صفوان الخزرجي

العودة   طريق الخلاص > إسلاميات > هدي الإسلام

هدي الإسلام معلومات ومواضيع إسلامية مفيدة

ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\براءة محمد والمسيح

ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح د. إبراهيم عوض الشبهة * لمّا كان محمد فتىً أتى إليه ملاكان وطهرا

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-02-2012 ~ 01:43 PM
مزون الطيب غير متواجد حالياً
افتراضي ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\براءة محمد والمسيح
  مشاركة رقم 1
 
الصورة الرمزية مزون الطيب
 
الله اكبر
تاريخ التسجيل : Jan 2012


ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح

د. إبراهيم عوض
الشبهة

* لمّا كان محمد فتىً أتى إليه ملاكان وطهرا قلبه. وفي هذا يقول القرآن: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ- سورة الانشراح 1- 3. ومنذ ذلك الوقت أصبح له اللقب الشريف المصطفى، فلم يكن صافيًا وطاهرًا في ذاته، إنما أخذ الملاكان الوِزْر من قلبه تطهيرًا. لقد احتاج محمد إلى عملية جراحية للقلب لتنقية فؤاده قبل أن يصبح نبيًّا ورسولا لله






. نقرأ عن ابن مريم في القرآن إنها ستلد غلامًا زكيًّا حسب الآية: أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا- سورة مريم 19. وأجمع المفسرون العلماء مثل الطبري والبيضاوي والزمخشري أن كلمة "زكيًّا" تعني: صافيًا ونقيًا وبلا خطية. فقبل ولادة المسيح أعلن الوحي أنه يولد طاهرًا ويعيش بلا إثم. لم يكن محتاجًا إلى تطهير قلبه لأنه كان قدوسًا أصلا. ولم يستمع ابن مريم إلى كلمة الله فحسب، بل كان هو الكلمة ذاته. فلا فرق بين رسالته وسلوكه، إذ عاش ما قاله، وثبت بلا لوم وبدون خطية. يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة، ويذكر الأخطاء لبعضهم، ما عدا المسيح، فكان دائمًا بريئًا وطاهرًا. لقد حفظه روح الله منذ ولادته في القداسة الكاملة رغم طبيعته البشرية، فلم يسقط في التجربة لأنه كان روح الله المتجسد. اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها. إنما القرآن هنا واضح ويتكلم بصراحة. كان محمد إنسانًا طبيعيًّا مولودًا من والدين طبيعيّين، فعاش حياة الفِطرة، وأخطأ مثلنا واستغفر ربه عن ذنوبه وخطاياه، أما المسيح فوُلد من روح الله، وهو كلمة الله المتجسِّد، وعاش قدوسًا وطاهرًا منذ حداثته.

رد الدكتور إبراهيم عوض


** إن ما قاله الواعظ النصرانى عن غسل الملاك قلب سيدنا محمد عليه السلام لهو شهادة عظيمة فى حقه، إذ معنى ذلك أن الرسول قد أصبح طاهرا من حظ الشيطان، أما المسيح فلم يصنع به الله شيئا من هذا، وهو ما يمكن أن يتعلل به من يريد مجادلة الواعظ، لكننا لن نفعل لأن غايتنا هى بلوغ الحقيقة أو على الأقل: الاقتراب منها. فلنضرب الآن إذن عن هذا صفحا، ولسوف نعود إليه فيما بعد، وليكن المسيح عليه السلام بلا خطيئة كما قال واعظنا، أفيجعل هذا منه إلها أو ابن إله؟ الواقع أنه لا صلة بين هذا وذاك. وما دمنا بصدد الاستدلال بالقرآن فكيف يصح تجاهل قوله تعالى مما سبق ذكره فى الفقرات الماضية: "قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا"، "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، "إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ"... إلخ؟ كما أنه سبحانه لم يقل فى حق عيسى مثل ما قاله فى حق محمد فى الآيات التالية: من سورة "القلم": "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)"، وسورة "الانشراح": "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)"، وسورة "النساء: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)"، وسورة "الحجرات": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)"، وسورة "الأحزاب": "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)" مثلا. وبالمثل لم يقرن سبحانه اسمه باسم نبيه عيسى كما قرن بينه وبين اسم نبيه محمد، ومنه ما نقرأ فى سورة "الأحزاب": "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)"، وسورة "الفتح": "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ... (10)"، وسورة "النساء": "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)"، "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ... (80)". كما تكرر فى القرآن القول بأن محمدًا رسولٌ للناس كافة، على حين أن عيسى رسولٌ لبنى إسرائيل ليس إلا. فأما فيما يخص محمدا فقد جاء فى سورة "الأنبياء": "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)"، وفى سورة "سبأ": "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)"، وفى سورة "التكوير": "إِنْ هُوَ (أى القرآن) إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)". وأما بالنسبة لعيسى فنقرأ فى سورة "آل عمران": "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ... (49)"، وفى سورة "الصف": "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)".

وأما وصفه تعالى لعيسى بأنه "غلام زكىّ" فهو نفسه ما وُصِف به "الغلام" الذى قتله العبد الصالح فى قصة سورة "الكهف"، إذ وُصِف بأنه "نفسٌ زكيّة": "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)". فما الفرق إذن مما يعطى للواعظ الحق فى الطنطنة التى يطنطنها؟ إن كل الأطفال يولدون أطهارا أنقياء كلهم أجمعين أكتعين أبصعين، حتى الذين سيصيرون فيما بعد من عتاة المجرمين والقتلة والجبارين المستبدين والزناة العاهرين. أم هناك من يجادل فى ذلك؟ ولهذا يقال: الأطفال أحباب الله! أما لماذا وصف الله عيسى هنا بأنه غلام زكى ما دام الأطفال كلهم يولدون دون خطيئة كما هو معروف، إذ ينزلون من بطون أمهاتهم، ونفوسهم وقلوبهم صفحات بيضاء، علاوة على أنهم عند مولدهم يكونون خالين من الإرادة، خيرا كانت هذه الإرادة أو شرا، ومن ثم لا يمكن نسبة الشر إليهم، فالجواب على ذلك هو أن قول روح القدس لمريم حسبما ورد فى السورة المسماة باسمها الكريم: "إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (17)" هو رد على ما كانت قد قالته له تصده عنها خشية أن يكون رجلا من الرجال جاء للاعتداء على عِرْضها والزنا بها رغم أنفها، وهو: "إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)". فكان رده ذاك تطمينا لها أنه ليس بشرا، وأنه لم يأت للاعتداء عليها، وأن الغلام من ثم سيولد ولادة طاهرة، أى أنها ستُرْزَقه من الحلال لا من الحرام. ومعروف أننا لكى نفهم الكلام لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار السياق الذى قيل فيه هذا الكلام، وإلا أخطأنا معناه كله أو بعضه أو الظلال المحيطة به. وهذا هو سياق تلك العبارة التى وردت على لسان روح القدس كاملا: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)". ولنلاحظ أن رد الملاك عليها حين استغربت أن يكون لها ولد دون أن تعرف أحدا من الرجال هو نفس الرد على زكريا عندما بُشِّر بأنه سيولد له ولد رغم تقدمه فى العمر ورغم عقم زوجته، إذ سألت مريم روح القدس قائلة: "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا"، فأجابها بقوله: "كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ"، وهو ما أجيب به زكريا قبيل ذلك فى نفس السورة: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... (9)". وانظر الآيتين 40، 47 من سورة"آل عمران" ففيهما نفس المعنى، وهو ما يدل على أن مولد المسيح، رغم كل شىء، لا يختلف عن مولد واحد كيحيى. وبالمثل نبَّه القرآن أيضا فى الآية التاسعة والخمسين من سورة "آل عمران" إلى أنه لا يختلف عن خلق آدم. أى أنه لا ربوبية فيه عليه السلام بأى معنى من المعانى، إنما هو عبد لله مثل بقية العباد.

ولنفترض بعذ هذا كله أنه "غلامٌ زَكِىٌّ" بالمعنى الذى فهمه الواعظ النصرانى، فهل معنى هذا أن الغلام الزكى لا يجوز عليه الخطأ قط؟ ترى لو قلنا إنه فلانا ذكىٌّ أو وقورٌ أو مُجِدٌّ، أيكون معنى هذا أنه هكذا فى كل صغيرة وكبيرة وفى كل لحظة؟ لا، بل المقصود أن هذا هو الغالب عليه وأنه لا يحيد عن هذا إلا على سبيل الاستثناء. وقد بينا أنه عليه السلام كان ينفعل ويلعن ويشتم، ويتحدث إلى أمه فى لهجة خشنة لا احترام فيها، ويأكل من الحقول دون إذن أصحابها، كما كان ينظر إلى نظافة اليد والفم قبل الأكل على أنها أمر معيب، مؤكدا أن الأفضل تناول الإنسان طعامه دون غسل يديه أو فمه... إلخ حسبما كتب مؤلفو الأناجيل، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدق كثيرا مما ينسبه إليه أولئك المؤلفون من تصرفات خاطئة لا تليق برسل الله، صلوات الله عليهم أجمعين! وحتى لو قبلنا أنه كان إلها كما يقولون، فالرد هو أنه لم يكن إلها نقيا، بل كان إلها متجسدا فى هيئة إنسان، ومن ثم كان مهيأ للخطإ بين الحين والحين بصفته الإنسانية مثلما كان يخضع للجوع والعطش والحاجة إلى دخول الحمام، ومثلما كان يقلق ويحزن ويغضب ويجزع من الألم لذات السبب! بل حتى لو قلنا إن "الزكىّ" هو الذى لا يرتكب خطيئة قط، فالواقع أن هذا ليس خاصا بعيسى وحده صلى الله عليه وسلم. كيف ذلك؟ الجواب نأخذه من النص التالى الذى يتحدث فيه المسيح ذاته، وليس أحدا سواه، عن الدماء الزكية بين البشر بوصفها شيئا كثيرا غير موقوف عليه وحده، وهو موجود فى الإصحاح الخامس والعشرين من متى: "29وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ، 30وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ. 31فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. 32فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. 33أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ 34لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ، 35لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ". وقد تكررت فى الكتاب المقدس تلك العبارة أو ما يشبهها، ومنها ما نقرؤه فى الإصحاح السادس والعشرين من سفر إرميا من تحذير ذلك النبى لقومه من الإقدام على قتله لمجرد أنه بلغهم رسالة ربه بما ينتظرهم من دمارٍ جراء عصيانهم وكفرهم واصفًا دمه الذى سيريقونه عندئذ بــ"الدم الزكىّ": "15لكِنِ اعْلَمُوا عِلْمًا أَنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي، تَجْعَلُونَ دَمًا زَكِيًّا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى سُكَّانِهَا، لأَنَّهُ حَقًّا قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ إِلَيْكُمْ لأَتَكَلَّمَ فِي آذَانِكُمْ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ»".

ثم لقد تكرر فى القرآن المجيد الكلام عن تزكِّى هذا الشخص أو تزكيته بوصفه أمرا ممكنا جدا وليس فيه شىء خارق: ففى سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)"، وفى سورة "الليل": "فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20)". بل إن القرآن ليذكر أن النبى عليه السلام يزكّى الآخرين، أى يمنح الناس زكاة النفوس. قال تعالى فى سورة "البقرة": "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)"، وفى سورة "آل عمران: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)"، وفى سورة "التوبة": "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)"، وفى سورة "الجمعة": "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)". ثم إن فضل القرآن على عيسى عليه السلام لهو فضل عظيم، فهو الكتاب الوحيد الذى برّأ مريم عليها السلام مما شنّع اليهود به عليها وافْتَرَوْا على عرضها الافتراءات النجسة مثلهم، ووسمو ابنها بالجنون والسحر، فتصدى القرآن لهم ومجّدها وابنها أيما تمجيد، وإن لم يَعْدُ بهما رغم هذا حدود البشرية والعبودية لله الواحد الأحد، وكفّر من يؤلههما تكفيرا.

ويقول الواعظ النصرانى إنه "لا فرق بين رسالة عيسى وسلوكه، إذ عاش ما قاله، وثبت بلا لوم وبدون خطية"، إلا أن كتبة الأناجيل لهم، فيما يبدو، رأى آخر، إذ ذكروا مثلا أنه كان مارا هو وتلاميذه بحقل من الحقول، فانقضوا عليه يأكلون ملء بطونهم دون إذن من صاحبه الذى كان غائبا! وبالإضافة إلى ذلك نجده،صلى الله عليه وسلم يأمر أحد الرجال أن يذهب إلى إحدى الحظائر ويأخذ الأتان المربوطة هناك ويأتيه بها دون إذن من صاحبها، كى يركبها عند دخوله القدس! كما أن أولئك الكتبة يجعلون أول معجزة يجريها عليه السلام هى تحويل الماء إلى خمر، أى استبدال شراب الشيطان بشراب الفطرة! وهناك موقف غير مقبول البتة نسبوا إليه فيه احتقار امرأة كنعانية أو فينيقية احتقارا مزريا غير إنسانى بالمرة، إذ أتته تلك المرأة ليشفى لها ابنتها، بيد أنه رفض لأنها، كما قال، غير إسرائيلية، وهو لم يُبْعَث إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة، وقال لها فى تجبر وتكبر مهين إن الطعام الذى يحتاجه الأولاد يحرم على الكلاب، فما كان منها إلا أن قالت فى لهفة وحرقة وذلة ضارعة كى تنقذ ابنتها إن للكلاب أيضا نصيبا من الفتات المتساقط من المائدة تحت الأرجل، فعندئذ وعندئذ فقط رضى أن يشفى لها ابنتها، مع أن الشفاء لم يكن يكلفه شيئا ولا يقتضيه نَصَبًا، فهو معجزة ربانية يجريها الله على يديه دون أى مجهود! وهناك إلى جانب هذا وذاك وذلك شتائمه المجلجلة لليهود ولعنه لهم وقلبه موائدهم فى الهيكل واستخدام السوط فى إخراجهم منه، ونفيه الإيمان فى أكثر من مناسبة عن تلاميذه، و بالذات بطرس، وجفاؤه فى كلامه إلى أمه وعنها كما تقدمت الإشارة. فأين قوله الشهير عن محبة أعدائنا ومباركة لاعنينا وإدارة الخد الأيسر لمن يصفعنا على الخد الأيمن وترك الإزار بالمرة لمن يَغْصِبنا الرداء حتى نمشى فى الشوارع عرايا تماما وبلابيص نستعرض عوراتنا وسوآتنا مباهين بها؟ واضح أن هناك فجوة هائلة بين المبدإ والتطبيق ينفى صحة كل ما قاله الواعظ عن التطابق التام بين الدعوة والسلوك عنده عليه السلام. وليس هذا الكلام من لَدُنّا، بل من الأناجيل نفسها، وكل دورنا منحصر فى الإشارة إلى ما فيها هى دون تدخل من جانبنا، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدق ما يقال عنه صلى الله عليه وسلم مما يسىء إلى صورته الكريمة.

وفى إنجيل الطفولة (THE ARABIC GOSPEL OF THE INFANCY OF THE SAVIOUR ) نُلْفِى الغلام عيسى يتصرف تصرفات مخيفة تدل على قسوة وغلظة وشراسة تتناقض مع ما يدعيه الواعظ النصرانى له صلى الله عليه وسلم . وليس المسلمون هم الذين كتبوا هذا الإنجيل، بل بعض النصارى الذين أردوا تمجيده عليه السلام والزعم بأنه إله: فمن ذلك أنه، عندما ضرب أحد صبيان اليهود الغيورين على السبت بركة الماء الصغيرة التى صنعها عيسى بيده فى ذلك اليوم المقدس عند اليهود للعب عندها وشكّل بعض التماثيل الطينية حولها كما يفعل الأطفال، قام عيسى بتجفيفه وإماتته عقابا له على ضَرْبه بقدمه الحوض الصغير وتجفيف مائه، مع أن الخطأ الذى ارتكبه هذا الصبى اليهودى ليس بالخطإ الجسيم، بل هو من وجهة نظر المتدينين باليهودية، وعيسى لم يأت بنص كلامه لينقضها بل ليكملها، إنما هو عمل محمود. فما القول فى هذا؟ وكيف يمكن الادعاء إذن بأنه، عليه السلام، كان مثالا للوداعة والتسامح وطيبة القلب والعطف على ضعف البشر؟ وهَبْ أن ذلك تصرف خاطئ من الصبى اليهودى، أكذلك تكون عقوبة ذلك الخطإ الهين، إن صح تسميته خطأ أصلا؟ ومن ذلك أيضا أن طفلا اصطدم به فى الطريق دون قصد وهو يجرى فأوقعه، فما كان منه إلا أن توعده أنه سيقع فى الأرض كما أوقعه وأنه لن يقوم من سقطته ثانية. وقد كان، إذ وقع الولد ميتًا فى الحال! فيا للتسامح والصبر والمرحمة! أترى ينبغى أن نعلل ذلك بأنه لم يكن وقتئذٍ إلها ناضجا عنده خبرة تساعده على الفهم والتسامح؟ لكنْ هل الآلهة تكبر وتنضج، وفى خلال ذلك تنقصها الخبرة مثلنا وتتخذ قراراتها فى عصبية وقسوة وضيقِ عَطَنٍ كصبيّنا الإله؟ يا لها من ألوهية هزيلة! وهاتان هما القصتان كما قرأتهما فى الترجمتين الإنجليزية والفرنسية لذلك الإنجيل:

A- "46. Again, on another day, the Lord Jesus was with the boys at a stream of water, and they had again made little fish-ponds. And the Lord Jesus had made twelve sparrows, and had arranged them round His fish-pond, three on each side. And it was the Sabbath-day. Wherefore a Jew, the son of Hanan, coming up, and seeing them thus engaged, said in anger and great indignation: Do you make figures of clay on the Sabbath-day? And he ran quickly, and destroyed their fish-ponds. But when the Lord Jesus clapped His hands over the sparrows which He had made, they flew away chirping. Then the son of Hanan came up to the fish-pond of Jesus also, and kicked it with his shoes, and the water of it vanished away. And the Lord Jesus said to him: As that water has vanished away, so thy life shall likewise vanish away. And immediately that boy dried up. 47. At another time, when the Lord Jesus was returning home with Joseph in the evening. He met a boy, who ran up against Him with so much force that He fell. And the Lord Jesus said to him: As thou hast thrown me down, so thou shall fall and not rise again. And the same hour the boy fell down, and expired".


B-" XLVI. - Un autre jour, le Seigneur Jésus se trouvait encore avec des enfants sur le bord de l'eau, et ils avaient détourné l'eau de ce ruisseau par des fossés, se construisant de petites piscines; et le Seigneur Jésus avait fait douze moineaux, et les avait arrangés, trois de chaque côté, autour de sa piscine. Or, c'était un jour de sabbat; et le fils du Juif Hanani, s'approchant et les voyant agir de la sorte: Est-ce ainsi, dit-il, qu'un jour de sabbat vous faites des figures de terre? Et accourant promptement, il détruisait leurs piscines. Mais lorsque le Seigneur Jésus eut frappé des mains sur les moineaux qu'il avait faits, ils s'envolaient en criant. Ensuite le fils d'Hanani s'approchant aussi de la piscine de Jésus pour la détruire, son eau s'évanouit, et le Seigneur Jésus lui dit: Comme cette eau s'est évanouie, de même votre vie s'évanouira; et sur-le-champ cet enfant se dessécha. XLVII. - Dans un autre temps, comme le Seigneur Jésus retournait le soir à la maison avec Joseph, il fut rencontré par un enfant qui, courant rapidement, le heurta et le fit tomber. Le Seigneur Jésus lui dit: Comme vous m'avez poussé, de même vous tomberez, et ne vous relèverez pas; et, à la même heure, l'enfant tomba et expira".

بل إنه حين بلغه مقتل أستاذه ومُعَمِّده يحيى عليه السلام نجده، حسبما يذكر مؤلفو الأناجيل أيضا، ينصرف إلى البَرِّيّة هو وتلاميذه دون أية مبالاة حيث قَضَوْا هناك وقتا يأكلون ويشربون خفيفى النفوس والضمائر لم يذرفوا عليه دمعة، وكأن شيئا لم يحدث! وفوق كل هذا فإن الشيطان قد طمع فيه وفى إغوائه، فقاده هنا وههنا وأخذ يتنقل به من رأس الجبل إلى قلب البرية إلى قمة المعبد طالبا منه هذا وذاك من المطاليب الغريبة المخالفة للإيمان مما يقول النصارى عنه إنه كان تجريبا من الشيطان له! فكيف بالله يطمع إبليس فيه كل هذا الطمع؟ أترى أبا الشياطين كان قد طعن فى السن وضعف بصره فلم يعد يميز المرئيات ولم يدرك أنه إنما يتعامل مع الله نفسه لا مع واحد من البشر؟ فكيف لم ينبهه الرب ويقول له: "يا أخى، خَلِّ فى وجهك حصاة ملح، فهذا عيب لا يليق"، ثم يصفعه قلمًا على وجهه يجعل عينيه تطقّان شررا، وحينئذ يعرف أن الله حق ولا يعود لمثلها أبدا؟ بل كيف يطيع هو أبا الشياطين ويتبعه أينما أخذه وحيثما ساقه؟ بل كيف يصرح عليه السلام بأنه ما جاء لينقض الناموس، ثم ينقض على الناموس فى التو واللحظة ناسخًا هذا التشريع أو ذاك من التشريعات التى أتى بها موسى؟ وكل ذلك معروف لمن قرأ الأناجيل، ولسنا نحن المسلمين الذين قلنا هذا، بل كتبة العهد الجديد. وقبل ذلك كله فإنه، عليه السلام، قد خالف أشد المخالفة أساس دينه وجوهره والمحور الذى يحور هذا الدين إليه ويدور عليه، وذلك حين وضعه أعداؤه على الصليب طبقا لما ورد فى الأناجيل لا لما نؤمن نحن المسلمين به، إذ يعتقد النصارى أنه، عليه الصلاة والسلام، قد جاء ليفدى البشر جميعا (البشر جميعا لا بنى إسرائيل، الذين تكرر منه القول بأنه إنما أتى لهم وحدهم، ولكى يعلّمهم لا ليكفّر عنهم خطيئاتهم ولا يحزنون!)، لكننا ننظر فنراه يجزع قبلها ويقلق ويملؤه الهم والكرب، وفوق الصليب يصرخ ويجأر مستغيثا ولا مغيث، بما يفيد أنه نسى مهمته التى نزل من أجلها على الأرض أو على الأقل: لم يستطع أن يرتفع إلى مستواها. ومعنى هذا أن سلوكه لم يكن مطابقا لما ينادى به. فإذا أضفنا ما يقوله النصارى عن ربوبيته تبين لنا أن الطامة أفظع وأفدح، إذ معنى ذلك أن هذا الرب أضعف من أن يتجنب الخطأ، مع أنه هو الذى خلق، فيما خلق، الخطأ، وكان يستطيع أن يعفى نفسه من اجتراح هذا الخطإ، وأضعف كذلك من أن يتحمل العذاب والألم، مع أنه هو الذى خلق، فيما خلق، العذاب والألم، وكان يستطيع أن يعفى نفسه من الشعور بذلك العذاب والألم، وهذا إن كان الآلهة يخطئون ويألمون ويتعذبون. وعلى يد من؟ على يد المجرمين من مخلوقاتهم! عجبا! وبالمناسبة فمن المسلمين الأوائل والأواخر من تعرضوا لمثل هذا التعذيب وتحملوه وراحوا ضحيته دون طنطنة كهذه من زملائهم ومحبيهم!

وبالمناسبة أيضا فإننا لم نكن لنحب أن نعقد مثل هذه المقارنة، ونعتقد أن الرسول الكريم ما كان لينشرح صدره بمثل هذا الكلام، لولا... نعم لولا أن بعض النصارى يتحدَّوْن المسلمين بهذه المقارنة: فتجد مثلا هذا الكتاب الذى نحن بصدده الآن منشورا فى المواقع النصرانية المختلفة، كما أن بعض القمامصة المناكيح يستفزوننا فى رسائلهم المشباكية للرد عليه وعلى أمثاله، مع التهور السفيه فى التباذؤ بحق الرسول الكريم، وإن كان مؤلفو هذا الكتاب (وهذه شهادة حق) حريصين على ألا ينزلوا إلى هذا المستنقع المنتن، وهو ما نحمده لهم ويظهر أثره فى ردنا عليهم كما لا بد أن القراء قد لاحظوا. فنحن إذن مضطرون إلى الرد على مثل تلك الاستفزازات والتحديات بين الحين والحين حتى لا يظن القراء الذين لا يحيطون بالأمر من جميع جوانبه أنه تحدٍّ صعب، مع أنه كما يرون بأنفسهم الآن ليس فيه من الصعوبة قليل أو كثير، وإن كنت أشعر بشىء من الحرج لما أسببه من ألم دون قصد لبعض الأصدقاء النصارى الذين يكاتبوننا ويبادلوننا المودة لأن هذا الكلام لا بد أن يكون له تأثير غير طيب فى نفوسهم مهما كانت سعة صدروهم وعقولهم. لكننا نعتمد رغم ذلك على حسن إنصافهم، فالهجوم على سيد المرسلين قد أضحى شغلة كل سافل لا شغلة له ولا مشغلة، وبخاصة القمص المنكوح الذى يمطرنى كل قليل بطوائف من الكتب يتحدانى أن أرد عليها جميعا، وكلما فَنَّدْتُ له بعض ما يرسله من سخافات وجهالات ولم أترك فيه قطعة متصلة بقطعة أخرى على مدى عشرات الصفحات فى منطق محكمٍ باترٍ قال ببساطة دون أن يكلف نفسه الرد على شىء مما كتبناه: دعنا من هذا وتعال إلى شىء آخر، أو إن هذا الذى كتبتَه لا يقنعنى. هكذا فى "كلمتين وبَسْ"، وكان الله يحب المحسنين! فنرجو من هؤلاء الأصدقاء أن يعذرونا ولا يظنوا أننا مغرمون بإيلامهم، بل كل ما هنالك أننا نرد على بعض هذه التحديات التى أشرنا إليها، بعضها فقط مما نرى أنه يغنى عن الباقى، وليس كلها، وإلا فلن نفرغ من الكتابة والكلام، ولن نستطيع رغم ذلك أن نغطى ولا واحدا على الألف مما يُطْرَح من استفزازات. كما أن الطرف الآخر لا يجشم نفسه الرد على ما نقول، وإذا فعل فإنه يلجأ إلى الكذب والافتراء والتلاعب بالنصوص، ولا يفصّل القول تفصيلا كما نفعل نحن دائما بحيث لا نترك ثغرة فى الموضوع دون أن نسدها فلا تبقى فاغرةً كدبر القمّص المشروم! سلامات يا قمّص!

ومما يحاول الواعظ النصرانى أن يميز به بين السيد المسيح وزملائه الأنبياء قوله: "يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة، ويذكر الأخطاء لبعضهم ما عدا المسيح، فكان دائمًا بريئًا وطاهرًا". ولقد كنا نود لو أنه ذكر الخطايا التى ادعى أن القرآن سجلها على الأنبياء، لكنه لم يفعل، وهو لم يفعل لأنه لا يذكر الحقيقة، لا نقول: كذبا منه وبهتانا، بل نقول: نسيانا منه أو خلطا بين القرآن والكتاب المقدس، الذى ينسب لهم كل طامّة وطامّة من النوع الثقيل الذى لا يحتمل، وكأن الأنبياء والرسل هم عصابة من المجرمين العتاة: فمنهم القاتل، ومنهم الزانى، ومنهم السِّكّير، ومنهم المخادع، ومنهم مُضاجِع المحارم، ومنهم المشارك فى الوثنية، ومنهم المُهَـئُِّ جوها ومباركها لمن يريد ممارستها من زوجاته، ومنهم من يَنْظِم الغزل الشهوانى الفاجر الداعر، ومنهم من يجدّف فى حق الله... وهلم جرا، بخلاف القرآن، الذى لم يذكر شيئا إلا عن موسى حين قتل المصرى عن غير عمد واستغفر ربه فى الحال فغفر له جل وعلا، وإلا ما قاله فى حق ذى النون عندما ضاق ذرعا بقومه يأسا من صلاح حالهم فتركهم ومضى، فكانت النتيجة أن التقمه الحوت حيث بقى فى بطنه يعانى بُرَحاء الهم والكرب إلى أن تجلى الله عليه برحمته. وهذه أو تلك، كما نرى، ليست خطيئة، إذ إن قَتْل المصرى لم يكن مقصودا، بل كان على سبيل الخطإ، وتدارَك موسى الأمر فى الحال فاستغفر ربه من أعماق قلبه نادما مرتجفا مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم عازما على أن يكون أكثر تنبها فى المرات القادمات وألا يكون ظهيرا للكافرين البتة. وكان الله عند حسن ظنه به فغفر له لمعرفته سبحانه أنه غير ملوم. كما أن ذا النون لم يقترف خطيئة ولا خطأ، بل كل ما وقع منه أنه ترك قومه يأسا منهم بعدما ذاق الأمرين فى دعوتهم إلى دينه دون ثمرة، وكان ينبغى ألا يفارقهم إلا بعد أن يأذن الله له. وهذا كل ما هنالك، فلا خطيئة إذن. ذلك أن الأنبياء والرسل هم صفوة خلق الله الذين اختارهم سبحانه من بين البشر، فلا يعقل أن يكونوا بهذا الخلق الإجرامى المنحط، وإلا فقل: على النبوة العفاء. وهذا منطقى تماما، لأنه إذا كان الأنبياء لا يتميزون عن سواهم من الناس وكانوا قابلين للوقوع فى الجرائم والخطايا (لا الأخطاء التافهة التى لا يمكن البشر الفكاك منها مطلقا) فلا داعى إذن ولا معنى لشىء اسمه النبوة. ولينصرف كل نبى إلى حال سبيله ليصلح من شأنه، وهيهات! وعلى هذا فسكوت القرآن عن ذكر خطايا عيسى لا يعنى أنه انفرد من بين إخوانه الرسل بهذا، بل هذا هو موقف القرآن منهم جميعا بوجه عام.

ونعود، كما وعدنا، إلى قول واعظنا عن النبى محمد عليه الصلاة والتسليم: "لما كان محمد فتىً أتى إليه ملاكان وطهرا قلبه. وفي هذا يقول القرآن: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ - سورة الانشراح 1- 3. ومنذ ذلك الوقت أصبح له اللقب الشريف المصطفى فلم يكن صافيًا وطاهرًا في ذاته، إنما أخذ الملاكان الوزر من قلبه تطهيرًا. لقد احتاج محمد إلى عملية جراحية للقلب لتنقية فؤاده قبل أن يصبح نبيًّا ورسولا لله. اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها. إنما القرآن هنا واضح ويتكلم بصراحة. كان محمد إنسانًا طبيعيًّا مولودًا من والدين طبيعيّين، فعاش حياة الفِطرة، وأخطأ مثلنا واستغفر ربه عن ذنوبه وخطاياه. أما المسيح فوُلد من روح الله، وهو كلمة الله المتجسِّد، وعاش قُدّوسًا وطاهرًا منذ حداثته".

ونبدأ بتفسير الواعظ لقوله تعالى: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ"، الذى فسره بأن الملاكين قد جاءاه وهو صبى صغير فى كَنَف حليمة السعدية حسبما يروى بعض كتاب السيرة، فاستخرجا قلبه وغسلاه وطهراه وأعاداه مكانه الأول. والحق أنه لو كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن محمدا قد تم تطهيره قبل أن يرتكب أى خطإ، ومعنى هذا بدوره أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن حظا من أخيه عيسى، الذى ظل دون عماد (أى ظل يعيش فى كنف الخطيئة) إلى أن تجاوز الثلاثين حسب كلام كتاب الأناجيل. ذلك أن التعميد فى النصرانية إنما هو لتطهير المتعمِّد من الخطايا ومساعدته على التوبة. وهذا واضح تماما من النص التالى الذى ننقله من بداية الإصحاح الثالث من إنجيل متى: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ 2قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. 3فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. 5حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، 6وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 7فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ:«يَاأَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. 9وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. 10وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 12الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ».13حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. 14وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» 15فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. 16فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، 17وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»".

وأرجو أن نلاحظ معا كيف أنه لم يتم اعتراف السماء ببنوّة عيسى لله حسب اعتقاد النصارى إلا بعد التعميد، أى بعد أن تم تطهيره وتوبته، أما قبل ذلك فلا. كما أنه، بعد أن وقع التطهير من الخطايا، جاء الشيطان ليجربه فثَبَتَ، من خلال عصيانه لهذا الشرير، أن التعميد قد أتى بمفعوله، وإن لم يمنعه هذا من اللامبالاة فيما بعد بالقبض على يحيى (أستاذه ومعمِّده) وحبسه وقتله، إذ انطلق هو وحواريوه بعد قطع رقبة يحيى عليه السلام إلى البرّية يأكلون ويشربون دون أن يذرفوا عليه دمعة أو يقولوا عنه كلمة تدل على أنه محط اهتمامهم، وكأن يحيى لم يُجْزَرْ على مقربة منهم شرَّ جَزْر! كما أن تعميده، عليه السلام، لم يمنعه مثلا من توضيح أنه ما جاء لينقض الناموس (الذى أكد أنه لن يزول حرف واحد أو حتى نقطة على حرف منه إلى أن تزول السماوات والأرضون، أى إلى يوم القيامة)، لينقضّ فى الحال على عدد من أحكامه فيلغيها إلغاء كما هو مسجل فى الإصحاح الخامس من متى، مناقضا بذلك نفسه مناقضة لا يمكن تسويغها بأى حال، ومدينا نفسه إدانة لا تغتفر حسب كلامه هو ذاته، إذ قال إن من ينقض أحد أحكام ذلك الناموس يكون أصغر فرد فى ملكوت السماوات: "17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. 20فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ". وهذه خطيئة، وأى خطيئة! كذلك فإنه، عليه السلام، فى الوقت الذى شدد فيه على تلاميذه أنه يجب عليهم أن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم ولا يكتفوا بحب من يحبونهم فقط، نراه عقب ذلك فى نفس الخطبة يلتفت إليهم وإلى من تبعه من الجموع متهما لهم بقلة الإيمان (متى/ 6/ 31، و8/ 26)، ومناديا كل واحد منهم بــ"يا مرائى" (7/ 5)، وواصفا إياهم بأنهم "أشرار" (7/ 11). وقد تكرر منه هذا وأشباهه وأشد منه فى مواضع مختلفة من الأناجيل كما نعلم جميعا. ثم إنه كان يصلى ذات مرة فسأله أحد تلاميذه أن يعلمهم كيف يصلون فعلمهم الصلاة على النحو التالى كما فى الإصحاح الحادى عشر من إنجيل لوقا: "1وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَارَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ:«مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 3خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، 4وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ»"، فما معنى أمره لهم بأن يقولوا مثله: "وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا"؟ معناه أنه كان يطلب من الله أن يغفر له خطاياه. وعلى كل فقد حسمها المسيح عليه السلام عندما صرح قائلا: "11اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (متى/ 11). أى أن يحيى، حسب حكمه هو، أفضل منه. أليس عيسى واحدا من الذين ولدتهم النساء؟ كذلك حسمها عليه السلام عندما "18سَأَلَهُ رَئِيسٌ قِائِلاً:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 19فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ" (لوقا/ 18).

والآن ما هى الذنوب التى ارتكبها محمد عليه الصلاة والسلام فى نظر واعظنا الموقَّر؟ لنتركه يقول ما عنده بنفسه: "اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها". هذا ما قاله الواعظ، والآن إلى القارئ الكريم تعليقنا على هذا الذى قاله: فأولا محمد عليه الصلاة والسلام لم يعترف فى القرآن بشىء، بل هو كلام الله لا كلام الرسول. وثانيا ما هى يا ترى تلك الذنوب التى عزاها الواعظ إلى رسول الله تحديدا؟ الواقع أنه لا يوجد شىء من هذا القبيل على الإطلاق، فلا الرسول قد زنى مثلا ولا أراق دما زكيا ولا كذب على أحد ولا حقد عليه ولا أوقع بين أحد من البشر ولا تهاون فى تبليغ الدعوة التى كُلِّف بها ولا حاد عنها وقَبِل من الوثنيين وثنيتهم ولا شرب خمرا ولا سرق ولا استبد بالناس وروّعهم ولا أجحف بحقوقهم ولا ولا ولا مما لم يترك مؤلفو الكتاب المقدس أحدا من الأنبياء إلا زَنُّوه بشىء منه أو أكثر كما يعرف كل من قرأ ذلك الكتاب، وإلا فليدلّنا الواعظ النصرانى على أى مصدر يقول إن الرسول قد أتى أمرا من هذه الأمور! الحق أنه لا يوجد شىء من ذلك لا فى القرآن ولا فى الأحاديث ولا فى كتب السيرة والتاريخ.

إن استغفار الإنسان ربه إنما هو دليل الإيمان القوى به والخشية الشديدة منه والرجاء الكبير فيه سبحانه، وليس شرطا حينئذ أن يكون قد اجترح إثما، بل يمكن جدا أن يكون، كما فى حالة الرسول محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، قد اجتهد فلم توافقه السماء على اجتهاده، كما حدث مثلا حين أتاه أحد المسلمين وهو يحادث بعض الكفار العتاة فى جلسة هادئة رجا منها أن يكونوا أفضل إنصاتا، ومن ثم أحرى أن يهتدوا إلى الحق بعيدا عن مؤثرات الجماهير وأصوات العصبية، فبان فى وجهه صلى الله عليه وسلم شىء من عدم الارتياح ظنا منه أنه سيفسد جو الجلسة التى لم يكن يطمع فى أفضل منها، فنزل القرآن معاتبا له عليه السلام. فإن شئت أن تأخذ بما يقوله بعض المفسرين من أن الكلام فى الآيات موجه له فليكن، فهذا كل ما يمكن أن يقال عن الذنب الذى وقع منه صلى الله عليه وسلم مما ينبغى أن يستغفر ربه منه، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما يقال. وهو، كما نرى، أمر من التفاهة بمكان، لكن الرسول إنما يحلق فى أفق آخر لا نظير له فى السمو والسموق، فكان لا بد من الاستغفار. وهذا إن أخذنا بذلك التفسير، ولم يكن الانتهار موجها إلى أحد الكفار الحاضرين لا إليه صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض العلماء الآخرين.


أما مسألة زينب وزواجه صلى الله عليه وسلم بها فلنفترض أسوأ ما يمكن أن يكون قد حصل، وهو أنه عليه السلام قد رآها فوقعت فى نفسه وأحبها، فما الذى حدث عندئذ؟ الذى حدث هو أنه صلى الله عليه وسلم كتم هواه، ولم يستجب للعرض الذى عرضه عليه زيد بن حلرثة زوجها بأن يطلقها ليتزوجها هو. فما وجه الخطإ هنا ( اقرا رد الدكتور إبراهيم عوض حول زواج محمد عليه السلام بزينب بنت جحش

هل يلام صلى الله عليه وسلم فى شىء لا مسؤولية فيه عليه؟ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولا تدخل فى سلطان صاحبها ولا تخضع لسيطرته، ومن ثم فلا ملام عليه فيما يشعر به فى مجال المشاعر والعواطف، والمهم ألا يستجيب لدواعى الشهوة فينغمس فى الحرام أو على الأقل: فيما لا يليق. فهل صدر عنه صلى الله عليه وسلم شىء من هذا؟ لا ثم لا ثم لا. فما المشكلة إذن؟ وهذا إن كان الأمر كما افترض بعض من يظنون أنهم يستطيعون الإساءة إليه، وسايرتُهم أنا فيما افترضوه.

لكن الحكاية الحقيقية تختلف عن هذه تماما، إذ كانت العلاقة بين زيد وزوجته يسودها التوتر منذ البداية لأنها كانت تشعر أنها من أعز قبيلة عربية، وهى قبيلة قريش، بينما زيد من قبيلة بنى كلب المغمورة، فضلا عن أنه خَبَرَ الرِّقّ فى بعض أطوار حياته، فكان زيد يخبر النبى بأنه لم يعد يرى فى الاستمرار فى الزواج أى معنى، لكن النبى كان يَثْنِيه عن عزمه هذا، على حين تريد السماء منه أن يتزوج زينب بعد تطليق زيد لها حتى يقضى على التقليد الغريب الذى كان يرى فى الابن المتبنَّى نفس حقوق الابن الطبيعى وما يترتب على وضعه من أحكام تشريعية وأوضاع اجتماعية، وهو ما كان النبى يخشاه، خوفا من انتقاد المنتقدين وتشنيع المشنّعين. وهنا نزلت الآية الخاصة بذلك الموضوع من سورة "الأحزاب" والتى تعاتبه على أنه يخشى الناس والله أحق أن يخشاه. وتمامها: "فلما قضى زيدٌ منها وَطَرًا (أى تزوجها ونال منها ما يناله الرجل من زوجته) زوّجْناكها لكيلا يكون على المؤمنين حَرَجٌ فى أزواج أدعيائهم إذا قَضَوْا منهن وَطَرًا". فواضح من الآية أنه لا علاقة بينها وبين ما يتقوله المتقولون على النبى صلى الله عليه وسلم مما لا مطعن فيه مع ذلك عليه، بل له الشرف كل الشرف أنْ استطاع أن يكتم مشاعره ولم يسمح لها بالاشْرِئْباب رغم ما عرضه عليه زيد من تطليق زينب كى يتزوجها صلى الله عليه وسلم . نخرج من هذا كله بأن أقصى ما يمكن أن نتصور وقوعه منه صلى الله عليه وسلم مما استوجب استغفار ربه هو تصرفه نحو ابن أم مكتوم حين عبس وتولى بوجهه رجاء أن ينصرف ويأتيه فى وقت آخر لا يكون حاضرا فيه ذلك النفر من المشركين الذين كان يطمع فى حسن إصغائهم لما يقول وإيمانهم به، على حين يستطيع ابن أم مكتوم أن يطرق بابه فى أى وقت آخر ليسأله عما يريد. أما هؤلاء المشركون فنادرًا ما كانت تتاح له معهم مثل تلك الفرصة السانحة! وهذا، بكل يقين، أقل بكثير مما ذكرنا وقوعه من المسيح عليه السلام.

الدكنور إبراهيم عوض

بقية فصول الرد على كتاب " أيهما الأعظم "

·كشف مسرحية عبد المسيح
·ولادة محمد والمسيح عليهما السلام
·الوعود الإلهية عن محمد والمسيح
·الوحي لمحمد والمسيح
·معجزات محمد والمسيح
·موت محمد وموت المسيح
·محمد والمسيح بعد موتهما
·سلام محمد وسلام المسيح
المصدر: طريق الخلاص


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ردا علي كتاب أيهما الاعظم لعبد المسيح\\الوعود الإلهية عن محمد والمسيح مزون الطيب هدي الإسلام 0 05-02-2012 01:44 PM
ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\معجزات محمد والمسيح مزون الطيب هدي الإسلام 0 05-02-2012 01:39 PM
ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\المسيح رحمة الله مزون الطيب هدي الإسلام 0 05-02-2012 01:37 PM
ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\العمل في الإسلام والمسيحية مزون الطيب هدي الإسلام 0 05-02-2012 01:35 PM
ردا علي كتاب أيهما أعظم ؟ محمد أم المسيح\\مكانة العلم في الإسلام مزون الطيب هدي الإسلام 0 05-02-2012 01:34 PM


الساعة الآن 01:45 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22