صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > الأخبار والمقالات > مكتبة طريق الخلاص > المكتبة العامة

المكتبة العامة كتب ومراجع وبحوث ود اسات في مختلف العلوم والمعارف

العلاقة بين العقل والنقل (2)

المحاضرة الثانية الحمد لله الأول بلا ابتداء ، والدائم بلا انتهاء ، استوى على عرشه في السماء ، له العظمة والعلو والكبرياء يُؤْتِي المُلكَ مَنْ يَشَاءُ ، وينْزِعُ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-11-2013 ~ 09:12 AM
نور الإسلام غير متواجد حالياً
افتراضي العلاقة بين العقل والنقل (2)
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية نور الإسلام
 
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012



المحاضرة الثانية
الحمد لله الأول بلا ابتداء ، والدائم بلا انتهاء ، استوى على عرشه في السماء ، له العظمة والعلو والكبرياء يُؤْتِي المُلكَ مَنْ يَشَاءُ ، وينْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يشَاءُ ، ويُعِزُّ مَنْ يشَاءُ ، وَيذِلُّ مَنْ يشَاءُ ، بِيَدِه الخَيْرُ وهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تعالى عن أن يكون له شريك في ملكه ، وتقدس أن يكون له معين على أمره ، لا تحيط به الأوهام ، ولا تدركه الأفهام ، حي لا يموت ، قيوم لا ينام ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ ، أحمده عز وجل على آلائه ، وأشكره سبحانه على نعمائه ، وأستعين به في عليائه ، أن يشفع فينا خاتِمُ أنبيائه ، وأن يجمعنا مع الصالحين من أوليائه ، وأومن به إيمان من أخلص له بالتوحيد ، وأفرده التسبيح والتمجيد .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه على سائر الخلق لرسالته وابتعثه داعيا إلى توحيد وعبادته ، فصدع بأمره وجاهد ، ونصره على كل من عاند ، حتى أكمل الله له دينه ، وأتم عليه نعمه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد .

علمنا في المحاضرة الماضية أنه من المستحيل أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح ، بل العقل يشهد له ويؤيده ، لأن المصدر واحد ، فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده ، ولو حدث تعارض بين العقل والنقل ، فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فيتمسك مدعى التعارض بحديث ضعيف أو موضوع ، والثاني أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح ، فالسبب الثاني في التعارض بين العقل والنقل ، أن العقل لم يفهم النقل ، ومثال ذلك تشكيك بعض أتباع المستشرقين من الإسلاميين أساتذة الجامعات وشيوخ الفضائيات في حديث الذباب الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا وقعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكم فليَغْمِسهُ كله ثمَّ ليَطْرَحهُ، فإنَّ في إحدَى جَناحَيهِ داءً وفي الآخر شفاءً ) فهذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الطبية التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحي الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا ، وذكر تطهير الماء إذا وقع الذباب فيه ، فلو تلوث بالجراثيم الموجودة في أحد جناحيه ، فما علينا إلا أن نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء ، الذي يوجد في الجناح الآخر ، الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم الموجودة بالماء ، وقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة في هذا الحديث ، فهناك خاصية عجيبة في أحد جناحي الذباب ، هي أنه يحول البكتريا إلى ناحية منه ، وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام ، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتريا ، الذي يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه .

فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه ، ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه ، كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به ، وكاف في إبطال عملها ، كما أنه قد ثبت علميا أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم ، تسمى باكتر يوفاج أي مفترسة الجراثيم وهذه المفترسة للجراثيم الباكتر يوفاج ، أو عامل الشفاء صغيرة الحجم يقدر طولها بعشرين ميلي ميكرون تقريبا ، فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب ، وجب أن تغمس فيه كي تخرج تلك الأجسام المضادة فتبيد الجراثيم التي تنقلها من هنا ، فالعلم قد حقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بصورة معجزة ترد على أتباع المستشرقين في رفضهم للحديث ، وقد كتب الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام بكلية الطب جامعة الإسكندرية ، كتب بحثا عن حديث الذبابة أكد فيه أن المراجع الطبية القديمة فيها وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب ، وفي العصر الحديث صرح الجراحون الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا ، أي في الثلاثينيات من القرن الحالي بأنهم قد رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والتقرحات المزمنة بالذباب ، ومن هنا يتجلى لنا أن العلم في تطوره قد أثبت في نظرياته العلمية والمعملية موافقته وتأكيده على مضمون الحديث الشريف ، مما يعد إعجازا علميا قد سبق سائر العلماء الآن .

وكذلك حديث ولوغ الكلب في الإناء الذي رواه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُولُ اللّهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلبُ ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ) كانوا قديما يطعنون في الحديث ويتهكمون من السنة لقلة علمهم وضعف إيمانهم حتى ثبت علميا أنه المكروب الذي يحمله لعاب الكلب ، لا يمكن أن يزول من الإناء ، بالمنظفات الحديث أبدا ، لا صابون ولا إيريل ولا برسيل ، ولا أي عامل من عوامل التطهير ، لا بد من غسله سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ، هكذا تقول معامل التحاليل الكيمائية ، فتبا للآراء العقلية التي تعارض الأدلة النقلية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وما أثبته السمع الصحيح ، لم ينفه عقل صريح ، وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح ، وإنما يَظُنُّ تَعَارُضَهُما من غلط في مدلوليهما ، أو مدلول أحداهما ) .

وأكثر ما يقع من دعاوى التعارض بن العقل والنقل ، ويكون سببه انعدام فهم العقل للنقل ، هو الجهل بمذهب السلف في توحيد الصفات والأفعال ، مثال ذلك ادعاء بعض المعصرين ، الذين يعتقدون عقيدة المتكلمين ، من الأشعرية والماتريدية ، ادعاؤهم بوجود التعارض بين الآيات القرآنية ، التي وردت في الاستواء والعلو والمعية ، كقوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : 5 ) ، وقوله : ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾(الملك : 16 ) ، وقوله : ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ﴾(الحديد : 4 ) ، يقول الشيخ طه عبد الله عفيفي في كتابه حق الله على العباد وحق العباد على الله : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر ؟ فيقولون : إن الله في السماء بمقتضى قوله تعالى : ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾(الملك : 16 )، أم على العرش بمقتضى قوله تعالى : ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : 5 )أم في الأفاق بمقتضى قوله تعالى : ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ﴾(الحديد : 4 ).

ويقول أيضا : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح:10) ، أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ﴿بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة:64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ (يس:71) .

فالشيخ طه العفيفي قد فهم هو ومن شاكله ، فهم من ظاهر الآيات التشبيه والتحيز والجسمية ، وأن الله في استوائه يشبه استواء الإنسان في الكيفية ، كما ذهبت إلى ذلك المعطلة أتباع الجهمية ، من معتزلة وماتريدية وأشعرية ، وظنوا أن الآياتِ متعارضةً متضاربةً ، ولا بد من تأويلها بأي طريقة ، حتى ولو أدت إلى تعطيل الحقيقة ، دون تصريح منهم بذلك ، والحجة عندهم أنهم يطلبون التنزيه ، فقالوا : الاستواء معناه استيلاء وقهر ، مع أن ذلك باطل في اللغة بإجماع أهلها ، ولو سألهم سائل : ما حجتكم التي تمسكتم بها في تفسير الاستواء بالاستيلاء ؟ قالوا حجتنا التي لا بديل لنا عنها ، ولا مندوحة لنا في تركها ، قول الشاعر الأخطل النصراني ، الذي سب المسلمين في دينهم ، واستهزأ بصلاتهم وصيامهم ، واحتقر أضاحيهم وأذانهم ، فقال في احتقار للمسلمين وعبادتهم : ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحي - ولست بزائر بيتا بعيدا : بمكة ابتغى فيه صلاحي - ولست بقائم كالعير أدعو : قبيل الصبح حي على الفلاح .

ما هي حجتهم التي تمسكوا بها في تفسير الاستواء بالاستيلاء ؟ حجتهم هي قول هذا الأخطل النصراني : قد استوى بشر على العراق : من غير سيف أو دم مهراق ، أي ملك بشر على العراق وقهرها

فهؤلاء لما نفوا الاستواء ، وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ، ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين وخاصتهم فالله يقول صراحة هو على العرش ، وهم يقولون صراحة ليس على العرش ، فما المخرج من هذه الورطة التي وضعوا أنفسهم فيها ؟ انظروا إلى المخرج في قول صاحب كتاب لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ، الأشعرية يعتبرون أنفسهم أهل السنة والجماعة ، يقول : ( لو سئلنا عن قوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه : 5 ) ، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ، ومنه قول الشاعر : قد استوى بشر على العراق : من غير سيف ودم مهراق .

قال ابن كثير في التعقيب على هذا البيت : ( هذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني ، حجة ولا دليل على ذلك ، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه ، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية حتى أداهم الإفلاس من الحجج ، إلى بيت هذا النصراني المقبوح ) والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت على نفي الاستواء أقوى من قوة الاحتجاج بآية الاستواء على إثباته .

روى الحسن بن محمد الطبري عن أبى سليمان ، قال : ( كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : 5 )؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر ، فقال الرجل : إنما معنى استوى استولى ، فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل قد استولى عليه ، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر ) .

وقال أبو سليمان الخطابي وهو من أئمة اللغة : ( وزعم بعضهم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمُه وقدرتُه بكل شيء وكل بقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟! ، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشئ ، فإذا وقع التمكن منه قيل استولى عليه ، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ! ) .

والأشعرية يقولون أيضا في قوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : 5 ) ، قالوا : معنى في السماء ، الملك الموكل بالعذاب في السماء ، وهذا أشد قبحا وتعسفا وافتراء ، وقالوا الله معنا بذاته في كل الوجود ، وهذا أقبح مما سبق لأنه اعتقاد مردود ، فيلزمهم أن يكون الله في أماكن التخلي والحمام ، وفي الأماكن القذرة مع أوسخ الأنتان ، تعالى الله عن ذلك الرحمن ، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه:5) ، فاعتقادهم لم يخرجهم من التعارض ، بل زادهم حيرة ومزيدا من التضارب ، أما هذه الآيات في حقيقتها ، فليس بينها أي تعارض في أدلتها ، وظاهرها مراد في حق الله وحده ، ويدل عليه وحده ، وعلى النحو الذي يليق بالله ، وهو وحده جل في علاه الذي يعلم كيفية ذاته وصفاته وأفعاله .

لكن تعالوا ننظر إلى عقيدة الأشعري نفسه ، وإلى المنبتين المخالفين لمذهبه ، ماذا قال أبو الحسن الأشعري في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ، قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله ، في بيان الفهم الصحيح لكتاب الله ، وكيفية الجمع بين هذه الآيات مع استواء الله : ( السموات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾(الملك : 16 ) لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السماوات ، وليس إذا قال : ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾(الملك : 16 ) يعنى جميع السماوات ، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ) .
فالله عز وجل مستو على عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، ويعلم ما نحن عليه ، لا يخفي عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، وليس بين الآيات أي تعارض يذكر ، وهذه عقيدة السلف في هذا الموضوع .

أما بالنسبة لما ذكره الشيخ طه العفيفي من التعارض في صفة اليد ، قوله : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ﴿ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح:10) ، أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ﴿ بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة:64) ، أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ (يس:71) .
فهذا التعارض المزعوم ناشئ من سوء عقله وعدم فهمه لما ورد في كتاب الله ، فمذهب السلف الصالح في اليدين ليس فيه ما يحاولون إثباته من التناقض ، بل هو الحق الذي اجتمعت عليه الأدلة الجلية ، وهؤلاء يريدون أن يجعلوا صفة اليدين شيئا معنويا ، بحجة أنهم ينزهون الله تنزيها حقيقيا ، كما هو مذهب المتكلمين عندهم ، والحقيقة التي لا شك فيها أن مذهب السلف الصالح هو عين الكمال والتنزيه ، ولا تعارض فيه بين العقل والنقل ، فمذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من أن لله تعالى يدين حقيقيتين من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف .

فالذين يفهمون لغة القرآن ، يعلمون أن العرب قد تستعمل الواحد في الجمع ، كقوله تعالى : ﴿ وَالعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ﴾ (العصر:2) وقد تستعمل الجمع في الواحد كقوله تعالى : ﴿الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾ (آل عمران:173) ، وقد تستعمل الجمع في الاثنين كقوله تعالى : ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ (التحريم:4) ولكنها لم تستعمل الواحد في الاثنين أبد ، فلا تقول عندي رجل ، وأنت تعنى رجلين ، ولم تستعمل الاثنين في الواحد ، فلا تقول عندي رجلان وأنت تعنى به مجموعة من الرجال ، فلا يجوز تأويل اليدين بالقدرة ، لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز تأويل اليدين بالنعمة لأن نعم الله لا تحصى ولا تعد ، يقول الله تعالى : ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ (إبراهيم:34) ، وعند ذلك فلا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الجمع ، مما يدل على بطلان تأويل اليدين بالنعمة أو القدرة .

فالآيات الثلاث التي أوردها الشيخ طه العفيفي ، يقول فيها السلف إن التأويل في حال التثنية تحريف للكلم عن مواضعه ، فقوله تعالى : ﴿ بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة:64) يدل على إثبات صفة اليدين لله حقيقة ، أما قوله تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ (يس:71) ، فالمقصود من الجمع التعظيم وهذا وارد في لغة العرب ، فلما قال في بداية الآية : خلقنا ، قال : أيدينا ، ولما قال : خلقت ، قال : بيدي ، ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ﴾ (صّ:75) ، وأما قوله تعالى : ﴿إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ (الفتح:10) وقوله تعالى : ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (آل عمران:26) ، وقوله تعالى : ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (البقرة:113) .

فإطلاق اليد هنا من باب تسمية الشيء بسببه ، فقد تكون بمعنى القدرة لأن القدرة هي قوة اليد ، يقال : فلان له يد في كذا و يد في كذا ، أي له قدرة ، ومن لوازم اليد للرحمن القوة والخير والعطاء ، والسح والبذل والسخاء .. الخ ولا يقال يد لمن ليس له يد ، أما قوله تعالى : ﴿بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة:64) ، وقوله : ﴿ قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ (الحجر:32) ، فلا يمكن أن تأول بالقدرة أو النعمة لأن تركيب السياق يمنع ذلك كما هو الحال في لغة العرب .

والله لم ينكر على اليهود وصفهم له باليد ، وإنما أنكر عليهم وصف اليد بالغلول : ﴿ وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ (البقرة:113) ، وهذه الآية من الأدلة الواضحة على إثبات يدين لله على الحقيقة ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي حديث الشفاعة المشهور الذي رواه البخاري من حديث أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يجتمعُ المؤمنون يومَ القيامةِ فيقولون : لو استَشفَعنا إلى ربنا ، فيأتونَ آدمَ فيقولون : أنت أبو الناس ، خَلَقَك الله بيدِهِ ، وأسجدَ لك مَلائكتهَ ، وعلمكَ أسماءَ كلِّ شيءٍ ، فاشفَعْ لنا عندَ ربِّك حتى يُريحَنا من مكانِنا هذا ، فيقول : لستُ هناكم ، ويذكرُ ذنبَهُ فَيستحي ) فجعلوا خلق الله لآدم بيده ميزة له من بين الخلق ، فدل على أن اليد على ظاهرها ، ولها كيفية لا نعلمها ، تليق برب العزة والجلال ، الذي لا يعلم كيف هو إلا هو ، ومن الأحاديث الدالة على أن للّه يدين حقيقيتين ، ما رواه البخاري عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدُ اللهِ مَلأي لا يَغيضها نَفَقة سَحَّاء الليلَ والنهارَ ، أرأيتم ما أنفقَ منذ خلق الله السماواتِ والأرضَ فإنه لم يَغض ما في يده ، عرشه على الماء وبيدِهِ الأخرى الميزانُ ، يَخفضُ ويرفع ) ، وَمن حَدِيثِ زُهَيْرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ( إنَّ المُقْسِطِين عِنْدَ اللّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَل ، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ، الذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) .

وهم يحاولون الخروج من هذا التناقض الذي زعموه وتصوروه في الآيات ، بتناقض أشد ضلالا وأبعد منالا فأهل التأويل والتعطيل يؤولون اليدين ، إما بالقدرة أو النعمة تارة أو خزائن الخير تارة أخرى ، فرارا من التشبيه ، فيقولون في قوله تعالى : ( قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) (الحجر : 32 ) أي بنعمتي أو بقدرتي ، وقد أرادوا بذلك أن يجعلوها لا تدل على يدين حقيقيتين كما أراد الله من الآية ، بل أرادوا أن يجعلوها شيئا معنويا ويخترعوا لها أي معنى يوافق قواعدهم وأصولهم ولو كان ذلك باطلا ولا دليل عليه ، وهذا قول على الله بلا علم ولا قال به أحد من علماء السلف ، كما أن تناقضهم يدل على بطلان قولهم لأنهم لو كانوا على الحق لاتفقوا على معنى واحد ، والأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل واضح ، وقد تنوعت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على إثبات يدين لله تبارك وتعالى ووصفها بأوصاف تمنع تأويلها بالقدرة أو النعمة .

والذي نود أن نلخصه الآن هو أنه من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده ، والسبب في ذلك سبب منطقي وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله ، والذي أرسل إليه النقل هو الله وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان ، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال سبحانه : ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى ﴾(طه : 123 )، ولو حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فينسب مدعى التعارض إلى دين الله ما ليس منه كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وينقلونها للناس دون تمحيص ، السبب الثاني في التعارض بين العقل والنقل أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح .

نقف بإذن الله تعالى عند هذا الحد ونلتقي معكم بإذن الله تعالى في مساء الغد ، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .








المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
العلاقة بين العقل والنقل (5) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:14 AM
العلاقة بين العقل والنقل (4) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:14 AM
العلاقة بين العقل والنقل (3) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:12 AM
العلاقة بين العقل والنقل (1) نور الإسلام المكتبة العامة 0 07-11-2013 09:11 AM
العلاقة بين ما تأكله والحالة النفسية مزون الطيب أخبار منوعة 0 05-02-2012 08:36 PM


الساعة الآن 12:20 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22