الأهرام -
ميلانو ـ هند السيد هاني
رغم خطورة فكرة الاستقالة' علي قدسية الحبر الأعظم البابا لدي الكاثوليك.. فإن الأحداث التي تجري أمام أعيننا حاليا في الفاتيكان قد تفوق في أثرها حركة الاصلاح التي قادها الراهب مارتن لوثر في مطلع القرن الـ16 داخل الكنيسة الكاثوليكية, و التي أسفرت عن انقسامها وظهور المذهب البروتستانتي فيما بعد.
وفي ظل أجواء من الحرج البالغ استسلمت لها وسائل الاعلام الايطالية, في تغطيتها للملابسات المحيطة باستقالة البابا بنديكت الـ16 بابا الفاتيكان, حاول البعض كسر حاجز الخجل. فأشارت صحيفة الكورييرا ديلا سيرا علي استحياء الي ضغوط متواصلة وخفية' أدت الي لجوء البابا الي هذا الخيار, معتبرة أن أحد عناصر هذه الضغوط: بنك الفاتيكان ـ المتورط في فضائح مالية ـ ومحاكمة باولو جابريللي ـ خادم البابا الذي سرب وثائق سرية. أما' ال ماسيجيرو فقد قالت' ربما تكون المضاعفات المزمنة لارتفاع ضغط الدم الذي عاني منه( البابا) لفترة طويلة لاتساعده, ومع ذلك فان قراره المفاجئ يبدو وأنه يخفي شيئا آخر.
لكن الواضح للعيان أن الحالة الصحية للبابا بنديكت ليست متدهورة للدرجة التي تدفعه الي احداث هذا الزلزال. و ان كان قد بلغ من العمر الـ86 عاما مما انعكس عليه بدنيا بطبيعة الحال, الا انه لايزال يتمتع بذهن حاضر قوي وهي السمة الأهم لمهمة الباباوية. واذا نظرنا الي سلفه الراحل يوحنا بولس الثاني ـ الذي قاد الفاتيكان لـ27 عاما ـ نجد أن حالته الصحية كانت أكثر حرجا بعد أن اصيب بمرض شلل الرعاش, و مشاكل في النطق طرأت عليه في سنواته الأخيرة, مما أعاقه عن متابعة حديثه بصورة طبيعية, ومع ذلك فقد استمر علي كرسيه حتي الرمق الأخير. ومن ينسي أنه قبل3 أعوام فقط, تعرض البابا بنديكت لهجوم من امرأة مختلة ابان قداس عيد الميلاد ـ ديسمبر2009 ـ مما ادي لسقوطه أرضا, وما كان منه الا أن نهض سريعا و استكمل مراسم الاحتفال كما كانت مقررة بشكل طبيعي.
واذا كان الغموض يكتنف كواليس ما يجري داخل الفاتيكان, فقد خرجت فضائح الفساد المالي والأخلاقي ـ التي تفجرت علي مدي الأعوام الأخيرة ـ الي صدارة المشهد.. لتهدد مصير البابا بنديكت من جهة.. وهيكل الفاتيكان ومستقبله من جهة أخري. وقبل ذلك كله, فهي تقبع في خلفية المشهد الدرامي الحالي.
تأتي في المقدمة قضية الاستغلال الجنسي للأطفال من جانب رجال الكنيسة. وقد تفجرت هذه الفضيحة علي مدي العقدين الماضيين لتكشف عن وقائع استغلال حدثت بداية من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي الا أن أصحابها لم يخرجوا عن صمتهم الا بعد مرور سنوات طويلة. كما أن هذه الظاهرة أخذت تتصاعد بصورة طردية مؤخرا. وسجلت آلاف الحالات في مختلف الكنائس الكاثوليكية حول العالم, لكنها أحدثت صدي اعلاميا خاصا في الولايات المتحدة وأيرلندا اللتين أجرتا تقصيا وطنيا حول حجم الأزمة. وبلغ عدد القضايا المرفوعة في الولايات المتحدة وحدها نحو3 آلاف دعوي في الفترة ما بين1984 و.2009 وبحسب وكالة أنباء رويترز فقد اضطرت الكنيسة الي دفع تعويضات للضحايا في الولايات المتحدة بلغ مجموعها2 مليار دولار, مما ادي الي افلاس بعض الابراشيات.
ورغم تفاقم الظاهرة, يصر الفاتيكان علي وضع مصالح الكنيسة الكاثوليكية قبل سلامة الأطفال. وهنا تأتي مسئولية البابا بنديكت, فقبل توليه الباباوية وحينما كان رئيس مجمع العقيدة و الايمان, أوكل اليه سلفه البابا يوحنا بولس الثاني مسئولية التحقيق في الانتهاكات الجنسية داخل الكنيسة عام.2001 ومنذ ذلك الحين كان راتسينجر( الاسم الحقيقي للبابا بنديكت) علي اطلاع كامل بتفاصيل هذه الانتهاكات أكثر من أي شخص آخر في الكنيسة. وبالرغم من ذلك, أصدر راتسينجر خطابا سريا تم تعميمه علي جميع الأساقفة الكاثوليك ويلزمهم بالابقاء علي سرية' التحقيقات' التي تجري داخل الكنيسة لرجال الدين المتورطين في هذه الجريمة. و قد كشفت صحيفة الأوبزرفر البريطانية عن هذا الخطاب الصادر في مايو2001 بعد أسبوع واحد من انتخاب راتسينجر بابا للفاتيكان في ابريل.2005
وبمقتضي هذا المرسوم, تظل أدلة الجناية خلف الأبواب المغلقة, ولا تصل الي السلطات المدنية( الشرطة) لضمان سير العدالة, مما جعل محاميي الضحايا يتهمون البابا بنديكت بـ تضليل العدالة والتواطؤ في هذه الجرائم.
وتؤكد الوثيقة أن سلطة تحقيق الكنيسة في هذه القضايا تبدأ منذ بلوغ الضحية18 عاما وتستمر لـ10 أعوام بعد ذلك. وهو ما يري فيه الضحايا مدة كافية لفلول الجناة بفعلتهم. أما اسلوب تعامل الكنيسة مع هذه الجرائم, وبخاصة خلال ولاية البابا بنديكت, فقد اتسم بحماية الجناة أكثر من التصدي لهم. و ثبت أن حالات الفصل عن الكنيسة للجناة كانت قليلة للغاية لا تناهز المائة, رغم وجود آلاف المنتهكين. وفي أغلب الأحيان يتم نقل رجال الدين المتهمين من ابراشية الي أخري, دون ضمانات كافية بعدم اتصالهم بأطفال جدد.
وأمام تعنت الكنيسة واخفائها لهذه الجرائم, بدأ محامون عن الضحايا في تحريك دعوي أمام المحكمة الجنائية الدولية تطالب بالتحقيق مع قادة الكنيسة وعلي رأسهم البابا بنديكت نفسه, الا أن المحكمة تمتنع عن الاستجابة لهم حتي اللحظة. ورغم أن هذا الملف وحده كفيل بأن يحدث عاصفة داخل الفاتيكان, فقد تداخلت تداعياته مع ملفات الفساد المالي داخل الكنيسة.
ورغم أن تعاملات بنك الفاتيكان علي مدار عقود لم تكن فوق مستوي الشبهات, فقد طفت الي السطح علي مدي سنوات ولاية البابا بنديكت قضية غسيل الأموال من جديد, وطالت شخصيات مقربة من البابا.
وخضع جوتي تيدسكي ـ المقرب من البابا و الذي ترأس بنك الفاتيكان في الفترة ما بين عامي2009 و2012 ـ مرتين للتحقيق والاستجواب من قبل السلطات الايطالية في قضايا غسيل أموال أحدهما خلال توليه المنصب عام.2010 أما المرة الثانية فقد جاءت بعد أيام من فصله عن منصبه. وبحسب مجلة دير شبيجل الألمانية فقد تم إلقاء القبض علي تيدسكي ـ في يونيو الماضي ـ بينما كان في طريقه الي الفاتيكان لتسليم حقيبة الي شخص مؤتمن للبابا. وتحوي وثائق خطيرة حول حسابات مجهولة, وتحويلات مالية مشبوهة, وخطابات تكشف تحايل مسئولي بنك الفاتيكان علي المعايير الأوروبية لمكافحة الأموال.
في هذه الأثناء, خرج الي العلن كتاب قداسته للصحفي الايطالي جيانلويجي نوتسي ينشر وثائق سرية تم تسريبها من مكتب البابا و تفضح فساد داخل الفاتيكان وصراع علي السلطة في الدوائر العليا للدولة. بعدها بأيام, ألقت شرطة الكنيسة علي باولو جابريللي الخادم الشخصي للبابا بتهمة تسريب الوثائق في الفضيحة التي عرفت ب' فاتيليكس'.
احدي الوثائق المسربة تحوي تحذيرا من أحد اعضاء مجلس ادارة البنك موجها الي تارشيزيو بيرتوني ـ بمثابة رئيس وزراء الفاتيكان ـ يحذره من بلوغ الوضع بالبنك درجة الخطر الوشيك, مشيرا الي هشاشة الحالة به وعدم استقرارها. ذلك الي جانب خطابات أخري, بعثها كارلو ماريا فيجانو السفير الحالي للفاتيكان في واشنطن( والذي شغل سابقا منصب نائب حاكم الفاتيكان). ويشكو فيجانو الي البابا اكتشافه لفساد و محسوبية ومحاباة للأقارب في منح العقود, لدي توليه منصب نائب الحاكم عام.2009
من ناحية أخري سربت' لاربوبليكا' أنباء عن وجود لوبي من رجال الدين الشواذ جنسيا داخل الكنيسة الذين يخضعون لابتزاز من شركاء لهم خارج أسوار الفاتيكان.
وبحسب الملف, فان هذا اللوبي يعد أحد الفصائل التي أخذت تتشكل داخل الكنيسة.
وبينما تؤكد صحيفة الكورييرا ديلا سير أن النظام القديم بالكنيسة قد انهار, والجديد لن يتم بناؤه الا علي صدمة يصعب التغلب عليها, برزت مؤشرات الانقسام الشديد داخل جنبات الكرسي الرسولي. وتشير التقارير المتناقلة الي وجود تيارين أساسيين: المحافظون الذين رحبوا بانتخاب بنديكت الا أنهم بعد ذلك أعلنوا خيبة أملهم فيه, والاصلاحيون الذين لا يجدون مكانا لهم داخل المجمع المغلق الذي سينتخب البابا الجديد. في حين بدأ بعض رجال الدين في التمرد علي الفاتيكان, وشرع نحو30 أسقف بالولايات المتحدة في نشر أسماء رجال الدين المنحرفين جنسيا علي الانترنت.
ولاتزال الأيام حبلي بالمفاجآت, في وقت سيشهد فيه الفاتيكان وجود اثنين باباوات أحدهما مستقيل, بعد أن كان ذات يوم يعرف بنفوذه القوي داخل المدينة المقدسة حتي قبل وصوله الي السلطة.