02-04-2014 ~ 07:21 AM
خطبة حول القرآن الكريم
مشاركة رقم 1
مدير عام
تاريخ التسجيل : Jan 2012
اقرأ القرآن، بقلبك قبل اللسان، لتجد عذوبة معانٍ ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة، نور القلوب الذي لا تستضيء إلا به، وحياة ..
الحمد لله الذي أنزل كتابه المجيد على أحسن أسلوب، وبهر بحسن أساليبه وبلاغة تركيبه القلوب، نزَّله آيات بينات، وفصله سورا وآيات، ورتبه بحكمته البالغة أحسن ترتيب، ونظمه أعظم نظام بأفصح لفظ وأبلغ تركيب، صلى الله على مَن أُنزل إليه لينذر به وذكرى، ونزله على قلبه الشريف فنفى عنه الحرج وشرح له صدرا، وعلى آله وصحبه مهاجرة ونصرة.
أما بعد:
عباد الله: فإن العالم اليوم رغم التقدم التقني، وازدهار الصناعات والمخترعات، والأنظمة العالمية الجديدة، أخفق بمنظماته ومؤسساته ومخترعاته أن يحقق السعادة للإنسان، أو أن يوفر الأمن والراحة للبشر، وها هي نسب مرض العصر: القلق والاكتئاب، تزداد يوما بعد يوم! وها هو الفقر والجهل، والجوع والقتل، والانتحار، وانهيار القيم والمبادئ والأخلاق، وتتضاعف أرقامه كل عام!.
يقول العالم الأسباني (فيلا سبازا): إن جميع اكتشافات الغرب العجيبة، ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا خلق ابتسامة واحدة للإنسان.
ويقول (إلكسيس كارليل): إن الحضارة العصرية لا تلائم الإنسان كإنسان... وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة... إننا قوم تعساء؛ لأننا ننحط أخلاقيا وعقليا.
وقل مثل هذا عن بعض المنتسبين للإسلام! أموال ومناصب وخدم، لكنهم في هموم وغموم وآلام، فأين المخرج؟ وإلى أين المفر؟ إنه القرآن، كلام الرحمن.
أنت الذي، يا ربّ قلتَ حروفَهُ *** ووصفتَهُ بالوعْظِ والتِّبْيانِ
ونظمتَهُ ببلاغةٍ أزليَّةٍ *** تكييفها يخفى على الأذهان
وكتبت في اللوح الحفيظ حروفه *** مِن قبل خَلق الخلق في أزمان
اشرَحْ به صدري لمعرفة الهدى *** واعصم به قلبي من الشيطان
يسِّرْ به أمري، وأَقْضِ مآربي *** وأجِرْ به جسدي من النيران
واحطُطْ به وزري، وأخلص نيتي *** واشدد به أزري، وأصلحْ شاني
امزجه يا ربي بلحمي معْ دمي *** واغسل به قلبي من الأضغان
يا عبد الله: اقرأ القرآن، بقلبك قبل اللسان، لتجد عذوبة معانٍ ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة، نور القلوب الذي لا تستضيء إلا به، وحياة الأرواح وشفاؤها؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون ) [يونس:57-58].
فالقرآن هو الذي يحقِّق السعادة للإنسان، وينشر الأمن والاطمئنان، عِزٌّ وفخرٌ ورفاهية وأمان، كُلُّ هذا يُحَقِّقُهُ القرآن، وسُنَّةُ خيرِ الأنام، قال -عليه الصلاة والسلام-: " تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ".
عباد الله! لسنا بحاجة إلى أن نبين حقيقة صدع بها الأصدقاء، وشهد به الأعداء؛ لسنا بحاجة أن نذكر بتلك الحقيقة التي آمن بها المؤمنون، واعترف به المعاندون؛ لسنا بحاجة أن نؤكد أن هذا القرآن الكريم ذروة عالية، وقمة سامقة في بلاغة الأسلوب، وإعجاز البيان، وأنه أعجز فرسان الكلام، وفحول البيان!.
لسنا بحاجة لأن نؤكد هذا أو نكرره كلما أردنا الحديث عن قرآننا، فيكفينا عزة وفخرا أنه كلام ربنا، إننا نسمع الكثير ممن يحاولون أن يبرهنوا لأعدائنا على قوة البيان والتأثير في قرآننا، ولو صدقنا مع أنفسنا لقلنا: أين تأثيره في نفوسنا؟ وأين قوارع بيانه على قلوبنا؟ أليست هذه حجة لغيرنا على بُعدنا وضعفنا؟ أين نحن عن قرآننا، نور قلوبنا، ودستور حياتنا، وفضل الله ونعمته الكبرى لنا؟!.
إخوة الإيمان! إننا في شهر القرآن، فهل سألنا أنفسنا: لماذا نقرأ القرآن؟ وكيف يجب أن نقرأ القرآن؟ وما أثر هذه القراءة على قلوبنا؟ اسمعوا كيف كانوا يقرؤون القرآن، وكيف سما بهم الإيمان، لقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بآية حتى أصبح يرددها، والآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [المائدة:118]".
وقام تميم بن أوس الداري ليلة بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون ) [الجاثية:21].
وقام سعيد بن جبير يردد هذه الآية: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) [يس:59].
ومحمد بن المنكدر يسأله أبو حازم عن البكاء طيلة ليله، فيقول: آية من كتاب الله أبكتني: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) [الزمر:47].
وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهده فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر.
وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها، ولا يكون قلبي فيها، لا أعد لها ثوابا.
ويقول أبو سليمان الداراني: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال، ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها.
قيل لعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيء أحب إلى من القرآن حتى أحدث به نفسي؟ وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعداها ثانية.
ولا يختص الأمر بالرجال دون النساء، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عمرو بن ميمون قال: مَرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة تقرأ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ) [الغاشية:1]، فقام يستمع ويقول: "نعم قد جاءني ".
أما الكبار من الرجال، فقد قال أبو بكر ابن عياش: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: كبر سني، وذهبت الصلاة مني، وضعفت، ورق عظمي، وإني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا بالبقرة وآل عمران.
لا إله إلا الله! لما كبر سنه، ورق عظمه، لم يعد يقدر على القيام في الليلة الواحدة إلا بنحو أربعة أجزاء، وكان -رحمه الله- قد ضعف عن القيام، فكان لا يقدر على أن يقوم إلى الصلاة حتى يقام، فإذا أقاموه فاستتم قائما قرأ ألف آية وهو قائم.
أما حال الشباب، فهل سمعتم -يا شباب القرآن- عن علي بن الفضيل بن عياض، شاب له قصة غريبة على مسامعنا، قال أبو بكر بن عياش: صليت خلف فضيل بن عياض صلاة المغرب، وابنه علي إلى جانبي، فقرأ الفضيل: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ) [التكاثر:1] قلما قال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) [التكاثر:6]، سقط علي على وجهه مغشيا عليه، وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف، قال: ثم رابطت عند علي فما أفاق إلا في نصف الليل.
وقال أبوه الفضيل: أشرفت ليلة على علي، وهو في صحن الدار، وهو يقول: النار... ومتى الخلاص من النار؟ وقال: يا أبة سل الذي وهبني لك في الدنيا أن يهبني لك في الآخرة، ثم قال: لم يزل منكسر القلب حزينا، ثم بكى الفضيل ثم قال: كان يساعدني على الحزن والبكاء، يا ثمرة قلبي شكر الله لك ما قد علمه فيك.
قال محمد بن ناجية: صليت خلف الفضيل، فقرأ (الحاقة) في الصبح، فلما بلغ قوله: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) [الحاقة:3] غلبه البكاء، فسقط ابنه علي مغشيا عليه.
أعرفتم يا شباب بأي شيء اشتهر علي بن الفضيل؟ لم يشتهر بحرافته بالفن أو الرياضة، بل بشدة خوفه وخشيته عند سماع القرآن، حتى اشتهر بقتيل القرآن، وكان قتيلا للقرآن فعلا، فقد قال الخطيب: مات علي قبل أبيه بمدة من آية سمعها تقرأ فغشي عليه، وتوفي في الحال.
قال إبراهيم بن بشار: الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنعام:27]، مع هذا الموضع مات، وكنت فيمن صلى عليه، رحمه الله.
لا إله إلا الله! ما أرق هذه القلوب! لله درك يا ابن الفضيل! أي خوف هذا الذي بلغ بك؟ وأي فتى كنت مع القرآن؟ حدث شباب الإسلام عن حضور القلب والتدبر عند حفظهم للقرآن، حدثهم عن أثر القرآن على الأخلاق والجد، وعفة اللسان، أخبرهم يا ابن الفضيل عن حقيقة الالتزام، وكيف يحفظ القرآن.
يا شباب، هذا هو على ابن الفضيل, وهذه هى حاله مع القرآن, وهذا هو لقبة: قتيل القرآن, القرآن الذي هجره بعض الشباب فربما مر الشهر والشهران والثلاثة لم يقرأ منه شيئا فضلا عن أن يحفظ أو يتدبر الآيات ويبكى, بل ها نحن فى رمضان, ولا يزال القرآن يشكو الهجران.
أيها الشاب: اسأل نفسك بصراحة: كم مرة تسمع الغناء فى الشهر الواحد؟ وكم مرة فى الشهر تقرأ القرآن؟ كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ أو تسمع الآيات؟ وكم مرة دمعت وأنت فى لذات وشهوات؟ وهل يجتمع فى القلب كلام الرحمن, ورقية الشيطان؟ وإن اجتمعا فتردد وحيرة وخذلان !.
هذا حال الشباب والكبار, من النساء والرجال, مع تدبر القرآن, أما حال الصغار فقد حارت فيها الأفكار, حكى الشيخ ابن ظفر المكي أن أبا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي لما تحفظ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) [المزمل:1-2]. قال لأبيه: يا أبت! من الذي يقول الله -تعالى- له هذا؟ قال: يا بني! ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا أبت! مالك لا تصنع كما صنع -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: يا بني! إن قيام الليل خصص به -صلى الله عليه وسلم- وبافتراضه دون أمته؟ فسكت عنه. ف
لما تحفظ قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) [المزمل:20] قال: يا أبت! إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل، فمَن هذه الطائفة؟ قال: يا بني أولئك الصحابة -رضي الله عنهم-، قال، يا أبت! فأي خير في ترك ما عمله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ قال: صدقت يا بني.
فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد ليلة فإذا أبوه يصلي، فقال: يا أبت! علمني كيف أتطهر وأصلي معك، فقال أبوه: يا بني! ارقد فإنك صغير بعد، قال: يا أبت! إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم أقول لربي: إني قلت لأبي: كيف أتطهر لأصلي معك؟ فأبى، وقال لي: ارقد، فإنك صغير بعد، أتحب هذا؟ فقال له أبوه: لا والله يا بني! ما أحب هذا، وعلمه فكان يصلي معه.
هِمَمُ الأحرار تُحيي الرِّمَمَا *** نفحةُ الأبرار تحيي الأمما
أمة القرآن إن حياة النفس في السمو، ونجاتها في العلو، "ومثل القلب مثل الطائر، كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوته الآفات ".
أرأيتم -إخوة الإيمان- أن المقصود من تلاوة القرآن ليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان، بدون قهم أو بيان؛ (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) [البقرة:121].
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته، أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، وهذا يدل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة؛ فبين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) [النحل:64]، فكان البيان منه -صلى الله عليه وسلم- بالألفاظ والمعاني، فلم لا نعتني بالمعاني، ليخالط القرآن اللحم والدم، ويستنير القلب، وينشرح الصدر، ونذوق حلاوة التلاوة؟.
فحقيقة التلاوة إنما هي بالتأمل والتدبر عند القراءة، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [محمد:24]، والله -تعالى- يقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ص:29].
نسأل الله الكريم المنان، أن يمن علينا بتدبر القرآن، وأن نجد حلاوته عند تلاوته، ونعوذ بالله من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى، والحمد لله الذي أرسل محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عيه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما عبد: عباد الله! إن في اعتصامنا بالكتاب والسنة نجاة لنا وثباتا في هذه الحياة، والتي تموج فيها الفتن والشهوات، فلنراجع أنفسنا في حالنا مع كتاب ربنا، ولنحرص على تربية أولادنا ونسائنا على القرآن، وتلاوة وحفظا، وتدبرا وعملا.
وكم يغفل الكثير من الآباء عن أهم وأعظم وسائل التربية للأبناء، فمن أراد لأبنائه الثبات على صراط الله المستقيم، فلينشئهم على القرآن، فهو نور لصاحبه وحامله من أهل الله وخاصته، وقد حكم لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية على من سواهم، والرفعة على أقرانهم وأقوامهم، فالقرآن يرفع أقواما ويضع آخرين، ويأتي شفيعا لصاحبه يوم القيامة، ويجعله مع السفرة الكرام البررة.
ومن شغله القرآن عن الدنيا عوضه الله خيرا مما ترك، ومن ليس في قلبه شيء من القرآن كالبيت الخرب. وأما عن الأجر والثواب للقارئ ففي كل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها.
وأما الوالدان، فإن الله لا يضيع أجرهما ؛ قال تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) [الكهف:30]، فمن قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجا من نور يوم القيامة، ضوؤه مثل الشمس. كل هذا وغيره ورد في الأحاديث عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-،
أما السلف الصالح فتنبهوا لهذا فحرصوا على تنشئة الصغار على القرآن، وكتب السير مليئة بالتراجم ممن حفظوا القرآن قبل العاشرة، فهذا زيد بن الحسن الكندي، قال الذهبي: وحفظ القرآن وهو صغير مميز قرأه على أبي محمد سبط الخياط، وله نحو من سبع سنين، ومن العجب أنه قرأ القرآن بالروايات العشر وهو ابن عشر سنين!.
وقال الشافعي: كنت يتيما في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب -أي حلق القرآن- ولم يكن عندها ما تعطي المعلم... فكانت تقول: اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا.
وهذا أحمد بن حنبل كان -أيضا- يتيما، يقول: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب... وكانت أمه تأخذ بيده إلى المسجد، وتجلس عند عتبة المسجد حتى يخرج. هكذا فلتكن الأمهات، وهكذا تربية الفلذات.
وحتى لا يحتج البعض أن الزمان غير الزمان، فاسمعوا لهذه الأم، أم الخاتمات، أم لتسعة أطفال: سبعة منهم أتموا حفظ القرآن؛ خمس بنات وابنان، أصغر الخاتمات سنا عمرها تسع سنوات ونصف، تقول الأم: بدأت معهم من عمر سنتين آخذهم معي في المطبخ أقرأ ويرددون ورائي، أسمع لكل منهم يوميا جزأين، لا خادمة لدي، فأنا بفضل الله أقوم بأعمال المنزل وتحفيظ أولادي، وكلهم الأوائل في دراستهم بفضل الله، فأي أم هذه؟! وأين الأمهات منها؟!.
ومن البشائر -والحمد لله- أن هناك الكثير من الشباب الصغار والكبار الذين أتموا حفظهم للقرآن، فأصبحوا منارات إشعاع، وفخرا لنا جميعا، وهذه بشائر تلوح في الأفق، تعلن سلامة المنهج، والسير على طريق سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، وهذا بفضل الله أولا، ثم بفضل جمعيات تحفيظ القرآن الخيرية المنتشرة في ربوع بلادنا، فجزى الله المسؤولين والقائمين عليها خير الجزاء، فقد أصبحت محاضن لتربية الأجيال، وتخريج الأئمة والرجال، وما هؤلاء الشباب الذين يؤمُّون الناس في صلاة التراويح، ويحيون المساجد بالترتيل والتسبيح، إلا ثمرة من ثمارها.
وهنئا لإخواننا العاملين في جمعيات تحفيظ القرآن، من إداريين ومعلمين وعاملين، هنيئا لهم بشهادة المصطفى بالخيرية المطلقة، "خيركم من تعلم القرآن وعلمه "! هنيئا لأولئك المعلمين الذين جلسوا كل عصر ومغرب من أجل أبناء المسلمين، فقد بذلوا أنفسهم وأوقاتهم من أجل الله، وجندوا أنفسهم لتعليم كتاب الله، لا يريدون من أحد جزاء ولا شكورا، إلا من العليم بحالهم، المطلع على أعمالهم، في الوقت الذي انشغلنا فيه نحن بأموالنا وأولادنا، وشهواتنا ودورياتنا: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون ) [الزمر:9].
لا تعرضن بذكرنا في ذِكْرِهِمْ *** ليس الصحيحُ إذا مشى كالمــــُقْعَدِ
عباد الله: اتقوا الله، واقرؤوا القرآن بخشوع وتتدبر.
اللهم عظم حب القرآن في قلوبنا، وقلوب أبنائنا واجعلنا ممن تعلم القرآن وعلمه، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم أعط منفقا خلفا، وبارك له في ماله وأهله وولده.
اللهم وفق العاملين المخلصين في جمعيات تحفيظ القرآن، وكل العاملين للدين.