الفصل السابع بيئات النص الاجتماعية ربما من المأمون تمامًا أن نقول إن عملية نَسْخ النصوص المسيحية المبكرة كانت في العادة عملية «محافِظة». فقد كان النساخ -سواء أكانوا من هواة القرون الأولى أم كانوا من المحترفين في العصور الوسطى- عازمين على «المحافظة» على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه. لم يكن اهتمامهم الأول منصبًّا على تعديل التقليد، بل على الحفاظ عليه لمصلحتهم الخاصة ولمصلحة من سيأتون بعدهم. معظم النساخ، بلا شك، حاولوا أن يؤدُّوا عملهم في التأكد من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه بنزاهة. رغم ذلك، حدث وأن وقعت التغييرات في النصوص المسيحية المبكرة. فالنساخ سيقعون أحيانًا ـ بل في كثيرٍ من الأحيان ـ في الأخطاء غير المقصودة، من خطاء في تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عبر إفساد الجُمَل التي كان من المفترض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيير النص عمدًا مع سبق الإصرار والترصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إلى النص اتضح في الواقع أنَّها تحريفٌ لما كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه في الأصل. قمنا في الفصل السابق بدراسة أحد أنواعٍ التغييرات العمدية ـ وهي تلك المتصلة ببعض الصراعات اللاهوتية التي اضطرم أوارها في القرنين الثاني والثالث، أي في الوقت الذي وقعت فيه معظم التغييرات التي شهدها تقليدنا المحفوظ في شكل نصيّ. لكني لا أريد أن أؤكد صحة الانطباع الخاطئ أنَّ هذا النوع من التغييرات اللاهوتية للنص كان يقع في كل مرة يجلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات. كان هذا يحدث أحيانا. وعندما كان يقع، كان له تأثيرٌ بعيدُ الغور على النص. في هذا الفصل، سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف والملابسات التي أدَّت، في بعض الأحيان، إلى تحريف النص. هناك ثلاثة أنواع، على وجه الخصوص، من النزاعات التي كانت ملحوظة جدًا في المجتمعات المسيحية المبكرة سنقوم بدراستها: نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء في الكنيسة ونزاعين آخرين خارجيين، أحدهما مع اليهود من غير المسيحيين والآخر مع الخصوم الوثنيين. وسنرى في كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات، في أحايين متفرقة، لعبت أيضا دورًا في تحريف النصوص التي كان يقوم بإعادة إنتاجها لمصلحة المجتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطين في هذه النزاعات. النساء ونصوص الكتاب المقدس لم تلعب النزاعات التي ثارت حول دور المرأة في الكنيسة دورا كبيرًا في تحريف نصوص العهد الجديد، لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك في فقراتٍ طريفةٍ وهامَّة. نحتاج، لكي نفهم أنواع التغييرات التي وقعت للنص، أن نعرف بعض الخلفيات عن طبيعة هذه النزاعات(117). النساء في الكنيسة الأولى وصل العلماء المعاصرون إلى درجة الاعتراف بأنَّ النزاعات التي دارت حول دور المرأة في الكنيسة الأولى وقعت تحديدًا لأن النساء كان لهن دور، وكثيرا ما كان دورًا كبيرًا ومرموقًا لدى العامة. فوق ذلك، كان هذا هو الوضع المألوف منذ بدايات المسيحية ذاتها، ابتداءً من خدمة يسوع. نعم كان التلاميذ الأكثر قربًا من يسوع ـ الحواريين الاثنى عشر ـ جميعهم من الرجال، وهو المتوقع من معلّم يهودي في فلسطين في القرن الأول. إلا أن أناجيلنا المبكرة تشير إلى أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء في أثناء رحلاته، وأن بعضًا من هؤلاء النسوة كنّ من الداعمات له ولتلاميذه من الناحية الماليَّة، حيث عملن كمساعدات له أثناء تجواله للقيام بعمله التبشيري (انظر مرقس 15: 40 -51، لوقا 8: 1-3). يقال لنا إن يسوع قد انخرط في حوار علني مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن علانية (مرقس 7: 24 – 30؛ يوحنا 4: 1- 42). ويقال لنا، على وجه الخصوص، إن النسوة رافقن يسوع أثناء رحلته الأخيرة إلى أورشليم، حيث كنَّ حاضرات عند صلبه وحيث بقين، وحدهنّ، على ولائهنَّ له حتى النهاية في الوقت الذي فرّ فيه التلاميذ الذكور (متى 27: 55؛ مرقس 15: 40- 41). الأهم من هذا كله هو أنَّ كل إنجيلٍ من أناجيلنا يشير إلى أنَّ النسوة ـ مريم المجدلية وحدها، أو مع رفيقاتها الأخريات ـ هن اللاتي اكتشفن قبره الفارغ وهكذا كنّ أولَ من عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بين الأموات (متى 28: 1-10؛ مرقس 16: 1- 8؛ لوقا 23: 55 – 24: 10؛ ويوحنا 20: 1-2). وإنه لأمر مثير أن نسأل عن ماهية الرسالة التي قدمها يسوع فجذبت النسوة على وجه الخصوص. معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة الله المزمع أن تأتي، والتي لن يكون ثمة ظلم فيها ولا معاناة ولا شرّ، والتي فيها كل الناس، الأغنياء منهم والفقراء، العبيد والأحرار، الرجال والنساء، سيكونون متساويين. يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على نحو مخصوص كرسالة أمل للذين كانوا محرومين ـ مثل الفقراء، المرضى، المنبوذين.... والنساء(118) في هذا العصر. على أية حال، من الواضح أنه حتى بعد موته، استمرت رسالة يسوع في جذبها للنساء. بعض الخصوم القدماء للمسيحية من بين الوثنيين، بمن فيهم سيلزس، على سبيل المثال، الناقد الذي عاش في أواخر القرن الثاني والذي ذكرناه من قبل، انتقد الديانة المسيحية على خلفية أن أتباعها في الغالب كانوا من الأطفال والعبيد والنساء (أي من هؤلاء الذين لم يكونوا في الغالب يتمتعون بمركز اجتماعي داخل المجتمع). الغريب أنَّ أوريجانوس، الذي كتب الرد المسيحي على سيلزس، لم ينكر التهمة لكنَّه حاول أن يحوَِّلها ضد سيلزس في محاولة لإظهار أن الله يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة. لكننا لسنا بحاجة إلى الانتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ النساء لعبن دورًا رئيسًا في الكنائس المسيحية المبكرة. لدينا بالفعل معرفة واضحة بهذا الأمر من الكاتب المسيحي القديم الذي نجت أعماله من الضياع، بولس الرسول. الرسائل البولسية التي يتضمنها العهد الجديد تقدم دليلا ثريًّا على أنَّ النساء تبوَّأْن مكانة مميَّزة في المجتمعات المسيحية الناهضة وذلك منذ أقدم الأزمنة. ربما ننظر، على سبيل المثال، إلى رسالة بولس إلى أهل رومية، التي يرسل في نهايتها تحياته إلى أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل 16). على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أسماء عدد أكبر من الرجال في مقابل النساء، إلا أنه من الواضح أنَّ النساء لم يكن ينظر إليهن على الإطلاق باعتبراهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور في داخل الكنيسة. من بين من يذكرهن بولس، على سبيل المثال، «فيبي» التي كانت شماسة (deacon) (أو قسيسة) فِي كَنْخَرِيَا، والمساعدة الخاصة لبولس، والتي أولاها ثقته في القيام بمهمة حمل رسالته إلى رومية (الأعداد 1-2). وهناك أيضا فريسكا التي كانت، مع زوجها أكيلا، مسئولة عن العمل التبشيري بين الأمم وكانا يدعمان كنيسة مسيحية في بيتهما (رومية 16: 3-4: ولاحظوا أنها ذكرت أولا وقبل زوجها). ثم هناك مريم، زميلة بولس التي تعمل بين الرومانيين (العدد 6)؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»، و«برسيس»، اللاتي يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» في الإنجيل (العددين 6، 12). وهناك جوليا وأم روفس وأخت نيريوس، وكلهنَّ فيما يبدو كان لهنَّ مكانةً عالية داخل الجماعة (العددين 13، 15). الأكثر إثارة للدهشة، وجود يونياس، المرأة التي يدعوها بولس «قبلي بين الرسل» (العدد 7). جماعة الرسل كانت كما هو واضح أوسع من قائمة الاثني عشر رجلا المشهورين لدى معظم الناس. النساء، باختصار، يبدو أنهنَّ لعبن دورًا هامًّا في الكنائس في عصر بولس. هذه المكانة العالية إلى حد ما لم تكن بالأمر المألوف في العالم اليوناني الروماني. وربما تكون هذه المكانة قد ترسخَّت، كما أعتقد، بإعلان يسوع أنَّ المملكة المزمع أن تأتي ستعتمد المساواة بين الرجال والنساء. كانت هذه، فيما يبدو، هي كذلك رسالة بولس كما يمكن أن نلحظ، على سبيل المثال، في إعلانه الشهير لأهل غلاطية: لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (غلاطية 3: 27-28) المساواة في المسيح ربما تجسدت في طقوس العبادة الفعلية للجماعات التي أقامها بولس. فبدلا من التزام الصمت كـ «سامعين للكلمة»، يبدو أن النساء شاركن بنشاط في اللقاءات الأسبوعية للجماعة، حيث شاركن، على سبيل المثال، بالصلاة والتنبؤ تمامًا كما كان الرجال يفعلون (1 كور 11-4 ,5). في الوقت ذاته، بحسب المفسرين المعاصرين، يبدو أنَّ بولس لم يصل برؤيته للعلاقة بين الرجال والنساء في المسيح إلى الحد الذي يمكن أن نظنه كنتيجة منطقية لهذه العلاقة. فلقد أمر بالفعل، على سبيل المثال، أن تغطي النساء رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلين في الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان» (1كور 11: 3-16، خاصة العدد 10). بولس، بكلمات أخرى، لم يثر انقلابا اجتماعيًّا في العلاقة بين الرجال والنساء ـ مثلما لم يدع إلى إلغاء العبوديّة، على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ ولا حرٌّ «في المسيح. بل أصرّ بدلا من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل مجئ المملكة)، فإنَّ كل إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن الأوضاع المستقرة وأنه ينبغي أن لا يسعى أحدٌ ما إلى تغيير وضعه الاجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا، متزوجا أم أعذبا، ذكرًا أم أنثى (1كور 7: 17 – 24). في أفضل الأحوال، إذن، يمكن النظر إلى هذا باعتباره موقفًا متضاربًا تجاه دور النساء: فلقد كنَّ متساويات في المسيح وكان مسموحًا لهنَّ أن يشاركن في حياة الجماعة، ولكن باعتبارهن نساءً، لا رجالا (فلم يكُنّ، على سبيل المثال، قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال، أي في أن رؤوس الرجال ليست خاضعة «لسلطان»). هذه الازدواجية من جانب بولس كان لها أثرٌ مثيرٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش فيه. ففي بعض الكنائس تمَّ التأكيد على المساواة في المسيح؛ في البعض الآخر كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال. وهكذا في بعض الكنائس، اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة الأهمية؛ وفي البعض الآخر، شحُبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ. إذا قرأنا الوثائق المتأخرة المرتبطة بالكنائس التي أقامها بولس، بعد موته، يمكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ في النهاية كان ثمة جهود تبذل لقمع دور النساء في الكنائس تمامًا. يتضح هذا من إحدى الرسائل التي نسبت إلى بولس. أصبح العلماء اليوم بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة الأولى إلى تيموثاوس لم يكتبها بولس بل كتبها واحدٌ من أتباعه المتأخرين من الجيل الثاني من تلامذته (119). في هذه الرسالة، في فقرة من الفقرات غير المشهورة التي تتناول النساء في العهد الجديد، يقال لنا إنَّ النساء يجب أن لا يسمح لهنَّ أن يعلمن الرجال لأنهن خلقن أقل شأنا، كما أشار إلى ذلك الله ذاته في الشريعة، حيث خلق الله حواء الثانية في الترتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (في إشارة إلى حواء) يجب أن لا تتسلط على رجل (في إشارة إلى آدم) من خلال قيامها بالتعليم. علاوة على ذلك، وفقا لهذا المؤلف، كلُّ إنسانٍ يعرف ما يحدث عندما تتولى امرأة القيام بدور المعلم: يغويها (الشيطان) بلا شك وتقود الرجل إلى الضلال. لذلك فعلى النساء أن يبقين في المنزل وأن يحافظن على القيام بأعمال البر التي تناسب المرأة، من إنجاب الأطفال لأزواجهن والالتزام بالتعقل. أو كما يقول النص ذاته: لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ. وَلَكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي التَّعَدِّي، وَلَكِنَّهَا سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ (1تيموثاوس 2: 11 -15) ياله من فرق شاسع بين هذا وبين رؤية بولس أنه «في المسيح... ليس ثمة ذكر أو أنثى» وكلما تحركنا باتجاه القرن الثاني، إذ بخطوط المعركة تبدو مرسومة على نحوٍ أوضح. فهناك بعض الجماعات المسيحية التي تؤكد على أهمية النساء وتسمح لهن بالاضطلاع بأدوار بارزة داخل الكنيسة، وهناك آخرون يؤمنون بأن النساء ينبغي أن يحافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال الجماعة. النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص التي أصبحت فيما بعد الكتاب المقدس كانوا بصورة واضحة مشاركين في هذه الصراعات. وأحيانا كانت هذه الصراعات تترك أثرا على النص الذي ينسخ، حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها. تقريبا في كل موضع يحدث فيه تغير من هذا النوع، يتعرض النص للتغيير لكي يحد من دور المرأة ولتقليل أهميتها بالنسبة للحركة المسيحية. في هذا الجزء يمكننا أن نرصد بعض الأمثلة القليلة. التحريفات النصية المتعلقة بالنساء واحدة من أهم الفقرات التي تتعلق بالنقاش الحالي حول دور النساء في الكنيسة نجده في 1 كورنثيوس الإصحاح 14. كما هو الحال في معظم ترجماتنا الإنجليزية الحديثة، تُقرأ الفقرة على النحو التالي: لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلَهُ سَلاَمٍ كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ. لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ. أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ اللهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ انْتَهَتْ؟ تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن لا يتكلمن (فضلا عن أن يعلِّمن!) داخل الكنيسة، تماما مثلما هو الحال مع الفقرة الموجودة في 1تيموثي الإصحاح 2. معظم العلماء، كما رأينا، على قناعة بأن بولس لم يكتب هذه الفقرة الواردة في 1 تيموثي وذلك لأنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت بمعرفة أحد أتباع بولس من الجيل الثاني ثمَّ نسبت إلى بولس. ورغم أنَّ أحدًا لا يشك أنَّ بولس، مع ذلك، قد كتب الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. إلا أنَّ ثمة شكوكًا تحوم حول هذه الفقرة فحسب. لأنَّ العددين موضع البحث (أعني العددين 34، 35)، كما سيتضح، تغيَّر موضعهما في بعض من شواهدنا النصية الهامة. ففي مخطوطات يونانية ثلاث وشاهدين اثنين لاتينيين، نجدهما لا في هذا الموضع، بعد العدد 33، وإنما في موضع مـتأخر بعد العدد 40. هذا ما دعا بعض العلماء للافتراض بأنَّ هذه الأعداد لم يكتبها بولس وإنما كانت في الأصل نوعًا من الهوامش أضيفت بمعرفة أحد النساخ، ربما تحت تأثير الأعداد في 1 تيموثي الإصحاح 2. بعد ذلك أدخل هذا الهامش في مواضع مختلفة من النص عبر نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا الهامش بعد العدد 33 والآخرون بعد العدد 40. هناك أسباب معقولة تجعلنا نعتقد أنَّ بولس لم يكتب هذه الأعداد أصلا. فأولا، هذه الأعداد غير منسجمة مع سياقها المباشر. ففي هذا الجزء من الإصحاح 14 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يشير بولس إلى قضية التنبُّوء في الكنيسة ويعطي تعليمات للأنبياء المسيحيين بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة المسيحية. هذا هو موضوع الأعداد من 26 إلى 33، وهو مرة أخرى موضوع الأعداد من 36 إلى 40. فلو أننا حذفنا العددين 34 و35 من سياقهما، فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا باعتباره حديثًا عن دور الأنبياء المسيحيين. وحينها يبدو الحديث عن النساء وكأنه حشر في سياق النص المباشر يقطع التعاليم التي يعطيها بولس بخصوص قضية أخرى مختلفة. هذان العددان لا يبدو أنهما فقط محشوران في سياق الإصحاح 14، بل إنهما يبدوان أيضا غريبين عن ما يقوله بولس بوضوح في كل موضع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. فبولس في موضعٍ سابق خلال هذا السفر، كما ذكرنا بالفعل من قبل، يعطي تعليمات للنساء اللائي يتكلمن داخل الكنيسة: فوفقا للإصحاح 11، فإنهن عندما يصلين ويتنبأن ـ وهي الأعمال التي كانت دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خلال إقامة طقوس العبادة المسيحية ـ فإنه يتوجَب عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (11: 2-16). في هذه الفقرة، التي لا يرتاب أحدٌ في صحة نسبتها إلى بولس، من الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن، بل ويمارسن الكلام بالفعل داخل الكنيسة. في الفقرة المتنازع عليها في الإصحاح 14، مع ذلك، من الواضح أن «بولس» * يحرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا. من الصعب التوفيق بين وجهتيِّ النظر المختلفتين هاتين ـ فإما أن بولس يسمح للنساء بالكلام (مع تغطية رؤوسهن، كما في الإصحاح 11) أو لا يسمح بذلك (الإصحاح 14). وكما يبدو التفكير بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خلال مساحة قصيرة تتكون من ثلاث فصول أمرًا غير منطقي، فيبدو أنَّ بولس ليس هو مصدر هذه الأعداد محل البحث. وهكذا على أساس جمع الأدلة، العديد من المخطوطات التي تختلف فيها مواضع الأعداد والسياق الأدبي القريب والسياق ضمن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ككل، يتضح أنَّ بولس لم يكتب الأعداد 1كورنثوس 14: 34-35. كان لزاما على المرء أن يفترض من ثمّ أنَّ هذه الأعداد التي هي تحريف للنص قام به أحد النساخ، كان تحريفها في الأصل في صورة، ربما، ملاحظة مكتوبة في الهامش ثم في النهاية وفي مرحلة مبكرة من مراحل نسخ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، ألحقت بالنص ذاته. التحريف تمَّ بلا شك بمعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه لا ينبغي أن يكون ثمة دور عامٌّ تضطلع به النساء داخل الكنيسة، وأنهن ينبغي أن يصمتن وأن يطِعْنَ أزواجهن. وجهة النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عبر تحريف النصوص (120). يمكننا أن ندرس مثالا آخر للتغييرات التي لحقت بالنص من النوع ذاته ولكن بصورة مختصرة. أحد التغييرات يقع في فقرة ذكرتها من قبل بالفعل، ألا وهي الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح 16، حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى النسوة، جونيا، ورجل كان فيما يبدو زوجا لها، أندرونيكوس، وكلاهما قال بولس عنهما إنهما «مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ» (العدد 7). هذا العدد شديد الأهمية، لأنه هو الموضع الوحيد في العهد الجديد الذي يشار فيه إلى امرأة باعتبارها واحدة من الرسل. ولقد كان لهذه الفقرة تأثيرًا كبيرًا على المفسرين إلى درجة أنَّ عددًا كبيرًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها الحقيقي، لذلك ترجموا الفقرة باعتبارها تشير لا إلى امرأة تدعى جونيا وإنما إلى رجل يسمى جونياس، الذي أُثنِي عليه جنبا إلى جنب مع رفيقه أندرونيكوس باعتباره رسولا (apostle). العقبة التي تقف أمام هذه الترجمة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه جونيا اسما نسويًّا شائعًا، فإن «جونياس» لا دليل في العالم القديم على أنه كان اسمًا لرجل. إنَّ بولس يشير إلى امرأة تدعى جونيا، وذلك على الرغم من أنه في بعض الترجمات الحديثة الإنجليزية للكتاب المقدس (ربما تريدون أن ترجعوا إلى نسختكم الخاصة للتأكد!) يواصل المترجمون الإشارة إلى هذه المرأة التي كانت من بين الرسل كما لو أنها كانت رجلا يدعى جونياس (121). بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة في وصف هذه المرأة المجهولة بالرسولة، ولذلك قاموا بإحداث تغيير بسيط للغاية في النص للتحايل على المشكلة. في بعض مخطوطاتنا، بدلا من أن تقول «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي، «نجد أن النص قد تغير لكي تسهل ترجمته أكثر: «سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَجونيا، نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مقدمان بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي». مع وجود هذا التغيير الذي تعرض له النص، لم يعد المرء في حاجة إلى أن يقلق بشأن المرأة التي ذكرت بين العصبة الرسولية المكونة من الذكور! تغيير مشابه وقع بمعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر الأعمال. ففي الإصحاح رقم 17 نحاط علمًا بأن بولس ورفيقه في التبشير «سيلا» قضوا وقتا في تسالونيكي يدعون اليهود الموجودين في المعبد المحلي إلى الإيمان بإنجيل المسيح. يقال لنا في العدد 4 إن الاثنين لاقا بعضًا من النجاح الباهر في تحويل الناس إلى الإيمان: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ». فكرة أن هؤلاء النسوة كن متقدمات، ناهيك عن التحولات الهامة إلى الإيمان التي حدثت على أيديهما، كانت أكثر مما يحتمل بالنسبة لبعض النساخ، ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيير في بعض المخطوطات، لكي يقال لنا الآن: «فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّينَ الْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ وَمِنَ زوجات الرجال الْمُتَقَدِّمين عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ» الآن أصبح الرجال هم المتقدمون، وليس النسوة اللاتي تحولن إلى الإيمان. من بين رفاق بولس في سفر الأعمال كان ثمة زوج وامرأته يسميان «أكيلا» و«بريسكلا»؛ وهماعند ذكرهما في بعض الأحيان، يقدم المؤلف اسم الزوجة أولا، كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل المهمة التبشيريَّة المسيحية (كما يحدث في رومية 16: 3 كذلك، حيث يطلق عليها اسم بريسكا). ليس أمرًا مثيرًا للاستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا امتعاضهم بسبب هذا الترتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى يحصل الرجل على ما يستحقه من مكانة عبر ذكر اسمه أولا: أكيلا وبريسكلا بدلا من بريسكلا وأكيلا (122). باختصار، كان ثمة نزاعات في القرون الأولى للكنيسة حول دور النساء، وعند اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إلى عملية نسخ نصوص العهد الجديد ذاته، حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكبر مع مفهومهم الخاص عن الدور (المحدود) للنساء داخل الكنيسة. يتــــبع بإذن الله |
اليهود ونصوص الكتاب المقدس إلى هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية التي نبعت من الداخل المسيحي في وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات التي دارت حول قضايا ذات علاقة بطبيعة المسيح وعن دور النساء في الكنيسة – ورأينا كيف كان تأثير هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم المقدسة. مع ذلك، لم تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي انخرط فيه المسيحيون. فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة لمن أداروا رحاها، وذات أهمية بالنسبة لنقاشاتنا في هذا الكتاب، كذلك كانت الصراعات التي اندلعت مع هؤلاء الخارجين عن الإيمان، من يهودٍ ووثنيين، الذين وقفوا موقف المعارضة للمسيحيين واشتبكوا معهم في نزاعات جدليَّة. اضطلعت هذه النزاعات أيضًا بدورٍ ما في عملية نسخ نصوص الكتاب المقدس. يمكننا البدء بالتعرض للنزاعات التي كان مسيحيو القرون الأولى قد انخرطوا فيها مع اليهود غير المسيحيين. اليهود والمسيحيون في حالة صراع إحدى الأمور التي تبعث على السخرية فيما يتعلق بالمسيحية في عصورها المبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا، عَبَدَ إله اليهود وحافظ على العادات اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية، وكان له تلاميذ من اليهود الذين اتبعوه على اعتبار أنه المسيح اليهوديَّ. على الرغم من ذلك، وفي غضون عشرات قليلة من السنوات فحسب بعد موته، كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من اليهودية موقف النقيض. فكيف انتقلت المسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة يهودية إلى ديانة معادية لليهود؟ إنه سؤال صعب، والإجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كاملا (123). أما هنا، فبإمكاني على الأقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تاريخي موجز لظهور معاداة اليهودية في المسيحية الأولى كوسيلة لإعطاء وصف معقول للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ المسيحيون الذين في بعض الأحيان قاموا بتحريف نصوص كتابهم المقدس على نحوٍ معادٍ لليهودية. شهدت العشرون عامًا الأخيرة زيادة كبيرة ومفاجأة في مجال البحث عن يسوع التاريخي. نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر الآن عددٌ هائلٌ من الآراء التي تبحث في الكيفية المثلى لفهم حقيقة المسيح- هل كان معلمًا يهوديًّا، أم كان مصلحًا اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا: تتزايد الخيارات إلى مالا نهاية. الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا، على الرغم من كل هذه الاختلافات، هو أنه بغض النظر عن الكيفية التي يمكن للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع، فإنه لابد أن يوضع في سياقه الحقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش في القرن الأول الميلاديّ. أيًّا ما تكن السمات الأخرى التي كان عليها يسوع، فإنه كان يهوديًّا بكل ما في الكلمة من معنى، لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو الحال بالنسبة لتلاميذه أيضًا. في بعض اللحظات – قبل موته على الأرجح، وبعده على وجه اليقين - أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره المسيح اليهوديَّ. ورغم أن اليهود الآخرون كانوا يفهمون مصطلح المسيح بطرق مغايرة خلال القرن الأول، إلا أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان محط إجماع كل اليهود عندما يفكرون في المسيح، وذلك أنه يجب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر، بطريقة ما - ربما على سبيل المثال من خلال تكوين جيش يهوديٍّ أو إنزال ملائكة السماء - أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة التي يحكمها الله نفسه (ربما من خلال وسيط بشريّ). المسيحيون الذين أطلقوا على المسيح لقب المسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا الآخرين بزعمهم هذا، لأن يسوع، بدلا من أن يكون محاربًا عظيمًا أو حاكم بأمر السماء، كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّلا هاجم الجانب السئ من الشريعة وصُلِب كمجرم أثيم. إطلاق اسم المسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا يجلب لقائله السخرية. لم يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب الجانب. بل كان ضعيفًا وعاجزًا – فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذلالا وإيلامًا من بين الطرق التي ابتكرها الرومان الذين هم أصحاب السلطة الحقيقية. رغم ذلك، أصرَّ المسيحيون على أنَّ يسوع هو المسيح وعلى أنَّ موته لم يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب المقدس وأنَّه وقع بترتيبٍ من الله، حيث جلب عن طريقه الخلاص للعالم. ماذا كان على المسيحيين أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا الأمرَّيْن لإقناع غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة الحال ليعترفوا أنهم كانوا هم المخطئون. وإذا لم يكونوا هم، فمن؟ لابد وأن اليهود كانوا هم المخطئين. في وقت مبكر من تاريخهم، بدأ المسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود الذين رفضوا رسالة المسيحيين كانوا متمردين وعميانا، لأنهم برفضهم لرسالة يسوع، يرفضون الخلاص الذي قدمه الإله ذاته الذي يعبده اليهود. بعضٌ من هذه المزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا المسيحي الأقدم، بولس الرسول. ففي رسالته الأولى التي كتبها لمسيحيي تسالونيكي، والمحفوظة حتى اليوم، يقول بولس: فَإِنَّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ (1تسالونيكي 2: 14- 15) أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع لأنهم فهموا أن مقامهم الخاص عند الله كان عائدًا إلى أمرين اثنين: أنَّ لديهم الشريعة التي أعطاها الله إياها وأنهم يتمسكون بها (رومية 10: 34). مع ذلك، كان الخلاص حسب مفهوم بولس قد جاء لليهود وللأمم كذلك، ولكن ليس عبر الشريعة وإنما بالإيمان بموت يسوع وقيامته (رومية 3: 21 -22). لذلك، ليس للالتزام بالشريعة أي دور في وقوع الخلاص؛ ولأجل هذا علَّم بولس الوثنيين (أو الأمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام الله لا يحدث باتباعهم للشريعة. لقد كان على الأمميين أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا إلى اليهودية (غلاطية 2: 15 – 16). المسيحيون الأوائل الآخرون، بطبيعة الحال، كان لهم رأي آخرـ كما هو حالهم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى، على سبيل المثال، يبدو وكأنه يفترض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته هما اللذان جلبا الخلاص، فإن تلاميذه سيلتزمان بطبيعة الحال بأحكام الشريعة، كما فعل يسوع نفسه (انظر متى 5: 17-20). في النهاية، مع ذلك، أصبح من المسلم به على نطاق واسع أنَّ المسيحيين كانوا مختلفين مع اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية الخلاص، وحول أن الانضمام إلى الشعب اليهودي سيعني الارتباط بالشعب الذي رفض مسيحه، والذي، في حقيقة الأمر، رفض الإيمان بإلهه الخاص. وعندما ننتقل إلى القرن الثاني نجد أنَّ المسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتين منفصلتين كليةً إلا أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها، رغم ذلك، الكثير لتقوله عن الأخرى. وجد المسيحيون أنفسهم، في الواقع، وقد شكلوا نوعا من الرابطة. لأنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو المسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية المقدسة؛ ولكي تحصل على المصداقية في عالمٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب في كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها، فقد صار لزامًا على المسيحيين أن يواصلوا الاستشهاد بالكتب المقدسة ـ باعتبارها أساسا لمعتقداتهم الخاصة. كان هذا يعني أنَّ المسيحيين ادَّعوا أنَّ الكتاب المقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا المقدس. ولكن أليس الكتاب المقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ المسيحيون يصرّون على أنَّ اليهود لم ينكروا فحسب مسيحهم، وإنما هم بذلك قد أنكروا إلههم، وأساؤوا فهم كتابهم المقدس أيضا. ولذلك نجد أنَّ الكتابات المسيحية مثل ما عرف باسم رسالة برنابا، وهو الكتاب الذي اعتبره بعض المسيحيين الأوائل جزءا من قائمة العهد الجديد الرسمية، قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا ولا تزال ديانة باطلة، وأنَّ ملاكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة التي أعطاها الله لموسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، في حين أنها كانت من المفترض أن تفسر في الحقيقة على نحوٍ رمزيٍّ(124). في النهاية نجد المسيحيين يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات الممكنة لعدم قبولهم يسوع باعتباره المسيح. فمع وجود مؤلفين، جوستينوس الشهيد الذي عاش في القرن الثاني كمثال، يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا الله أن يفرض الختان على اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا مخصوصًا جديرًا بالاضطهاد. هناك أيضا مؤلفون، مثل ترتليانوس وأوريجانوس، يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها الجيش الروماني في عام 70 ميلاديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم، ومؤلفون مثل مليتو أسقف سرديس يجادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم المسيح، كانوا في الواقع مدانين بقتل الله. «انتبهوا يا كل عائلات الأمم وترقبوا! جريمة قتل استثنائية حدثت في قلب أورشاليم، في المدينة المكرسة لشريعة الله، في مدينة العبرانيين، في مدينة الأنبياء، في المدينة المعروفة بالعادلة. ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر بالعار من إجابة هذا السؤال، لكنَّ الإجابة عليه واجبة.... الذي علّق السماء في الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي سمَّّر السموات في مكانها، دُقَّ بالمسامير؛ الذي ثبت كل الأشياء هو نفسه ثُبِّتَ إلى شجرة. السيد قد أُهِين، الرب قد قُتِل، ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح 94-96)(125). من الواضح أننا قطعنا شوطا طويلا في الابتعاد عن نموذج يسوع، ذلك اليهودي الفلسطيني الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشير بين أبناء وطنه وعلَّم تلاميذه اليهود المعنى الحقيقي للشريعة اليهودية. باقتراب القرن الثاني وعندما كان النسَّاخ المسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص التي أصبحت في النهاية جزءًا من العهد الجديد، كان غالبية المسيحيين من الوثنيين السابقين، أي من غير اليهود ممن تحولوا إلى الإيمان بالمسيحية والذين فهموا أنه على الرغم من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا، في الأساس، على الإيمان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته في الكتاب المقدس اليهودي، إلا أنه كان ذا توجه معاد لليهود تماما. تحريفات النص المناهضة لليهود معاداة اليهودية التي كان يكنها بعض النساخ المسيحيين في القرنين الثاني والثالث كان لها دورٌ هام في الطريقة التي بها نسخت النصوص. واحد من أوضح الأمثلة نجده في رواية لوقا لحادثة الصلب، التي يقال فيها إن يسوع نطق بصلاة من أجل هؤلاء المسئولين عن صلبه: وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا (لوقا 23: 33-34) صلاة يسوع هذه كما سيتضح لا يمكن أن نجدها، مع ذلك، في كل ما لدينا من مخطوطات: فهي مفقودة في أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي البردية p75، التي يرجع تاريخها إلى وقت قريب من عام 200 ميلادية) وشواهد أخرى عديدة عالية القيمة من القرن الرابع والقرون التي تلته؛ في الوقت ذاته، هذه الصلاة موجودة في المخطوطة السينائية وفي عدد كبير من المخطوطات، بما في ذلك معظم المخطوطات التي تمت كتابتها في العصور الوسطى. ولذلك فالسؤال الملح الآن هو: هل قام ناسخ أو عدد من النساخ بحذف هذه الصلاة من مخطوطة كانت تحتوي عليها في الأصل؟ أم هل أضيفت من خلال أحد النساخ (أو عدد من النساخ) إلى مخطوطة هي في الأصل كانت خالية منها؟ انقسمت آراء العلماء لفترة طويلة عند الرد على هذا السؤال. فلأن الصلاة مفقودة في العديد من الشواهد المبكرة، ولأنها شديدة الأهمية، فلم يقصِّر كثيرٌ من العلماء في الادِّعاء بأنها غير أصلية داخل النصّ. أحيانا يميلون إلى حجة مبنية على دليل داخليّ. كما أوضحت من قبل، مؤلف إنجيل لوقا هو نفسه من كتب سفر أعمال الرسل. في سفر الأعمال نجد فقرة شبيهة بفقرتنا هذه في قصة ستيفانوس، شهيد المسيحية الأول والإنسان الوحيد الذي ذُكِرَ في سفر الأعمال أنَّ أمرًا قد صدر بقتله. ولأن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف، فقد نُفِّذَ في حقه الرجم حتى الموت عبر جمهور يهوديٍّ غاضب؛ وقبل أن يموت صلى قائلا: «يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال 7: 60). بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ لم يرغب في أن يبدو يسوع أقلَّ تسامحًا بأيِّ حالٍ من شهيده الأول، إسطيفانوس، فأضاف الصلاة إلى إنجيل لوقا حتى يدعو يسوع أيضا بالمغفرة لقاتليه. إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا تمامًا لأسباب عدَّة. أشدُّ هذه الأسباب إقناعا هو الآتي: في كلِّ مرة يحاول النساخ أن يوفقوا بين النصوص بعضها البعض، كانوا يميلون إلى فعل ذلك عبر تكرار الكلمات ذاتها في الفقرتين كلتيهما. في حالتنا هذه، لا نجد الصياغة متطابقة بل جلُّ ما نجده مجرد صلاتين متشابهتين. ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان نمطًا يكرره النساخ. الأمر المفاجئ أيضا بخصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا، أي المؤلف نفسه، في عددٍ من المناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بين ما حدث ليسوع في الإنجيل وما حدث لتلاميذه في سفر الأعمال: يسوع وتلاميذه يعمَّدون، كلا الجانبين يقبلان الروح القدس عند لحظة العماد، كلاهما يبشِّرُ بالأخبار السارة، وكلاهما يرفضان من قبل الناس بسببها، كلا الجانبين يتألمان بأيدي الزعماء اليهود... إلى آخره. ما يحدث ليسوع في الكتاب المقدس يحدث لتلاميذه في سفر الأعمال. ومن هنا فليس ثمة أي مفاجأة ـ بل الأمر بالأحرى متوقع ـ في أنَّ واحدا من تلاميذ يسوع الذين أعدموا مثله تماما بمعرفة السلطات الحانقة، سيصلِّي إلى الله ليغفر لقاتليه. هناك أسباب أخرى تدفعنا للارتياب في كون صلاة يسوع من أجل الغفران هي جزء أصلي من الإصحاح 23 من إنجيل لوقا. ففي كل مكان إنجيل لوقا وسفر الأعمال يتم التأكيد، على سبيل المثال، على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو حال تلاميذه)، فإن هؤلاء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم بحقيقة ما يقومون به. فها هو بطرس في سفر الأعمال إصحاح 3 يقول: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ» (العدد 27)؛ أو كما يقول بولس في سفر الأعمال الإصحاح 17: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (العدد 30 *). وهذه هي تحديدا الملاحظة المتوافقة مع صلاة يسوع: «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». يبدو، إذن، أنَّ لوقا 23: 34 كانت جزءا من نص لوقا الأصلي. فلماذا، رغم ذلك، يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا الجزء؟ هنا يصير الوعي بالسياق التاريخي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حاسمًا. ربما يتساءل القرَّاء المعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان المسيح يصلي من أجله. فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا مسئولين عن تسليمه للرومان في المقام الأول؟ مهما تكن الطريقة التي يمكن أن نجيب بها على هذا التساؤل في محاولة لتفسير هذه الفقرة اليوم، يبدو أنَّ الكيفية التي كانوا في الكنيسة الأولى يفسرونها بها هي من الوضوح بمكان. تقريبا في كل حالة نوقشت فيه الصلاة في كتابات الآباء الأوائل للكنيسة، يبدو جليًّا أنهم كانوا يفسرونها بأن المقصود بها اليهود وليس الرومان(126). لقد كان يسوع يطلب من الله أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا مسئولين عن موته. الآن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن يحذفوا العدد واضحًا. أيصلِّي يسوع من أجل المغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيين الأوائل كان ثمة مشكلتان تواجهان هذا العدد في حال النظر إليه على هذا النحو. أولا، تسائل المسيحيون: ما الذي يجعل يسوع يصلي لمغفرة ذنوب هذا الشعب المتمرد الذي رفض اللهََ نفسهَ عن عمد؟ هذا الأمر كان نادر التصور عند كثيرٍ من المسيحيين. بل أكثر من ذلك، نقول: إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثيرٌ من المسيحيين على قناعة تامة بأنَّ الله لم يغفر لليهود لأنهم، كما ذكرت من قبل، اعتقدوا أن الله سمح بتدمير أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع. يقول أوريجانوس أحد آباء الكنيسة: «صحيحٌ أنَّ المدينة التي مر فيها يسوع بمثل هذه الآلام ينبغي أن تدمر بالكامل، وأنَّ الأمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد سيلزس 4، 22)(127) كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه، ومن الواضح أن الله لم يسامحهم. انطلاقًا من وجهة النظر هذه، ليس لدعاء يسوع بالمغفرة من أجلهم أيَّ معنى في وقت لم يكن ثمة غفران ممكن في حقهم. ماذا كان على النساخ أن يفعلوا، إذن، مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خلال اقتطاع النص لكي لا يواصل يسوع طلب المغفرة لهم. هناك فقرات أخرى تركت فيها المشاعر المعادية لليهود التي كان النساخ الأوائل يكنونها في صدورهم أثرها على النصوص التي كانوا ينسخونها. واحدة من أبرز الفقرات التي تشير إلى الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي في مشهد محاكمة يسوع في إنجيل متَّى. فوفقًا لهذه الحادثة، يعلن بيلاطس براءة يسوع، حيث يغسل يده لكي يظهر أنه: «بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!» ثم يطلق الحشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا لها أن تلعب هذا الدور الرهيب في اندلاع العنف ضد اليهود خلال القرون الوسطى، حيث يبدو أنهم يعلنون فيها مسئوليتهم عن موت يسوع: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا «(متى 27: 24 -25). التباين النصّي موضع اهتمامنا يحدث في العدد التالي. يقال في هذا العدد إن بيلاطس جلد يسوع ثم «أَسْلَمَهُ لِيُصْلَبـ «. أي شخص يقرأ هذا النص سيفترض في البداية أنه سلم يسوع لجنوده (الرومان) لكي يصلبوه. ما يجعل الأمر أكثر إحداثا للصدمة هو أنه في بعض الشواهد المبكرة ـ بما في ذلك واحدة من التصحيحات التي أدخلها النساخ إلى المخطوطة السينائية ـ تم إدخال تغيير إلى النص لكي يقوِّي إلى مدى أبعد التورط اليهودي في موت يسوع. وفقا لهذه المخطوطات، قام بيلاطس «بتسليمه إليهم (أي إلى اليهود) لكي يقوموا هم بصلبه». الآن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة، وفي الوقت نفسه هذا تغيير كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بين المسيحيين الأوائل. أحيانا تكون القراءات المتباينة المعادية لليهود دقيقة للغاية ولا تلفت انتباه الإنسان إليها إلى أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول المسألة. على سبيل المثال، في قصة الميلاد الواردة في إنجيل متى، يقال إنَّ يوسف دعى ابن مريم المولود حديثًا يسوع (التي تعني «الخلاص») «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم «(متى 1: 21). من العجيب أنه في واحدة من المخطوطات التي حفظتها لنا الترجمة السوريانية، يقول النص بدلا عن ذلك: «لأنه سيخلص العالم من خطاياه». هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود يمكنهم أن يحصلوا على الخلاص. تغييرٌ مشابهٌ آخر يحدث في إنجيل يوحنا. ففي الإصحاح الرابع، يتحدث يسوع مع المرأة السامريّة ويقول لها، «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ». (العدد 22). في بعض المخطوطات السوريانية واللاتينية تغير النص فأصبح يقول الآن إنَّ: «الخلاص يأتي من أرض يهودا». بكلمات أخرى، ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب الخلاص إلى العالم؛ بل موت يسوع في أرض يهودا هو الذي فعل ذلك. مرة أخرى ربما نرتاب في أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف الذي قام به النساخ. المثال الأخير الذي سأسوقه في هذا التعرض المختصر يأتي من مخطوطة بيزا التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وهي نفسها المخطوطة التي تحوي قراءات متباينة طريفة ومثيرة للدهشة عن أيِّ مخطوطة أخرى. في الإصحاح السادس من لوقا، حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتلاميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (6: 1-4)، نجد قصة إضافية في مخطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد: «في اليوم ذاته رأى رجلا يعمل في السبت، وقال له، «يا إنسان، لو كنت تعلم ما تفعله، فأنت مبارك، لكن لو لم يكن عندك علم، فأنت ملعون ومنتهك للشريعة». إن تفسيرا كاملا لهذه الفقرة غير المتوقعة وغير العادية يتطلب قدرا كبيرا من البحث(128). بالنسبة لأهدافنا في هذا الفصل يكفي أن نلاحظ أنَّ يسوعَ واضحٌ للغاية في هذه الفقرة على نحوٍ لم يحدث أبدا في أي مكان آخر في الأناجيل. في مواقف أخرى، عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت، يدافع عن أفعاله، لكنه أبدا لا يشير إلى أن أحكام الشريعة الواردة في حق يوم السبت يجب أن تُنْتَهَك. أمَّا في هذا العدد، يصرِّحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ لا غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛ هؤلاء الذين لا يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب المخطئون. مرة أخرى، هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات علاقة بظهور الروح المعادية لليهودية في الكنيسة المبكرة. |
|
|
الساعة الآن 01:19 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir