المؤرخ الأميركي خوان كول: الإسلام دين سلام والنبي محمد كان قائدا لأكبر حركة تحرر سلمية بالعالم
ساهم العديد من المفكرين المسلمين في إضفاء طابع سلمي على العديد من الحركات الحديثة، بما في ذلك الصوفية في غرب أفريقيا، وصولا إلى ثورات الشباب في الربيع العربي عام 2011.
ومع ذلك، فإن السياق الغربي لا يحتفظ في ذهنه سوى بصورة الأحداث الدرامية في 11 سبتمبر/أيلول 2001 والهجمات على باريس في عام 2015، وربط الإسلام بالعنف بربطه بالجماعات المتطرفة مثل داعش من أجل إضفاء طابع العنف والتوحش على الإسلام والمسلمين، وهي نظرة استشراقيه تقليدية لا تدعمها الدلائل العملية والأكاديمية.
ويقدم الأكاديمي والمؤرخ الأميركي البروفيسور خوان كول أستاذ التاريخ في جامعة ميشيغان أفكارا ضمن هذا السياق في كتب، أبرزها "محمد رسول السلام.. وسط صراع الإمبراطوريات".
وله كتاب آخر محرر تحت عنوان "حركات السلام في الإسلام.. التاريخ، الدين، والسياسة" المنشور في دار نشر "آي بي توريس" عام 2022، والذي يظهر تجذر خطاب السلام في الإسلام، وحضوره في الحركات الاجتماعية الإسلامية التي تعتمد على نصوص الإسلام المؤسسة (القرآن والسنة) كمرجع لها لتقديم طرح مبني على سردية السلام من أجل التفاعل مع تحديات العصر.
يشير كول في كتابه إلى أن المسلمين شاركوا في حركات سلمية مهمة عبر التاريخ، مثل الصوفية في غرب أفريقيا، والتحالف الغاندي في الهند المستعمرة، والنشاط ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
كما يوضح كول أن الانتفاضات الشبابية في الربيع العربي تضمنت عناصر سلمية مستمدة من الإسلام، حيث كانت هناك جهود سلمية للإطاحة بالأنظمة الاستبدادية وتحقيق الإصلاح السياسي.
كما قدم تأصيلا لمفاهيم إسلامية مستمدة من النصوص التأسيسية للإسلام مثل مفهومي "الصلح" و"التدافع" المنبثقين عن تفاعل الطرح السلمي للإسلام مع السياقات التاريخية المختلفة.
هل هناك ديانات سلمية وأخرى تدعو للعنف؟ ولماذا هذا الحرص على إظهار الإسلام على أنه دين عنف بدل إظهار جوانبه السلمية؟
من منظور علوم الاجتماع يمكن أن أقول إن جميع الأديان مرت بفترات شارك فيها المعتنقون لتلك الأديان بأنشطة سلمية، وفترات أخرى شاركوا فيها في حروب ونزاعات عنيفة، هذا الأمر يشمل حتى الديانات التي غالبا ما تعتبر سلمية مثل البوذية، حيث كان الإمبراطور البوذي أشوكا محاربا عظيما وحاكما لمعظم ما تعرف الآن بالهند.
جميع الأديان مرت بفترات شارك فيها المعتنقون لتلك الأديان بأنشطة سلمية، وفترات أخرى شاركوا فيها في حروب ونزاعات عنيفة، لكن الدراسات الأوروبية والأميركية على وجه التحديد سعت إلى تصوير الإسلام على أنه دين مختلف عن بقية الأديان واختزلته في العنف
وقد أنشأ دولته بفعل تشكيله جيشا بوذيا غزا به مناطق عديدة في ربوع إمبراطوريته، والإسلام لا يختلف عن بقية الأديان في هذا الصدد.
لكن الدراسات الأوروبية والأميركية على وجه التحديد سعت إلى تصوير الإسلام على أنه دين مختلف عن بقية الأديان واختزلته في العنف، حيث سعت الكتابات الأوروبية منذ 1400 عام إلى تشويه الإسلام وإظهاره دينا عدائيا وعدوانيا يجنح للحرب.
وأعتقد أن مرد ذلك هو أن الدول الإسلامية كانت في صراع مع القوى الأوروبية مثل الإمبراطورية البيزنطية، لذا اهتمت بشكل خاص بالأنشطة العسكرية التي يقوم بها المسلمون، متجاهلة أنها منخرطة في نفس الأنشطة العسكرية، كغزو الإمبراطور المسيحي جستينيان الأول معظم منطقة البحر الأبيض المتوسط في القرن السادس ليحتلها تحت راية الإمبراطورية البيزنطية (روما الشرقية).
الحقل الأكاديمي يشهد فقرا في الدراسات والأبحاث الأكاديمية الجادة -سواء كانت تاريخية أو دينية- حول الأبعاد السلمية في الإسلام، وصنع السلام بين المسلمين، والتي كانت موضوعا رئيسيا للحضارة
ما أومن به أن الحقل الأكاديمي يشهد فقرا في الدراسات والأبحاث الأكاديمية الجادة -سواء كانت تاريخية أو دينية- حول الأبعاد السلمية في الإسلام، وصنع السلام بين المسلمين، والتي كانت موضوعا رئيسيا للحضارة.
فإذا نظرت مثلا إلى المؤشرات الرئيسية للعمل الأكاديمي وقمت بالبحث في "غوغل سكولار" وركزت على المسيحية والسلام فستحصل على ملايين المقترحات والأبحاث، ولكن إذا بحثت عن الإسلام والسلام فإنك لن تحصل إلا على عدد قليل جدا من المقترحات البحثية.
أحد تعريفات الإسلام في اللغة العربية هو "سلام"، لكني لاحظت أنك ترفض هذا التعريف وتقول إن الإسلام أكثر تعقيدا من مجرد الاكتفاء بتعريفه بـ"السلام"، بل تؤكد أن العنف صنع جوانب من الحضارة والتمدن، وعليه كيف يمكننا إدارة التوازن بين السلام والعنف داخل مفهوم الإسلام، خاصة أن هناك سوء فهم لمفاهيم عديدة مثل مفهوم الجهاد؟
بالتأكيد، قام المسلمون في العصور الوسطى -والذين كانوا في كثير من الأحيان على رأس أكبر الإمبراطوريات وأكثرها قوة وثراء في العالم- بتطوير سرديات أيديولوجية تدعم أنشطتهم العسكرية، وأصبحت تلك الأيديولوجيات مؤثرة للغاية في وقت لاحق.
وفي رأيي، فإن أغلب هذه السرديات لم تتعامل بأمانة مع المصادر الإسلامية المؤسسة، وذلك على غرار البابا الذي قام بلي النصوص الدينية الموجودة في الكتاب المقدس لشن الحروب الصليبية ضد منطقة الشرق الأوسط واعتبرها إرادة الله ليرسخ دعوته لهذه الحرب.
وبنفس الطريقة، قام بعض المسلمين بتقديم تأويل خاطئ لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لدعم سردية التمدد العسكري وشرعنتها باستخدام مجموعة من المفاهيم التي تم إخراجها من سياقها الحقيقي، مثل مفهوم الجهاد الذي تمت إساءة استعماله.
هذا الأمر فتح الباب لبعض المستشرقين القادمين من أوروبا والغرب عامة لإنتاج أعمال أكاديمية عن الحضارة الإسلامية تعمد على تشويه ما ورد في النصوص التأسيسية للإسلام من أجل رسم صورة تختزل الإسلام في كونه دين حرب وعنف، متجاهلة سياق النصوص أو محاولة فهم مختلف الاجتهادات الإسلامية.
وفي الواقع، فإن مفهوم الجهاد وفق ما ذكر في القرآن لا يشير تقريبا إلى النشاط العسكري، بل يعني كما تعلم كفاح النفس وجهادها من أجل بلوغ مراتب عالية من تزكية النفس، ومنه فإن الجهاد هو جهاد الروح وكفاح النفس للارتقاء الديني عبر سبل تضمن صلاح المجتمع، مثل جهاد المال الذي بموجبه يخرج المسلم المال كصدقة من أجل صلاح المجتمع.
كما أن مفهوم "الدفع" لا يجب أخذه بالمعنى العنيف، حيث ورد في القرآن الكريم "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، أي أن الدفع يكون بدفع السيئة الحسنة، أي القيام بالفضائل تجاه من يقوم بالرذائل، وعودة لمفهوم الجهاد فإن الجذر اللغوي للمفهوم "جهد" يصعب حصره بالضرورة بالنشاط العسكري.
ووفق ما ورد في كتب السيرة والتاريخ، فإن المسلمين تعرضوا للهجوم من مشركي قريش، ودفعهم ذلك للدفاع عن أنفسهم عسكريا كمسلك من مسالك الجهاد الروحي.
لكن هذا المسلك كما أشرت ليس المسلك الوحيد للجهاد، بل له معانٍ أخرى تشمل جوانب تزكية النفس والروح، لذلك شعرت بالاستياء لرؤية مصطلح الجهاد يتم وضعه في لوائح الاتهام في مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) لاتهام الإرهابيين به، هذا الأمر يظهر مدى جهل هذا المكتب بمعاني الكلمة الواسعة وفق نهج يتوافق مع القرآن والسنة النبوية الشريفة.
في الواقع، عندما أشرت إلى أن تعريف الجهاد يتمثل في "جهاد النفس" ابتغاء تهذيبها، على غرار ما هو موجود في الأدبيات الصوفية التي تشكل جزءا من الدراسات الإسلامية نرى الكتاب يبسط فصلا يعرض فيه تصورا يتحدث عن تقاطع الدراسات الإسلامية مع دراسات السلام، حيث استعرض الأكاديمي رشيد عمر الفرق بين السلام السلبي والسلام الإيجابي، ويرى أن الإسلام كان سباقا في تبني "السلام الإيجابي" فهل هذا صحيح؟
بالتأكيد، رشيد عمر مفكر مسلم جنوب أفريقي بارز، كان في شبابه مشاركا في معارضة النظام العنصري في جنوب أفريقيا بطرق سلمية.
وفي ورقته استشهد رشيد عمر بأعمال العالم النرويجي البارز في دراسات السلام يوهان غالتونغ الذي كان أول باحث يشغل كرسيا في دراسات السلام في أواخر الخمسينيات في أوسلو.
وهنا يهمني أن أشير إلى أن مجال دراسات السلام ككل يعتبر مجالا جديدا نسبيا، وقد تطور في الجامعات بعد الحرب العالمية الثانية.
يدرس رشيد عمر دراسات السلام في جامعة نوتردام التي تضم برنامجا رئيسيا في دراسات السلام، وكان غالتونغ من طرح مفهوم السلام الإيجابي والسلبي، والمقصود بالسلام السلبي هو كل ما نفكر فيه عادة عندما لا تكون هناك حروب جارية، لكن غالتونغ يرى أن هذا بعد واحد فقط من السلام، حيث إن الأنشطة التي تمنع اندلاع الحروب هي ما يشكل السلام الإيجابي.
على سبيل المثال، هل ستندلع الحرب بسبب المجاعة؟ بالطبع، وعليه فإن الأشخاص الذين يحاولون توفير الغذاء للجوعى يعملون ضد احتمال اندلاع الحرب بمحاربتهم الجوع.
وإذا كانت الحرب على وشك الاندلاع بفعل سوء فهم دبلوماسي فإن الدبلوماسيين الذين يحاولون حل هذا النزاع يشاركون في السلام الإيجابي، وعليه فإن البرامج والحركات الاجتماعية من مختلف الأنواع يمكن أن تكون مشاركة في السلام الإيجابي وتعمل على منع اندلاع الحروب.
وفق هذا المنظور، لا يجب الاحتفاء بعدم وجود حرب فقط، بل حسب ما يرى غالتونغ يجب أن نعمل بجد حتى في أوقات السلم لمنع اندلاع الحرب القادمة، ويجب أن ننتبه للأسباب الاجتماعية الباعثة للحروب.
وإضافة رشيد عمر تكمن في إشارته إلى وجود جذور لهذه الأفكار المرتبطة بالسلام الإيجابي في الفكر الإسلامي، وهنا يهمني أن أشير إلى أن هذا الكتاب المحرر يحتوي على العديد من الفصول التي تسعى برمتها إلى تقديم توضيح يصبو إلى إظهار العديد من الحركات الإسلامية في التاريخ الإسلامي التي مارست السلام الإيجابي.
صحيح أن النبي محمد كان قائد سلام، وحجتي على ذلك في ذلك الكتاب الذي تمت ترجمته إلى اللغة العربية هي أنه إذا حاولنا التعامل مباشرة مع سيرة النبي محمد من القرآن كمصدر رئيسي عن تطور الإسلام المبكر فإننا لا نجد أن النبي محمد كان رجل حرب بل رجل سلام، خاصة إذا نظر إليه من منظور السياق الذي عاش فيه، حيث عاش في أواخر الإمبراطوريتين الرومانية والساسانية في إيران.
لذا، يجب أن نرى النبي محمد كشخصية تسعى لتحقيق التناغم الاجتماعي والمصالحة، وفي هذا الصدد هناك العديد من الآيات في القرآن الكريم التي ورد فيها هذا المعنى كقوله تعالى "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، وقوله تعالى "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"، وعليه فإن القرآن الكريم غاص بالآيات التي تعزز وتؤكد أهمية السلام.
وإضافة إلى مفهوم السلام مع الأعداء نجد أيضا مفهوم الصلح معهم، وفي هذا الصدد فإن القرآن الكريم يخاطب المؤمنين الذين يتعرضون لهجمات عسكرية من قبل المشركين المقاتلين بأنهم قد يضطرون في النهاية إلى مصالحتهم، خاصة أولئك الذين لم يشاركوا فعليا في الحروب، حيث ورد في القرآن الكريم "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا".
أرى أن النبي محمد كان يبشر بالسلام في فترة مكة بين 610 و622، وكان يحث أتباعه على رد الشر بالخير، وهو أمر شبيه بموعظة المسيح على الجبل، وبسبب أني أرى أن النبي محمد نبي سلام تعرضت للانتقاد من بعض المراجعين الذين قالوا إنه رغم وجود الآيات في القرآن فإن المسلمين لم يعملوا بها، وهذا غير صحيح.
وإذا نظرنا إلى كتب التفسير ورأينا الشرح المقدم للآيات من قبل المفسرين، خاصة مفسري نيسابور مثل السلمي "حقائق التفسير" (412 هـ)، الثعلبي "الكشف والبيان" (427 هـ)، والقشيري "لطائف التفسير" (465 هـ) فإنهم يشيرون إلى مركزية هذه الآيات في الإسلام.
وعليه، فرغم وجود بعض المفسرين الذين يجنحون للحرب ويرون أن هذه الآيات "منسوخة" فإن أغلبية العلماء والمفسرين يجنحون للوسطية والاعتدال ويؤمنون بأهمية ومركزية آيات السلم في القرآن الكريم.
لذا، أرى أنه بمجرد أن انتقل النبي محمد إلى المدينة (يثرب) أصبح المجتمع المسلم عرضة لهجوم مشركي مكة، وعليه أذن الله للمؤمنين بالدفاع عن أنفسهم، وإذا فكرت في الأمر فإن النبي محمد لم يكن غازيا، حيث هاجر إلى المدينة بعد أن تمت دعوته إليها من قبل أهالي يثرب ليحدث صلحا بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين كانتا في صراع.
وعلى الرغم من أن كتب السيرة المتأخرة تصف دخول النبي محمد لمكة كشكل من أشكال "الغزو" والفتح العسكري فإن آيات القرآن تظهر شيئا آخر، ففي سورة الفتح الآية 48 يقول الله "وكف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم"، وهي إشارة تظهر أن الدخول إلى مكة كان سلميا وميسرا.
كما كانت هناك مدينة كبيرة أخرى قرب مكة تدعى الطائف، وعلى الرغم من أن قبائل الطائف آذت النبي محمد في سنوات دعوته الأولى وجنحت لمعاداته والتحالف مع قريش ضده فإن الطائف دخلت الإسلام بعد فتح مكة بسلام، بعد أن أرسلت وفدها عام 631 ميلادي ضم عبد يا ليل بن عمرو أحد زعمائهم القدامى وصاحب الموقف الذي ترك جروحا عميقة في نفس النبي محمد، لكنه أكرمهم وقبل إسلامهم.
ووفقا لمحمد بن جرير الطبري (839-923 م) في تاريخه، فإن اليمن كان تحت حكم الفرس الساسانيين، وأرسل النبي محمد عليا بن أبي طالب إلى صنعاء، فأسلمت قبيلة همدان كلها في يوم واحد، بمن فيهم حكام اليمن الساسانيون، وقبل النبي محمد حكمهم لليمن بعد انتشار الإسلام، حيث لم يفتح النبي محمد اليمن عسكريا، بل اكتفى بدخول حكام اليمن للإسلام.
المعركة الوحيدة المذكورة في المصادر اللاحقة -والتي كانت معركة عسكرية- كانت هي معركة مؤتة (في الأردن حاليا)، ووفقا للمصادر الإغريقية مثل ثيوفان المعترف (758-818 م)، فإن المعركة كانت بين المسلمين والمشركين، وليست هجوما على البيزنطيين أو المسيحيين العرب، لذلك أسأل المخالفين: ما الذي غزاه النبي محمد بالضبط؟ النبي محمد استخدم القوة الناعمة بشكل أساسي لجعل أهل المدينة والطائف واليمن يدخلون للإسلام أفواجا، ولم يركز على نشر دعوته بالقوة.
لكن يجب أن نشير إلى أن تعاليم القرآن وهدي النبي محمد كقائد روحي هي التي كانت وراء إنشاء هذه الدولة الجديدة، والتي كانت مبنية على فكرة "الصلح"، فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيما، إذ كانت أعطية الواحد منهم 100 من الإبل.
وأعطى النبي محمد -كما روى مسلم في صحيحه- أبا سفيان بن حرب 100 من الإبل رغم أنه كان من أشد من حاربه قبل إسلامه حينما كان مشركا.
كما تقول بعض الروايات إن العديد من أهل مكة كانوا قد اعتنقوا الإسلام سرا في أوائل 630 م، كما تعامل النبي محمد مع المشركين بعد دخوله مكة بتسامح وسخاء كبير، وهو ما ذكره القرآن الكريم في سورة الفتح.
لذا، أنا أستخدم القرآن مصدرا أساسيا لي وأجادل ضد بعض التفسيرات المتأخرة لبعض الروايات التي تم تقديمها في العصر العباسي من قبل جيل لاحق من المسلمين الذين كانوا على رأس إمبراطورية كبيرة فتحت بلدانا عديدة من أفغانستان إلى جنوب إسبانيا، ومن الطبيعي أنهم حاولوا النظر للنبي محمد على أنه قائد عسكري، لكنني أرى أن القرآن الكريم لا يختزل دور النبي محمد في كونه قائدا عسكريا، فالقرآن الكريم يصور لنا النبي محمد على أنه نبي مسالم كان يدعو الناس إلى الإسلام بالسلام والصلح.
وأتفق معك حينما ذكرت أن ما فعله النبي محمد كان في سياق تفشي حرب شرسة بين الإمبراطوريات الكبرى (البيزنطيون والساسانيون) التي استمرت لمدة 25 عاما تقريبا، دمرت تلك الحرب القرى والمدن في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشرق أوروبا.
ولم تنته هذه الحرب بين الإمبراطوريتين إلى حين فتح النبي محمد مكة، وأعتقد أن النبي كان يحاول إنشاء نوع بديل من المجتمع يعتمد على السلام والصلح كلما أمكن ذلك، والدفاع فقط عند الضرورة، وهو ما يخالف الحروب العدائية الكبيرة التي شنتها الإمبراطوريات في ذلك الحين.
في الواقع، هناك بعض الأسباب التي تدعو للاعتقاد بأن مشركي قريش في مكة الذين هاجموا المسلمين في المدينة ربما كانوا مدفوعين من قبل الفرس الساسانيين.
بمعنى آخر، قد تكون الحروب التي شنت على النبي محمد لم تكن سوى حروب بالوكالة لأن المجتمع الإسلامي المبكر كان يميل نحو القسطنطينية، وفي سورة الروم يبدو أن هناك نوعا من الاستشراف بذلك بقول الله تعالى "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون".
وإذا فكرنا في الأمر فإن الإمبراطورية الرومانية المسيحية كانت تؤمن بالكتاب المقدس، وكانت لديها قواسم مشتركة أكثر مع تعاليم الإسلام المبكرة مقارنة بالساسانيين الزرادشتيين.
كما أن هناك العديد من الروايات التاريخية التي تشير إلى أن الساسانيين عندما جاؤوا إلى الشرق الأدنى كانوا يتحالفون مع البدو يمنحونهم الإذن لمهاجمة الأديرة، لذا أرى أن المجتمع الإسلامي المبكر كان يميل نحو الروم.
من الصعب قبول هذا الآن، لأنه بعد صعود الحضارة الإسلامية كانت هناك قرون من الحروب مع البيزنطيين، لذلك من الصعب تصور أنه في حياة النبي ربما كانوا حلفاء للروم، ولكن كما تعلم الأمور تتغير، وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ.
لذا، قد يكون هناك صدى لهذه الحرب في الحجاز، حيث كان المشركون يتصرفون كوكلاء للساسانيين، وكان ينظر للمسلمين على أنهم موالون للروم.
صحيح، الأوروبيون والأميركيون هم من بدؤوا في تحويل الحرب لصناعة وذلك في أواخر القرن الـ19، وظهر ذلك بوضوح خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تم استخدام قطع المدفعية الضخمة لأول مرة، وتم استخدام المدافع الرشاشة بطريقة أربكت الجنرالات الذين اعتادوا على الطريقة القديمة للحروب القائمة على نهج نابليون بونابرت بتحطيم خطوط العدو من خلال حشد أعداد كبيرة من الجنود ورميهم على الخط حتى ينكسر.
وحاولوا تكرار ذلك في الحرب العالمية الأولى، لكنهم فشلوا لأن المدافع الرشاشة كانت تحول الجنود إلى أكوام من الجثث.
الأوروبيون والأميركيون هم من بدؤوا في تحويل الحرب لصناعة وذلك في أواخر القرن الـ19، وظهر ذلك بوضوح خلال الحرب العالمية الأولى، قتل ملايين الناس بهذه الطريقة، واستمر تحويل الحرب إلى صناعة في الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها 40 مليون مدني و20 مليون جندي، أما المسلمون في القرن الـ20 فلم يتجاوز عدد قتلاهم 3 ملايين شخص في الحروب
قتل ملايين الناس بهذه الطريقة، واستمر تحويل الحرب إلى صناعة في الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها 40 مليون مدني و20 مليون جندي، أما المسلمون في القرن الـ20 فلم يتجاوز عدد قتلاهم 3 ملايين شخص في الحروب.
وهنا لا أريد أن أقول إن الأوروبيين أكثر عنفا من المسلمين، بل أقول إن الأوروبيين قاموا بتحويل الحرب لصناعة، فخلقوا هذه الآلة الضخمة من خلال هذه المكننة التي لا يمتلكها المسلمون.
وبالطبع، كان العديد من المسلمين تحت الحكم الاستعماري الأوروبي في تلك الفترة، فلم يكونوا في موقف يتيح لهم شن حروب مستقلة، بل تم استدراجهم إلى الحروب التي شنتها أوروبا.
من الغريب أن نرى الأوروبيين والأميركيين يصفون المسلمين بأنهم محبون للعنف والحرب بالنظر إلى الفارق في عدد القتلى الذي تسببت فيه كل من الحضارتين في الـ150 سنة الماضية
وأنا أشير إلى هذا فقط لأقول إنه من الغريب أن نرى الأوروبيين والأميركيين يصفون المسلمين بأنهم محبون للعنف والحرب بالنظر إلى الفارق في عدد القتلى الذي تسببت فيه كل من الحضارتين في الـ150 سنة الماضية.
والآن، للأسف، تدخل هذه المكننة الحربية إلى العالم الإسلامي، لذا رأينا حروبا مروعة في السودان واليمن وأفغانستان وغيرها، وهي حروب حديثة بشعة، لكنها لا تمت بصلة لقيم المسلمين.
وهنا قد يجادل بعض المدافعين الأوروبيين ليقولوا إن الأوروبيين لم يقتلوا كل هؤلاء الناس باسم المسيحية، وأعتقد أن هذه حجة ضعيفة ولا أساس لها من الصحة، حيث يكفي أن نشير إلى أن الجنرال فرانكو في إسبانيا كان متدينا وقريبا من الكنيسة الكاثوليكية، والحرب الأهلية التي خاضها -والتي قتل فيها الكثير من اليساريين- جعلها فرانكو حربا باسم المسيحية.
كما أننا رأينا في البلقان خلال الحرب العالمية الثانية حركات مسيحية أصولية دينية متنوعة لعبت دورا في إبادة المسلمين باسم التطهير الديني، لذا لا أعتقد أن الأوروبيين يمكنهم التملص من ذلك بالقول إن هناك فرقا بين الدولة والدين لأن الأشخاص الذين كانوا يديرون الدولة كانوا مسيحيين، وكانوا يرتادون الكنيسة، ونشؤوا في مجتمعات مسيحية، وكان يجب أن يتحلوا بالقيم المسيحية، لكن البعض منهم كان صريحا في اعتبار أنما أحدثوه هي حروب صليبية أخرى.
معظم العالم الإسلامي كان تحت الاستعمار الأوروبي في القرنين الـ19 والـ20، وما يدهشني هو مدى تحضر العالم الإسلامي في التعامل مع الاستعمار، فرغم مجيء الغزو الأوروبي الذي سطا واستولى على الممتلكات وسن القوانين واغتصب الأراضي فإننا لا نجد العالم الإسلامي قابل هذه الأعمال الإجرامية بعنف كبير
لذا، لا أعتقد أن هناك اختلافات كبيرة كما يتم تصورها بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية على هذه الأسس.
وكما أشرت فإن معظم العالم الإسلامي كان تحت الاستعمار الأوروبي في القرنين الـ19 والـ20، وما يدهشني هو مدى تحضر العالم الإسلامي في التعامل مع الاستعمار، فرغم مجيء الغزو الأوروبي الذي سطا واستولى على الممتلكات وسن القوانين واغتصب الأراضي فإننا لا نجد العالم الإسلامي قابل هذه الأعمال الإجرامية بعنف كبير.
كيف واجه المسلمون في مختلف بقاع العالم الإسلامي الحركات الاستعمارية الأوروبية العنيفة؟ هل بالمقاومة العسكرية فقط أم كانت هناك حركات مقاومة لاعنفية أخرى في العالم الإسلامي؟
في هذا الخصوص أستشهد بتجربة السنغال التي اتسمت بإسلامها المتصوف، والذي أسس على ضوئه أحمدو بمبا نظاما سلميا لمقاومة الاستعمار، حيث منع مريديه من حمل السلاح ضد الفرنسيين، قائلا إن النبي محمد عقد معاهدة مع اليهود في المدينة.
وعليه، فإن أحمدو بمبا آمن بضرورة وجود علاقة سلمية بين المسلمين السنغاليين والمسيحيين الفرنسيين، وذلك رغم انتقاده الفرنسيين ووصفه لهم بأنهم ماديون وطماعون وجشعون، وكذلك رفضه التام للاستعمار الفرنسي، لكنه كان يرى أن حمل السلاح ضدهم ليس الطريق الصحيح لتحرير البلاد من الاستعمار، فحمل السلاح ضد الاستعمار الفرنسي قد يعرض السنغاليين للهلاك في ظل التفوق العسكري الفرنسي.
كان بمبا يرد على من يدعو للاقتداء بالنبي محمد في غزوة بدر بأنه من المستحيل تصور المسلمين في العصور المتأخرة بنقاء سريرة الصحابة الذين كانوا مع النبي محمد في غزواته، فالصحابة كانوا أشخاصا غير عاديين ومتشبعين روحيا.
وحسب بمبا، فإن تقليدهم دون امتلاك زاد روحي عملاق يجعل المرء عرضة للغرور والنرجسية، لذا اتبع بمبا نهجا سلميا إسلاميا كان ناجعا في إخراج الاستعمار الفرنسي من السنغال.
وقد وضع مريدو أحمدو بمبا جهودهم في المجال الاقتصادي، وذلك ببنائهم مزارع كبيرة من الفول السوداني في السنغال، ووضعوا العديد من الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بحيث عندما خرجت السنغال من فترة الاستعمار في عام 1960 خرجت كأنجح دولة في حقبة ما بعد الاستعمار، وهي واحدة من الدول القليلة في أفريقيا التي تمتلك انتخابات منتظمة وديمقراطية قوية إلى حد ما تواجه تحدياتها الاقتصادية بهدوء.
وإذا قارنا السنغال ببعض الدول التي قامت بانتفاضات وثروات عنيفة ضد الاستعمار مثل السودان فإننا سنجد أنها ما زالت تعاني من حروب أهلية تحول دون توحدها وتحولها لدول سلمية ناجحة.
لست ضد حركات المقاومة العسكرية ضد الاستعمار الأوروبي، ولا أبرر الاستعمار الأوروبي غير القابل للتبرير، بل كانت هناك العديد من الحالات التي كان من المشروع والواجب والضروري للناس حمل السلاح لمقاومة الغزاة الأجانب. لكنني كذلك أسعى إلى إيصال أصوات وتجارب أخرى اختارت مسلك السلم والسلام النابع من قيم الإسلام في مواجهة الاستعمار والغزو وأظهرت نجاحها كما فعل السنغاليون في مواجهة الاستعمار الفرنسي
وهنا أشير إلى أني لست ضد حركات المقاومة العسكرية ضد الاستعمار الأوروبي، ولا أبرر الاستعمار الأوروبي غير القابل للتبرير، بل كانت هناك العديد من الحالات التي كان من المشروع والواجب والضروري للناس حمل السلاح لمقاومة الغزاة الأجانب.
لكنني كذلك أسعى إلى إيصال أصوات وتجارب أخرى اختارت مسلك السلم والسلام النابع من قيم الإسلام في مواجهة الاستعمار والغزو وأظهرت نجاحها كما فعل السنغاليون في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
وبالمثل، في الهند لدينا شخصيات مثل عبد الغفار خان من بيشاور وأبو الكلام آزاد اللذين نهجا نهج الاحتجاج السلمي ضد الاستعمار البريطاني، هذه المقاومة السلمية للاستعمار البريطاني نجحت في نهاية المطاف بإخراج الاحتلال من الهند في عام 1947، فإذا تم الاحتفاء بغاندي بسبب دفاعه عن ضرورة العصيان المدني أحد سبل المقاومة السلمية يجب الاحتفاء كذلك بأسماء أخرى مسلمة دافعت على نفس المبدأ.
تاريخ المقاومة اللاعنفية في الإسلام أصيل يُظهر مدى تجذر مفهوم السلم والسلام عند المسلمين، وهو ما جسده بسلاسة كل من مارتن لوثر كينغ وعبد الغفار خان وأبو الكلام آزاد وأحمدو بمبا وغيرهم
كما أعتقد أن عبد الغفار خان يجب أن يُرى كمدافع مسلم أصيل ومستقل، حيث أصّل لصيغة من عدم التعاون اللاعنفي كأداة إسلامية للمقاومة، وذلك بفعل تأصيله هذا المبدأ من آيات القرآن الكريم.
وهنا يجب أن نشير كذلك إلى أن تلك الحركات الكبيرة ضمت بين صفوفها ملايين من المسلمين، لذا فإن تاريخ المقاومة اللاعنفية في الإسلام أصيل يُظهر مدى تجذر مفهوم السلم والسلام عند المسلمين، وهو ما جسده بسلاسة كل من مارتن لوثر كينغ وعبد الغفار خان وأبو الكلام آزاد وأحمدو بمبا وغيرهم.
إن إزالة اللثام عن هذه الشخصيات هي الهدف من وراء كتابي الجماعي الذي قمت بتحريره من أجل تسليط الضوء على هذه الشخصيات ووضعها في الواجهة بغية الوصول إلى فهم أكثر توازنا عن الإسلام وعلاقته المتناغمة مع السلم والسلام والصلح.
المصدر : الجزيرة