رؤيــــة إســـــلامية
د . عبد الحميد عبد المجيد عبد الحميد حكيم
رئيس قسم التربية وعلم النفس
وأمين مجلس كلية المعلمين بمكة المكرمة
ربيع الأول 1422هـ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ،،، وبعد .
تتطرق الدراسة لموضوع له صلة وثيقة بالإنسان ، ذلك المخلوق الذي اختلفت نظرة المذاهب والعقائد له من حيث ما حقيقته ؟ ويندرج تحت هذا السؤال أمور عديدة منها مما يتكون ؟ هل هو خير أو شرير ؟ وغير ذلك من تساؤلات تعددت الإجابات عنها .
ذلك العلم هو علم النفس والذي تحاول الدراسة الحالية التطرق لأحد فروعه ، ألا وهو علم النفس التربوي ، لما له من صلة وثيقة بالعملية التربوية ، ودراسة الموضوعات التي يتناولها كتاب من كتب علم النفس التربوي يدرس لطلاب الإعداد التربوي ، من وجهة نظر إسلامية ، في محاولة لتأصيل ذلك الفرع من فروع علم النفس تمهيداً لأسلمة بقية الفروع الأخرى لعلم النفس ، وتعود كما كانت في أساسها وجميع العلوم إسلامية المصدر والتوجه ، تساعد الفرد على القيام بمهمته في هذه الأرض وفق منهج الله تعالى ، ويحقق الغاية من خلقه لينعم بالسعادة في الدارين .
والله أسال التوفيق والسداد ، فنعم المولى ونعم النصير .
أهمية الدراسة :
تنبع أهمية الدراسة من أهم موضوع الدراسة والذي يتناول أحد فروع علم النفس ألا وهو علم النفس التربوي ، وهو علم يدرس لطلاب الجامعات في البرنامج التربوي من خلال مادة تحمل الاسم نفسه ، ويدرس لطلاب كليات المعلمين ، فهو علم لابد أن يلم به كل مربي وكل معلم على وجه الخصوص ليتمكن من القيام برسالة التربية والتعليم على خير حال حيث يتطرق هذا العلم لنظريات التعلم التي تعين على التعلم بحول الله تعالى ، ومن هنا تنبع أهمية الدراسة .
الهدف من الدراسة :
تهدف الدراسة إلى التعرف على مفهوم ونشأة علم النفس وخاصة علم النفس التربوي ، وما هي فروع علم النفس ، ثم التعرف على أبرز نظريات التعلم وروادها ، وما أوجه القصور في تلك النظريات وكيف يمكن أسلمة علم النفس ، وما الصعوبات التي تواجه الأسلمة ، للتوصل في النهاية إلى توصيات تعين بحول الله تعالى على أسلمة علم النفس .
مشكلة الدراسة :
تنحصر مشكلة الدراسة في الإجابة عن السؤال التالي :
س / ما أوجه القصور في نظريات التعلم ؟
ويتفرع عن هذا السؤال الأسئلة التالية :
س1 / ما مفهوم علم النفس ، وما هي أهدافه ، وما فروعه ؟
س2 / متى ظهر علم النفس التربوي ؟ وما مفهومه ؟ وما موضوعه ؟
س3 / ما أبرز نظريات التعلم ؟ وما أوجه القصور فيها ؟
س4 / ما هي الصعوبات التي تواجه الأسلمة وكيف يمكن أسلمة علم النفس ؟
منهج الدراسة :
استخدم الباحث المنهج الوصفي للتعرف على علم النفس ، وأبرز نظريات التعلم ، مع الاستعانة بالمنهج التاريخي للتعرف على نشأة علم النفس وعلم النفس التربوي ، والاستشهاد بعدد من الآيات والأحاديث لتدعيم الدراسة .
الدراسات السابقة :
هناك العديد من المصنفات التي تناولت موضوع الأسلمة عامة أو أسلمة علم النفس،وقد استفاد منها الباحث وأشار إليها في قائمة المراجع ، ولم يعثر الباحث على دراسة تناولت أوجه القصور في نظريات – نماذج – التعلم ، وهو موضوع الدراسة الحالية .
مفهوم علم النفس وأهدافه وفروعه
أولاً : مفهوم علم النفس :
إن تعريف علم النفس يعد إشكالية في حد ذاته ، فله تعاريف كثيرة يحاول كل واحد منها أن يعرفه بحسب تصوره لذلك العالم ، ومن خلال تلك التعاريف يمكن التعرف على المراحل التي مر بها علم النفس .
وأقدم تعريف له هو أنه علم يبحث عن الروح ، بينما عرفه الفلاسفة بأنه علم العقل إلى أن جاء رينيه ديكارت وأصبح علم النفس هو علم الشعور وذلك في القرن 17م .
وفي القرن العشرين أصبح علم النفس هو علم دراسة السلوك في دوافعه ومظاهره وأهدافه ، ويلخص وود ورث هذه المرحل بقوله : إن علم النفس قد زهقت روحه أولاً ثم أنه فقد عقله ثم أنه زال شعوره ولم يبق فيه اليوم إلا السلوك الظاهري للإنسان
( 1) .
ومن تعاريف علم النفس :
1) هو : " الدراسة العلمية لسلوك الإنسان ولتوافقه مع البيئة " ( 2 ) .
2) هو : " العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن حي له نشاطاته الداخلية والخارجية المتفاعلة مع مختلف ظواهر حياته الإنسانية " ( 3 ) .
3) هو : " العلم الذي يدرس سلوك الكائن الحي ، وما وراءه من عمليات عقلية دوافعية ودينامياته وآثاره ، دراسة علمية يمكن على أساسها فهم وضبط السلوك والتنبؤ به والتخطيط له " ( 4 ) .
4) هو : " علم الخبرة والسلوك " ( 5 ) .
5) هو : " العلم الذي يبحث دوافع السلوك ومظاهر الحياة العقلية الشعورية منها واللاشعورية دراسة إيجابية موضوعية ، تساعد إلى إفساح المجال للقوى والمواهب النفسية كي تنمو وتستغل فيما يساعد على حسن التكيف مع البيئة وما يؤدي إلى تحسين الصحة النفسية للأفراد والجماعات " ( 6 ) .
6) هو : " الدراسة العلمية لسلوك الإنسان ولتوافقه مع البيئة "( 7) .
ومن خلال تلك التعاريف لا نجد إشارة للدين أو القيم الخلقية ، مع إغفال لجانب الروح ، ولذا يعرف الباحث علم النفس بأنه : ذلك العلم الذي يختص بدراسة السلوك الإنساني بشتى مناهج البحث ليحقق الاتزان النفسي للإنسان ليتمكن من القيام بمهام الخلافة وتحقيق العبودية لله تعالى بمعناها الشامل .
ويلاحظ أن علم النفس يهتم بدراسة السلوك ، بل إن من تعاريف علم النفس ، أنه ذلك العلم الذي يدرس سلوك الإنسان ، فما هو المقصود بالسلوك ؟
إن السلوك هو كل ما يصدر عن الفرد من استجابات مختلفة تجاه موقف يواجه والاستجابة هي كل نشاط يثيره فيه أو مثير .
وللاستجابة أنواع متعددة ، فقد تكون حركية أو لفظية أو فسيولوجية – أرتفاع ضغط الدم مثلاً - أو انفعالية أو معرفية – أي يراد بها كسب معرفة كالنظر والتفكير – أو الكف عن النشاط – كالتوقف عن الأكل عند سماع صوت معين - .
أما المنبه أو المثير فهو : " أي عامل داخلي أو خارجي ، يثير نشاط الكائن الحي أو نشاط عضو من أعضائه أو يغير هذا النشاط أو يكفه أو يعطله "
( 8 ) .
وينقسم السلوك إلى :
1) سلوك ظاهري : كالأكل والشرب .
2) سلوك باطني : كالتفكير والتخيل وينقسم إلى :
أ - سلوك باطني عقلي : كالتفكير والتخيل .
ب – سلوك باطني وجداني : الانفعالات والعواطف .
3) سلوك فطري : وهو الذي يولد مع الإنسان .
4) سلوك مكتسب :وهو ما يتعلمه الإنسان أثناء حياته .
5) سلوك سوي : وهو ما يتفق وقيم وعادات المجتمع ، وبالنسبة لنا ينبغي أن يتفق مع عقيدتنا الإسلامية .
6) السلوك الشاذ وهو عكس السلوك السوي ( 9 )
ثانياً : أهداف علم النفس :
لعلم النفس ثلاثة أهداف هي :
1 – فهم السلوك وتفسيره . 2 – التنبؤ بما سيكون عليه السلوك .
3 – ضبط السلوك والتحكم فيه بتعديله أو توجيهه أو تحسينه أو إزالته .
وبلورة هذه الأهداف استغرق عمر علم النفس منذ نشوئه وحتى عصرنا الحاضر فقد كانت البداية دراسة نفسية قائمة على التأمل النظري بهدف المعرفة البحتة ، أي المعرفة للمعرفة ، من خلال وصف الظاهرة وتقديم تفسير لها ، بعد ذلك ونتيجة لتشعب المعلومات والأفكار عن النفس الإنسانية تبلور الهدف الثاني وهو محاولة التنبؤ بما سيكون عليه السلوك في ضوء معرفة الظروف النفسية المعلومة في الوقت الحاضر ، ومع إزدياد المعلومات عن النفس الإنسانية واستخدام علماء النفس بعض المبادئ النفسية في ميدان الحياة التطبيقية لأعمال الإنسان اليومية برز الهدف الثالث وهو هدف تطبيقي
( 10 ) .
ويلاحظ أن قصور علم النفس الغربي يعود لقصور الأهداف ، فهي تنصب على السلوك المتعلق بالجانب الجسمي وتهمل الجانب الروحي رغم تأثيره الكبير في نفس الإنسان بالإضافة إلى أن ضبط السلوك يحتاج لمعيار قيمي خلقي لتتمكن من ضبط السلوك في ضوء تلك المعايير .
وقصور أهداف علم النفس يعود بدوره لقصور النظرة لحقيقة الإنسان والتي تهتم بجانب وتغفل أو تنكر جانب آخر .
والجدير بالذكر أن علم النفس علم وصفي تقريري كغيره من العلوم الوصفية يدرس ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون ، أي ما هو واقع لا ما هو واجب
( 11 ) .
ثالثاً : فروع علم النفس :
تعددت فروع علم النفس وأقسامه نتيجة لازدياد التخصص الدقيق ، وظهور أهمية فهم النفس ليتسير الأعمال في كافة الاتجاهات .
أ - الفروع النظرية
( 12 ) :
هي الفروع التي تهدف إلى العلم المجرد ، أي الكشف عن مبادئ وقوانين تسيطر على السلوك ولا تهدف إلى نفع مباشر أو حل مشكلة عملية ، ومن تلك الفروع .
1) علم النفس العام : ويهدف الكشف عن المبادئ والقوانين التي تفسر سلوك الإنسان الراشد السوي ، وهو أساس جميع الفروع الأخرى .
2) علم النفس الفارق : يهدف لدراسة الفوارق وأسبابها بين الأفراد أو الجماعات أو السلالات في الذكاء أو الخلق أو الشخصية .
3) علم النفس الارتقائي : يدرس مراحل النمو المختلفة ، وله عدة مسميات منها علم النفس التطوري ، علم نفس النمو ، ومن فروعه سيكولوجية الطفولة ، سيكولوجية المراهقة ، سيكولوجية الشيخوخة .
4) علم النفس الاجتماعي : يدرس سلوك الأفراد والجماعات تحت تأثير العلاقات الاجتماعية المختلفة ، وطرق حل وإصلاح المشكلات الاجتماعية .
5) علم نفس الشواذ : يهدف إلى البحث عن نشأة الأمراض النفسية والأمراض العقلية وأسبابها ، كما يدرس العبقرية والتفوق العقلي .
6) علم نفس الحيوان : يبحث في سلوك الحيوانات المختلفة ، ومحاولة الإجابة عن أسئلة حول قدراتها العقلية وأوجه الشبه والاختلاف بينها وبين الإنسان .
7) علم النفس المقارن : يقارن سلوك الإنسان بالحيوان ، وسلوك الراشد بالطفل وسلوك الإنسان البدائي بسلوك المتحضر ، وسلوك السوي بالشاذ .
وهناك فرع آخر هو علم النفس الفسيولوجي والذي يدرس الأسس الفسيولوجية لسلوك الإنسان
( 13 ) .
ب – الفروع التطبيقية :
وهي التي تهدف تحقيق أغراض عملية وحل مشكلات عملية ، مع الاستعانة بمبادئ وقوانين فروع علم النفس النظرية ، ومن أبرزها :
1) علم النفس التربوي : يهتم بتطبيق مبادئ علم النفس وقوانينه على ميدان التربية والتعليم في محاولة لحل مشكلاته ، ويهتم كذلك بدراسة الشروط الأساسية لعملية التعلم .
2) علم النفس الصناعي : يهتم بتطبيق مبادئ علم النفس في ميدان الصناعة لرفع مستوى الكفاية الإنتاجية للعمال ( 14 ) .
3 ) علم النفس التجاري .
6 ) علم النفس الجنائي .
4 ) علم النفس الإداري .
7 ) علم النفس الحربي .
5 ) علم النفس القضائي.
8 ) علم النفس الاكلينكي ( العيادي ) والذي يهدف إلى تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية .
9 ) علم النفس الإرشادي : ويهدف إلى مساعدة الأسوياء من الناس على حل مشاكلهم بأنفسهم ، سواء في مجال التعليم المهني أم الأسري أم الجنسي من خلال إسداء النصح إليهم أو تزويدهم بمعلومات تفيدهم أو تشجيعهم على الإفصاح عن متاعبهم وانفعالاتهم وأحياناً يتدخل في العلاج النفسي لغير الأسوياء ( 15 ) .
10) علم نفس الدعوة : وهو يدرس الاتجاهات النفسية للجماعات المطلوب الدعوة داخلها وأساليب تغيير تلك الاتجاهات إن كانت فاسدة ، وطرق توصيل المعلومات إليها وكيفية إعداد الداعية الناجح ، وهذا النوع يفيد مع علم النفس التربوي في مجال نشر الدعوة الإسلامية على المستوى العالمي ( 16 ) .
نشأة علم النفس التربوي ومفهومه
أولاً : نشأة علم النفس التبربوي :
لعلم النفس التربوي تاريخ قصير حيث أنه ظهر بعد ظهور علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر كعلم تجريبي ، وكانت تتنازع واقعه نظرية الملكات من جانب والفلسفة الارتباطية من جانب آخر ، ولقد تأثرت المحاولات الأولى للاستفادة من مبادئ علم النفس في ميدان التربية بأحد الاتجاهين ، وإن كان لنظرية الملكات السيطرة على بدايات علم النفس التربوي ، وهي ترى أن العقل الإنساني يتألف من قوى مستقلة كالذاكرة والإرادة تؤدي إلى حدوث الأنشطة العقلية المختلفة .
ومع قرب نهاية القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام بتطبيق مبادئ علم النفس في المجال التربوي ، بعد أن تقرر اعتبار علم النفس التربوي مادة ضرورية لإعداد المعلم في عام 1888م ، عندما عقدت الجمعية التربوية القومية بالولايات المتحدة الأمريكية وقررت ذلك مما مهد لدخول علم النفس التربوي الجامعات كتخصص رئيسي ، وأنشئت لذلك ثلاث وظائف أستاذية جامعية متخصصة في هذا الميدان شغلها ثلاثة من الرواد هم : إدوارد لي ثورنديك ، وتشارلز هـ . جر ، ولويس م . ترمان ، وانطلق أولئك الرواد وتلاميذهم يرتادون مختلف موضوعات علم النفس التربوي حتى تحدد بشكل واضح عام 1920م
( 17 ) .
ومن هذا يتضح أن هذا العلم كعلم له مبادئ ونظريات لم يظهر إلا منذ مدة قصيرة وفي بيئة غربية تنحي الدين والقيم جانباً . في حين أن أصول هذا العلم أشار إليها القرآن الكريم كحقائق وليست نظريات منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ، وسيتضح هذا من خلال معالجة بعض موضوعات هذا العلم من المنظور الإسلامي خلال الصفحات التالية :
ثانياً : مفهوم علم النفس التربوي :
يمكن أن يعرف علم النفس التربوي بأنه : " الدراسة العلمية للسلوك الإنساني الذي يصدر خلال العمليات التربوية ، وبعبارة أخرى هو : العلم الذي يهتم بعمليات التعلم والتعليم الذي يتلقاه التلاميذ في المواقف المدرسية "
( 18 ) .
ويعـرفه أحـمد زكي صالح بأنه : " الدراسة المنهجية العلمية لعملية النمو التربوي أو التعليمي "
( 19 )
ومن هذا يتضح أن علم النفس التربوي يشمل دراسة نفسية للإنسان من حيث استعداده للتعلم ، وما لديه من قدرات إدراكية عامة ، وخاصة مما يعود بالفائدة على المؤسسات التربوية والتعليمية ، ومع دراسة الميول النفسية التربوية كالتقليد والتداعي والنسيان بالإضافة لدراسة انتقال أثر التدريب وتنظيم عملية الانتقال ، وغير ذلك من موضوعات ذات علاقة بعمليات التربية والتعليم والتعلم ومن أسس نفسية تفيد المعلم والطالب في سبيل الارتقاء بالعملية التربوية .
( 20 ) ويعتبر إدوارد لي ثورنديك ( 1874م – 1949م ) أول من استعمل مصطلح علم النفس التربوي .
( 21 ) كما أنه أطلق عليه أيضاً اسم علم النفس التعليمي ويعرف الباحث علم النفس التربوي بأنه : الفرع التطبيقي لعلم النفس في المجال التربوي .
ثالثاً : موضوع علم النفس التربوي :
يمكن إيجاز موضوعات علم النفس التربوي كما يلي :
1) النمو المعرفي والجسمي والانفعالي والخلقي والاجتماعي .
2) عمليات التعلم ونظرياته وطرق قياسه وتحديد العوامل المؤثرة فيه .
3) قياس الذكاء والقدرات العقلية وسمات الشخصية والتحصيل ، وأسس بناء الاختبارات التحصيلية ، وشروط الاختبارات النفسية والتربوية .
4) التفاعل الاجتماعي بين التلاميذ ، وبين التلاميذ والمعلمين .
5) الصحة النفسية للفرد والتوافق الاجتماعي والمدرسي .
وكل موضوع مما سبق يشمل العديد من الموضوعات الفرعية ذات العلاقة به ، ومن هذا يتضح أن علم النفس التربوي مزيج من موضوعات متناثرة مختلفة مختلطة تنمي معظمها لفروع علم النفس الأخرى ، وهذه من مشكلات هذا العلم ، حيث أنه في كل مرحلة من مراحل تطوره ، تضاف إليه مهام جديدة تؤدي إلى اتساع ميدانه ؛ فمثلاً : خلال الثلاثينيات زاد الاهتمام بموضوع سيكولوجية المواد الدراسية ، فتضمنت مؤلفات علم النفس التربوي بحوثاً تفصيلية في تدريس وتعلم تلك المواد ، مما هو في جوهره ضمن مجال الفنون التكنولوجية الخاصة بطرق التدريس .
وفي الأربعينيات زاد تأثير المفاهيم الإكلينيكية المشتقة من ميدان الطب العقلي والعلاج النفسي فاهتمت كتب علم النفس التربوي بمشكلات التوافق والصحة النفسية ، إلا أن علم النفس التربوي المعاصر اتجه لمزيد من تحديد موضوعه الأساسي و هو التعلم المدرسي أو التعلم في شكل منظومة ، ومن أكثرها شيوعاً ما اقترحه روبرت جليزر عام 1962م وفيه تتألف المنظومة الأساسية للعملية التعليمية من أربعة مكونات رئيسية هي : الأهداف التربوية والمدخلات السلوكية ، وعمليات التعلم وأساليبه وإجراءاته ، والمكون الأخير هو التقويم التربوي.
وهي منظومة مفتوحة ليس لها بداية معلومة أو نهاية محددة ، ولا تتطلب التحكم الخارجي لأنها في ذاتها قوى الضبط الداخلي ، وعادة تكون في تغير مستمر
( 22 ) .
فهو يهتم بدراسة السمات الرئيسية لمراحل النمو المختلفة ، لكي يمكن للمربين وضع المناهج الدراسية التي تتناسب مع مستويات النضج المختلفة ، لتستطيع تلك المناهج أن تحقق أهدافها ، كما يهتم بدراسة السمات الرئيسية لمراحل النمو المختلفة لكي يمكن للمربيين وضع المناهج الدراسية التي تتناسب مع مستويات النضج المختلفة ، لتستطيع تلك المناهج أن تحقق أهدافها ، كما يهتم بدراسة المبادئ والشروط الأساسية لعملية التعليم ليتمكن المربون من تهيئة الجو التربوي الصحيح بحيث يضمنون تعليم التلاميذ بطريقة صحيحة ، وتعويدهم العادات الحسنة والاتجاهات الصحيحة ، كما يهتم بإجراء التجارب لمعرفة أفضل المناهج التعليمية ، وهو يستعين بالخبرات السيكولوجية لقياس ذكاء الطلاب وقدراتهم العقلية ولتقدير كفايتهم في التحصيل العلمي
( 23 ) .
وذلك نظراً لأهمية موضوع التعليم ، والذي يمكن أن يشبه بمحور تدور حوله الكثير من موضوعات علم النفس ، إضافة لكون موضوع التعلم هو الجانب الأساسي لعلم النفس التربوي لأنه يمثل الجانب التطبيقي لعلم النفس .
إبراز نظريات نماذج التعلم وأوجه القصور فيها
ويقصد بها النظريات التي تسعى إلى رد السلوك المركب إلى أنماط السلوك البسيط وتفسيرها ، ومن تلك النظريات :
1 = نظرية التعلم الشرطي الكلاسيكي :
وهي أول النظريات الاختزالية ظهوراً وأكثرهاً شيوعاً ، ومؤسسها عالم الفسيولوجيا الروسي إيفان بافلوف ، الذي لاحظ أثناء إجراء تجاربه على الجهاز الهضمي للكلاب – خاصة الغدد اللعابية – أن الحيوان يفرز لعابه حين يتعرض لبعض المثيرات التي ترتبط ارتباطاً متكرراً بالطعام – مسحوق اللحم – وليس حينما يوضع الطعام في فمه فعلاً والمعروف أن وظيفة اللعاب الفسيولوجية هي تيسير مضغ الطعام وبلعه ثم هضمه ، ولكن بافلوف لاحظ أن الكلب يفرز اللعاب لمثيرات أخرى محايدة ، وهذا يدل على أنه يستجيب لمثير آخر سماه بافلوف المثير الشرطي تميزاً له عن المثير الطبيعي ، ثم أصبح يطلق على هذا النوع من التعلم مصطلح التعلم الشرطي الكلاسيكي .
ولقد قام واطسون ورينر عام 1920م بتجربة شهيرة مماثلة لتجربة بافلوف ، ولكن كانت حول الطفل ألبرت والذي تسمت التجربة باسمه ، وكان عمره 11 شهراً ، واستخدما معه أسلوب التعلم الشرطي بإظهار فأر أمامه – مثير شرطي – يصحب ذلك ضوضاء مرتفعة – مثير طبيعي – تؤدي إلى استجابة الخوف لدى الطفل
( 24 ) .
كما قامت جولز عام 1924م باستخدام هذه النظريات لا لغرس استجابة طبيعية لمثر محايد – شرطي – بل لإلغاء استجابة طبيعيـة تجاه مؤثر محايد – شرطي – وذلك بإزالة استجابة الخوف عن طفل كان يخاف من الأرنب عن طريق تقديم أرنب أبيض بمصاحبة مثير يثير السرور لديه – تقديم حلوى مثـلاً – وتمكن الطفل بالتدريج من التخلص من خوفه المرضي
(25).
أوجه قصور نظرية التعلم الشرطي الكلاسيكي :
1) مجال التجربة عند بافلوف طبق على الحيوان ، وبدون شك هناك فروق كبيرة بين الإنسان والحيوان ، ولو كان هناك تشابه من حيث وجود بعض الغرائز قال تعالى :]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[الإسراء 70 .
2) إن نتيجة تجارب بافلوف على الحيوان أثبتت صحتها على الإنسان من خلال تجارب واطسون ورفيقه وتجربة جولز ، ولكن هناك فرق بين الطفل ذو الأحد عشر شهراً والرجل الراشد صاحب الشخصية السوية ، وهذا واضح في عدم تكليف الدين الإسلامي لكل من هو دون البلوغ أو بلغ ولكن به مرض عقلي بأمور كُلف بها كل راشد .
3) إن الطفل إنسان ويصدق على الراشد ما يصدق عليه ، ولكن ألا يلاحظ أن الراشدين أنفسهم تختلف استجابتهم بحسب إدراكهم للمثيرات نظراً لاختلاف العوامل التي يتعرض لها كل منهم ، فمثلاً قد يرى عدة أشخاص أشهى أنواع الطعام ولكن نلاحظ أن استجاباتهم تختلف ، فهناك الصائم ، وهناك المريض والمحمي من هذا النوع ، وهناك من معدته متخمة بالطعام ، ، وهناك الجائع الذي لم يتناول أي طعام خلال اليوم ، وهناك الجائع لأكثر من يوم ، فالأول لن يستجيب والثاني والثالث قد لا يستجيبا وقد يستجيبا فيأكل كل منهما لقيمات ، ولكن الرابع والخـامس سيستجيبا ويظهر عليهما ولكن درجة الاستجابة عند الخامس أشد منها عند الرابع .
4) إن هــذه التجارب تمـت والكائن الحي تم تقييده على منضدة ، وإن قلنا أن هذه النظرية تثبت التعـلم إلا أنه بالإكراه وما نبغيه : " هو التعلم الناتج عن النشاط الذاتي الحر "(26) .
5) إن هذه النظرية لا تستطيع أن تفسر بعض ظواهر التعلم المركبة مثل اكتساب المهارات الحركية الاختيارية الإرادية أو تعلم أفضل طرق حل المشكلات .
6) على افتراض أن الجميع يشتهون هذا الطعام وكلهم جياع ، وقدم لهم الطعام سنلاحظ اختلاف الاستجابات لا بسبب العوامل التي يتعرض لها كل منهم ، بل لأمر أغفله علم النفس الحديث وانعكس هذا على علم النفس التربوي ، وهو جانب الروح في تكوين النفس الإنسانية وما تعتقده من قيم ؛ فهناك من يبدأ بآداب الطعام – غسل اليدين ، التسمية ، الأكل مما يليه .. الخ – والبعض سيستجيب كما استجاب صاحب بافلوف .
ولقد أوضح r اختلاف الاستجابات من فرد آخر بحسب القيم التي يعتقدها بقوله عليه الصلاة والسلام في صفات السبعة الذين يظلهم الله بظله ذكر منهم : ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله .
ومن هنا لا نسلم بصحة هذه المعادلة م س على إطلاقها وإن كانت صحيحة في حالات خاصة فيجب التنبيه لذلك من قبل كُتاب علم النفس التربوي وعدم تعميم نتائجها ، وبيان أوجه القصور فيها ، ومراعاة الدقة في صوغ عبارات الكتاب خاصة وأنه يدرس للطلاب ، ففي هذه النظرية يعلق / أبو حطب بقوله : " ويتشابه الإنسان مع الحيوان في النظام الأول " ( 27 ) وفي هذا مساواة مرفوضة نقلاً وعقلاً وإن كان هناك تشابه فلا بد من توضيحه ، وفي أي جانب يكون .
7) إن الإنسان الواحد تختـلف استجابته مـن موقف لآخر بحسب المواقف والحالة النفسية التي هو فيها ، وهذا ما غفلت عنه جميع نظريات – نماذج – التعلم المتبعة لمعادلة م س .
2 = نظرية – نموذج - الاقتران :
وصف هذا النموذج العالم الأمريكي إدوين جاثري ، فيبدأ بمبدأ واحد من مبادئ الاشتراط وهو مبدأ الاقتران باعتباره المبدأ العام الوحيد الذي يفسر النتائج الاصطناعية – في رأيه – التي اعتمدت عليها نماذج التعلم الشرطي الكلاسيكي ، وهذا المبدأ لا يعتمد اعتماداً وثيقاً على نموذج التجريب الذي استخدمه بافلوف ، ويرى جاثري أن نمط المثير يصل إلى قوته الارتباطية الكاملة في أول فرصة يقترن فيها مع الاستجابة فهو لا يعتقد بالتكرار
( 28 ) .
فالقانون الرئيسي للتعلم في هذا النموذج هو قانون الاقتران الذي صاغه جاثري بقوله: " إذا نشط مثير ما وقت استجابة معينة فإن تكرار هذا المثير يؤدي إلى حدوث تلك الاستجابة "
( 29 )
فالتعلم عند جاثري يتم من أول عملية اقتران بين المثير والاستجابة ، دون تكرار ذلك الاقتران كما هو الحال عند بافلوف وواطسون وجولز ، لأن التكرار لا يعزز ما تتعلمه فالاقتران إما يحدث وإما لا يحدث من أول محاولة ، ومما يساهم في تكوين هذا الاقتران التقارب الزماني والمكاني .
أوجه القصور في نظرية – نموذج – جاثري :
1) عبارة عن مجموعة من الآراء التي تحاول شرح بعض المواقف التعليمية دون استخدام المنهج التجريبي الدقيق .
2) لا يزال هذا النموذج عاجزاً عن فهم وتفسير السلوك الإنساني الراقي والمعقد .
3) إن التكرار أسلوب من أساليب التربية ، ولقد تضمن القرآن الكريم والأحاديث النبوية هذا الأسلوب ؛ فنجد أن قوله تعالى]فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ[في سورة الرحمن تكرر 31 مرة في سورة واحدة عدد آياتها 78 آية ، وكذلك تكرر قوله تعالى]فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ[في سورة القمر تكرر في سورة واحدة 4 مرات وقوله تعالى :]فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[تكرر في السورة نفسها 6 مرات وقوله تعالى ]وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ[في سورة المرسلات تكرر عشر مرات وعدد آيات السورة 50 آية .
فــــإن كـان التعلم قد يحدث من مرة واحدة كما قال جاثري إلا أن هذا لا يعمم ولا يجب أن يغفل عــن أهمية التكرار، فالمعلم يكرر الدرس على التلاميذ لزيادة الإيضاح ولإيصال المعلومات التي يريد توصيلها لهم ، ولبيان أهمية الموضوع ، وللتأكيد على الأمر المكرر ، والتكرار من أساليب التربية الإسلامية ، ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة .
3 = نظرية – نموذج – المحاولة والخطأ :
في الوقت الذي كان فيه بافلوف يجري تجاربه كان عالم النفس الأمريكي إدوارد لي ثورنديك يجري تجاربه على أنواع مختلفة من الحيوانات ، وأشهرها تجاربه على القطط والتي نشر نتائجها عام 1898م ، وتتلخص هذه التجربة في وضعه قطاً جائعاً في قفص ويضع الطعام خارج القفص الذي له باب يفتح بعدة طرق بسهولة ، فكان القط في أول الأمر يظهر حركات عشوائية تستغرق وقتاً طويلاً لفتح الباب ، ومع تكرار المحاولة تمكن القط من فتح الباب في فترة قصيرة جداً بعد المحاولة العشرين . وقد أجرى تجارب كثيرة على حيوانات أخرى مثل الفئران والأسماك ، وفي كل التجارب كان يوجد عائق يحول دون وصول الحيوان الجائع إلى الهدف وهو الطعام ، وكانت النتائج متماثلة
( 30 ) .
وتسمى نظرية ثورنديك أحياناً بنظرية الارتباط ، أو نظرية الوصلات العصبية ، أو نظرية المحاولة والخطأ ، ويدين علم النفس لثورنديك لأنه أول من أدخل نظام التجريب على الحيوانات بشكل واسع ، وهو يرى أن التعلم عبارة عن تغير في السلوك ، وأن كل ما يمكن عمله هو ملاحظة هذا التغير في السلوك ودراسته وقياسه ، والسلوك عند ثورنديك يخضع لمبدأ مثير استجابة ( م س )
( 31 ) .
وقد وضح ثورنديك عدداً من القوانين تفسر التعلم بالمحاولة والخطأ ، وقد عدل بعضها أكثر من مرة ، وتلك القوانين قانون الأثر ، الذي اقترحه لبيان أن عامل التكرار بين المثير والاستجابة لا يفسر التعلم ، فالتكرار شرط ضروري إلا أنه ليس كافياً ، ويرى أن ممارسة الارتباط الذي يؤدي إلى الارتياح يقوي ذلك الارتباط ، بينما ممارسة الارتباط الذي يؤدي إلى عدم الارتياح يؤدي إلى ضعف ذلك الارتباط أي أن المكافأة أو النجاح يزيدان من تدعيم السلوك المثاب ، بينما يؤدي العقاب أو الفشل إلى اختزال الميل لتكرار السلوك الذي يؤدي إلى العقاب أو الفشل أو الضيق ، وكان قانون الأثر إرهاصاً بمبدأ التعزيز الذي اعتمد عليه اعتماداً مطلقاً أصحاب نموذج التعلم الشرطي .
أوجه القصور في نظرية المحاولة والخطأ :
1) كانت جميع تجارب ثورنديك على الحيوانات وهي جائعة وهناك فرق كبير وشائع بين الإنسان والحيوان ، بما كرمه الله تعالى به وفضله على سائر المخلوقات .
2) كانت الحيوانات في تجارب ثورنديك غير مقيدة بل تمارس حركاتها الطبيعية وليس كما هو الحال عند بافلوف ، ولكن رغم تلك الحركات التي يمارسها الحيوان إلا أن ثورنديك يطبق التجربة والحيوان يشعر بالجوع وبالتالي يكون قد سلب إرادة الحيوان ، فهو مضطر لعملية البحث عن الطعام ، فهو يوجه الحيوان لسلوك معين .
3) في تجارب ثورنديك استخدم الحيوان حواسه ومنها حاسة الشم والبصر وهذه الحواس رغم وجودها عند الإنسان إلا أنها تختلف في وظيفتها عند الإنسان عنها عند الحيوان فالحواس " في الإسلام ليس منظوراً إليها في الإنسان بدلالتها العضوية حيث يشاركه في ذلك سائر الحيوانات ، وإنما تعد فيه أدوات وعي وإدراك وتميز وفهم وبيان " ( 32 ).
إن من يقرأ هذا الجزء من كتاب / أبو حطب حول نظرية ثورنديك يشعر وكأنه أول
يتبع .................