المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إثم منع الزّكاة وعقوبة التحايُل عليها


نور الإسلام
13-01-2012, 05:49 PM
الشيخ بشير شارف

ممّا تعارف عليه كثير من المسلمين أنّهم كانوا يخرجون زكاتهم في هذا الشهر المبارك، ولهذا دأب العلماء وطلبة العلم والخطباء على تخصيص هذا الشهر ببيان أحكام ومسائل الزكاة، ومن الموضوعات الّتي ينبغي التّنبيه عليها موضوع التحايل على الزكاة. والتحايل إمّا أن يكون إسقاطا لوجوبها أو أخذا لها، وسوف نبيِّن بعض الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع من خلال مسائل.

المسألة الأولى: التهرب من دفع الزكاة
رتَّب الشارع على التهرب من دفع الزكاة عقوبات دنيوية وأخروية، وهي تختلف باختلاف قصد المتهرب من دفع الزكاة، فإذا كان التهرب عن اعتقاد سيئ، يتمثّل في جحود فرضية الزكاة عوقب المتهرب من الزكاة في الدنيا بعقوبة الردة. وهي: القتل إذا أصرّ على ذلك ولم يرجع عن اعتقاده السيئ في هذه الفريضة، كما فعل أبو بكر الصديق مع المنكرين لفريضة الزكاة، وقد قال: ''والله لأقاتلن مَنْ فرّق بين الصّلاة والزّكاة''.
وأما العقوبة الأخروية التي تلحق جاحد الزكاة فهي البعد عن الجنّة والخلود في النّار لأنه أنكر معلوماً من الدِّين بالضرورة.
وإذا كان التهرب عن أداء الزكاة راجع إلى البخل والشح دون الجحود والنكران، فإن المتهرِّب مِن دفعِ الزّكاة يعاقب بعقوبة أخروية، تتمثل في العذاب الأليم الذي يلحقه في الآخرة، والذي ورد في قوله تعالى: ''وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ'' آل عمران.180 وقال تعالى: ''وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ × يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ'' التوبة34، 35، وقد فسَّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك بقوله: ''ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلاّ أحمي عليه في نار جهنّم؛ فيجعل صفائح فتكوى به جنباه وجبهته، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار'' رواه مسلم.
وأمّا العقوبات الدنيوية الّتي رتّبها الشارع على التهرّب من دفع الزّكاة بخلاً فهي دفع الزّكاة قسراً، فإذا امتنع المزكي عن أداء الزّكاة بُخلاً أخذت منه جَبْراً عنه، ولو بحد السيف. قال صلّى الله عليه وسلّم: ''أُمرتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله'' رواه مسلم.
ثمّ فرض عقوبات مالية وبدنية. والعقوبات المالية التي يمكن فرضها على مانع الزّكاة بخلاً مأخوذة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''ومَن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربّنا'' رواه أحمد، وأما العقوبة البدنية فقد دلّ عليها قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''مَطْلُ الغني ظُلْم'' رواه البخاري ومسلم، وفي رواية ''لَيُّ الواجد ظلم يُحِلّ عِرضه وعقوبته'' رواه أحمد.

المسألة الثانية: الاحتيال لإسقاط الزّكاة قبل وجوبها
وهنا تكاد تتفق كلمة العلماء في ذم المتحايلين لإسقاط الزّكاة قبل وجوبها، وما روي عن بعضهم في جواز ذلك فلعل مرادهم أن الحيلة تنفّذ قضاءً لا ديانة. ولهذا ذهب المالكية والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفية إلى تحريم التّحايل لإسقاط الزّكاة قبل وجوبها، وأنها واجبة في ذِمّته مع الحيلة، بدليل قوله تعالى: ''إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ × وَلاَ يَسْتَثْنُونَ × فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ × فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ × فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ'' القلم17، 21، فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصّدقة، لأنّهم لمّا قصدوا قصداً فاسداً اقتضت الحكمة معاقبتهم بنقيض قصدهم

الاحتيال لإسقاط الزّكاة له صور عديدة، الصورة الأولى: التصرف في المال الزكوي قبل تمام الحول، والتصرف هنا قد يكون بيعاً أو استبدالاً بغير جنس النصاب أو هبة أو إتلافاً أو غير ذلك من التصرفات، والقصد من كل هذه التصرفات الفرار من الزكاة. مثل أن يكون في رصيد أحدهم البنكي مليون دينار مثلاً؛ وقبل تمام الحول يشتري به سيارة نفعية، وأن يكون للمرأة حُلي مُعدّ للادخار؛ وقبل تمام الحول تهَبه لابنتها مثلاً، ومثل أن يكون لراعٍ نصاب ماشية فيبيعها قبل تمام الحول، ثم بعد مدة يسيرة يبيع الرجل السيارة وتسترجع المرأة حُليّها ويشتري الراعي ماشيته، ليستأنفوا به حولاً جديداً. أو أن يُتلِف مالك نصاب جزءاً من النصاب الزكوي قصداً ويصرفه في أمور شتى، لكي يَنقص النصاب قبل تمام الحول. ومن صور التحايل على الزكاة تغيير النية في النِّصاب الزكوي قبل تمام الحول، والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها: أن النصاب لم يتغير لكن التغير في النية فقط. والقصد من تغيير النية: الفرار من الزكاة، مثل أن يكون لرجل سيارة أو اثنتان أو أكثر يتاجر بها، وقبل تمام الحول ينوي أنه يريد أن يتملّكها، ومن تكون لديه أرض يتاجر بها وقبل تمام الحول ينوي بها البناء والسكن. ومن صور الاحتيال على منع الزكاة السعي لإسقاط الزكاة بعد وجوبها، ونقصد بهذه الفقرة أن المُزكي قد ثبتت في ذمّته الزكاة وهو مُقِرّ بها، ولكنه يحرص على أن لا يدفعها من خلال بعض التصرفات، ولهذه التصرفات صور، منها إسقاط الديون عن المُعسرين واحتسابها من الزكاة، مثل أن يُسقط دَينه عن معسر قائلاً: الدينُ الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من الزكاة. والأخذ لا بد أن يكون ببذل من المأخوذ منه، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''أعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد في فقرائهم'' رواه البخاري ومسلم، فقال: ''تؤخذ من أغنيائهم فترد''، فلا بد من أخذٍ وَرَدٍّ؛ والإسقاط لا يوجد فيه ذلك؛ ولأن الإنسان إذا أسقط الدين عن زكاة العين التي في يده، فكأنما أخرج الرديء عن الطيب؛ لأن قيمة الدّين في النفس ليست كقيمة العين؛ فإن العين ملكه وفي يده، والدّين في ذمّة الآخرين قد يأتي وقد لا يأتي، فصار الدّين دون العين؛ وإذا كان دونها فلا يصح أن يُخرج زكاةً عنها لنقصه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} البقرة: .267
ومثال آخر أن يكون له على رجُلٍ مال، وقد أفلس غريمه وأَيِس من أخذ ماله منه، فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه ثم يُطالبه بالوفاء؛ فإذا أوفاه برئ من كان عليه مال، واسترجع الآخر ماله وسقطت الزكاة عن الدافع. قال ابن القيم: وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه، أو ملّكه إياه بنية أن يستوفيه من دَينه؛ فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يعد مخرجاً لها شرعاً ولا عرفاً. ومن صور التحايل على الزكاة الاكتفاء بدفع الضريبة عن الزكاة أو دفع الضريبة من مال الزكاة. وجاء في توصيات الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة بخصوص هذه المسألة: إن أداء الضريبة المفروضة من الدولة لا يجزئ عن إيتاء الزكاة؛ نظراً لاختلافهما من حيث مصدر التكليف والغاية منه، فضلاً عن الوعاء والقدر الواجب والمصارف، ولا تُحسم مبالغ الضريبة من مقدار الزكاة الواجبة