المسلمين . التتر, الإسلام
من هم تتر القرم؟
كتابة: الدكتور حاقان قريملي - جامعة بيلكنت
مترجم للألوكة من اللغة التركية
المصدر: Kirimdernegi
ترجمة: مها مصطفى إسماعيل
إن التترَ هم السكان الأصليون لشبه جزيرة القرم، التي تقع في شمال البحر الأسود، وفي الوقت ذاته يُمثِّلون العنصر الإسلامي الأصلي للبلاد، وفي الوقت الحالي لا يُشكِّل التتر المسلمون سوى 13 % من إجمالي التعداد السكاني لشبه جزيرة القرم.
وعلى الرغم من ذلك، لا يصح اعتبارُهم أقلِّية من الناحية التقنية والتاريخية والقانونية بالنسبة للقرم، أو لدولة أوكرانيا التابع لها القرم.
واليوم يظنُّ الكثيرون أشياء غير حقيقية بخصوص التركيب العِرْقي وهُوِيَّة وتاريخ ما يُطلَق عليه اليوم اسم "تتر القرم"؛ إذ يظنُّ معظم الناس أن تتر القرم جاؤوا دفعةً واحدة عندما جاءت جيوش جنكيز خان في القرن الثالث عشر، واجتاحت دول شمال البحر الأسود واستقرت هناك، وعلى الرغم من أن هذه الواقعة تلعب دورًا كبيرًا في تاريخ القرم، فإنه لا يمكن تلخيص الخصائص التاريخية والثقافية والعِرْقية واللُّغوية لتتر القرم الحاليين وَفْق هذه الرؤية السطحية.
ومن جهةٍ أخرى، يظن البعض أن كل مَن يطلق عليهم اسم "
التتر" ينتمون إلى نفس العِرْق، وهذا الاعتقاد لا يمتُّ للحقيقة بصلة؛ فالتتر فى نطاق "
جمهورية تتاريستان" حاليًّا هم من عرق "
أيديل"، ولا صلة لهم بتتر القرم، ولا يُمثِّلون فرعًا لهم؛ ولهذا ينبغي عرضُ الخصائص والصفات المميزة لشعب تتر القرم وعَلاقتهم بالشعوب الأخرى.
إن تتر القرم جميعَهم مسلمون، سُنَّة، ويتبعون المذهب الحنفي، واللغة الأصلية لتتر القرم وجميع لهجاتِها تندرج ضمن اللغات التركية، فما نطلق عليه "لغة تتر القرم" يحتوى بداخله على أكثر من لهجة؛ فالمناطق الساحلية تتميز بلهجة تختلف عن الصحاري، وكذلك المناطق الوسطى للقرم لها لهجتها الخاصة، التي لها مكانة كبيرة بين لهجات اللغات التركية المختلفة.
وليست اللهجة وحدَها هي التي يمكن أن تميز شعب القرم، بل إن الخصائص الجسدية تعكس أيضًا المنطقة التي يعيشون بها، فمَن يعيشون في الصحاري يتَّسِمون بعيونٍ لوزية الشكل، وبعظام وجه بارزة، أما مَن يعيشون قرب الساحل، فتبدو أشكالهم مثل شعوب البحر المتوسط، ومَن يعيشون في العاصمة (
أقمسجيت) وما حولها من المناطق الوسطى، فيُمثِّلون مزيجًا بين هذه الصفات الجسدية، وهذه الفروق التي ولَّدها اختلاف الطبيعة في المناطق المتنوِّعة للقرم، ولَّدَتْ بدورها فروقًا في نمط الحياة والثقافة.
وبهذا، فإن شعب القرم الحالي لا ينتمي إلى تاريخ واحد، وعلى الرغم من أن اللغة والثقافة الموجودتين حاليًّا تظهرانِ بلا شكٍّ أن جذور التتر ترجع إلى القوميات التركية، فإنه من الضروري أن نذكر أن العِرْقيات الأخرى التي تقطن شبه جزيرة القرم قد تترَّكت وتأسلمت خلال العصور الطويلة التي فرضت فيها العناصر التركية سيطرتها على المنطقة.
فمنذ القرن الرابع الميلادي فرض أتراك الهون سيطرتَهم على شبه جزيرة القرم، وعقب ذلك تأسَّست دولة الجوكتورك في الأجزاء الصحراوية في النصف الثاني من القرن السادس، ثم تأسَّست دولة الخزر - وهي تعتبر من الشعوب التركية - على مساحةٍ شاسعة من أراضي القرم في منتصف القرن السابع الميلادي.
وفي عهد إمبراطورية الخزر تم تتريك جزءٍ ليس بقليل من القرم، وعلى الرغم من أن الحاكم في ذلك الوقت كان تركيًّا يهوديًّا، فإن القرم تمتَّعت في عهده بتسامحٍ بين الأديان، بما في ذلك الدين الإسلامي، ويشهد بذلك وجود عدد كبير من معتنقي الدين الإسلامي فى تلك الفترة؛ ولذلك تُعَدُّ فترةُ حُكم الخزر هي الحِقبة التي بدأ فيها أول ظهور للمسلمين في القرم.
وفي القرن العاشر كانت القرم تابعةً إلى قبيلة تركية أخرى، هي القيبتشاق، مما عمِل على استمرار مسيرة التتريك، وكان للقيبتشاق أثرٌ كبير على تشكل حضارة تتر القرم وثقافتهم.
وفي القرن الحادي عشر اعتنق كثيرٌ من القيبتشاق الدين الإسلامي، وبناءً عليه يمكنُنا الحديث عن تشكُّل أولى الجماعات الإسلامية في القرم، وفي الواقع كان عددٌ كبير من أتراك القيبتشاق يُسلِمون بصفتهم عبيدًا أو جنودًا مأجورين، ثم يولون مهامَّ قتالية في الدول الإسلامية، مما أدى إلى خَلْق عَلاقة وطيدة بين أتراك القيبتشاق والعالَم الإسلامي منذ أمدٍ بعيد، فعلى سبيل المثال: كان الجنود الذين من أصل عبيد ومماليك في مصر من أتراك القيبتشاق، حتى إن "
بيبرس" مؤسس دولة المماليك في مصر هو من القيبتشاق، ومولود في القرم.
في بدايات القرن الثالث عشر غيَّرت الإمبراطورية العظمى - التي أسَّسها جنكيز خان - من قدر القرم كذلك؛ حيث أصبحت جزءًا هامًّا من هذه الإمبراطورية الشرقية التي تفكَّكت فيما بعد موت جنكيز خان إلى أربعة أجزاء، وصارت شبه جزيرة القرم إمبراطورية مستقلة بذاتها، تحمل اسم "
القبيلة الذهبية".
كان جنكيز خان من المغول، وكذلك قادة كبار جيشه، ومع ذلك شكَّل المغول جزءًا صغيرًا من دولته؛ إذ كان النصيب الأكبر لقوميات أخرى، وخاصة للأتراك، وسرعان ما تترَّك ثلاثةٌ من ورثةِ جنكيز خان، واعتنقوا الإسلام، كما أن العناصر التركية التي تقطن القرم حاليًّا جاء أغلبُها مع جيوش جنكيز خان، وبعد مرور بضعة أجيالٍ على "
القبيلة الذهبية" كانت قد تترَّكت تمامًا، وبحلول القرن الرابع عشر الميلادي كانت إمبراطورية "القبيلة الذهبية" قد اعتنقت الإسلام رسميًّا.
وكان الشعوب الأخرى، سواء الشرقية أو الغربية، تطلق اسم "
التتر" على كلِّ مَن يسكن إمبراطورية "القبيلة الذهبية"، والتتر الأصليون هم قبيلة قديمة من القبائل المغولية، ولَمَّا كان جنكيز خان ينتمي إلى هذه القبيلة، أطلقت الشعوب الأخرى على المغول وكلِّ التابعين له اسم "
التتر".
أما كلمة "
التتر" المستخدمة في الوقت الحالي، فقد أطلقها الروس على جميع الشعوب التركية - بخلاف العثمانيين - على الرغم من أن هذه الشعوب ليست مغولية أو تركية من الناحية العِرْقية أو اللُّغَوية، وتختلف عن بعضها في كثيرٍ من الأمور، ما عدا تحدُّثهم اللغة التركية، وكونهم مسلمين، وكثير من الشعوب التركية في القرن العشرين كانت ترفضُ أن يطلق عليها اسم "التتر"، حتى إنها تستنكر ذلك.
يُمثِّلُ عهد حكم "القبيلة الذهبية" الفترة التي استقرَّت فيها الحضارة التركية الإسلامية في القرم؛ حيث أخذت أسلمة القرم شكلها الأخير، وهكذا فإنه من المؤكَّد أن القرم ظلَّت تحت حكمِ المسلمين لمدَّة خمسة قرون متواصلة.
وبسقوط إمبراطورية "القبيلة الذهبية" وتفكُّكِها استولى "حاجي جراي" على شبهِ جزيرة القرم والسهول الشاسعة الواقعة في شمالها، وأسَّس في الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي أولَ دولة مستقلة للقرم، هي خانية القرم.
وفي عام 1475 عقدت خانية القرم تحالفًا مع الإمبراطورية العثمانية، حتى إنها دخلت تحت حمايتها، وانضمَّ التتر تدريجيًّا إلى الوحدات العسكرية العثمانية، حتى إنهم ذهبوا معهم لمدة ثلاثة قرون في كل غزواتِهم على وسط أوروبا وإيران، وحتى مصر، وزاد التأثيرُ العثماني على خانية القرم، لا سيما في القرن الخامس عشر، لكنها استطاعت أن تظلَّ دولةً مستقلة، وواحدة من أقوى الدول في شرق أوروبا، وكانت خانية القرم هي القوة الوحيدة التي استطاعت أن تُوقِف روسيا في القرن السادس عشر بعدما بدأت تتسع وتقوى في وجه الخانيات التركية المسلمة، وفيما بعد فرضت خانية القرم سيطرتَها على الجزء الغربي من القوقاز أيضًا.
وتشكَّلت الملامح الخاصة للقرم، التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا تحت إدارة الخانية، ولعبت دورًا كبيرًا في تشكُّل شعب القرم التتري التركي المسلم.
ومن جهةٍ أخرى، تُعَدُّ خانية القرم مرجعًا تاريخيًّا لمطالب تترِ القرم اليوم السياسيةِ، بإقامة دولة خاصة بهم على شبه
جزيرة القرم، واستطاعت خانية القرم أن تتحوَّل من مجرد دولة رحَّالة إلى إقامة حضارة تركية إسلامية عاصمتها: (بهتشه سراي)، فكانت في الفترة من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثامن عشر الميلاديينِ وطنًا لعدد كبير من أجلاَّء علماء الدين، ورجال الدولة، والفنانين، والجنود.
وفي القرن الثامن عشر الميلادي بدأ انهيار خانية القرم كما حدث للدولة العثمانية، وفي عام 1774 تم إلغاء الحماية العثمانية على القرم، بعدما نجحت الجيوش الروسية في دخول شبه جزيرة القرم، ومنذ ذلك الحين ولمدة تسع سنوات حاولت روسيا الاستيلاء على شبه الجزيرة عن طريق إثارة الفوضى في البلاد، إلى أن نجحت في عام 1783 في إلغاء خانية القرم، وإلحاقها بالإمبراطورية الروسية.
وبمجرد أن فرضت روسيا سيطرتَها على شبه الجزيرة، ووجدتها ذات طبيعة خلابة لا تضاهيها أي منطقة أخرى، عملت على تطهيرِها من أية عناصر تركية مسلمة بطريقة مُمَنهجة، وكان لا مفرَّ أمام تتر القرم إلا تنظيم حملات هجرة جماعية إلى أراضي الدولة العثمانية، ولم تتوقَّف الهجرات منذ إلحاق القرم بروسيا - وحتى من قبل ذلك بقليل - من شبه الجزيرة إلى تركيا.
وكانت الحكومة الروسية تُشجِّع هجرة تتر القرم بشكل عامٍّ، ولكنها في بعض الأحيان تحدُّ منها عندما تؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة، وكان السبب الأساسي لهذه الهجرات هو سياسة القهر المتَّبَعة تجاه مسلمي القرم، فكان هناك ضغطٌ فعلي ونفسي على الشعب المسلم فيما يتعلق بدينه وثقافته، فخاف الشعب المسلم من التلاعب بهُوِيَّته الدينية، مما دفعه للهجرة، وكان هناك دورٌ للضغوط الاقتصادية أيضًا، ففي أواخر القرن الثامن عشر بدأت عملية سلب أراضي التتر منهم، وإعطائها للروس، مما وضعهم في مركز مادي سيِّئ، وحالة بؤس وشقاء، وعندما كانت العناصر الروسية لا تملأ سَعة الأماكن التي يهاجر منها المسلمون، كانت الحكومة تجلب عناصر نصرانية من اليونان والألمان والبلغار والإيطاليين ليقطنوا هذه الأماكن.
ازدادت الهجراتُ بشكل خاصٍّ في فترة الحرب بين روسيا والدولة العثمانية، وحتى بعد انتهاء الحرب زادت الضغوط على التترِ من قِبَل النِّظام القيصري، وشاعت بين التتر فكرةُ الهجرة إلى أرضِ الخلافة الإسلامية.
وخلال حرب القرم 1853 - 1856 احتلَّت الدولة العثمانية ودول الحلفاء جزءًا من شبهِ جزيرة القرم، مما وضع تترَ القرم تحت المجهر، وانتشرت الشائعات حول تعاونِهم مع العثمانيين، واستمرَّت هذه الشائعات حتى بعدما انتهت الحرب لصالح روسيا، كل هذا إلى جانب سوء الأحوال الاقتصادية للفلاحين الذي أصاب التتر بحالةٍ من الهلع، دفعَتهم إلى الهجرة إلى الدولة العثمانية.
وكانت نتيجةُ هذه الهجرات كارثية؛ فالدولة العثمانية لم تكن مستعدَّة لذلك، وتعرَّض جزءٌ كبير من المهاجرين للغرق في البحر الأسود؛ وذلك لسفرهم بوسائلِ نقلٍ بدائية، وفقَد جزءٌ آخر حياته بسبب الأمراض المعدية، نتيجة ظروف المعيشة السيئة، أما الجزء الذي استطاع النجاة، فقد عاش في بؤس وكفاح، ومَن ظلوا في القرم كانت حالتهم مفقودًا فيها الأمل، بسبب موجةِ معاداة المسلمين هناك، حتى إن جميعهم كان في انتظار دوره للرحيل، وبعد الهجرات التي تمت في 1860 - 1861، فقَدَ تترُ القرم تفوُّقهم العددي الديموجرافي في القرم.
ومرَّ على التتر الذين بقُوا في القرم قرنٌ، أُطلِق عليه "القرن الأسود"؛ حيث تدهورت جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية لمسلمي القرم تحت الحكم الروسي، وتدهور بشكلٍ كبيرٍ نظامُ المعارف الإسلامي الذي يتولَّى مهمة تعليم الأجيال الجديدة.
وفي ظل هذه الظروف لم يكن من الممكن لمجتمعِ تتر القرم الحفاظُ على نفسِه، وعلى الرغم من عملية الانقراض التي كان يتعرَّض لها تتر القرم، ظهر رجل فكر ومصلح عظيم، ليبدأ فترة الصحوة الوطنية، هو (إسماعيل بك جاسبيرالي) 1851 - 1914، وجاسبيرالي سنحت له الفرصة لتلقي التعليم، وللحصول على تجارِب عديدة في سنٍّ شابَّة، على عكس ما هو شائع بين تتر القرم الذين انطوَوا على أنفسهم، فقد تعلم في المدارس الإسلامية في القرم، وفي المدارس الروسية في موسكو، كما أنه سافر إلى الدولة العثمانية وأوروبا، واستطاع تكوين منظور واسع حول الغرب والشرق.
لقد أدرك جاسبيرالي أن مشكلات جميع الشعوب الإسلامية داخل الإمبراطورية الروسية تسيرُ في نفس الاتجاه مع مشكلات تتر القرم، وأن هذه الشعوب ليست إخوة في الدين فقط، ولكن تربطهم عَلاقات لغوية وثقافية كذلك، وفي حالة ما توحَّدت هذه الشعوب التركية المسلمة معًا يمكنها أن تكون قوة كبيرة، ورأى جاسبيرالي أن الأسس الدينية واللغوية والثقافية المشتركة الموجودة فعليًّا، يُمكِنُها أن توحِّدهم في شكل أمة تركية واحدة بالمعنى الحديث، وأنه لا يمكن الوصول لتلك الغاية إلا من خلال نظام تعليم قومي موحَّد يعتمد على لغة تركية أدبية، ويتضمَّن معلومات حول العلوم الدينية والدنيوية، يمكن للطالب استيعابُها بسهولة، وأطلق جاسبيرالي على هذا النظام التعليمي الجديد اسم "
الأسلوب الجديد"، واعتقد أنه سيلقى نجاحًا، غافلاً ردَّ فعل روسيا التي أخذت تتعقَّبه بأقصى درجات الاحتياط.
وكانت وسيلة إسماعيل بك جاسبيرالي في نشر أفكاره القومية والتعريف ببرنامجه الإصلاحي هي جريدة "ترجمان"، التي بدأ صدورها في (
باهتشه سراي) عام 1883، وكانت الجريدة الأولى بين تتر القرم، والثالثة بين أتراك ومسلمي روسيا، وافتتح جاسبيرالي أول مدرسة تتبع "الأسلوب الجديد" في (باهتشه سراي) عام 1884، وعلى الرغم من مواقف القوميين الروس والمبشِّرين المسيحيين المعادية لهذه المدارس، تكوَّنت طائفة من المؤمنين والمؤيدين لهذا البرنامج، سواء داخل القرم نفسها، أو في مناطق أخرى من الإمبراطورية الروسية، واستطاعت جريدة "ترجمان" أن تحقق انتشارًا واسعًا لا مثيلَ له في العالم التركي خلال عشرين عامًا؛ فانتشرت قراءتها من تركستان الشرقية حتى دول البلقان، ومن منطقة الأورال حتى مصر، أما مدارس "الأسلوب الجديد"، فانتشرت في جميع المناطق التي يسكنها المسلمون في روسيا، ووصل عددها إلى خمسة آلاف مدرسة قبل بداية الحرب العالمية الأولى، ومن أهم إنجازات جاسبيرالي تشكيل "مجالس مسلمي روسيا" عن طريق الاستفادة من الحرية النسبية التي تلت انقلاب 1905 في روسيا، واستطاعت تلك المجالسُ الاجتماعَ أربعَ مرات خلال العهد القيصري، وبذلك تمثل أول اتحاد لأتراك روسيا.
تمكَّن الإصلاح التعليمي القومي الذي قام به جاسبيرالي من تنشئة نخبة من المثقَّفين المسلمين في روسيا، وفي البداية كان هؤلاء الشباب يؤمِنون بالأسس الدينية الإسلامية والهُوِيَّة القومية التركية، ثم انتقلوا إلى التأكيد على مفهوم الوطن، وساهموا في تشكيل الهُوِيَّة القومية الحديثة الخاصة بالأتراك المسلمين فى القرم؛ أي: بتتر القرم.
ومع الانقلاب الروسي عام 1905 وإعلان المشروطيَّة في الدولة العثمانية عام 1908، ازدادت العَلاقات بين تركيا وتتر القرم، فجاء معلِّمون من تركيا - معظمهم من تتر القرم في الأساس - لتعليم شباب القرم، كما ذهب شباب القرم إلى إسطنبول، وبذلك استلهموا الأفكار القومية والاستقلالية، التي عن طريقها استطاعوا تشكيل منظمات غير رسمية تزاول أنشطة مختلفة في القرم.
ومع سقوط النظام القيصري وبداية البلشفية عام 1917 أخذت هذه المنظمات الصبغة الرسمية؛ حيث اجتمع مجلس مسلمي القرم في إبريل 1917، وقرَّر أن يتولى شؤون مسلمي القرم عن طريق لجنة تنفيذية مركزية.
وكان عهد حكم الحكومة البلشفية الأولى فترة دامية في تاريخ القرم، انتهت باحتلال الجيوش الألمانية للقرم في إبريل 1918، وبعد انسحاب الألمان من القرم في نوفمبر من نفس العام سقط القرم في فوضى دموية استمرت لعامين؛ حيث سقطت في يد "الجيوش البيضاء" الروسية، ولم تعترف الجيوش البيضاء بحق مسلمي القرم تمامًا، مثلما فعلت الحكومات البلشفية من قبلهم، وفي النهاية استولى البلشفيون على القرم كلها مرة أخرى بعدما هزموا الجيوش البيضاء نهائيًّا في نوفمبر 1920.
قامت الحكومة البلشفية في عامها الأول بالتخلُّص من كل العناصر غير المرغوب فيها في القرم، وبعد ذلك لجأت إلى كسب وُدِّ الشعوب الشرقية واستمالة مسلمي القرم لبسط نفوذها، فأعلنت القرم جمهورية اشتراكية في 18 أكتوبر 1921، مما بشر تتر القرم بإمكانية الحياة وَفْقًا لدينِهم وثقافتِهم، إلا أن جمهورية القرم الاشتراكية شهِدت مجاعة مفجعة لم تشهدها من قبل خلال أشهرها الأولى، نتيجة لسياسات الزراعة المجحفة التي اتبعها البلشفيون، وفقد مئات الآلاف من تتر القرم حياتَهم خلال مجاعة 1921 - 1922.
ثم عاشت القرم في حالة أفضل بعد عام 1922، وبدأت تتخذ خطوات كبيرة في مجال التعليم والثقافة والأدب، في ظل تبعيتها للاتحاد السوفييتي، إلى أن تغيَّرت هذه الظروف جذريًّا مع استيلاء ستالين على الحكم في الاتحاد السوفييتي في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين؛ حيث أعدم رئيس جمهورية القرم الاشتراكية، وبدأ حملة قتل لكل مَن يسير على نهجه، وراح ضحية هذه الحملة عددٌ كبير من مسلمي القرم، كما نفى عشرات الآلاف منهم إلى جبال الأورال وسيبريا وأماكن أخرى، ونتيجة لسياسات ستالين تدمَّرت الزراعة، وبالتالي مر على القرم مجاعة أخرى 1931 - 1933، وكأن هذه المجاعة جاءت لصالح الحكم السوفييتي الذي ترك كثيرًا من الناس - ومِن بينهم تتر القرم - يموتون، وفقد خلالها 15 مليون إنسان حياته، خاصة في أوكرانيا والقرم وكزاخستان، ولم ينكر الحكم السوفييتي موقفه هذا حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ولقد حصل تتر القرم على نصيب وافر من الأفعال الإجرامية التي طبَّقتها حكومة ستالين طوال ثلاثينيات القرن العشرين؛ حيث تم إعدام جميع الطبقة المثقفة من علماء وكتَّاب وتربويين وإداريين ومفكرين من تتر القرم، أو تم نفيهم في معسكرات العمل، ووُطِئت جميع القيم الدينية والقومية لتتر القرم بالأقدام.
وأثناء الحرب العالمية الثانية وقعت القرم تحت احتلال الجيوش الألمانية، وعلى الرغم من أن مسلمي القرم - وجميع مَن سحقهم نظام ستالين - رأَوا الاحتلال الألماني مُنقِذًا لهم، فقد تبيَّن خطأ اعتقادهم هذا منذ الأيام الأولى من الاحتلال، الذي لم يُوفِّر لهم سوى بعض التعويضات المحدودة في مجال الحياة الاجتماعية والدينية، وسيق آلاف من تتر القرم إلى ألمانيا للعمل هناك في مجال الصناعة الحربية جبرًا؛ فقد كانت ألمانيا النازية تُخطِّط لتحويل القرم إلى مستعمرة ألمانية بشكل دائم.
ومن 11 إبريل 1944 حتى 9 مايو استطاع الجيش الأحمر أن يستردَّ كل المناطق التي فقَدها من قبلُ أمام الألمان الواحدة تلو الأخرى، وأخذت الجيوش الألمانية تحرق القرى في الطريق خلال انسحابها من القرم، واتبع الجيش الأحمر نفس النهج أثناء تقدُّمه، واتهم الجيش الأحمر تتر القرم بالخيانة، ومرَّت الأسابيع الأولى من احتلالهم للقرم مريرة على أهله؛ حيث تعرضوا للقتل رميًا بالرصاص، والاغتصاب، والنهب، والسرقة.
لكن الكارثة الكبرى التي حلت على تتر القرم كان قرار ستالين بنفي التتر من وطنهم حتى آخر فرد منهم، الذي وقعه في 11 مايو 1944، فأخذ الجنود الروس توقظ التتر ليلاً، وتُمهِلُهم ما بين 15 - 20 دقيقة فقط لمغادرة الفراش والاستعداد للرحيل، وتسمح لهم بأخذ ما يستطيعون حمله فقط من أمتعتِهم، ثم تحملُهم في سيارات نقل لترحيلهم، وتغلق عليهم السيارات من الخارج بالشمع الأحمر، وتستمر رحلتهم الشاقَّة في سيارة مكدَّسة بالناس الذين لا يجد معظمهم مكانًا حتى للجلوس لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع، وفقد عشرات الآلاف حياتَهم بسبب الجوع والعطش والمرض والإرهاق وقلة التهوية، خلال الرحلة المميتة هذه، التي لا يتوافر فيها الطعام، ولا الماء، ولا الرعاية الطبية.
وكانت واجهة هذه السيارات إما وسط آسيا - خاصة أوزباكستان - أو جبال الأورال، أو سيبريا، وهناك في المنفى لم تكن تتوافر أقل مُقوِّمات الحياة، وفرضت المعيشة على التتر المسلمين في نوع من المخيمات الجماعية تحت نظام أُطلِق عليه اسم "السكن الخاص"، الذي بمقتضاه يتمُّ حراسة التتر، ويؤخذ الغياب والحضور كلَّ مساءٍ، وممنوع على كل فرد منهم الابتعاد عن حيِّه أكثر من 5 كيلو مترات، وفي ظل عمليات النفي هذه تم تفكيك وتشتيت العائلات بشكل ممنهج؛ فقد كانوا يبعثون بكل فرد من الأسرة الواحدة في سيارة نقل مختلفة ذات وجهة مختلفة، بحيث لا يرون بعضهم البعض مرة أخرى، وتحت ظل هذه الظروف العصيبة فقَدَ ما يقرب من نصف مَن تم نفيُهم حياتَه.
ولم يعنِ المنفى مجردَ وفاةِ عددٍ كبير من تتر القرم، وإجبار الآخرين على الحياة في ظروف عصيبة، وإنما كان الهدف منه محوَ كلِّ أثرٍ تركته هذه الأمة من الوجود، فقد سلبت جميع ممتلكات التتر التي أُجبِروا على تركها في القرم، وتم تدميرُ جميع الآثار التاريخية الإسلامية والتركية باستثناء القليل جدًّا منها، حتى مقابر المسلمين لم يتركوها، وتم جمع كل المؤلفات والكتب المكتوبة بلغة تتر القرم من جميع مكتبات الاتحاد السوفييتي، وتم تدميرها جميعًا، وتم تغيير أسماء جميع المدن والقرى والبلدان التي تحمل أسماء تركية إلى اللغة الروسية، ولم يتركوا سوى العاصمة بهتشه سراي، ومدينة جانكوي بأسمائها التركية.
وفي الفترة من 1944 حتى 1980 تم حظر استخدام كلمة تتر القرم رسميًّا في الاتحاد السوفييتي، وأُزِيلت من الموسوعات العلمية، ومن التعداد السكاني، ومن جوازات السفر، وكأنه لم يكن هناك قومٌ اسمهم التتر عاشوا في القرم، وأحضروا مكانهم سكانًا روسًا وأوكرانيين ليُقِيموا هناك، وتم إلغاء دولة القرم الاشتراكية السوفييتية عام 1946.
وفي عام 1954 تم إلحاق شبه جزيرة القرم بجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية، كهديَّة للأوكرانيين بمناسبة مرور 300 عامًا على انضمام أوكرانيا للقرم، ولم يكن لهذه الهدية قيمة وقتها؛ لأن جميع المناطق داخل الاتحاد السوفييتي كانت تحت إدارة موسكو بصورة مباشرة، لكن تبين قيمتها عام 1991 بعد إعلان أوكرانيا استقلالها.
وبعد عام 1956 تميَّزت سياسة عهد (نكيتا خوريتشوف) بالليونة النسبية، مما شجَّع تتر المنفى على التقدُّم بطلبات لموسكو من أجل العودة إلى وطنهم، وتم تنظيم "الحركة القومية لتتر القرم"، التي كانت تبذل مساعيَها في الأُطُر المشروعة التي يُحدِّدها النظام السوفييتي من أجل العودة للوطن، إلا أن كل هذه الجهود لم تُسفِر عن أية نتيجة إيجابية، فاضطرت الحركة إلى مزاولة أنشطتها - التي لا تزال تتبع القوانين - في الخفاء منذ بدايات ستينيات القرن العشرين، واستمرت الحركة القومية لتتر القرم في كفاحها حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان المنتمون للحركة القومية غالبًا ما يتم إلقاؤهم في السجون، ردًّا على مطالبِهم المستمرَّة لعودة التتر، لكن عندما بدأت أنشطة الحركة القومية لتتر القرم تجذب انتباه المجتمع الدولي اضطرَّ الاتحاد السوفييتي لتقديم بعض التعويضات الظاهرية للحركة.
وبالفعل صدر قرارٌ من المجلس الأعلى للاتحاد السوفييتي في 5 سبتمبر 1967 يعترف بأن ما حدث لتتر القرم هو ظلمٌ، وأنهم كمواطنين سوفييت يُمكِنُهم المعيشة في أي منطقة من الاتحاد السوفييتي، إلا أن لغة القرار كانت تؤيد الفكرة التي بزغت عام 1944 بالقضاء على هُوِيَّة تتر القرم، فبدلاً من أن يقول القرار: "تتر القرم" ذكرهم بـ: "التتر الذين كانوا يعيشون في منطقة القرم قديمًا"، وكأنها ليست أرضهم، وكأنهم من تتر قازان وعاشوا لفترة في شبه جزيرة القرم، فبالنظر إلى هذا القرار نجد أنه لا ينوي إعادة جمع التتر للقرم، وإنما يعترف بانتقال حالات فردية فقط، كما أنه أكَّد على حدوث تعاون كبير تم بين تتر القرم مع الأعداء، وادَّعى أنه تم توفير جميع الاحتياجات للتتر في منفاهم، بل وزعم أن تلك الأماكن هي "موطنهم" الأصلي، وأخيرًا ذكر في القرار أنه يمكن للتتر المعيشة في أي منطقة في الاتحاد السوفييتي، غير أنهم لا يريدون المعيشة سوى في وطنهم القرم، بَيْدَ أن القرار ذكر في جزء لم ينشر منه بكل وضوح أنه لن يسمح لهم بالحياة في القرم تحديدًا.
غير أن التتر لم يعرفوا ذلك، فما أن صدر القرار إلا واتَّجه عشرات الآلاف إلى القرم، لكنه لم يسمح لهم بالسكن هناك، وتعرَّضوا لمزيد من العنف، فتم سجنهم أو إجبارهم على الخروج من القرم مرة أخرى، وعلى الرغم مما تعرَّض له مَن ذهبوا للقرم، استمرت حركة التتر للقرم دون أن يكلُّوا أو يملُّوا، وفي كل مرة كانوا يتعرَّضون لأعمال العنف والقهر، وبهذا بدأت مرحلة جديدة من الظلم والأذى لهم، مما دفعهم إلى تكثيفِ جهودهم السلمية من أجل الحصول على حقوقهم، فبدلاً من إرسال الطلبات إلى مسؤولي الاتحاد السوفييتي أصبحت الدعوةُ مُوجَّهة إلى المجتمع الدولي والرأي العامِّ العالَمي، واستمرَّت الحركة القومية لتتر القرم في التعاون مع الحركات الأخرى المؤيدة للديمقراطية والرافضة للحكم السوفييتي، مما ساعد الحركة القومية على وصول صوتِها للعالَم.
واستمر القهر والتعذيب للتتر ولكل مَن يساند قضيتهم منذ النصف الثاني من السيتنيات وطوال السبعينيات، فكان يُزَجُّ بهم في السجون، ويتم إرسال عدد كبير من مؤيِّديهم من الروس واليهود والأوكرانيين والأرمن إلى مستشفيات الأمراض العقلية.
وعندما لم تفلح جهود السوفييت في القضاء على الحركة القومية لتتر القرم، حاولوا إشعال نار الفُرْقة فيما بين التتر أنفسهم، عن طريق السماح بإقامة أعدادٍ قليلة جدًّا منهم في القرم، حتى يضمنوا بقاء الفريق الأعظم ساكنًا، منتظرًا، على أمل الانتقال هو الآخر إلى القرم، وتكثفت جهود السوفييت في محاولة توطين باقي التتر في مناطق منفاهم، وحاولوا في بدايات الثمانينيات إقامة "وطن مصطنع" للتتر القرم في أرض المنفى، وفي الفترة التي لم يسمح فيها للتتر بالسكن في وطنهم القرم، انهالت الهجرات من العناصر السلافية للحياة هناك بعد 1967، وجزء كبير من الروس الذين يعيشون في القرم حاليًّا جاؤوا بعد هذا التاريخ.
واستمر هذا الوضع حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ولم يسمح سوى لعشرة آلاف تتري فقط بالإقامة في القرم، وفي عهد حكم (ميخائيل جورباتشوف) مكث ما يقرب من ألف تتري في الميدان الأحمر في موسكو أربعة أيام وأربع ليالي 23 - 27 يونيو 1987، مما لفت أنظار العالَم، ونتيجة لذلك تم تشكيل لجنة للنظر في طلبات تتر القرم، واستمرت أعمال هذه اللجنة 11 شهرًا، لكنها - كالعادة - تجاهلت مطالب التتر الأساسية بالعودة إلى وطنهم الأصلي القرم، وحاولت إقناعهم باتخاذ المنفى وطنًا جديدًا لهم، فكانت النتائج مُخيِّبة للآمال.
أما الحركة القومية، فاستمرت في تشجيعها للشعب على العودة لوطنهم، وبناءً على ذلك بدأت موجاتٌ كبيرة من هجرة التتر إلى القرم بداية من عام 1988، وعادوا إلى القرم عنوةً، وبنَوا مساكن عشوائية للإقامة بها، وبالطبع قامت بلديات الأحياء بإزالة هذه المباني مرات عديدة، وحدثت مشاحنات كثيرة، لكنهم أيقنوا أن التتر لن يخرجوا مرة أخرى من القرم، ووصل عدد العائدين إلى القرم حتى عام 1987 إلى أربعين ألف تتري.
وفي 29 إبريل 1989 اجتمعت الحركة القومية لتتر القرم في أوزباكستان وقرر أعضاؤها اتِّخاذ شكلٍ رسمي لهم، بدلاً من تلك المحاولات الفردية، وبالفعل تأسَّست رسميًّا منظمة الحركة القومية لتتر القرم، وكان أول رئيس لها هو (مصطفى عبدالجميل قرم أوغلو)، الذي سجن من قِبَل النظام السوفييتي سبع مرات، وقضى 14 سنة في المعتقلات ومعسكرات التشغيل، وتولَّت منظمة الحركة القومية لتتر القرم عملية نقل التتر من مناطق المنفى إلى القرم.
وفي الفترة 1989 - 1991 زاد عدد العائدين إلى القرم، وتولَّت منظمة الحركة القومية عمليةَ تسكينِهم في أراضي القرم، وتعرَّضوا لكثير من المعاناة، إلا أن أكبر مشكلاتهم كانت من الناحية الاقتصادية، ولم تكن هناك مؤسسة أو حكومة تدعم عودة تتر القرم من الناحية المادية، فكان تتر القرم أكثر مَن عانَى من الأزمة الاقتصادية التي تعرَّض لها الاتحاد السوفييتي وهو على شفا الانهيار، وحين تزايدت الأسعار باستمرار في القرم، انخفضت أسعار منازل التتر في أوزباكستان التي أرادوا بيعَها.
وكانت عودة التتر للقرم، والحديث عن إقامة دولة قومية للتتر في القرم مرة أخرى، سببًا في انزعاج الأغلبية الروسية التي كانت تعيش في القرم في ذلك الوقت، وتدارك القوميون والاشتراكيون الروس الموقفَ، وقرَّروا تأسيس دولة القرم التابعة للاتحاد السوفييتي، لكنها لن تحمل قومية التتر، بل الأغلبية؛ أي: الروس، وبهذه الطريقة رفض التتر إقامة مثل هذه الدولة بشدة، ونتيجة لاستطلاع رأي 20 يناير 1991 تم إعلان شبه جزيرة القرم جمهورية القرم السوفييتية الاشتراكية التابعة لأوكرانيا في 12 فبراير 1991، ولم يكن للتتر أيُّ نصيب من إدارة هذه الجمهورية، واستمر الموقف السلبي القديم من عودة التتر للقرم.
وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات بدأ التتر العائدون للقرم في تأسيس منازلَ لهم من ناحية، وإنشاء مؤسسات قومية ودينية وثقافية من الناحية الأخرى، وكان من أهم هذه المؤسسات البرلمانُ القومي لتتر القرم، واجتمع البرلمان لأول مرة في عاصمة القرم (
أقمسجيت) - أي المسجد الأبيض - في 26 يونيو 1991 بعد إجراء الانتخابات بين التتر في القرم والمنفى، وصرَّح هذا البرلمان في "
إعلان سيادة تتر القرم" أن وضع القرم لا يمكن أن يتَّضح سوى من خلال تحديد وضع تتر القرم أنفسهم، وتم تشكيل مجلس قومي لتتر القرم يتكوَّن من 33 عضوًا، وبعد الانتخاب صار (مصطفى عبدالجميل قرم أوغلو) رئيسًا للمجلس القومي لتتر القرم، وعلى الرغم من أن إدارة جمهورية القرم السوفييتية لم تعترف ببرلمان ومجلس تتر القرم القوميين، فإنها لم تستطع منعَهما، وفي مدة قصيرة استطاع المجلس القومي لتتر القرم تأسيسَ منظمات محلية في كافة أنحاء القرم.
وبعد انقلاب أغسطس 1991، وانهيار الاتحاد السوفييتي تمامًا، وبداية انفصال الدويلات عنه، أصبحت القرم جمهوريةً ذاتَ حُكم ذاتي تابعة لأوكرانيا المستقلة، إلا أنه في تلك المرحلة بدأ الروس المقيمون في القرم بالمطالبة بالاستقلال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا، وفي الوقت ذاته كانت القوى القومية في روسيا تُؤيِّد بكل جلاءٍ الروسَ المقيمين في القرم، حتى إن القاعدة الأساسية للأسطول السوفييتي السابق في البحر الأسود لا تزال موجودة في مدينة (
أقيار) في القرم، وتمثل محل خلاف بين روسيا وأوكرانيا، أما المجلس القومي لتتر القرم، فحمَّل روسيا جميع الكوارث التي حلت بتتر القرم المسلمين على مدار أكثر من قرنين، وتصدى بشكل قاطع لفكرة ضم القرم إلى روسيا.
ومن جهة أخرى عمِل المجلس القومي على توثيق صلتِه بتتر القرم المقيمين في الدول الأخرى، وبدأ في التواصل مع حكومات بعض الدول، على رأسها تركيا، وبعض الدول الأوروبية، ودول الاتحاد السوفييتي السابق، وأرسل ممثلين له لإقامة عَلاقات سياسية وثقافية جادَّة مع هذه الدول، ونتيجة لتلك الجهود حصل تتر القرم على تأييدِ المنظمات الرسمية والمدنية في تركيا، وعلى الرغم من أن هذا التأييد لم يكن كافيًا لإعادة مئات الآلاف من مسلمي تتر القرم إلى وطنهم، أو لتلبية احتياجات عشرات الآلاف من التتر المقيمين في القرم في ظل ظروف معيشية متدنِّية للغاية، فإنه يُعَدُّ خطوةً هامَّة تستحق الذكر، كما حدثت انتعاشةٌ في الحياة الدينية والثقافية لتتر القرم، فعلى الرغم من كل الصعاب بدأ تأسيس المساجد والمدارس والمراكز الثقافية القومية في جميع أماكن سكن المسلمين التتر في القرم.
وفي عام 1993 تم اتخاذ قرار بكتابة لغة تتر القرم بالأبجدية اللاتينية - استنادًا على الأبجدية المستخدمة في تركيا - وفي تلك الأثناء تم تأسيس الإدارة الدينية لمسلمي القرم.
ومن جهة أخرى استمرت مسألة عودة التتر لوطنهم بلا حل، بينما استمر التوتر بين تتر القرم والقوميِّين الروس القابضين على مقاليد الحُكم المحلي في القرم، وفي النهاية توصَّل الطرفان إلى حل وسط في مسألة تمثيل تتر القرم؛ حيث حدثت تعديلات في قانون الانتخاب في 14 أكتوبر 1993، سمحت للتتر بالحصول على 14 مقعدًا في البرلمان، فكانوا جميعًا من أعضاء المجلس القومي لتتر القرم.
وبهذا أصبح لتتر القرم تأثيرٌ أكبر في السياسات المحلية في جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي، بَيْدَ أن الجماعات الروسية الشيوعية دائمًا ما حاولت تُضيِّق الخناق على مجموعة المجلس القومي لتتر القرم، وحدثت بينهم مشادات عنيفة، لكن على الأقل بدأ يكون للتتر كلمة، ولو كانت محدودة، لأول مرة منذ نفيِهم، ومع ذلك لم يتم إحراز أي تقدُّم في الأمور الهامة الخاصة بتتر القرم، مثل: عودة مَن بالمنفى، أو توفير المسكن والعمل والرعاية لعشرات الآلاف من البؤساء في القرم، أو ضمان الدستور الأوكراني والقومي لحقوق تتر القرم القومية مثل أقرانهم الأوكرانيين، ومن جهة أخرى كان تتر القرم أكثر مَن يتعرض لأذى وجود المافيا في جميع جوانب حياتهم اليومية.
واتضح بعد ذلك أن تمثيل التتر بـ: 14 مقعدًا في البرلمان كان لمرة واحدة فقط، ورفضت القوى المهيمنة على القرم تجديد هذا الحق، أو منحه للتتر بشكل دائم، ولم يحظَ التتر بأي تأييد من (
كييف)، حتى إنهم لم يسمحوا لمائة ألف تتري بالإدلاء بأصواتِهم في انتخابات 29 مارس 1998 لعدم منحهم الجنسية، وبذلك لم يستطع التتر الحصول على أية عضوية في البرلمان، حتى وإن كان عددهم في شبه جزيرة القرم كثيرًا إلى حد ما، وهكذا تم عقد اجتماعات برلمان جمهورية القرم دون أي تمثيل لتتر القرم فيها، وبدأ استبعادهم من الحياة السياسية مجددًا، لكن التعزية الوحيدة كان مقدرة (
مصطفى عبدالجميل قرم أوغلو) - رئيس المجلس القومي لتتر القرم - ومساعده (
رفعت تشوبار) على دخول البرلمان الأعلى الأوكراني.