مروا, الأندلسيون, الموريسكيون
نهى عوده
مهندسة مهتمة بالتاريخ الإسلامي
من المدهش حقاً أن نعلم أن لأجدادنا من الأندلسيين المواركة إسهامات حضارية برغم المعاناة والتنكيل والتهميش وكل المظاهر البائسة التي كانت تشاركهم حياتهم المعذبة التي كانوا يحيونها. فعلى مدى قرابة قرن من الزمان عاشوه بعد سقوط الحكم الإسلامي في كنف السلطة القشتالية الغاشمة وجبروت محاكم التفتيش وتعنت الكنيسة الكاثولكية، لم يعرفوا يومًا لذة العيش ولا ذاقوا هناء الحياة، فكل أيامهم كانت محاطة بالشقاء يهيمون على وجوههم بين الأزقة الأندلسية التي ألفوها وألفها من قبلهم الأولون فيرسم الحزن ملامحه على وجوههم بينما تصفع أجسادهم رياح عز قد زال.
إن هؤلاء المنسيين ظُلموا أحياء وأمواتًا، فكما نسى التاريخ أن يتحدث عن آلامهم في الماضي نسى أيضا أن يتحدث عن إنجازاتهم، ولم تصلنا من تلك الإنجازات سوى نفحات قليلة، فقد ظل الموريسكيون بعد سقوط غرناطة يمثلون العمود الفقري في مختلف مجالات الحياة ،قبل أن تقرر السلطة الكاثولكية طردهم نهائيًا وتصفية أثرهم.
وإن كانت السلطة القشتالية عملت جاهدة على اقتلاع الإسلام والمسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية، إلا أن حضارتهم العريقة ظلت حاضرة وقائمة حتى يومنا هذا.. ويكفي أن نذكر أنه حالما أخذت هجرتهم تزداد بعد فشل ثورتهم الكبرى المعروفة بثورة البشرات وأعقب ذلك طردهم بشكل جماعي، انهار الاقتصاد، وتدهورت الصناعة والزراعة، وعمت الأزمات في وقت كان فيه الإسبان منغمسين في حروبهم؛ حتى وصل الأمر أواخر القرن السادس عشر (عام 1596م)، أن أعلنت الحكومة القشتالية "الأسبانية" إفلاسها للمرة الثانية خلال 21 عامًا فقط.
وبنظرة خاطفة إلى الإرث العلمي والحضاري الذي خلفه الموريسكيون قبل الطرد، نجد أن المجال الزراعي كان له النصيب الأكبر نظرا لخبرتهم الواسعة بميدان الفلاحة، وكانت الدولة تعتمد عليهم في هذا المجال لتدريب الأيادي القشتالية التي استوفدتهم عمدًا من جميع أنحاء البلاد، ومنحتهم أراضي الموريسكيين المنهوبة، وقد عمدت الحكومة إلى إرجاء طرد الأيدي العاملة حتى آخر وقت للإفادة منهم. إلا أنه عندما دخل القرار حيز التنفيذ الفعلي، خاب ظنهم كثيرًا، فقد نجم عن ذلك انخفاض ملحوظ في الإنتاج الزراعي جراء طردهم للأيدي الموريسكية العاملة وتعويضها باليد العاجزة من القشتاليين الذين لم يستطيعوا أن يتحملوا العمل الشاق. وفي الوقت الذي كانت تنضب فيه أراضي شبه الجزيرة الأيبيرية ويعتريها الجفاف، كان الموريسكيون يقطنون جبال البشرات محققين اكتفاءهم الذاتي لمجتمعهم من الغذاء، حتى أن المؤرخين الأسبان قالوا: "لم يترك الموريسكيون شبرًا واحدًا من أراضي البشرات إلا وزرعوه"!
ومن الحوادث الجديرة بالذكر أن مدينة المرية في عام 1537 ساد فيها فوضى عارمة وعم الجفاف لفترة طويلة، فلم تجد الكنيسة مفرًا لكي تحسم الأمر إلا بأن تستدعي ثلاثة من كبار الموريسكيين القاطنين بالمرية لكونهم على اضطلاع بالطريقة التي كانت تدار بها من قبل. ونظرًا لأن المرية ليس بها بحيرات عذبة أو أنهار، كان المصدر الوحيد للمياه هو الآبار؛ فشرع الموريسكيون من أجل حل الأزمة بالبحث عن آبار جديدة، وتمكنوا من إيجاد منبعين جديدين، ثم قاموا باستخراج المياه بواسطة نواعير وشقوا المجاري لتسيير هذه المياه، وقاموا بتسخير الماء بتقنية هندسية عجيبة حتى تبدلت أحوال المدينة وصار الماء يصل إلى كل أنحائها.
أما في مجال الطب والجراحة، فقد تفوق عدد من الموريسكيين في هذا المجال الذي توارثوه عن أجدادهم الأندلسيين، وتخصصوا في علاج الفقراء لأن الطبقة الأرستقراطية كانت تفضل أن يعالجها طبيب يدين بنفس ديانتهم وليس موريسكيًا مشكوكًا في إيمانه.
ومن الحوادث الجديرة بالذكر في هذا المجال، قصة الطبيب الموريسكي "خيرونيمو باتشيت" الذي مثل أمام محاكم التفتيش بتهمة أن لديه شيطاناً بداخله بفضله قد قام بشفاء الحالات المستعصية التي أعطته صيتاً كبيراً! ومن المفارقات أن هذا الطبيب الموريسكي لجأ إليه الأمير فيليب الثالث عندما مرض وعجز الأطباء النصارى عن إيجاد علاج له، فى حين نجح الطبيب "باتشيت" في شفائه من مرضه. وفيليب الثالث هذا هو الذي أصبح ملكًا فيما بعد وهو أيضا صاحب قرار طرد المسلمين سنة 1609م.
وخلال القرنين السادس والسابع عشر، استغل الأسبان والبرتغاليون الموريسكيين كرقيق، يصحبونهم معهم أثناء رحلاتهم إلى العالم الجديد، وساهم الموريسكيون المهاجرون في تعمير وازدهار العالم الجديد نظرًا لخبرتهم في إصلاح الأراضي وزراعتها، وكان هؤلاء المهاجرون متعددي المهن والحرف من مزارعين وبنائين ونجارين، فحملوا معهم حضارتهم وعلمهم ونقلوها إلى تلك الديار، وتركوا بصمات واضحة في مجال العمارة والزخرفة والنقش على الخشب.
أما في المجال الثقافي فقد خلف الموريسكيون تراثا فريدا في مختلف أشكال الأدب، ويحمل الأدب الموريسكي حزنًا عميقًا في طياته مبعثه ما آل إليه وضع الأندلس، ويعكس في المقام الأول معاناتهم و تكيفهم في حياتهم الجديدة في ظل ظروف التنصير والتهجير التي مروا بها، وقد عكس هذا الأدب اهتمامهم الشديد بحرصهم على توارث مبادئ الشريعة الإسلامية، وأنهم لا يقبلون بديلاً عنها وإن تظاهروا باعتناق المسيحية، وقد أسفر حظر اللغة العربية عن خلق لغة جديدة هي "الألخميادو"، ولبثت هذه اللغة أكثر من قرن من الزمان سرًا مطمورًا.
كانت المخطوطات التي عُثِرَ عليها في تجاويف جدران المنازل، والسقوف، والمغارات، هي السبيل للكشف عن أسرار الأدب الموريسكي وتوجهاته التي تندرج إلى عدة محاور، فمنها الديني المتمثل في ترجمات القرآن الكريم إلى الإسبانية والأعجمية "الألخميادو"، وكتب التفسير والسنة النبوية الشريفة، فضلا عن كثير من المجادلات مع النصارى، وكان كل هذا ضمن استراتيجية المحافظة على هويتهم الإسلامية الشرقية المهددة بالإنقراض مقابل الثقافة الكاثولكية الغربية.
أما التوجه الآخر فقد ضم إسهامات متميزة في فنون الشعر والقصة والرواية والأسطورة والملحمة والرحلة وفن الترسل "فن كتابة الرسائل"، وقصد هذا النوع من الأدب الترفيه عن النفس، مع استغلال كل ما يتيحه من إمكانات لتلقين التعاليم والمواعظ الأخلاقية الإسلامية، واسترجاع تاريخ الإسلام وأمجاده الماضية.
ومن نماذج الأدب الموريسكي قصيدة رومانثي ابن عمار والتي تعد الأشهر والأكثر شعبية في الأدب الإسباني، وتدور في قالب تراجيدي حزين حول أمير أندلسي سلم صلاحياته للملك القشتالي خوان الثاني، مقابل الحماية.
أما أدب الرواية فنذكر منه قصة "توبة الشقي" والتي يعتقد أنها تروي قصة كاتبها، حيث أن بطلها كان غارقًا في الملذات والشهوات ثم ألحق هذا بتوبة نصوحة. وهناك الكثير من الروايات الأخرى كابن السرّاج وحمام زرياب والفتاة كركيونة، والعابد والفاتنة، وحب باريس وبيانة، . ولا يخلو الأدب الموريسكي من أدب الرحلة، حيث يعد كتاب "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" من الرحلات الموريسكية التي تشكل محورا مهما في الأدب الموريسكي، حيث خلف لنا أحمد شهاب الدّين الحجري المشهور بأفوقاي، شهادة عن مساره منذ ان فرّ من الأندلس خوفا على حياته من فتنة محاكم التفتيش.
ولا يمكننا عند الحديث عن الأدب أن نتجاهل المغازي الموريسكية، والتي كانت عبارة عن ملحمة متسقة ومتجانسة إلى حد كبير تُسْرد فيها الوقائع التاريخية، انصبت المغازي على الاحتفاء بتقاليد الفروسية والروح القتالية. وقد وضعها مؤلفها أو مؤلفوها المجهولون باللغة الألخميادية في بداية القرن السادس عشر لبعث تاريخ الإسلام المجيد كما كان، أو كما تمنوا أن يكون عليه في عهدهم. كما تجلى أدب الموعظة والوصية بالإضافة إلى اسهاماتهم في أعمال الترجمة.
أما في مجال الفنون والعمارة فقد كانت الزخرفة في مقدمتها، ولا دليل أبلغ على ذلك من المصاحف التي تم إنجازها تحت وطأة محاكم التفتيش وعُثِرَ عليها مخبأة لاحقا، أو تم تهريبها إلى العدوة المغربية. كما برعوا في فن الكتابة بالخط الكوفي، وتشكيله، وتحريفه كوحدات زخرفية، حتى أن بعض واجهات الكنائس وجد بينها تحميدات إسلامية قام بها الموريسكيون ثم نقلها الفنانون من بعدهم دون أن يتثبتوا من معانيها، كما استمر الطرب الأندلسي وخاصة ما كان مرتبطا بالأذكار والإنشادات الدينية وما يخص المناسبات التي كانت تنظم في الخفاء كالأعراس والاحتفالات الدينية.
وفي المجال الحرفي أتقن الموريسكيون عدة صناعات وكثير من الحرف، وتميزت أعمالهم بأنها على قدر كبير من الجودة والاتقان، فاشتهروا على وجه الخصوص بصناعة السفن والزليج "فن الفسيفساء"، والحلي والزرابي "السجاد المزين"، وصناعة النسيج والحرير والشاشية المغربية.
ويجدر بنا أيضاً أن نتحدث عن الجانب الاجتماعي، فقد كان الموريسكيون ميالين إلى الأناقة في الملبس، حتى أنه بعد هجرتهم إلى المغرب كانت النساء الفاسيات يتشبهن بموريسكيات غرناطة في اللباس، كما كانوا شديدي الحرص على نظافتهم ونظافة منازلهم. ومن الطريف أن أشهر الأطباق التي خلفها المطبخ الموريسكي، "البسطيلة"، و"الطاجين باللحم"، وأيضا طبق "الكسكس"، أبت ألا تغادر شوارع غرناطة ، فرغم رحيلها يوم رحل أهلها إلا أنها عادت مرة أخرى لتمنح متناوليها لذة المذاق وحنين الماضي، عادت لكنها عادت وحيدة هذه المرة دون أصحابها الذين رافقوها قديما في رحلة إنسانية حضارية استمرت تسعة قرون، فهل لهذه الأطباق الشهية أن تأمل يوما في عودة أصحابها!