الأندلسي, الفقيه, الطريد, رحلة
سنَّ الشباب المسلم على مواقع التواصل سنة حسنة: إحياء ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير) من كل عام، وتذكير المسلمين بهذه القطعة الغالية من الأرض والحضارة الإسلامية، واستجابة لهذه السنة نجعل هذا المقال عن الأندلس.
وحديثنا في هذه السطور عن أندلسي عاش متخفياً بإسلامه، تلقى الإسلام وتعلم اللغة العربية سرّاً من أبيه، كحال الأندلسيين الذين طاردتهم محاكم التفتيش وأجبرتهم على التنصر وعاقبتهم على كل فعل يُشْتَمُّ منه رائحة الارتباط بالإسلام واللغة العربية.. ذلك هو أحمد بن قاسم الحاجري المشهور، بـ "أفوقاي الأندلسي"، الذي ترك لنا كتابه "مختصر رحلة الشهاب إلى بلاد الأحباب"، ويقصد ببلاد الأحباب: ديارَ الإسلام، وذلك أنه نفذ مغامرة هروب جريئة من إسبانيا إلى البرتغال إلى المغرب، وحكى أنه لاقى فيها أهوالاً، حتى إذا وصل هناك كان بانتظاره الفرج والأمل، إذ احتضنه أمراء المغرب السعديون في ذلك الوقت، وجعلوه ترجماناً وسفيراً لهم، لما له من علم وإجادة باللغات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية.
وضع أفوقاي رحلته التي يصف فيها هذه السفارات وما كان فيها، خصوصاً أنه قد خاض مجادلات كثيرة مع النصارى في دينهم، ولما كان عائداً من رحلة الحج زار مصر، فعرض رحلته على الشيخ المالكي المصري علي الأجهوري، الذي أعجب بما فيها وأوصاه أن يستخلص المناظرات مع النصارى فتكون كتاباً مستقلاً، واستجاب أفوقاي؛ فاستخلص المناظرات وسمَّاها: "السيف الأشهر على كل من كفر"، أو "ناصر الدين على القوم الكافرين"، فذلك هو "مختصر رحلة الشهاب"! وكان من بركات الشيخ المالكي أن الرحلة الأصلية قد فُقِدت وضاعت في حين بقي هذا المختصر!
تعلم أفوقاي لغة الإسبان كلاماً وقراءة وكتابة وأتقنها كي لا يرتابوا في أمره إذا وجدوه في السواحل يريد العبور للمغرب، وذلك أنهم شددوا الحراسة جداً لمنع الأندلسيين من الهجرة إلى ديار الإسلام، وكان من وسائل تعرفهم عليهم قلة إجادتهم للغة، فكان أن فتح الله عليه بهذا العلم فصار إلى أن يكون سفيراً! ثم نفعه ذلك أيضاً حين صار يترجم بعض الكتب، منها كتاب ألفه أندلسي موريسكي لا يجيد العربية عن الحرب في البحر والآلات الحربية، أعطاه أفوقاي عنواناً: "كتاب العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع". إن هذا الصبر والعزم على الهروب الذي يكلف المرء تعلم لغة جديدة وإتقانها لمثير للإعجاب والاحترام والتقدير.
ما بقي لنا من هذه الرحلة يكشف أموراً عزيزة، أهمها: أحوال الأندلسيين في ذلك الوقت تحت الحكم الإسباني، وكيف جاهدوا للحفاظ على دينهم سرّاً، والسياسة الإسبانية في تعقب الدين واللسان العربي، كما نفهم منها بعضاً من جوانب العلاقات السياسية بين دول المغرب والإسبان وفرنسا وهولندا والدولة العثمانية، وقد عرضت هولندا التحالف مع المغرب ضد الإسبان لإعادة الحكم الإسلامي إلى الأندلس، إلا أن هذا التحالف كان بحاجة إلى انضمام العثمانيين أيضاً، وهو ما خشيت منه إسبانيا فكان من أهم أسباب تغير سياستها من سياسة التنصير قسراً ومنع الأندلسيين من الخروج والهجرة، إلى سياسة الطرد والتهجير.
وقد كانت سفارة أفوقاي إلى فرنسا تحمل مهمة تحسين أوضاع الأندلسيين المسلمين الذين هاجروا إلى فرنسا من إسبانيا، وكان من فرج الله يومها أن العلاقات الفرنسية الإسبانية كانت سيئة، كما كانت العلاقات الفرنسية العثمانية حسنة، فكان في هذا الفرج لمن هاجروا، وقد بلغ عدد المهاجرين من الأندلس –كما نقل أفوقاي عن إحصائية صادرة من الديوان الملكي الإسباني- ثمانمئة ألف، وهو رقم ضخم هائل بميزان اليوم، فكيف بميزان ما قبل خمسة قرون؟!!!
وكان التجار الفرنسيون قد نهبوا المهاجرين الأندلسيين، وغصبوا ما كان معهم، فكان من مهمات سفارة أفوقاي ردُّ ما نهب إليهم، وقد ناور الفرنسيون في الاستجابة لهذا، ففي حين أصدر الملك منشوراً وزعه على الولايات يأمر بردّ ما نهب، استطاع التجار رشوة والي أولونه لكي لا ينفذ الأمر، واعتذر الوالي بأن الأمر صعب ولا يمكن استدراكه بعدما تفرق في أموال التجار.
وروى عن سفارة متبادلة بين سلطان المغرب وملك هولندا لتكوين تحالف ضد إسبانيا، وذلك أن هولندا كانت قد دخلت في البروتستانتية وخلعت عنها الحكم الإسباني الكاثوليكي.
وتسرد رحلة أفوقاي بعض مظاهر المجهود السياسي العثماني في رعاية أحوال الأندلسيين، وحديثه عن السلطان العثماني محفوف دائماً بالتعظيم والتبجيل، وذكر أن يسر أحوال الأندلسيين في فرنسا راجع إلى اهتمام السلطان العثماني، وكيف أن الفرنسيين يهابونه ويسمونه "السيد الكبير"، وفيها كذلك صورة عن المجهود المغربي في إنقاذ المسلمين، ومن ذلك سفارة أفوقاي إلى فرنسا، ومنها أن ملك هولندا أهدى ثلاثمئة أسير أندلسي أوقع بهم بعض تجار هولندا ليبيعوهم عبيداً، فكان صنيعه هذا دليلاً على اهتمام سلاطين المغرب بأمر إخوانهم الأندلسيين.
ونرى في رحلة أفوقاي صورة لأوروبا في ذلك الوقت، وصورة عن المسيحية التي يبدل فيها القساوسة والرهبان؛ فيحلون ما كان بالأمس حراماً، ويحرمون ما كان بالأمس حلالاً، والبابا الذي اكتُشِف أنه أنثى، والبروتستانتية التي بدأ يعلو نجمها في أوروبا، والتي كان بينها وبين المسلمين علاقات طيبة، بل كان البروتستانت يرون المسلمين "سيف الله في أرضه على عباد الأوثان (الكاثوليك)".
كما نرى فيها صورة لتصور الأوروبيين وخرافاتهم حول الإسلام؛ فمن ذلك أن بعضهم فهم أن الإسلام يجيز الزنا والسرقة من حديث أبي الدرداء أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يزني المؤمن؟ قال: بلى وإن كره أبو الدرداء، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: إنما يفتري الكذب من لا يؤمن"!! وفهم بعض علمائهم أن الإسلام يجيز اللواط من قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: 223]. ومن علمائهم من كان يظن أن المسلمين يزورون مكة ليروا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي، فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاته!! كما يعترف بعض علمائهم بأن المسلمين أذكياء وقد "منحهم الله عقولاً وافرة".
وفي رحلته ما يلفت النظر إلى علمه ومواهبه، ففضلاً عن علمه بالنصرانية وكتبها، فإن له علماً بالتقاويم والفلك فقد حدد بدقة تاريخ المولد النبي بالتقويم الميلادي، وله علم أصيل بالجغرافيا والأقطار وملوكها، وترجم كتاباً ضخماً فيها إلى العربية للسلطان المغربي، واستعمل معلوماته تلك في الرد على اليهود والنصارى ونقض ما جاء بالتوراة المحرفة من معلومات مغلوطة.
ومن أعجب ما نجده في هذه الرحلة أن العلاقات العثمانية الإسبانية كانت منهارة لسببين: غدر الإسبان بالمسلمين الأندلسيين، وغدر الإسبان بملك المكسيك مُتَشُمَه، وهو ما يعني سعة اطلاع العثمانيين بما يحدث في أقصى الغرب عند المكسيك، وأن لهم هناك صلات يثير الاعتداء عليها عداوات في أوروبا. كذلك فإن وجود السفارات الدائمة في أول أمرها لم يكن تعبيراً عن قوة الصداقة كما يتبادر إلى أذهاننا الآن، بل هو يعبر عن الذِّلة، فالطرف الأضعف هو الحريص على وجود سفارة دائمة له عند الطرف الأقوى، في حين لا يحفل الأقوى بذلك، بهذا فسَّر أفوقاي الأندلسي وجود سفراء أوروبيين دائمين لدى العثمانيين، في حين لم يهتم العثمانيون بإيجاد سفارات لهم في بلاد أوروبا.
هذا كله بعض ما يُلتقط من مختصر الرحلة التي خصصها لسرد جدالاته مع النصارى، ما يجعل كل مهتم بالتاريخ في شوق عظيم للعثور على الرحلة الأصلية التي كانت مخصصة لوصف البلدان والسفارات وتفاصيل السياسة في ذلك الوقت، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا! فإن مأساة فقد الرحلة الأصلية هي فرع عن مأساة ما فقده التراث الإسلامي كله من المخطوطات والمؤلفات النفيسة بفعل الاحتلال وبفعل الجهل، وهو وليد وربيب الاحتلال، كما أن مأساة الأندلسي أفوقاي هي فرع عن مأساة الأمة الأندلسية التي هي وليدة وربيبة "الحضارة" الغربية!!