقال له فرعونُ : إني لأظنُّكَ يا موسى مسحوراً) (الآية 101) ، وهذا يدرج في باب الإقناع بالتجربة التاريخية.
تعدد وسائل الإقناع:
لما اختلف الناس في الأفهام والأذواق ودرجة الاستجابة والعناد ، وفي أسباب المناقشة والجدال أيضاً ..كانت طرق إقناعهم ووسائلها متعددة لاستيعابهم ، وإغلاق منافذ الشيطان والمكابرة عليهم . وقد كشف الباحثون أسلوبين مشهورين ، أحدهما اعتماد التأثير الوجداني بمخاطبة النفوس والضمائر من خلال الترغيب أو الترهيب ، وثانيهما مخاطبة العقل بالحجج والبراهين العقلية المنطقية . فمن لم يستجب للأسلوب الأول استجاب للأسلوب الثاني ، أو يجتمع للإنسان أسلوبان في الوقت نفسه ، وذلك خير على خير (1) .
سوف نجد أن هذه السورة مع اعتمادها هذين الأسلوبين المشهورين (الوجداني والعقلي) لم تكتفِ بهما ، بل جاءت بأساليب أخرى ، لا تقل أهمية عن هذين الأسلوبين ، بعضها ظاهر جلي ، وبعضها باطن خفيّ ، وفي ذلك ما فيه من القوة والجمال على حدّ سواء .
الترغيب والترهيب (التهديد والوعيد مقابل التكريم والنعم الغامرة) :
الترغيب: هو التحبيب برضى الله تعالى ودخول الجنة والخلاص من النار ، والترهيب: هو التخويف من سخط الله والحرمان من الجنة ودخول النار، ولما كان هناك من يُنكر كل ذلك ، صار الترغيب والترهيب متعلقين بالحياة الدنيا أيضاً ، زيادة في التأثير والإقناع.
بعد أن بيّن الله تعالى نعمته على البشر فيما سخّر لهم من نعم البحر ركوباً وصيداً واستمتاعاً بقوله : (ربُّكُمُ الذي يُزجي لَكُمُ الفُلْكَ في البحر لتبتغوا من فضلهِ . إنه كان بكم رحيماً) (الآية 66) ينتقل إلى الترهيب : (وإذا مسَّكُمُ الضُّرُّ في البحرِ ، ضلَّ من تَدعونَ إلا إيّاه ، فلمّا نجّاكم إلى البر أعرضتم ، وكانَ الإنسان كفوراً . أَفأمِنتم أن يَخسِفَ بكم جانِبَ البَرِّ أو يرسِلَ عليكم حاصِباَ ، ثم لا تجدوا لكم وكيلاً . أم أمِنتم أن يُعيدَكم فيهِ تارةً أُخرى ، فَيُرسِلَ عليكم قاصفاً من الريحِ ، فُيغرِقَكم بما كفرتم ، ثم لا تَجِدوا لكم علينا بهِ تَبيعاً) (الآيات 67و68و69) .
ومن نعم الله على الناس قوله تعالى : (وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتينِِ ، فمحونا آية الليلِ ، وجعلنا آيةَ النهارِ مُبصِرةً ، لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عددَ السنينَ والحسابِ ، وكلَّ شيء فصَّلناهُ تفصيلاً) (الآية 12) والعدل في الحساب يوم القيامة يجمع الترغيب والترهيب على صعيد واحد : (وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائرهُ في عُنُقِهِ ، ونُخرِجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يَلقاهُ منشوراً . اقرأْ كتابَكَ ، كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيباً . من اهتدى فإنما يَهتدي لنفسِهِ ومن ضلَّ فإنما يَضِلُّ عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنّا مُعذبين حتى نَبعثَ رسولاً) (الآيات 13- 15) .
أما التهديد أو التخويف الصريح فمثل قوله تعالى : (ومن كانَ في هذه أعمى ، فهو في الآخرةِ أعمى وأضلُّ سبيلاً) (الآية 72) وقوله عزَّ وجل : (ومن يهدِ اللهُ فهو المُهتدِ ، ومن يُضلِل فلن تجدَ لهم أولياءَ من دونِهِ ، ونَحشرُهم يوم القيامةِ على وجوههم عُمياً وبُكماً وصُمّاً ، مأواهُم جهنم ، كلما خَبَتْ زِدناهم سعيراً ) (الآية 97).
ومثلُ ذلك الاستصحاب بالتذكير بما حصل تاريخيّاً للمعاندين كفرعون وقومه : (فأرادَ أن يَستَفِزَّهم من الأرضِ ، فأغرقناهُ ومن معه جميعاً) (الآية 103) أو قوم نوح عليه السلام : (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربِّكَ بذنوبِ عبادِهِ خبيراً بصيراً) (الآية 17) أو الأقوام التي لم تَردَعْ طغاتها : (وإذا أردنا أن نهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ، ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدَمَّرناها تَدميِراً ) (الآية 16) .
وأخيراً الحكم العام قانوناً يتجاوز الزمان والمكان والأمة بعينها : (وإنْ مِن قريةٍ إلا نحنُ مُهلِكوها قبل يوم القيامة أو مُعَذِّبوها عذاباً شديداً ، كانَ ذلك في الكتاب مسطوراً ) (الآية 58) .
يندرج في هذا النوع ما ورد من آيات تكشف خبايا المشركين حين يجتمعون سرّاً للكيد والمكر : (نحنُ أعلمُ بما يَستمِعونَ به ، إذ يَستمعونَ إليك وإذ هم نجوى ، إذ يقول الظالمون : إنْ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) (الآية 47) أو كشف خبايا نفوسهم أيضاً : ( وإنْ كادوا ليفتنونكَ عن الذي أوحينا إليكَ لتفتريَ علينا غيرَهُ ، وإذاً لاتخذوك خليلاً ) (الآية 73) .
أما النوع المعجز ، الذي يفوق كل ما ذكرنا من أساليب الترهيب ، فهو ما جاء من آيات تحمل التهديد والوعيد لرسول الله المعصوم إذا وقع منه أدنى تفريط ، وهو الذي أكرمه الله تعالى ، وأثنى عليه في أكثر من موضع في القرآن ، ولا سيما سورة (الإسراء) . وحادثة الإسراء نفسها أعظم دلالة على تكريم النبي .
الرهبة في هذه الآيات أنها موجهة إلى نبي مثل محمد عليه السلام ، فكيف الحال بالنسبة إلى بقية الناس . ووجه الإعجاز فيها أنها لا يُعقل أن يخاطب بشرٌ نفسَه بهذه اللهجة ، إلا أن ذلك خطاب رباني ، لا يملك بشر حتى الأنبياء إلا التسليم به والقبول العميق الكامل . تأمل هذه الآيات (لا تَجعلْ مع الله إلهاً آخرَ فتقعُدَ مذموماً مخذولاً) (الآية 22) ، (ذلك مما أوحى إليك ربُّكَ من الحكمةِ ، ولا تجعلْ مع اللهِ إلهاً آخرَ ؛ فتُلقى في جهنَّمَ مَلوماً مَدحوراً) (الآية 39) ، (ولولا أن ثبّتناكَ لقد كِدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً . إذاً لأذقناك ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ، ثم لا تجِدُ لك علينا نصيراً) (الآيتان 74و75 ) .
وقد فطن بعض الباحثين إلى التلازم بين العقل والعاطفة في أسلوب القرآن الكريم ، فقال: أما ما يبدو فوق طاقة البشر حقّاً في الأسلوب القرآني ، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها ترى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية ، بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى ، ففي القرآن لا نرى إلا تعاوناً دائماً في جميع الموضوعات التي يتناولها بين هاتين المتنافرتين (2) .
الحجاج العقلي (مقابل الجحود والشكوك ):
كل شبهة أو شكٍّ أو قالةِ جحود أوردها المشركون يرد عليها القرآن في هذه السورة ردّاً عقليّاً مُحكماً ، لا يدع زيادةً لمستزيد .
فمثلاً زعم المشركون أن الله اتخذ من الملائكة أولاداً له إناثاً ، وهو زَعْم يجمع بين الشرك وبين اتخاذ الإناث ، وهم في الوقت نفسه يميزون بين الإناث والذكور ، لتفضيلهم الذكور على الإناث ، بل وأدهم الإناث ظلماً وعدواناً ، فكيف استقام لهم هذا الاعتقاد الأعوج ، بالشرك أولاً ، وبتفضيل أنفسهم على الله تعالى ثانياً ، ولما كان هو الخالق فكيف يفضلكم على نفسه : (أفأصفاكم ربُّكم بالبنينَ واتَّخذَ من الملائكةِ إناثاً ، إنكم لتقولونَ قولاً عظيماً) (الآية 40) .
أو زعمهم الشرك بوجود أكثر من إله مع الله ، ينقض ذلك أن وجود آلهة أخرى غير الله يفتح الباب لمنازعة الله الواحد سلطانَه ووجودَه ، فكيف يستقيم ذلك : (قلْ لو كانَ معه آلهةٌ كما يقولونَ إذاً لابتغَوا إلى ذي العرشِ سبيلاً) (الآية 42) .
كما ينقض هذه الدعوى الباطلة أن آلهتهم المُدَّعاة من بشر أو حيوان أو حجر أو جانّ أو شيطان ، لا يمكنها أن تنصرهم إذا استنصروها ، بل هي بحاجة إلى الله تعالى ، تلتمس إليه القرب ومنه النُّصرةَ ، وتخاف من عذابه : (قل ادعوا الذين زعمتم من دونهِ ، فلا يَملكونَ كشفَ الضُّرِّ عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يَدعونَ يبتغونَ إلى ربِّهمُ الوسيلةََ ، أيُّهم أقربُ ، ويَرجونَ رحمتَهُ ، ويَخافون عذابَهُ ، إن عذابَ ربِّكَ كانَ محذوراً) (الآيتان 56و57) .
وينقض دعوى الشرك أن ذلك لا يليق بكمال الله وجلاله ، لأن اتخاذ الولد أو الشريك أو الولي مظهر من مظاهر الضعف ، الذي يجوز للبشر والمخلوقات ، ولا يجوز بحق الخالق : (وقُل الحمدُ للهِ الذي لم يتخذْ ولداً ، ولم يكنْ لهُ شريكٌ في الملك ، ولم يكنْ لهُ وليٌّ من الذلِّ وكَبِّرْهُ تكبيراً) (الآية 111) .
كالأمم السابقة طلب مشركو مكة من الرسول محمد عليه السلام أن يأتيهم بآيات أو معجزات خارقة للعادة حتى يؤمنوا برسالته : (وقالوا : لن نُؤمنَ لَكَ حتى تَفجُرَ لنا من الأرضِ يَنبوعاً . أو تكونَ لَكَ جنّةٌ من نخيلٍ وعِنَبٍ فتُفجّرَ الأنهارَ خلالها تًفجيراً . أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً ، أو تأتيَ باللهِ والملائكةِ قبيلاً . أو يَكونَ لَكَ بيتٌ من زُخرُفٍ ، أو تَرقى في السماءِ ، ولن نُؤمنَ لِرُقِيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه ...) (الآيات 90-93) فما كان جواب الرسول على هذه الطلبات المتعددة المتعنتة إلا عبارتين موجزتين ، توضحان طبيعة الرسالة وحدود الرسول ، ببساطة متناهية تصفع الغرور، وتقرب معنى النبوة هداية، لا ملكاً واسعاً وسلطاناً عظيماً: (قلْ سبحانَ ربي ، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً) (الآية 93).
وردّاً على من طلب أن يكون الرسولُ مَلَكاً لا إنساناً مثل النبي محمد ، جاء الجواب بأن محمداً بشر ككل الأنبياء ، وليس من العادة إرسال مَلَك للبشر ، لأنه لا يوجد في العادة مَلَكٌ يعيش بينهم ، حتى يُرسَل لهم رسولٌ ملك : (وما مَنَعَ الناسَ أن يُؤمنوا إذ جاءهُمُ الهُدى ، إلا أن قالوا : أَبَعَثَ اللهُ بشراً رسولاً ؟! قلْ : لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشونَ مُطمَئنّينَ ، لَنَزَّلنا عليهم من السماءِ مَلَكاً رسولاً) (الآيتان 94و95).
ومما أنكره المشركون بشدة عقيدة البعث بعد الموت : (وقالوا : أإذا كنّا عظاماً ورُفاتاً ، أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً ؟!) (الآية 49) استنكاراً وتكذيباً ، فيجيبهم القرآن بأجوبة يكمل بعضها بعضاً في القوة والإقناع :
الجواب الأول يطلب منهم أن يتحولوا إلى مادة أشد صلابة من لحم الإنسان وعظامه التي تبلى بعد الموت إن استطاعوا ليمنعوا البعث عنهم : (قلْ كونوا حِجارةً أو حَديداً . أو خَلْقاً مما يَكبُرُ في صدورِكم ..) (الآيتان 50 و51) أي لو كنتم من مادة أشد صلابة من حديد أو حجر أو غيره مما تظنونه صلداً ، فالقانون سارٍ على بعثكم بعد موتكم .
وثانياً ردّاً على تساؤلهم : (من يُعيدُنا) يجيبهم بقوة وببساطة : إن الذي خلقكم أول مرة هو القادر على إحيائكم بعد موتكم : (قلِ : الذي فَطَرَكم أولَ مرة) (الآية 51) .
وثالثاً يسألون عن موعد البعث مدهوشين : (فسيُنغِضونَ إليكَ رؤوسهم ويقولون : متى هو ؟! قل : عسى أن يكونَ قريباً . يومَ يَدعوكم فتستجيبون بحمدهِ ، وتظنون إن لَبِثتم إلا قليلاً) (الآيتان : 51و52) .
وفي موضع آخر يجيبهم على هذا التساؤل ، البعث بعد الموت : (أَوَلَمْ يَروا أن الله الذي خلقَ السماواتِ والأرض قادرٌ على أن يخلقَ مثلهم ، وجعلَ لهم أجلاً لا ريبَ فيهِ ، فأبى الظالمونَ إلا كُفوراً) (الآية 99) . فالله الذي خلقهم أول مرة أو الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بعد وفاتهم . الموت حق لا ريب فيه ، ومن جعل الموت يجعل الحياة .
التجربة التاريخية:
إن الاستشهاد بالتاريخ ووقائعه ، ولا سيما مصير الأمم مع أنبيائها ، لاحتجاجٌ بالغُ الأهمية ، من حيث البرهنة المؤثرة ، ومن حيث المقارنة بالمماثلة والربط ، لأن التاريخ أحداث وقعت ، لا تحتمل النقض ، ولأن التاريخ بسبب ذلك وغيره يملك قوة خاصة في النفس البشرية .
أهم استشهاد تاريخي في هذه السورة كان بوعد الله لبني إسرائيل في الكتاب في العلو في الأرض والفساد مرتين ، واليهود أهل كتاب ، يسكنون مجاورين لأهل مكة في المدينة المنورة ، ولهم نوع من الأهمية في نفوس العرب بوجود (الكتاب ) عندهم ، وبوجود علماء بني إسرائيل فيهم . والاستشهاد بهم وبتاريخهم طريقة مؤثرة في الإقناع للعرب ، وحكاية طرف مفصل من تاريخهم إقناع لهم وللعرب المشركين من ورائهم ، فقد ورد في السيرة رجوع مشركي مكة إليهم يسألونهم في أمر النبي محمد وفي أمر القرآن ، وتباينت أجوبتهم بين مؤمنين ، وبين مكذبين مكابرين ومعاندين ، وهم واثقون من نبوة محمد وصحة رسالته (3) .
ومن الاستشهاد بتاريخ بني إسرائيل الإشارة إلى معركة النبي موسى مع فرعون المشابهة لمعركة النبي محمد مع قومه : (ولقد آتينا موسى تِسعَ آياتٍ بيّناتٍ ، فاسألْ بني إسرائيلَ إذ جاءهم ، فقال له فرعونُ : إني لأظنُّك يا موسى مسحوراً . قال : لقد علمت ما أنزلَ هؤلاءِ إلا ربُّ السماواتِ والأرضِ بصائر، وإني لأظنُّكُ يا فرعونُ مثبوراً . فأرادَ أن يستفزَّهم من الأرض فأغرقناهُ ومن معهُ جميعاً) (الآيات 101-103) .
ومثل ذلك الإشارة إلى النبي نوح في موضعين من السورة (الآيتان 3و17) ، وإلى ثمود والناقة التي ظلموا بها (الآية 59) ، وإلى النبي داود والزبور الذي آتاه الله إياه (الآية 55) .
وأخيراً يُعَبِّر القرآن عن هذه الواقعة المضطردة تاريخيّاً بأنها (سُنَّة) أو (قانون) : (وإن كادوا ليستفِزّونَكَ من الأرض لِيُخرجوكَ منها ، وإذاً لا يَلبثونَ خلافكَ إلا قليلاً . سنَّةَ من قد أرسلنا قبلك من رسلِنا ، ولا تجدُ لسنتنا تحويلاً) (الآيتان 76و77) ، وهل هناك أقوى من (قانون تاريخي) أو (سنة) استنّها الله تعالى؟!
الذين أوتوا العلم:
إن شهادة العلماء بنبوة محمد وبالقرآن الكريم عند مشركي مكة الأميين شهادة معتبرة ، لا سيما علماء أهل الكتاب ، وأقربهم أحبار بني إسرائيل المجاورون لأرض مكة ، قال تعالى : (قلْ آمِنوا بهِ أو لا تُؤمنوا ، إن الذين أُوتوا العلم من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرّونَ لِلأذقانِ سُجَّداً . ويقولونَ : سُبحانَ ربِّنا إنْ كانَ وعدُ ربِّنا لَمَفعولاً . ويخرون للأذقان يَبكونَ ويَزيدُهم خشوعاً) (الآيات 107-109) .
إعجاز القرآن:
إعجاز القرآن في مستويين : أحدهما التحدي الذي صرَّح به القرآن : (قلْ لئن اجتمعت ِالإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتونَ بِمثلِهِ ولو كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيراً ) (الآية 88) ، وبالطبع لم يأتِ بمثله أحد .
ثانيهما ما يحسه العرب الفصحاء من السحر الحلال في بيان القرآن سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ، و"قصة إيمان عمر بن الخطاب ، وقصة تولي الوليد بن المغيرة ، نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي ، وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتُبينان-في اتجاهين مختلفين- عن مدى هذا السحر القاهر" (4) .
دستور الحياة:
في هذه السورة من الأحكام والتشريعات والآداب السامية ما يشير إلى المصدر الرباني الذي أوحى بها ، بدءاً بعقيدة التوحيد ، ومروراً بتحديد المسؤولية ونوعيها الفردي والجماعي ، وانتهاءً بقواعد السلوك والعيش والعلاقات بين الناس .
أما عقيدة التوحيد فقد جُليت بإبطال دعاوى المشركين بأنواعها واحدة واحدة من جهة ، وفي تثبيت الرسول محمد عليها ، ورفض التفريط بأدنى جزء يسير منها من جهة ثانية .
أما المسؤولية الفردية ، وهي أرقى المبادئ القانونية في القوانين والدساتير المعاصرة ، ففي قوله تعالى (ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى) (الآية 15)، يضاف إليها ربط الحساب بإرسال الأنبياء والرسل ، بما يحقق العدل المطلق : (وما كنا مُعذّبين حتى نبعثَ رسولاً) (الآية 15) .
وأما المسؤولية الجماعية ، أي حين يذنب الكبراء ، أو يشيع الظلم ولا يقوم في المجتمع من ينهى عن ذلك ، أو يأخذ على أيدي الظلمة .. كانت المسؤولية أو العقاب للجماعة كلها : (وإذا أردنا أن نُهلِكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تَدميراً) (الآية 16) ، وهذا قانون من قوانين علم الاجتماع والحضارة ، تلهج به اليوم علوم الإنسان الحديثة .
أما قواعد السلوك والعيش والعلاقات الاجتماعية ، فمجوعة من القيم الرفيعة ، أُمر بها الرسول والصف المسلم أن يأخذوا بها .
أولها : الإنفاق على الأقرباء والمساكين وأبناء السبيل : (وآتِ ذا القربى حقَّهُ والمِسكينَ وابنَ السبيلِ) (الآية 26) لاحظ تعبير (حقه) الموحي بالتكريم للمُعطى ، ووجوب ذلك في الوقت نفسه .
ثانيها : الاعتدال في إنفاق المال : (ولا تُبذّرْ تبذيراً . إن المُبذّرين كانوا إخوانَ الشياطين ، وكان الشيطانُ لربهِ كَفوراً ) (الآيتان 26و27) ، (ولا تجعلْ يَدكَ مغلولة إلى عنقِكَ ، ولا تبسطْها كلَّ البسطِ ، فتقعدَ ملوماً محسوراً ) (الآية 29) .
ثالثها : النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر : (ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقٍ ، نحنُ نرزقهم وإياكم ، إن قتلَهم كانَ خِطئاً كبيراً) (الآية 31) ، لعلك لاحظت بعد تخطئة الفعل تعليل النهي بأن الرزق من الله تعالى ، بما يعني أن رزق هؤلاء الأولاد مقسوم مضمون فلا حاجة للقلق عليه ، فضلاً عن أن الرزق الذي يتمتع به الآباء نفسه هو من عند الله أيضاً .
رابعها : النهي عن فاحشة الزنى : (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ، وساءَ سبيلاً) (الآية 32) . ومعلوم كم تعاني المجتمعات الإباحية من أمراض جنسية فتاكة ، وسواها من انحلال الأخلاق والمجتمعات .
خامسها : تحريم قتل النفس البشرية بإطلاق ، أي بصرف النظر عن الدين والجنس والعمر : (ولا تقتلوا النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ ، ومن قُتلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً ، فلا يُسرِفْ في القتلِ ، إنه كانَ منصوراً) (الآية 33) ، من الممكن أن يمتنع الإنسان عن قتلِ غيره ، ولكن إذا قُتِلَ له إنسان عزيز من ابن أو أخ و والد أو حبيب أو حبيبة ، فإن رغب أن يقتل أكثر مما قتل له ، فحال الشرع الحنيف دون ذلك ، ووضع لذلك قوانين عادلة تأخذ لذوي القتيل حقهم ، وتحول دون الإسراف في الانتقام .
سادسها : حفظ مال اليتيم حتى يبلغ سن الرشد : (ولا تَقرَبوا مالَ اليتيم إلا بالتي هي أحسنُ ، حتى يبلغَ أشدّهُ ، وأوفوا بالعهدِ ، إن العهد كانَ مسؤولاً) (الآية 34) .
سابعها : ضبط المكيال والميزان في التعامل والبيع والشراء : (وأوفوا الكيلَ إذا كِلتم ، وزنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ، ذلك خير وأحسنُ تأويلاً) (الآية 35) .
ثامنها : الانضباط العلمي الموضوعي في اتخاذ الأحكام والقرارات ، ولا سيما العلمية منها : (ولا تقفُ ما ليس لكَ بِهِ علمٌ ، إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ ، كلّ أولئكَ كان َ عنه مسؤولاً) (الآية 36) .
تاسعها : النهي عن التكبر والتزام التواضع ، والتكبر من عادة الزعماء الطغاة والجبارين والمغرورين : (ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً ، إنك لن تخرقَ الأرضَ ، ولن تبلُغَ الجبالَ طولاً) (الآية 37) ، والسخرية الجارحة لا تفوت الذواقين اللماحين ، وهي أليق ما تكون بهؤلاء المرحين .
أي عاقل يسمع بهذه الآداب والأحكام والقواعد ، ولا يأخذ بها ، فيُكبِِرها ويُكبِر المصدر الذي أوحى بها ، وحثّ على تطبيقها ، ففرضها وأوجبها ، وجعلها جزءاً من العقيدة التي يعتقدها المكلفون بها أو محبوها . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هيَ أقومُ ) .
علاقة الله بأكرم عباده :
الفرق بين (الربوبية) و(العبودية) في الإسلام واضح كل الوضوح ، وكذلك العلاقة بينهما واضحة ، بل إن وصف النبي بأنه عبد لله ، وإضافة ذلك إليه : (أسرى بعبدِهِ ) تكريم له . وقد رأينا من الحكمة في الوعيد الموجه للرسول : (.. لأذقناكَ ضِعفَ الحياة وضِعفَ المَماتِ) (الآية 75) أنه في الوقت نفسه وعيد مضاعف بالنسبة إلى بقية الناس ، ما دام النبي الكريم يخاطب مثل هذا الخطاب . وهذا ما أدرجناه في الإقناع الوجداني .
ووجه آخر لهذا الخطاب ، هو الإقناع العقلي ، إذ لا يُعقل أن يُخاطِبَ إنسانٌ ما نفسَه هذا الخطاب ، فهو يدل على طرف أعلى وأقوى وأقدر من المخاطب . انظر قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهَبَنَّ بالذي أوحينا إليكَ ، ثم لا تجدُ لكَ بهِ علينا وكيلاً) (الآية 86) . إنه تهديد بحجب الوحي أو القرآن عنه صلى الله عليه وسلم ، وهو أغلى وأهم ما يهتم به الرسول ، وهي الشارة التي ميزته عن بقية البشر ، وكانت سبب علاقة الاصطفاء مع الله عز وجلّ .

المراجع :
(1) تحدث بن عيسى بن عبد القادر في رسالته للماجستير عن الإقناع بين العقل والعاطفة في الفصل الأول (ص 5-13) ، وفي الفصل الثاني تحدث عن أساليب بيانية أصلية للإقناع (الجدل - التصوير - القص - التمثيل) ، وفي الفصل الثالث تحدث عن أساليب بلاغية فرعية (الاستفهام - التوكيد - الحذف ) ، رسالة غير مطبوعة ، مقدمة إلى كلية الآداب ، الجامعة الأردنية عام 1990م .
(2) مدخل إلى القرآن الكريم ، محمد عبد الله دراز ، ترجمة محمد عبد العظيم علي ، ط 3 ، دار القلم ، الكويت ، 1981م .
(3) فقه السيرة ، د. محمد سعيد رمضان البوطي ، دار الفكر للطباعة والنشر ، دمشق ، ط 8 ، 1400هـ - 1980م ، ص 305-308 .
(4) التصوير الفني في القرآن ، سيد قطب ، دار الشروق ، القاهرة وبيروت ، ط 9 ، ص 11 .

مجلة الفرقان