التاريخ:, الدولة, الرابع, الفرنسي, هنري
من التاريخ: هنري الرابع رجل الدولة الفرنسي
د. محمد عبد الستار البدري
لقد تابعنا كيف تحولت فرنسا إلى ساحة اقتتال على مدار عقود القرن السادس عشر بسبب انتشار الحرب المذهبية التي داهمتها بعد ظهور الحركات البروتستانتية الرافضة للكاثوليكية وسلطة البابا في فرنسا، والتي تطورت فيما بعد لما عرف بـ«الاتحاد الكالفيني»، والذي أدى لظهور «العصبة الكاثوليكية» في المقابل، وقد فشلت كل جهود الملكية للسيطرة على الأمر، خاصة بعد مذبحة «القديس بارثولوميو»، والتي حاول التاج من خلالها التخلص من قيادات الحركات البروتستانتية، ولكنها لم تنهِ الحرب في كل الأحوال، فاستمرت الصراعات مما اضطر الملك الفرنسي الفاسد «هنري الثالث» لمحاولة تهدئة الأوضاع بعد الصراعات داخل القصر بسبب زيادة نفوذ أسرة «دي جيز» الطامعة في الحكم، وهو ما اضطره في النهاية للتحالف مع «هنري نافار» الكالفيني لمواءمة سطوة الكاثوليك على حكمه، ولكن القدر لم يمهله طويلاً، فقد طعنه أحد القساوسة لاعتقاده أنه خرج عن الملة الكاثوليكية، ولكن الرجل كان قد عقد ولاية العهد إلى «هنري نافار»، والذي آل إليه حكم فرنسا في عام 1598 وحكم البلاد تحت اسم «هنري الرابع»، وقد استمرت أسرته في الحكم تحت اسم «البوربرون» إلى أن قامت الثورة الفرنسية في عام 1789.
لقد ورث هذا الملك الطموح مملكة مهلهلة بالحرب الأهلية مستعصية على أي محاولة للوحدة السياسية أو الدينية أو حتى الاقتصادية، ولكن المشكلة الأساسية التي واجهت هذا الملك الجديد هي أنه لم يكن قادرًا على دخول العاصمة باريس، والتي رفضت توليه العرش لكونه غير كاثوليكي، ولكن رجل الدولة بداخل الملك تغلب عليه، فسرعان ما أعلن عودته إلى الكاثوليكية لاستمالة أهل باريس، كما أنه بدأ يمالئ السلك الكنسي في فرنسا مرة أخرى، ولكنه لم يكن على استعداد لأن يشق الجراح الدينية، فلقد قرر الرجل أن يضع حدًا للحرب الأهلية الدينية، فأصدر ما هو معروف بـ«مرسوم نانت» في عام 1598، والذي بمقتضاه سمح بحرية العقيدة في كل الأراضي الفرنسية على أن تبقى باريس وخمس مقاطعات كاثوليكية لأسباب مفهومة، وقد سمح أيضا بحرية ممارسة العبادة في كل الأماكن وضمنت الدولة هذه الحقوق تمامًا، كما أنه منح للبروتستانت حق المحاكمة من خلال المحاكم المختلطة لضمان العدالة في البلاد، حيث كان يجلس على المنصة قاضيان، الأول كاثوليكي، والثاني بروتستانتي، كما منح هذا المرسوم للبروتستانت ما يقرب من مائة محمية للدفاع عن المقاطعات البروتستانتية على أن تقوم الدولة بتمويل هذه المحميات، وعلى الرغم من أن الكاثوليك أصيبوا بصدمة من إقرار مثل هذه الحقوق، فإن البروتستانت رأوا أنها لم تصل إلى مستوى المساواة الكاملة مع الكاثوليكية، ولكن هذا المرسوم الهام والشجاع كان له بُعد نظره في ظروفه، حيث امتص شحنة الصراع وأزاح شبح الحرب الأهلية على الأقل في المدى القصير حتى يمكن له إدخال الإصلاحات اللازمة في البلاد ليمتص عناصر الفوضى، كما أنه فتح المجال لما يمكن أن نصفه اليوم بإجراءات بناء الثقة بين الطرفين بشكل يسمح بإقامة مجتمع أكثر هدوءًا وتعايشًا، وهنا كان الملك غاية في الحكمة، فلقد استوعب كل الأطراف حتى وإن لم يرضوا جميعًا عنه.
بمجرد أن أزاح هنري الرابع كابوس الحرب الأهلية، أدرك أن الفقر هو العدو التالي لفرنسا، وكان عليه أن يتحرك بخطى سريعة لاستيعاب الفئات المهمشة والفقيرة، فالدولة الفرنسية قاربت الإفلاس بسبب الحروب الداخلية والخارجية الممتدة، كما أنها كانت تعاني من التفسخ الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى نظام ضريبي فاسد تمامًا وانهيار كبير في البنية التحتية في البلاد، وقد كان على رجل الدولة الجديد أن يبدأ بعملية واسعة النطاق لاستيعاب كل هذه المشكلات، والتي كان من شأنها أن تبعث الفوضى في البلاد بما يمكن أن يؤدي لانتشار الحرب الأهلية مرة أخرى، وهنا استعان الرجل بصديق قديم له معروف في كتب التاريخ باسم «الدوق دي صالي»، أحد أبرع الساسة الذين أنجبتهم فرنسا في القرن السابع عشر، وقد كان هناك شبه تقاسم سلطة بين الملك وهذا الرجل، فالأخير كان حكيمًا صاحب رؤية ثاقبة، بينما مثل الملك السلطة الحاكمة والقادرة على إدارة البلاد بدبلوماسية شديدة كان الأول يفتقر إليها تمامًا.
بمجرد تعيين «دي صالي» رئيسًا للوزراء، بدأ الرجل مرحلة إصلاح واسعة النطاق بدأها على الفور بتحسين نظام الضرائب وإدخال التعديلات التشريعية اللازمة عليه لضمان وقف السرقات التي كانت معتادة، كما أنه وضع نظامًا محاسبيًا دقيقًا للبلاد ضمن له السيطرة الكاملة على موارد الدولة، ويضاف إلى ذلك أنه اهتم اهتماما واسعًا بتحسين المرافق العامة والبنية التحتية في البلاد فقام بشق القنوات والترع وبناء شبكة واسعة من الطرق، فضلاً عن تحسين أحوال المزارعين بتقديم الدعم اللازم لهم لزيادة الإنتاج والمنافسة، كذلك فقد نهض الملك بالصناعة ووضع الحوافز المختلفة لتشجيعها، وعلى رأسها صناعة الحرير والصوف والزجاج وغيرها، وقد ضمن لها نوعًا من الدعم، فضلاً عن الحمائية من خلال رفع التعريفات الجمركية أو حتى منع الاستيراد لكثير من هذه الصناعات المنافسة، أما على الصعيد الخارجي فقد تعمد الملك تحسين أوضاع فرنسا خارجيًا بتقوية الجيش والأسطول على حد سواء، وفي عهده حصلت فرنسا على مقاطعة «كيبيك» الكندية بحيث أصبحت في بداية الطريق للحصول على مستعمرات في الخارج، كما أنه أنهى الصراعات الفرنسية مع أسرة الهابسبورج، سواء في الإمبراطورية الرومانية المقدسة أو في إسبانيا.
وقد أتت هذه الإصلاحات الدينية والاقتصادية بآثارها السريعة والعظيمة في آنٍ واحد، فلقد عم السلام الاجتماعي في فرنسا بشكل لم يكن معروفًا على مدار القرن الماضي، كما أنه قام بتسوية كل الديون الفرنسية المعلقة من خلال سياساته الاقتصادية، والتي سمحت بمزيد من الضرائب والمكوس وزادت من قدرة الدولة وقوتها، ولكن أهم ما أسفرت عنه هذه السياسات هو زيادة قوة العرش الفرنسي، فلقد أصبحت فرنسا على أعتاب الحكم الملكي المطلق بفضل مزيج من العناصر على رأسها الحنكة والحكمة لهذا الملك المتعقل في أمور بلاده، وأيضا بفضل رؤيته لما يجب أن تكون عليه الدولة وسياساته الإصلاحية في كل المجالات، فلقد استوعب كل الأطراف المعنية في المعادلة السياسية في البلاد، ومع ذلك فإن الإصلاحات واستكمال المشروع المطلق للسلطة الملكية لم يكتمل بالقدر المطلوب، حيث وضع قس كاثوليكي حدًا لهذه الحقبة العظيمة من تاريخ فرنسا بقتل الملك هنري الرابع في 1610، والذي ظلت إصلاحاته التاريخية هامة للغاية ومنحت فرنسا هامشًا واسعًا من الهدوء والأموال سمح لها بأن تستوعب كارثة الحكم الضعيف لابنه الذي ورثه.
وبموت هذا الملك العظيم ورجل الدولة الهام الذي انتشل فرنسا من الحرب الأهلية، آل الحكم إلى ابنه لويس الثالث عشر، وكان دون العاشرة من عمره، فآلت مسألة الوصاية السياسية إلى أمه «ماريا دي ميديتشي»، وهي ثاني ملكة من أسرة ميديتشي تحكم فرنسا بشكل غير مباشر، ولكنها لم تكن أفضل حالاً من سابقتها، والتي أفسدت مع أولادها الحكم في فرنسا، فلقد تخلصت هذه الملكة المتشددة ذات الرؤية الضيقة من رئيس الوزراء العظيم واستعاضت به بشخصيتين إيطاليتين من عديمي الخبرة والرؤى، فبدأت الدولة تدخل مرة أخرى في مرحلة من الفوضى السياسية والاقتصادية، وخاصة أن الإنفاق العام للملكة والقصر بلغ أشده، وأضحت البلاد على وشك الإفلاس، وبدأت حالة التمرد ضد العرش تظهر من جديد، وإزاء المديونية العالية اضطر الملك المسكين إلى طلب عقد البرلمان الفرنسي، والذي يمثل القطاعات المختلفة من الشعب الفرنسي، الأول هو لرجال الدين، والثاني للطبقات الأرستقراطية، والثالث لعامة الشعب، ولكن الصراعات الداخلية في البرلمان منعته من التقدم بأي أفكار جديدة، مما تسبب في مشكلة حقيقية في البلاد، وباتت البلاد في حاجة إلى رجل دولة جديدة حتى لا تنزلق في الفتن وبراثن الحرب الأهلية، وهنا منح القدر فرنسا فرصتها الثانية ممثلة في رجل دولة تقديري أنه من أفضل رجال الدولة في تاريخ فرنسا على الإطلاق، وهو الكاردينال «ريشيليو» أحد أعجب الشخصيات وأكثرها تناقضًا ليس فقط في تاريخ فرنسا، ولكن في تاريخ الدول على مر العصور كما سنرى.