أوكرانيّة, القرم, روسيّة, إسلاميّة
بقلم: محمد علي شاهين
الأحد 6 نيسان 2014
قبل أن تتراجع نسبة المسلمين بسبب التطهير العرقي، وإحلال العنصر السلافي، في شبه جزيرة القرم إلى 25،9% عام 1921، كان التتار المسلمون يشكّلون كتلة بشريّة متراصّة تبلغ نسبتها 93%، أقامت إمارة إسلاميّة مرهوبة الجانب، ظلّت روسيا تدفع الجزية لأميرها دهرا.
ودخل المسلمون التتار موسكو في الرابع والعشرين من أيار عام 1571م لوضع حد للتوسّع الروسي، رافعين راية التوحيد، بقيادة خان القرم (دولت كيراي) الذي أهداه السلطان سليم الثاني سيفاً مرصّعاً تقديراً لشجاعته وبأسه، بينما كان إيفان الرابع الرهيب يجر أذيال الخيبة والعار، تاركاً خلفه ثمانية آلاف قتيل من أفضل جنود الإمبراطوريّة.
وأعاد خان القرم الكرّة على الروس في العام التالي فمرّغ أنف الإمبراطوريّة، وأرغمها على دفع ضريبة سنويّة مقدارها ستين ليرة ذهبيّة.
ورغم الهزيمة والعار الذي ألحقه (دولت كيراي) بالروس فإنّ أطماعها في الاستيلاء على هذه الإمارة الصغيرة، وسعيها الحثيث لإزالة معالم حضارتها الممتدّة عدّة قرون لم تتوقف.
وتوّجت كاترين الثانية حروبها الدامية ضدّ شعب القرم بإجلائهم عن ديارهم، وضّم أرضهم إلى أملاك إمبراطوريتها، وبلغت حصيلة ضحاياها في القرم عام 1771م 350 ألف تتاري، وقدّر عدد الفارين من مذابح الروس مليوناً وعشرين ألفاً.
ولم يكن مسلمو القرم أسعد حالاً بعد الثورة البلشفيّة، حيث قوّض الشيوعيون أركان جمهوريتهم المستقلّة في عام 1920 وأعدموا رئيسها نعمان جيجي خان وألقوه في البحر.
وتجلّت محنة مسلمي القرم في العهد السوفييتي عندما أراد ستالين إنشاء وطن قومي لليهود على أرض القرم في عام 1928، وارتكب مجزرة رهيبة بحق المعترضين على مشروعه الاستعماري، فأعدم جميع أعضاء الحكومة المحليّة، ورئيس الجمهوريّة ولي إبراهيم ومعهم 3500 شخصاً، ونفى 40 ألفاً إلى سيبيريا في العام التالي.
وتحت ذريعة التآمر مع الألمان أضاف ستالين إلى جرائمه بحق المسلمين إبان الحرب العالميّة الثانية في عام 1944م، جريمة إبادة وتهجير نصف مليون تتاري، حملهم بقاطرات المواشي إلى سيبيريا فماتوا من الجوع والبرد.
وقام مجلس السوفييت بإلغاء جمهوريّة القرم في عام 1946، وقضى بإلحاقها بأوكرانيا متهماً شعبها بالخيانة.
وكان يرافق حملات التطهير العرقي لتتار القرم، إحلال ممنهج للعائلات الروسيّة، حتى كاد المسلون التتار أن يفقدوا وجودهم على أرضهم التاريخيّة في عام 1959.
وفي عام 1967 توقفت الحملات المسعورة ضد شعب القرم، وجاء غورباتشوف ببدعة (إعادة البناء) في عام 1985،
وما كاد الاتحاد السوفييتي ينهار حتى بدأ التتار المسلمون رحلة العودة من المنافي والقفار إلى ديار الآباء والأجداد، يحملون معهم ذكرياتهم المرّة.
واستوحى أدباء القرم من ذكريات الماضي صفحات حيّة تنبض بالحياة لمأساة شعبهم خلال العهد السوفييتي، كتلك التي صاغها يراع الأديب محمد حرب في روايته (السنوات الرهيبة).
وفي عهد الرئيس نيكيتا خروتشوف صدر قرار في عام 1954بضم القرم إلى أوكرانيا (موطنه الأصلي) وكأنّ ديار المسلمين تهدى وتباع.
واستمرت تبعيّة القرم لأوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ما دامت أوكرانيا خاضعة لروسيا، فلمّا ثار الأوكرانيون ضد النظام الموالي للروس في بلادهم، ورفعوا أصواتهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، شعر الروس بأهميّة شبه جزيرة القرم.
ومما شجًع القيصر الصغير بوتين على انتزاع القرم من أوكرانيا، إدراكه حجم الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالدولار واليورو، ووجود رئيس أمريكي ضعيف في البيت الأبيض، أثبت موقفه من القضيّة السوريّة وتقاعسه عن حماية الشعب السوري من الكيماوي وأسلحة الدمار الشامل، وعجزه أمام الفيتو الروسي، والاكتفاء بسلاح العقوبات.
وسارع بوتين في اتخاذ إجراءات قانونيّة لتمرير مشروعه الاستعماري، وصرّح قائلاً: "أنّ القرم جزء لا يتجزّأ من روسيا"، وجاء بانتخابات مزوّرة قاطعها شعب القرم، ونتائج ملفّقة تدعو للانفصال عن أوكرانيا، والانضمام إلى روسيا الاتحاديّة.
وشعر التتار المسلمون بالقلق بعد إعادة احتلال القرم، وهم يستعدون للعودة إلى أرض الأجداد من منافيهم البعيدة، لأنّ تجربتهم مع الامبراطوريّة الروسيّة والاتحاد السوفييتي قاسية ومريرة.
وكان على الروس أن يعتذروا إلى شعب القرم، ويطلبوا منهم العفو، ويعيدوا إليهم أرضهم المغتصبة، وديارهم الممزّقة.
وهل ينسى مسلمو القرم تدمير سيفروبول مدينتهم التي دمرها الروس بعد الحرب العالميّة الأولى، ورحلة نفيهم إلى صحراء سيبيريا الموحشة، وتحويلهم إلى أقليّة، والافتراء عليهم باتهامهم بالخيانة، وسعي ستالين لإنشاء وطن قومي لليهود في القرم.
وستبقى القرم إسلاميّة لا يضير شعبها الأبي غاصب أو محتل، مهما طال الزمان، ومهما تنازع عليها الطامعون، لأنها إسلاميّة لا روسيّة ولا أوكرانيّة.