المسيحية, الأوسط, الأقليات, الشرق
د. زينب عبد العزيز
عبارة "الأقليات المسيحية فى الشرق الأوسط" تشير إلى إحدى القضايا التى يتم التلاعب بها ومن خلالها، من أجل تحقيق أهداف سياسية، تدفعها الأطماع العمياء، والتى كان من المحال تحقيقها لولا ذلك التلاعب ومساندة الغرب الصليبى لها بعد أن ابتدع العبارة، وتواطؤ بعض المسئولين من المسلمين. ولقد بدأ استخدامها بصورة لافتة للإنتباه عقب أحداث 11/9 المفتعلة، بشئ من الحرص فى البداية، لتتحول إلى ورقة ضغط سياسية لها مفعولها وخباياها. ولقد سبق للبابا بنديكت 16 أن طالب الأمم المتحدة رسميا بأن تتدخل لحمايتهم ! ثم تزايد تداول العبارة فى مصر، فى الأعوام القليلة الماضية، وكل ما واكبها من أحداث إنفلاتية من بعض القيادات الكنسية. كما تزايد تداولها فى الشهور الأخيرة، خاصة منذ انتخاب البابا فرنسيس رئيسا للفاتيكان، وراحت تتصاعد فى الغرب والكتابات الفاتيكانية تحديدا، بمناسبة زيارته للأراضى المقدسة فى الفترة من 24 إلى 26 مايو الحالى (2014).
وتأتى هذه الزيارة التى بدأ الإعداد لها فى سرية شديدة، قبل الإعلان عنها رسميا، بمناسبة مرور خمسين عاما على زيارة البابا بولس السادس لمدينة القدس ولقائه بالبابا أتيناجورس الأرثوذكسى، فى أول لقاء مصالحة بين الكنيستين، قبل إنتهاء أعمال مجمع الفاتيكان الثانى، وتحديدا فى سنة 1964. وكانت المدينة بكلها تقريبا، آنذاك، ضمن أراضى مملكة الأردن، ونفس الحال بالنسبة لجزء كبير من منطقة اليهودية ووادى نهر الأردن. أما اليوم فقد تبدل الوضع وتغيرت الجغرافيا الأرضية والجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، بسبب ما أدى إليه إحتلال الصهاينة من إقتلاع غاشم لأصحاب الأرض الأصليين، حتى استولى على سيادة أرض فلسطين بكاملها تقريبا. كما تمزق لبنان بحرب أهلية مقصودة، وضع جذورها الإستعمار الفرنسى قبل مغادرته، وقد فرض أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية من المسيحيين، حتى يضمن ولائه وليكون ذلك نموذجا يحتذى به فى البلدان العربية الأخرى. علما بأن المسلمين فى لبنان يمثلون حوالى 82 % من التعداد تقريبا، بينما النصارى بكل فرقهم فهم 18% تقريبا، وهذه قضية أخرى.. كما تتعرض سوريا حاليا لحرب جهنمية تفتيتية مغرضة، وتم تخريب وتدمير كلا من أفغانستان والعراق، كما ان مصر على وشك الإنفجار المفتعل، بينما يتنقل آلاف اللاجئين أو الفارين من جحيم بلدانهم. إلا إن محاولة المصالحة بين الكنيستين، لتدعيم الوجود الكنسى أو المسيحى المتعصب، تأتى فى ظروف غير مطمئنة، يحركها الغرب والفاتيكان بإصرار، لتتم رغم كل العقبات، مثلما سار مخطط إحتلال أرض فلسطين بالتسلل التدريجى، إعتمادا على الصمت والتواطؤ ..
وفى أول تصريح للأمين العام الجديد للفاتيكان، بيترو ﭙارولين، المنشور فى جريدة "أفنيرى" الإيطالية يوم 9 فبراير 2014 ، قال بوضوح : "أن موقف مسيحيى الشرق الأوسط يمثل واحدة من كبرى إهتمامات الكرسى الرسولى الذى لا يكف عن إثارة عطف المسئولين السياسيين فى الغرب حول هذا الموضوع، لأن ذلك متعلق بالتعايش السلمى فى هذه المنطقة وفى العالم أجمع". وهو ما يكشف عن إن المسئولين السياسيين فى الغرب لم يكن يعنيهم أمر ولا وضع الأقليات المسيحية فى الشرق الأوسط إلا عندما قرر الفاتيكان فى منتصف القرن الماضى تنصير العالم، فكان لا بد له من إستغلال الأقليات المسيحية فى عمليات التبشير والتنصير، واضطر إلى تدعيمهم وإلى حمايتهم، مثلما فرض على كافة الكنائس نفس المساهمة فى هذه العمليات التى تمثل فى واقع الأمر خيانة صارخة للمسلمين وللبلدان المسلمة التى يعيشون فيها ..
ثم أضاف السيد ﭙارولين قائلا فى نفس الحديث : "ولزيارة البابا فرنسيس [لمنطقة الأراضى المقدسة] أهمية خاصة من حيث توحيد الكنائس، بما أن المسيحيين يمكنهم أن يبحثوا ويجدوا وسائل مشتركة لمساعدة إخوانهم فى الإيمان، الذين يعانون فى مختلف البلدان".. وهى صياغة أخرى تعنى نفس المطلب لكى يتدخل الغرب الصليبى المتعصب فى الشرق الأوسط بزعم مساعدة وإنقاذ الأقليات المسيحية "المضطهدة" ! وهنا لا بد من تقديم دليل واحد على هذه الأكاذيب : إن كانوا مضطهدون فعلا كما يزعمون، لما كان بينهم مليارديرا واحدا، ولا أقول مليونيرا، بل ويا لسخرية الواقع، فإن عدد مليارديراتهم يفوق عدد أمثالهم من المسلمين.. والإحصائيات الرسمية موجودة.
وفى مقال كتبه ساندرو ماݘيستر، أحد مديرى المواقع الرسمية للفاتيكان، تم نشره يوم 11 فبراير 2014 تحت عنوان لافت : "ما تبقى من مسيحيى الشرق"، بدأ بالتباكى على إضطرارهم الفرار من أهوال الحروب أو أهوال ما يتعرضون له وترك بلدانهم إلى أن وصل فى نهاية المقال ليتساءل حول تعداد المسيحيين الذين يعيشون فى الأراضى المقدسة وفى البلدان المحيطة، أى فى الشرق الأوسط. وتأتى الإجابة بوضوح إذ يقول : "فى الإجمال إنهم حوالى من عشرة إلى ثلاثة عشرة مليونا، وفقا للتقديرات المختلفة، وذلك وسط شعوب مسلمة يصل تعدادها إلى 550 مليون نسمة. أى إن المسيحيين حوالى 2 % من تعداد المنطقة".. وأعيدها بوضوح : وفقا لأحد مواقع الفاتيكان الرسمية : تعداد المسيحيين بمخلف فرقهم فى كل منطقة الشرق الأوسط من عشرة إلى ثلاثة عشر نسمة، فقط لا غير، وليس فى مصر وحدها كما يزعم النصارى..
ثم يستشهد الكاتب ساندرو ماݘستر فى نهاية مقاله، بمقال تفصيلي تم نشره فى العدد 22 من مجلة "إيلرنيو" الإيطالية سنة 2013 ، بقلم أحد المتخصصين فى موضوع الأقليات المسيحية والكنائس المختلفة فى الشرق الأوسط. والموضوع بقلم ݘورݘيو برناردللى، بعنوان : "كنائس قديمة وهشة".. يتناول فيه أهم الكنائس الشرقية المختلفة ، تباعا وتعداد أتباعها، وهى : القبطية، اليونانية الأرثوذكسية، الملكانية، السريانية، المارونية، الكلدانية، الأرمنية واللاتينية.
ويقول برناردللى تحت العنوان الفرعى : "الأقباط"، موضحا أن المسيحيين فى مصر ينتمى 90 % منهم للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وهى كنيسة محلية ناجمة عن رفض بطريارك الإسكندرية المساهمة فى مجمع خلقيدونيا سنة 451، أيام الخلافات اللاهوتية حول طبيعة المسيح. أى أيام تحديد ملامح المسيحية وفقا للأهواء وإلا لما اختلفوا. وهو ما يؤكد أن المسيحية الحالية لا علاقة لها بما اُنزل سابقا وتم محوه..فالكاثوليك أصروا على أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، بينما تمسك الأرثوذكس بأن له طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، إلى جانب الخلافات العقائدية الأخرى. واستمر الخلاف قائما بين الكنيستين حتى المحاولات الحديثة التى بدأها البابا شنودة الثالث ومن بعده يواصلها البابا تواضروس الثانى بإصرار ، للتقرب من الفاتيكان، حتى وإن تم ذلك على حساب تنازلات أساسية فى العقيدة، بينما الأتباع نيام أو صامتون، لا حول لهم ولا قوة.
ويتساءل الكاتب برناردللى حول تعداد الأقباط الذين يمثلون أكبر جماعة مسيحية فى الشرق الأوسط ، أو كم عددهم. ويقول بوضوح له مغزاه، بل ولا بد من أخذه فى الإعتبار عند تناول موضوع تعداد الأقباط : "أيام أخر تعدادين، اللذان أجريا فى عام 1996 و2006 ، تم استبعاد السؤال المتعلق بالديانة، فى مصر، من قائمة الإستطلاع، لضرورة الإلتزام بالإشارة الواردة بهذا الصدد من منظمة الأمم المتحدة. إلا أن ذلك قد أدى إلى تعدادين : من جهة تعداد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، التى تؤكد أن الأقباط يمثلون 10 % من التعداد، أى أنهم من ثمانية إلى تسعة ملايين نسمة. ومن ناحية أخرى هناك الإحصائيات الرسمية التى تشير إلى أنهم أقل من ذلك بكثير. ففى عام 2012 أوضحت الوكالة الحكومية أن عددهم خمسة ملايين ومائة وثلاثون ألفا. وهناك مصدر مستقل هو مركز ﭙيو الأمريكى، الذى يؤكد أن عددهم أربعة ملايين ومائتان واحد وتسعون الف نسمة. أى أنهم يمثلون 5,3 % من التعداد". ثم يوضح الكاتب قائلا : "أنه لا بد من أن نأخذ فى الإعتبار أن هذه الأرقام تتضمن كافة المسيحيين باشتقاقاتهم المختلفة، مثال الأقباط الكاثوليك وهم حوالى 160.000 نسمة، وهناك الإنجيليين وهم حوالى 250.000 نسمة وغيرهم"...
ويواصل الكاتب موضحا : "ونفس المشكلة فى التعداد تتعلق بأقباط المهجر، الموجودين فى أمريكا، وهم حوالى 900.000 نسمة، وحوالى 200.000 ألفا فى كندا، و 75.000 فى استراليا. أما فى أوروبا فعددهم أقل من ذلك بكثير. أما معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط فقد نشر بيانا يوضح فيه أن عدد الذين هاجروا بعد سقوط مبارك فى مصر فهم حوالى مائة ألف شخصا، أما الكنيسة القبطية فى مصر فتعترض على هذا الرقم وتتحدث عن بضعة آلاف. فهنا أيضا من مصلحتها أن تقلل من نسبة من هاجروا".. علما بأن موقع ويكيبيديا يؤكد "أنهم أقل من 5 % لكنهم يقولون أنهم 20% من التعداد، فلقد إعتاد الأقباط المبالغة فى تعدادهم" !.
وأول ما يلفت النظر فى مقال ݘورݘيو برناردللى، أن هناك أوامر عليا صادرة من هيئة الأمم المتحدة بعدم الإفصاح عن حقيقة تعداد الأقباط لتظل لعبة "الأقليات المسيحية" ورقة ضغط يتم التلاعب بها وفقا للأهواء. ومن ناحية أخرى، لو أخذنا فى الإعتبار المبالغة المفتعلة التى تتناول بها بعض البرامج التليفزيونية المتواطئة، والتى ترفع تعدادهم إلى عشرين بل وإلى خمسة وعشرين مليونا، لأدركنا أن هذا التلاعب مؤداه أن يسمح للغرب بالتدخل من أجل حمايتهم من الأهوال المزعومة، كما يسمح لهم بالمطالبة بمزيد من الإمتيازات ! وفى واقع الأمر، ما من أقلية فى العالم تنعم بمثل ما ينعم به الأقباط فى مصر، بل وما من أقلية فى العالم تجروء أو يسمح لها بالتدخل فى شئون الدولة مثلما تتدخل الكنيسة القبطية عن غير وجه حق، ودون مراعاة لما تسببه من إحتقان بين المسلمين.
فقد تدخلت الكنيسة وتحكمت فى صياغة الدستور الجديد، وسعت لتقليص الشكل الإسلامى للدولة بخلق مجتمع مدنى علمانى، لا يجرّم تنصير المسلم ! ولا أقول شيئا عن الإستيلاء على أراضى الدولة وتوسعة الأديرة التى يسع أحدها خمسة ونصف ملايين نسمة ، والمبالغة الممجوجة فى رشق البلد بالكنائس، علما بأن السيد المسيح قد طالب أتباعه بالصلاة فى غرفتهم الخاصة، وفرضهم عيد ميلاد السيد المسيح عيدا قوميا فى الدولة، فى بلد الأزهر الخ.. وفى محاضرة ألقاها مارون لحّام، أسقف تونس السابق، بمعهد آكتون فى روما يوم 29 إبريل 2014 ، وكانت بعنوان "الإيمان، الدولة، والإقتصاد"، أنهى حديثه بإنتقاد تباطؤ الغرب فى التدخل، بحجة المصالح السياسية والإقتصادية". ويقصد مصالح الغرب السياسية والإقتصادية التى تدفعه إلى التروى فى دك مصر والمسلمين على الأقل رسميا أو بوضوح !..
وفى حركة مكشوفة لتدعيم روابطه مع الكنيسة القبطية فى مصر، قام البابا فرنسيس فى يوم 18 إبريل 2014 ، بتعيين سكرتيرا خاصا له، اسمه يؤانس لحظى جيد، وهو قس قبطى، قد يكون من أقارب البابا شنودة إذ كان لقبه المدنى جيد أيضا ، وكان يعمل فى القسم الدبلوماسى للفاتيكان. "وهو ما يكشف عن إهتمام البابا بالشرق الأوسط وبالحوار مع العالم العربى والإسلامى وخاصة بالجماعات المسيحية فى الشرق التى تعيش فى كثير من الأحيان مواقف صعبة". ويواصل ساندرو ماݘيستر قائلا : "إن هذا الشخص سيرته الذاتية متفردة لأنه صاحب مواقف وتصريحات صارمة ضد الإسلام". أنه من مواليد 1975، وصديق حميم للمصرى الآخر الذى نصّره البابا بنديكت 16 علناً سنة 2008، وأصبح اسمه مجدى كريستيانو علام. ويؤكد الكاتب على "أنهما يتقاسمان نفس الرأى ضد الإسلام"..
قبطيان مصريان، خان أحدهما دينه، ويخون الآخر بلده، ليكون كلاهما همزة وصل بين الكنيسة القبطية والفاتيكان ويسهم الجميع فى تلك المحاولة الخسيسة لإقتلاع الإسلام والمسلمين ! أليس من الأكرم لهذه الكنائس المصرية أن تحافظ على عقائدها ودينها بدلا من التنازل عنها من أجل الإنسياق فى زرع الفتن وإشعال الحرب الأهلية ؟
رابط مقال ساندرو ماجيستر:
http://chiesa.espresso.repubblica.it...o/1350714?fr=y