أيها, السوريون.., العرب, تواطؤ, ضدكم
الهجوم بواسطة مجموعة كوماندوز محترفة محمولة جواً، والسيطرة على السفينة بالكامل واقتيادها إلى ميناء أسدود بفلسطين المحتلة، كان مصير السفينة مرمرة التي كانت متجهة لغزة وتقل عدداً من النشطاء العرب والأتراك وغيرهم علاوة على المواد الغذائية لإظهار التضامن مع غزة المحاصرة أواخر مايو 2010..
الهجوم حصل في المياه الدولية، لكن إبحار سفينتين عسكريتين إيرانيتين بمحازاة سواحل فلسطين المحتلة باتجاه ميناء طرطوس السوري لا يثير شهية "الإسرائيليين" لأي عمل عدائي ضدهما؛ ولم تر فيه تل أبيب أي تهديد لها؛ فاكتفت بمراقبتهما حتى حطتا في الميناء الذي تحتله روسيا وإيران وتمدان النظام الصهيوني في دمشق بما يطلبه من أدوات القمع والأسلحة المحرمة ضد المتظاهرين السوريين.
تدور المسرحية المعتادة.. "تسرِّب" صحافة بريطانيا تحديداً كل عدة أشهر "أنباء" عن سيناريو لضرب إيران، ويتحدث مسؤولون صهاينة بالتزامن عن رغبة مماثلة في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، وتسير الوكالات هذه "المعلومات الخاصة" بصحافة لندن، وتنتشر في كل وسيلة إعلامية، لكن تنتهي الفقاعة الإعلامية بعد أيام، ويكتشف العالم أنها كانت جعجعة بلا طحين.. والآن تمر السفن الحربية وتكتفي تل أبيب بتقديم التحية لها مثمنة دورها الموازي في كبح ثورة الحرية والاستقلال في سوريا..
الولايات المتحدة تعرف عدد السمكات المارة من مضيق هرمز لكنها لم تر السفينتين الإيرانيتين إذ مرتا من المضيق، كما أن نفوذها في قناة السويس لم يحل دون مرور السفينتين، بل ربما لو منعت القاهرة مرورهما لأبدت واشنطن وعواصم أوروبا احتجاجها على "تسييس المرور في القناة المحكومة بفرمان عثماني".. أما طهران فلم تكترث بـ"التهديدات" الأمريكية و"الإسرائيلية" في الخليج، وارتأت أنها بحاجة إلى الإبحار في أعالي البحار بعيداً عن شواطئها "المهددة"؛ فقامت برحلة "تجارية" آمنة توزع السلاح على الموانئ التابعة لها والمتمردين وميليشياتها بالتساوي والقسطاس في ميناء ميدي اليمني إلى الحوثيين، وبيروت إلى "حزب الله" ثم إلى طرطوس معقل الرئيس بشار ومحضن دويلته العلوية المستقبلية.
ثم، لا أحد احتج ولو بأسلوب خجول على هذا الإمداد العسكري المعلن لنظام يمارس أقسى أنواع الإجرام ضد شعب محتل (الشعب السوري)، ولو مدت تل أبيب هذا النظام بالسلاح لاحتج العرب، ولو مد العرب الجيش الحر لاحتج الغرب و"إسرائيل" بل والعالم كله؛ فما هي إذن هذه "الحصانة" الدولية الشديدة التي تتمتع بها طهران، وتوابعها في المنطقة ضد هذا الاختراق الفاضح للقانون الدولي، ولماذا تملك وضعاً لا يتوفر حتى لـ"إسرائيل" في العالم؟! فلا الغرب غضب ولا قدر العرب على مفارقة الخرس المحكومين به بأوامر غربية على عربدة إيران في المنطقة!
أما سوريا، النظام المدلل الثاني بعد "إسرائيل"؛ فلا تواطؤ في العالم يفوق ما حظي به؛ فالأمم المتحدة اكتشفت بعد عام من المذابح على لسان أمينها العام أن ثمة "أنباء" عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، ورئيس هيئة الأركان صمت بدوره كل هذه الشهور انتظاراً واستمطاراً لتصريح "مقنن" من أيمن الظواهري، ليعرب عن خشيته من تسليح المعارضة السورية لأن القاعدة "تبدي اهتماماً" بسوريا، ووزير خارجية بريطانيا لا يريد أن تعترف أوروبا بالمعارضة السورية إلا حالما تتوحد بعد أن انتظر هو الآخر لتنفيذ تمثيلية هيئة التنسيق (الحكومية) المعارضة، ليجد ضالته في وجود هيئتين تتنازعان الحديث باسم المعارضة، وكأن المعارضة المصرية كانت موحدة أو الكتائب الثورية في ليبيا كانت كذلك، ثم بادرت دولة إقليمية هي الأخرى بصناعة "زعيم" جديد للمسلحين السوريين لاستحداث انقسام يبرر الامتناع عن دعم حماة الديار الحقيقيين في سوريا، والناتو يصرح مسؤولوه بعبارة في غاية الغرابة، بأنهم "لن يتدخلوا عسكرياً في سوريا حتى لو فوضهم مجلس الأمن بذلك"، والمندوب المصري، ممثل المجموعة العربية في الأمم المتحدة، يعلن من قلب المنظمة الأممية أن العرب لا يريدون تدخلاً عسكرياً في سوريا، والجامعة العربية كلها تمارس الدجل بأكذوبة المراقبين الممجوجة، والدول العربية المتضررة بالأساس من نظام بشار والتي يثير فيها الأنظمة السورية والعراقية والإيرانية فيها القلاقل تنتظر إذناً بدعم الأبطال الأحرار في سوريا فتبطئ عليهم واشنطن شهوراً وأسابيع.. وجميع الساسة من شرق العالم لغربه يغنون أنشودة "بشار فقد شرعيته"!
متى كانت لبشار "شرعية"؟! نعود بالزمن إلى الوراء.. مات حافظ الأسد قاتل شعبه وذابح الفلسطينين وهارب القنيطرة وبائع الجولان الأول.. كان الدستور لا يسمح بتولي ابنه الوريث بشار للحكم؛ فتم تعديل الدستور في دقيقة واحدة بمجلس "الشعب".. وأتت "الشرعية".. لا، لم تأت من مجلس "الشعب"، وإنما جاءت من خلال زيارة خاطفة قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لدمشق في مجلس عزاء حافظ الأسد، حيث جلست الوزيرة مع الرئيس الجديد قبل توليه الحكم في غرفة مغلقة، و"باركت" وراثته للحكم، وحصل منها حينئذ على "شرعية الحكم والممانعة" معاً! وهي "شرعية" جعلت العالم كله لا يمارس ضغطاً يذكر على نظام بشار فيما رفع الغطاء عن "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل" بعد 18 يوماً فقط من مليونيات ميدان التحرير.
لا يريد الغرب ـ أو العرب ـ تدخلاً خارجياً في سوريا؟ لا، إنه يقبل ويوافق ضمنياً على مرور عشرات الآلاف من الحرس الثوري الإيراني وميليشيات "حزب الله" و"جيش المهدي"، ولا يجد غضاضة في تولي كبار الضباط الإيرانيين، وعلى رأسهم قاسم سليماني قائد الحرس الثوري للعمليات من داخل دمشق وثكنات الجيش السوري ومقرات المخابرات السورية، والجامعة العربية بقيادة نبيل العربي، ودولها الكبرى تجد حرجاً بالغاً في إثارة هذه القضية، وتؤثر السكوت.
مع ذلك؛ فإن هذا كله لا يدعو لليأس، بل إلى الفأل والاستبشار؛ فنحن إزاء جملة من الفوائد تجنيها الثورة برغم فداحة فاتورتها؛ فطبائع الاستبداد التي غيرت بالفعل من طيب معدن أهل الشام كانت بحاجة لشهور من التمحيص والمحنة والابتلاءات كي تخرج عنها خبثها؛ فإذا السوريون ـ كما عرفهم التاريخ ـ أهل مروءة ونجدة وبطولة وإيثار.. وقد كان لزاماً أن تصهر الثورة هذا المجتمع حتى يعود كما عهدته الشعوب العربية، رائداً فاتحاً صامداً مغواراً، ولم تكن أجواء ما بعد بشار لتفعل ذلك من دون هذه المحنة العصيبة.. وقد كانت وستكون ـ بإذن الله ـ لفترة قصيرة أيضاً.
وقد كان النظام الصهيوني في دمشق من الحرفية بحيث انطلت ألاعيبه وخدعه على كثير من القطاعات الشعبية والنخبوية العربية، وأصبح من غير الممكن أن تتغير تلك النظرة من دون حادث كاشف، يميط اللثام عن هذا القبح ويبرزه عياناً بلا غطاء أو رتوش. وتلك المسألة لا تتعلق بـ"شرعية" نظام أو تخص مجرد إعجاب بنمط معين من السياسة، بل يتعدى إلى أيديولوجية ومفاهيم وتصورات وقيم حادت عن الطريق، واستوجبت أن توضع في سكتها الصحيحة؛ فقد توهم البعض أن التمنطق بفكرة "الممانعة" و"المقاومة" يجب كل أيديولوجية، ويغفر لها انحرافاتها العقدية والفكرية ما دامت تختط هذا الطريق وتسير فيه، وقد تبدى من بعد أن هذا المنطق بائس لا من حيث تهافته وضعفه القيمي فقط، بل أيضاً لأن الشواهد تؤكده وتدحض ما هو خلافه؛ فلا مقاومة دون فكر سليم، ولا ممانعة دون منطلقات صحيحة، ولا نجاح لكل هذا دون أخلاق وقيم، وإلا إذا مددنا هذا المسخ على خطه لالتقى مع الصهاينة و"المستعمرين" في نقطة واحدة في النهاية.
ولقد جاءت الثورة بعد سنين، رفع فيها البسطاء صور نصر الله في شوارع عدد من العواصم العربية، بل وضحت في الحوانيت والمنازل انبهاراً بكاريزما صاحبها؛ فلم تمض الثورة حتى صبت عليه اللعائن في قلب القاهرة وسائر العواصم العربية بل والعالمية، ولم تنجل الصورة إلا عن وجه كالح لسفاح مأجور وزعيم ميليشيا دموية قاتلة.
وامتدت شهور الثورة السورية لتقفز بالوعي العربي مسافات ما كان ليقطعها؛ فعلم من سريرة بعض قادته الجدد من سراق الثورات العربية وفلول أنظمتها السابقة ما أشعر الجميع بأن خديعة الاحتفال بالثورات لا ينبغي أن تنطلي على أحد يعرف هدفه، ويسعى لإمساك الدفة جيداً كي لا تضييع الثورات ويخطفها مناهضوها.
أما في قلب الإسلام والعروبة النابض سوريا الحبيبة؛ فقد اختفت شعارات بسيطة لم تكن تعبر عن كينونة الثورة العظيمة، وزأرت دمشق لبيك اللهم لبيك، وصدحت حلب ودرعا وإدلب "يا الله مالنا غيرك يا الله"، وهتفت دير الزور وحماة "وهيه واللا وما بنركع إلا لـ الله"، وصاحت حمص "الله أكبر".. "حسبنا الله ونعم الوكيل"..
هذا هو الانتصار الحقيقي للثورة.. سوريا تعود.. تعود إلى حضن عالمها الإسلامي والعربي.. تعود إلى دورها.. إلى ريادتها.. تعود إلى حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: هم بالشام.
إنها الشام حين تعود لا تلتفت إلى مخالف ولا يضرها خاذل.. ماضية إلى حيث الظهور والانتصار..